قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

خرجت من الوحدة الصحية منهكة كليا في سبيلها للاستراحة. فقد أنهت لتوها بمساعدة الدكتورة سميحة ولادة كانت متعسرة منذ الصباح الباكر. وأخيرا مَنّ الله عليهن بالفرج. ووضعت المرأة طفلة جميلة.
كانت ابتسامة الراحة ترتسم على محياها وقد استشعرت أنها ابلت بلاء حسنا في القيام بواجبها على أكمل وجه يدا بيد مع الدكتورة سميحة. التي اعترفت بنفسها أن لها الفضل الأول بعد الله في قيام هذه المرأة سالمة وطفلتها.

ما أن خطت خطوتين في اتجاه ذاك الطريق الترابي الطويل في اتجاه الاستراحة حتى ظهر سامر مبتسما في بشاشة: السلام عليكم. أزيك يا دكتورة!؟ النجع منور بوجودك.
ابتسمت بدورها في دبلوماسية: الحمد لله يا باشمهندس. منور بأصحابه.
هتف مازحا: يعني أطلع أنا منها!؟
لم تعي ما يقصد حتى هتف مؤكدا: طب أنا مش من أصحابه يا دكتورة. أنا من قرايب أصحابه ينفع.

تنبهت أنه يقصد أنه ليس من سكان النجع وإنما من زائريه مثلها. مجرد ضيف على أصحاب دار السليمانية.
وتعجبت كيف يكون سامر بكل بشاشته تلك صديق ذاك العابس الذي تعتقد أنه لو ابتسم لتشقق وجهه من شدة عبوسه.
كان سامر يسير جوارها يصحبها حتى الاستراحة. لم تكن تول الأمر اهتماما. بل كان عقلها مشغول بشخص أخر. والذي ظهر كأنما استدعاه خاطرها. ليظهر أمامهما متطلعا إليهما في حنق.

هتف رائف ممتعضا موجها حديثه لها: يا دكتورة إحنا هنا في نچع. مش ماشيين على كورنيش النيل!؟ المكان هنا ليه نظام لازم ناخد بالنا منه. أنتِ چاية فشغل مش عشان نتسامر. ولا إيه يا سامر!؟

هتف بسؤاله الأخير موجها حديثه نحو سامر الذي تصلب موضعه مبهوتا من هجوم رائف الغير مبرر عليهما بهذا الشكل. لكن نوارة ما كان لها أن تصمت وهي تراه يتجاوز معها في الحديث بهذا الشكل. لذا هتفت في حنق وبلهجة رسمية ونبرة حادة: حضرتك ملكش تقولي أعمل إيه ومعملش إيه!؟ ده لا يخصك. ولا ليك معايا كلام فيه من أساسه. الوحيدة اللي لها الحق ده هي الدكتورة سميحة. وكمان في حدود شغلي معاها وبس. أما فيما يخص الباشمهندس سامر. إذا كان عادي معاه طريقة التعامل دي ف ده يخصه. ويمكن تكون الجرابة اللي ما بينكم تخليه يسامح. لكن أنا مش ملزمة إني اتجبلها لأي سبب. عن إذنك.

اندفعت نوارة مبتعدة عن موضعهما وما أن وصلت للاستراحة التي كانت على بعد عدة خطوات مغلقة بابها خلفها بعنف حتى تطلع سامر نحو رائف ممسكا ضحكات متشفية كادت أن تنطلق من حلقه عندما حامت تلك النظرة القاتمة على محيا رائف والأشبه بنظرة سفاح قبل ارتكابه جريمته بلحظات معدودة. ما دفعه لينطلق مبتعدا. تاركا رائف يتطلع نحو الاستراحة التي يدرك تماما أن قاطنتها النارية الطبع لن تمرر الأمر مرور الكرام. بل ربما يصل إلى مسامع والدته. وهو يحاول أن يتجنب حدوث ذلك. لا يعرف لما. لكنه لا يحب أن يصل لوالدته ما يجري من معارك باردة بينهما.

تنهد في ضيق وهو لا يدرك لمَ يفعل ذلك!؟ لما هذه العدائية الشديدة في تعامله معها!؟

منذ تلك الليلة التي تشبثت فيها بأحضانه ذعرا. وفي عتمة الأجواء. أضاء داخله قبس من سراج لفرحة مشوبة بالقلق. لا يعلم لم الفرحة!؟ ولا يدرك على ماذا القلق!؟ لكنه يستشعرهما بقوة منذ هذه الليلة. وخاصة وهي بقربه. أو بالأخص كلما تعمد قربها. عليه أن يعترف أن هذه النوارة. أنارت بمحياها دروب البهجة بمدن روحه المقفرة منذ سنوات طوال. وعطرها الذي كان انيسه على الثوب المعار لها. ذاك قصة أخرى.

سار بقدم متثاقلة بعد اعترافه بهذه الحقائق دفعة واحدة حتى توقف أمام باب الاستراحة وما أن هم بطرقه حتى فتحت هي في عنف. تطلعت إليه لبرهة قبل أن تندفع للخارج وهي تحمل حقيبة يدها ومعطفها الأبيض.
هتف بها متسائلا: على فين!؟
تجاهلته وهي تمر الجسر الخشبي في هوادة فتجربة واحدة للسقوط كفيلة بجعلها تنتبه قبل أن تخطو خطواتها عليه. تعقبها مستطردا: عربيتك لسه موصلتش!؟

أكدت وقد عبرت الجسر بسلام تمد الخطى متجاهلة الوقوف والنظر إليه لتحادثه بل إنه ظل كمن يعدو خلفها وهي تهتف في ثقة: هاخد أي عربية من ع الطريج. مهياش حكاية يعني.
قطع عدة خطوات دفعة واحدة ليسبقها معترضا طريقها هاتفا: مش هيحصل. هتستني عربيتك يا إما هوصلك أنا.
توقفت تتطلع إليه بنظرات نارية هاتفة في هدوء مريب: ده أمر. ولا إيه بالظبط!

تنهد مؤكدا: لاه يا دكتورة مش أمر. اعتبريه رجاء. مينفعش تخدي أي عربية من ع الطريج الساعة دي. أنتِ تعتبري أمانة.
هتفت في حنق مندفعة في طريقها: محدش أمنك عليا يا رائف بيه. وأنا أجدر إحمي نفسي كويس. عن إذنك.
اندفعت عنه مبتعدة. كان يعلم أن هذه الرأس المتحجرة لن تلين. لذا تركها مندفعا ليحضر سيارته لاحقا بها.
وما أن خرج للطريق باحثا عنها حتى ابصرها تركب سيارتها التي وصل بها عبدالباسط منذ لحظات.

ضرب على المقود في غضب فهو يعلم تماما أنها قد لا تعود بعد فعلته المتهورة. ما الذي دفعه لهذه الحماقة!؟ هو لا يدري. كل ما كان يدركه لحظة أن رآها تسير في أريحية جوار سامر أن شىء ما أطبق على أنفاسه. ولم يهنأ إلا بعد أن أطلق سهام حنقه في وجهيهما ليورثه ذلك ندما. وقلقا على رد فعلها وموقفها حيال الأمر. هل تراها تعود!؟ عليه أن ينتظر. ليرى.

تطلعت للمبرد. كان على الرغم من امتلائه بعد أن استهلكت بعض ما كان به طوال الفترة الماضية لكنها ما زالت تستشعر عدم الأمان. لقد ملأ المعلم خميس وعمها ناصر المبرد والبيت بكل ما قد تحتاجه ووجدت كل ما هي بحاجة إليه متوفر دون أن تطلب.

كانا على علم أنها لن يكون بمقدورها النزول وفتح ورشة أبيها بعد وفاته بأيام. لكن يبدو أن حتى رفاهية الحزن ما عادت تملكها. وعليها الخروج من تلك الشرنقة التي اصطنعتها لنفسها الفترة المنصرمة.
مدت كفها تتناول جوالها القديم ودقت على رقم ما هتفت به ما أن رد صاحبه: محروس. أنا نازلة أفتح الورشة دلوقتي. هتكون معايا ولا أدور على عمال تاني!؟

هتف محروس بحماسة: لا يا ست الكل معاكِ طبعا. خلينا نرد شوية من جمايل الأسطى سالم علينا. الله يرحمه.
أكدت في نبرة حازمة: طيب. انا نازلة افتح الورشة وهستناك. ولو قدرت تجيب معاك عامل ولا اتنين يبقى كتر خيرك. عندنا شغل متأخر كويس إن أصحابه صبروا عليه لما عرفوا بالظروف ومش عايزين نقصر معاهم.
هتف محروس: ربنا يسهل واقدر أجيب حد يساعد. ومتقلقيش بعون الله سداد.

هتفت في نبرة رسمية: تسلم يا محروس. ده العشم برضو. ياللاه متتأخرش. سلام.
أنهت مكالمتها مع محروس ووضعت غطاء رأسها على عباءتها السوداء ومدت كفها تتناول مفتاح الورشة.
تنبه ناصر لها وهي بطريقها لورشة أبيها فهتف بها متعجبا: على فين يا حُسن!؟
فتحت باب الورشة بالفعل وردت على ناصر: بفتح ورشة أبويا يا اسطى. فيه شغل متعطل ولازم يخلص.

تقدم منها ناصر هاتفا: اقعدي معززة مكرمة فبيتك ونجيب عمال يخلصوا الشغل بدل وقفتك وسطهم. وبعدين. هو إحنا قصرنا معاكِ فحاجة!؟
ابتسمت حُسن في شجن: لا والله ما قصرتوا أبدا. بس لحد أمتى!؟ كتر خيركم على كده. ومتقلقش يا أسطى. أنا بميت راجل. أخلص بس الطلبية اللي كان المفروض يسلمها المرحوم وبعدين أبقى أشوف الظروف.

تنهد ناصر ولم يعقب. لكن بداخله إعجاب لهذه الفتاة التي تقف بكل تلك العزة والكبرياء. رافضة أن يمد لها يد العون شفقة على حالها. عاد ناصر لورشته.
لتعاود حُسن ترتيب بعض الأمور داخل ورشة أبيها لحين وصول محروس وبدء العمل الذي تشربت أسراره من كثرة مخالطتها لأبيها في أوقات عمله.

تنبهت أن القهوة ما زالت تبث آيات القرآن الكريم احتراماً لرحيلها الغالي. فاندفعت باتجاهها تطلب كوب من الشاي وتلقي التحية على المعلم خميس. الذي استقبلها في ترحاب متعجبا وهي تمد كفها تحول قناة المذياع هاتفة: ما تفتح لنا حاجة يا معلم. سلطن الزباين.
تطلع لها هاتفا: ليه كده يا حُسن. برضو الأصول عشان أبوكِ.

هتفت حُسن مقاطعة: أديك قلت أبوكِ. وبعدين القرآن عايز اللي يسمع له يا معلم. والزباين جايين يفرفشوا بكلام ولعب طاولة. يعني الأغاني أحسن.
تنهد خميس وقد اقتنع بوجهة نظرها وما أن همت بإلقاء التحية متجهة من جديد نحو ورشتها حتى اصطدمت بنادر وهو في طريقة لداخل القهوة مهرولا.
تراجع خطوات متطلعا نحوها. كانت المرة الأولى التي يراها منذ فترة. تقريبا منذ تركت حجرته لدار أبيها.

ما الذي يعتريه اللحظة ليقف هكذا كالمصلوب لا ينطق بحرف في حضرتها!
تحركت هي مندفعة في اتجاه الورشة التي وصلتها تحاول التشاغل عن مشاعرها المبعثرة كحبات العقد التي انفرط عقالها.
وخاصة وهو يقف كالمشدوه هناك وتلك الأغنية لصباح تنساب كلماتها فيما بينهما. متواطئة لفضح مشاعرها وتعريتها أمام ناظري قلبه. لعله يدرك: عاشقة وغلبانة والنبي. عاشقة وتعبانة والنبي. مقدرش أفوته والنبي.

ده أنا كل حتة فتوبي. دايبة. دايبة. دايبة فهوى محبوبي.
مدت كفها لبعض الأدوات وأدعت العمل على بعض القطع. ولم تشعر إلا والدموع تنساب رغما عنها. فقد نكأت كلمات الأغنية جرحا حيا لن يندمل ما حيت. محدثه يقف هناك يتطلع إلى حيث موضعها. ولا يحرك ساكنا.

وصل حازم وتسبيح وبدور لسراي الهوارية ليستقبلهم الجميع بالترحاب. كان لابد لهم من القدوم لحضور عقد قران زهرة. وكذا حمزة وفريدة مع اعتذار هدير لتظل مع أبوها زكريا. فلم يكن عليه من السهل الحضور كل هذه المسافة. مع وعد بالحضور عند تحديد موعد الزفاف.
اجتمع الفتيات في حجرة سجود ونوارة والعروس زهرة التي كانت متزينة على أجمل ما يكون. تشع بهاء وسعادة.

اندفعت بدور توصل هاتفها بإحدى السماعات المكبرة للصوت وضغطت على إحدى الأغاني هاتفة في حماسة: ايه احنا هنقعد كده ولا إيه!؟ ياللاه انتِ وهيا. عايزين نخلي العروسة تحرم تجبنا في فرحها.
انفجرت البنات ضاحكات. لتندفع بدور جاذبة شال تزمه حول خصرها لتبدأ في التمايل والفتيات يصفقن في جزل.
هتفت فريدة مشجعة: لسه مفقدتيش مهاراتك يا بدور. والتطور واضح.

قهقهت الفتيات على تعليق فريدة العملي بشكل ساخر. تعليق يصلح لجو المكاتب. أكثر من كونه تعليقا على رقصة.
جذبتها بدور لتشاركها لكنها تمنعت في خجل مكتفية بالتصفيق. بينما نهضت سهام لتبدأ الحجرة في الاشتعال حماسة لنزول منافس لبدور لا يقل مهارة عنها.
حاولت سهام جذب سمية لتشاركهن لكنها هتفت لسهام: أنتِ بتهزري. أرجص إيه!؟ والله الشيخ مؤمن لو عرف ليجطع رجبتي.

أكدت سجود مطمئنة: ومين هيروح يجول له يعني!؟ احنا بنات في بعضنا. ياللاه جومي.
اضطربت سمية تهز رأسها رفضا إلا أن بدور كانت الأسبق على جذبها بعد أن شعرت بالتعب وقررت استبدالها بأخرى حتى تظل حلبة الرقص عامرة.

شهقت سمية في خجل وهي تقف أمام الفتيات المشجعات بالتصفيق لها. وسجود اندفعت تضع شال حول خصرها لتبدأ في التمايل على استحياء. حتى زال الخجل رويدا. لتظهر مواهبها الدفينة التي أبهرت الجميع. ما جعل الفتيات يعلقن في تعجب: وتجولي مبتعرفيش!؟ أه منك.
تطلعت نوارة نحو دعاء التي كانت تجلس في أحد المواضع في عزلة هاتفة بها: ايه يا دعاء!؟ مش ناوية تيجي ولا إيه!؟

ابتسمت دعاء في هدوء مؤكدة: أچي فين يا دكتورة!؟ خلي اليوم يعدي على خير.
السرايا جديمة متستحملش الزلزال اللي انا هعمله لو فكرت أهز لي هزتين.
قهقهت البنات على تعليق دعاء التي شاركتهن الضحك في تسامح مع النفس لتؤكد عليها زهرة في رجاء: ياللاه يا دعاء. ورينا المواهب بقى. مفيش واحدة هاتخرج من هنا من غير ما ترقص.

تنهدت دعاء وهي تنهض متجهة لوسط الدائرة التي صنعتها البنات لمجلسهن وهتفت ساخرة وسمية تمد لها يدها بالشال الذي كانت تضعه حول خصرها: شال إيه اللي انتوا چيبنهولي ده!؟ أنا عايزة ملاية اربطها على وسط البلد ده.
قهقهت الفتيات على مزاحها وهي تربط أحد الشالات على خصرها الممتلئ وصدحت الموسيقى التي اختارتها. وبدأ السحر.

شهقت الفتيات ما أن بدأت دعاء رغم جسدها الممتلئ بالنسبة لبعضهن في التمايل برشاقة على انغام الموسيقى. ارتفعت حماستهن وعلا تصفيقهن. وهتفت بدور مبدية إعجابها مازحة: أيوه يا دوعة يا جامد يالقوي.
علت ضحكات البنات. إلا أن نوارة مالت نحو سجود هاتفة: أنا رايحة أطل على عاصم اشوفه خلص تجهيز شنطته لسفره النهاردة. يمكن يكون عايز مساعدة. وأمك مشغولة فالتحضير للكتاب مع باقي الستات تحت.

هزت سجود رأسها متفهمة وهي مندمجة مع رقص الفتيات تصفق في استمتاع ولم تدرك إحداهن أن سمية كانت بالقرب حتى أنها سمعت كلامهن. لتنهض وقد استشعرت دوارا عجيب يكتنف قلبها.
متى قرر السفر!؟ ولم لم تدرك إلا اللحظة مصادفة!؟ وهل كان سيسافر دون أن تودعه حتى!؟ لم يا عاصم!؟
نهضت تستأذن في هدوء لا يتفق مع ذاك الوجع الذي يمور داخلها كبركان.

ما أن خرجت من الغرفة حتى انسابت دموعها رغما عنها وهي في سبيلها للرحيل إلا أن القدر كان رحيما بها لتلتقيه وجها لوجها وهو في سبيله لحجرته لإعداد حقيبة سفره وإلقاء نظرة أخيرة على محتوياتها. هتف ما أن رآها: ازيك يا سمية!؟ مالك. إيه في!؟ في حد زعلك!؟

هزت رأسها نفيا. لكن ما أن رفعت ناظريها نحوه حتى زاد نحيبها واندفعت هاربة من أمامه. حتى أنه تعجب مما فعلت. لكنه لم يلق للأمر بالا. وتوجه نحو حجرته يحاول أن يتجاهل ذاك المرح القادم من داخل غرفتها.

جلس أمام حاسوبه وبدأ في الكتابة بقلبه قبل أصابعه تلك المشاعر التي يجيش به صدره اللحظة: في الصدر فؤاد يحترق قهرا. حبك ونبضه بعضا من هشيمه المتطاير. وزيله شيخ العاشقين. إلا أنه وقبل أن يضغط زر النشر انتفض فجأة ما أن اندفعت أخته نوارة لداخل حجرته ليزعق في سخط معاتبا: - حد يدخل كِده من غير استئذان يا دكتورة!

هتفت به نوارة في حنق: استئذان!؟ اومال الخبط اللي كان ع الباب ده ومردتش كان إيه!؟ ده أنا اتخضيت عليك والله.
هتف وقد هدأت حدة نبرته: حصل خير. كنت سرحان شوية.
هتفت نوارة تحاول أن تخفي تأثرها برحيله: ظبطت شنتطك ولا محتاچ مساعدة.
هتف عاصم مؤكدا: كله تمام يا دكتورة.
المهم. أنا عايز أوصيك على چدي. خدي بالك منيه يا نوارة. وأي حاچة جوليلي. أوعي تخبي عليا.

هتفت نوارة في هدوء: حاضر يا شيخ عاصم. بس أنت خلي بالك من نفسك. وحاول تنسى يا عاصم. خلاص مبجتش بتاعتك. ولا ليك.
تنبه عاصم نحوها منتفضا هاتفا في اضطراب: أنتِ جصدك إيه!؟
تنهدت نوارة. تلك التي لم تكن تعطي بالا لمشاعر الهوى. مؤكدة في شجن: أنت عارف أنا اجصد مين يا عاصم.

ومدت كفها لحاسوبه الذي أمال شاشته قليلا عندما اندفعت للحجرة مشيرة نحو كلماته على شاشة الحاسوب والتي لم يكن قد نشرها بعد. هاتفة: ده اللي اجصده يا شيخ العاشجين.
اضطرب عاصم. لتستطرد هي مقتربة من أخيها رابتة على صدره في حنو. هامسة: محدش يعرف غيري. يوم ما استلفت منك اللاب مكنتش غادرت الصفحة وشفتها. ربنا يعينك على جلبك.
ابتسم عاصم هاتفا في شجن: ومن ميتى ليك في حكاوي الجلوب يا نوارة!؟

همست نوارة في شجن مماثل: نوارة لها جلب يا عاصم. بس عمري ما هخليه يتحكم فيا. عارفة إنه مش بيدنا. بس أنا هخليه في يدي.
هتف عاصم متحسرا: يا ريت نجدر. مكنش حد غلب.
وابتسم منهيا حوار الشجن هاتفا: ربنا يبعت لك واد الحلال اللي يستاهل جلبك. وربنا يعينه.
قال كلمته الأخيرة مازحا لتتطلع إليه نوارة بنظرة حانقة قبل أن تنفجر ضاحكة.

غادرت الغرفة تاركة إياه ليعود أمام حاسوبه من جديد. ضاغطا زر النشر متطلعا لصفحة الحاسوب وقد انكشف سره.
مر النهار وهم على ما هم عليه داخل أرض جده الزراعية التي قرر الاعتناء بها بعد كثير من الإهمال واستغلال المستأجرين بلا عائد مادي يذكر.
اعتدل من انحنائه يمسح قطرات العرق المنسابة على جبينه. ليتنبه لسماحة الذي كان يتجادل مع رجل ما يبصره على البعد.

اندفع في اتجاه موضعهما مقتربا. وما أن أصبح على وشك الوصول هتف بسماحة في تعجب: ايه في!؟
توقف كلاهما مع وصول يونس ليهتف سماحة في حنق: البيه عايز ياخد المية لحاله كن مفيش حد غيره عيسجي زرعته غيره.
هتف الرجل في محاولة للتبرير: ده دورنا فالرية. انت بتجول شكل للبيع ولا ايه!؟
هتف يونس في مهادنة: خلاص. فضيناها. و
قاطعه سماحة حانقا: فضيناها كيف يا بيه!؟ م.

هتف يونس يقاطعه في حزم: خلصنا. فضيناها. ياخد دوره ونبجوا احنا نرووا وراه.
وأشار يونس للرجل في هدوء: روح يا واد عمي شوف حالك. وخلينا نشوفوا حالنا.
هتف الرجل ممتنا وهو ينظر في استعلاء لسماحة: تسلم يا يونس بيه.
اندفع الرجل راحلا يراعي مصالحه تاركا سماحة يغلي غضبا وهو يضرب وجه الأرض بفأسه دون أن يول يونس اهتماما ما دفع يونس ليهتف مستفسرا: هو ايه في!؟ من ميتا لينا فالعراك ووچع الراس يا سماحة!؟

اعتدل سماحة حانقا: إلا مع ولاد المحروج دول.
هتف يونس مستفسرا: ليه!؟ ده أنت بتتكلم كن بينك وبينهم تار.
اضطرب سماحة مؤكدا: لاه. تار إيه يا بيه لا سمح الله! بس ولاد نچم دول. ضلالية وياكلوا مال النبي.
ابتسم يونس هاتفا: وانت ايش عرفك!؟
أكد سماحة: يعني هعرف منين يا بيه!؟ أهي الناس بتجول. وكلمة من هنا على كلمة من هناك. أهو بنعرف اللي فيها.
أكد يونس: متخدش في بالك من كلام الناس. الناس مبتبطلش كلام من أساسه.

ياللاه شد حيلك خلينا نرچعوا. أنا چعت وشكل الخالة سعيدة عملانا طبخة زينة ترم البدن.
ابتسم سماحة مؤكدا: معلوم يا بيه. ده هي متوصية ع الأخر. بالهنا والشفا.
تنبه سماحة أنه لم يطلب طاجن السمك بالفريك منذ أخر مرة تناوله. فهتف به مستفسرا: متوحشتش طاجن السمك يا بيه!
قهقه يونس: إن چيت للحج يا سماحة. اتوحشته جوي.
أكد سماحة بنبرة متحسرة: كن علاچ أمي ملوش عازة!
أكد يونس مقهقها: تصدج نفع.

هتف سماحة في انشراح: وااه. بتجول الحج يا بيه!؟
أكد يونس في هدوء: بجالي فترة في حالة غريبة. لا عارف ده كويس ولا لاه. بس اللي بجي فارج معايا مش إنها رفضتني. اللي فارج بچد هي رفضتني ليه!؟ بس لما جعدت أفكر شوية جلت لنفسي مهما كان السبب. هو إن ربنا مش رايدها من نصيبي. جلبي وچعني اه منكرش. لكن اللي حاسة دلوجت إن خلاص أنا.

صمت ساد لبرهة قبل أن يستطرد مؤكدا: مش عارف أنا إيه!؟ بس أنا أحسن يا سماحة. أحسن بكتير. الظاهر طاچن الخالة سعيدة له العچب.
انشرح سماحة ولم يعقب بحرف ليهتف به يونس: ياللاه بينا. العتمة داخلة. خلينا نرچع نشوفوا حالنا. وأكل الخالة سعيدة اللي ريحته واصلة لحد هنا.
اتسعت ابتسامة سماحة منحنيا يلتقط فأسه سائرا خلف يونس الذي اندفع في اتجاه دار جده.

كان قدومها إلى النجع فكرة موفقة. على الأقل ابتعدت قليلا عن كل تلك الأماكن التي تراه بها ولا يمكنها أن تقربه. فما عادت كرامتها تحتمل مثل هذا التجاهل من قبله. فليكن. حتى ولو كان هذا من أجل صالحها لكن ليس بهذا الشكل القاسي والعديم اللياقة. اشعارها أنها هي التي تركض خلفه جعلها تشتعل حنقا. فلم يخلق بعد من هو قادر على كسر كبريائها أو جعلها تتذلل من أجل علاقة لا رغبة له فيها.

حتى عندما قررت هي إظهار عدم الاهتمام. اختفى هو في ظروف غامضة. لا تعلم اين تراه يكون. ما اضطرها لتسأل صديقتها لتستفسر من خطيبها عنه. لتدرك أخيرا أنه في إجازة.
سارت بمحاذاة الترعة التي كانت تقطع النجع من أوله حتى أخره. ولامت نفسها أنها تفكر فيه من الأساس. فهي هنا لكي تنسى كل ما يتعلق به.

لكن عاودها التفكير فيه من جديد قسرا. لماذا ظهر بحياتي!؟ هكذا تساءلت. كانت بالمنصورة على وشك التخرج. لما انتقلت للقاهرة كي تقابله بعد كل هذه السنوات!؟ هاجس ما داخلها يخبرها أن قدر ما قد يجمعهما. لكن كيف لذلك أن يحدث وهو يدفع بها بعيدا عن طريقه!؟ أي قدر ذاك الذي يمكن أن يجمع شخصان لا يتقاطع طريقيهما!؟

تنبهت لحركة قريبة. اعتقدت أنها أحد الحيوانات المربوط بحكم العادة لإحدى الأشجار. لكن فجأة ظهر أمامها ذاك الفرس الذي توقف قبالتها نافرا في قوة محركا رأسه الضخم لتتراقص غرته لتفزع هي معتقدة أنه يستعد لمهاجمتها فانتفضت في ذعر تركض مبتعدة. لكنه لم يدعها بل استمر في الركض خلفها. لتزيد من سرعتها. ترغب في الصراخ أو النداء على أحدهم لإنقاذها لكن بلا جدوى. فصوتها محشور بحنجرتها ولا سبيل لديها إلا الركض كالمجذوبة التي يتعقبها أطفال القرية بالحجارة والضحكات الساخرة.

وصلت أخيرا لذاك السور المنخفض واندفعت من شق طولي به لداخل تلك الأرض التي تحيط بدار ما. وقفت تلتقط أنفاسها في تتابع محموم معتقدة أن ذاك الوحش قد تاه عن طريقها وما عاد يركض بأعقابها لكنها كانت مخطئة فها هو وقد علم مكانها وتسلل مثلها من ذاك الشق الطولي وكأن أحدهم يخبره بموضع اختبائها.
ركضت من جديد بلا هدى.

لكنها فجأة اصطدمت بأحدهم لتشهق في ذعر. رفعت رأسها للحظة محاولة الاعتذار عن اقتحامها باحة المنزل بهذا الشكل وكذا تقديم العذر المناسب لذلك وهو تعقب ذاك الفرس الجامح لها. لكنها شهقت من جديد في صدمة أكبر ما أن وجدت ذاك الذي كان يحتل مخيلتها منذ دقائق كما أحتل أحلامها في منامها وتفكيرها في يقظتها.
هتفت في نبرة متقطعة: منتصر!
تطلع إليها في وجل ونظراته تحمل مشاعر مختلطة معجونة بشوق هائل لها.

انفجرت باكية فجأة لا تعلم ما دهاها لتبكي هكذا بهذا الشكل المقهور ما أن وقعت عيناها على محياه!؟ نحيبها علا وجبينها مستند على قائم صدره. كأنما لو ابتعدت لحظة لسقطت من فورها. كانت ذراعاه متصلبة جوار جسده لكنه في لحظة ضعف رفعها قليلا رغبة في ضمها إليه موقنا أنه ما عاد قادرا على تجاهل مشاعره التي تفتك به منذ قابلها من جديد. كان يحاول التباعد قسرا لكن قلبه وروحه التي تهفو إليها كان لهما رأيا أخر مغايرا تماما عن صوت تعقله الذي جعله يخفض كفيه لتسقر على جانبي جسده من جديد.

همس محاولا بكلماته إبعادها عن صدره الذي حفر جبينها فيه دروب من أزهار وحنة: يعني يا ربي سبتلها القاهرة بحالها عشان أهرب منها ألاقيها محصلاني على هنا!؟ طب اهرب منها أروح على فين بس!؟

أبعدت جبينها في هوادة ورفعت عيونها الدامعة نحوه فترنح قلبه كالسكير أمام سطوة الدمع ولم يشعر إلا وهو يمد كفه التي استطاع السيطرة عليها سابقا لكنها خذلته هذه المرة لتمح خط الدمع الذي شق دروب الخد الوردي. لتهمس هي بصوت متشنج مرتبك الأحرف: سبت القاهرة بسببي!؟ للدرجة دي مش ط.
هتف في شوق مقاطعا: وحشتيني.
شهقت ولم تعقب بحرف ليستطرد: جيت هنا عشان اصبر نفسي. بس خلاص مبقاش عندي طاقة أبعد.
همست في صدمة: هااا.

أكد في نبرة أنبأتها بمكنونات قلبه: بحبك يا بدور.
هتفت في صدمة أكبر: أنا!؟ بتحبني أنا!؟
أكد مبتسما وعيناه لا تفارق محياها المصدوم: أيوه أنتِ يا غلباوية. طلعتي عيني ووجعتي قلبي.
هتفت من جديد غير مصدقة: أنا!؟ أنت بتهزر صح!
قهقه متسائلا: هو سيادة العقيد معاكِ هنا مش كده!؟
هزت رأسها في تيه مؤكدة. ليستطرد مؤكدا: طب انا هعدي عليه بكرة بإذن الله.
هتفت مستوضحة في بلاهة: ليه!؟

ابتسم هاتفا في سخرية: تفتكري ليه!؟ عنده واحدة مجنونة عايز أخلصه منها وأبتلي نفسي بها.
شهقت في فرحة ليهتف متطلعا إليها في عشق: تفتكري توافق!؟

تطلعت إليه ولم تعد تدري يمناها من يسراها فما كان منها إلا الاندفاع هاربة تعود أدراجها بعد أن اختفى الفرس الاشهب الذي كان يتعقبها والذي تمنت اللحظة لو توسعه عناقا وقبلات لأنه كان السبب في هذا اللقاء الذي جعلها تطير اللحظة على السحاب سعادة. فغدا. سيأتي إليهم لخطبتها. غدا يوم تحقيق الأحلام. تنهدت في فرحة غامرة وهي تضع كفها على صدرها تربت في حنو على ذاك القلب الذي يكاد يقفز من بين الضلوع فرحا. ليهدأ ويستكين حتى تحين لحظات السعادة الحقة بقربه أخيرا.

تعالت الزغاريد تضج بها جدران سراي الهوارية فقد تم عقد القران لتصبح زهرة شرعا وقانونا حرم الدكتور محمد عزام. ارتفعت الأصوات بالتهنئة مصاحبة لمزيد من الزغاريد. وتاهت بين هذه وتلك آهاته وأوجاعه وهو يتطلع إليهما اللحظة. تجلس هي جوار زوجها في فرحة لا يمكن أن تصفها أحرف الكلم. حتى هو. محمد زوجها كان رغم وقاره لا يستطيع إخفاء فرحته بالمثل. إنه لا يلمه. وكيف ذلك وقد أضحى زوج تلك التي كانت ومازالت بمثابة حبة العين وشغاف القلب! لقد أمتلك الغالية والنفيسة وفاز بالزهرة الندية. هنيئا له. وتعسا لي.

تسلل في هدوء صاعدا لحجرته يتمم على أغراضه ويتأكد من جاهزية حقائبه. يفعل ذلك في آلية وتيه تام لا يدرك ماذا وضع داخلها أو ماذا خفف عنها.
فما عاد يهمه من الأساس. تحدوه الرغبة في تلك اللحظة إلى ترك كل شيء خلفه حتى حقائب الهم تلك. والرحيل خال الوفاض حتى من ذاكرة وجيعته. لكنه يعلم أنه حتى لو ترك حقائب الأغراض فمن يزيح عن كتفيه حقائب الوجع التي تنقض ظهر عزمه!

لا يعلم كم غاب بحجرته لكن هذا الصخب بالأسفل قد قل زخمه فقرر استطلاع الأمر قبل أن يودع الجميع راحلا. هبط الدرج في هدوء متطلعا حوله ليجد امه تجلس بجوار عمته سندس.
هتف متسائلا: هم الناس مشوا بسرعة كده!؟

غام وجه تسنيم وهي ترى ولدها مستشعرة قرب رحيله عنها دون أن تنطق بحرف لتهتف سندس في أريحية: اه يا سيدي. العريس صمم ياخد العروسة وأبوها وأمها وباجي البنات. جال إيه. عازمهم بره. خليه يغرم بجى. إحنا عملنا اللي علينا ودبحنا وجدمنا الأكل للناس بره. ياللاه. عريس بجى وعايز يفرح عروسته. عجبالك يا عاصم.

تطلعت تسنيم لملامح وجه ولدها الجامدة التي لا تشِ بذاك الصراع الذي يفتك به وهز رأسه في امتنان لعمته وسأل في هدوء قاتل: فين چدي!؟
همست تسنيم أخيرا مشيرة لباب القاعة المتطرفة بعيدا عن ضجيج الحفل: هناك ف الجاعة الجبلية يا عاصم. روحله يا حبيبي.
هز عاصم رأسه في طاعة وتحرك في آلية باتجاه القاعة التي فتح بابها ودلف لداخلها ليجد جده يجلس متطلعا من نافذتها التي تكاد تصل حافتها السفلية للأرض.

وقف عاصم في صمت مهيب خلف مقعد جده المدولب يستمع لموسيقى ليل نجع الصالح الشجية التي تأتيه عبر أصوات جنادب الليل ونقيق الضفادع وتراقص سعف النخيل في إغراء وغواية لأنجم السماء القابعة بالأعلى والتي سيفتقدها بشدة.
وضع عاصم كفيه على كتفي جده المهدلين ليرفع الجد كفه المغضن رابتا على أحدهما هامسا في وجع: خلاص نويت يا ععاصم!
همس عاصم: خلاص يا چدي.

هتف الجد محاولا استبقائه للمرة الاخيرة: طب كان لازما النهاردة يعني!؟ ما تأچل سفرك كمان يومين.
هتف عاصم مؤكدا: والله ما بخطري يا چدي. الشركة اللي هشتغل فيها هي اللى حددت ميعاد السفر وحچزت وبعتت ليا التذاكر. يا دوب أسلم عليكم واخد طريجي للمطار. وربنا يسهل لنا.
ربت الجد على كف حفيده من جديد هامسا بشجن: تروح وترچع بالسلامة. ربنا يسلم لك طريجك يا ولدي.

حرك عاصم مقعد جده مبعدا إياه عن النافذة حتى لا يضر به هواء الليل الذي انتصف تقريبا وبدأت تشتد برودة نسائمه مسدلا ستائرها متوجها به إلى حجرته.

كانت تسير بتلك الخطوة العسكرية كما أمرها أخوها ما أن أشرفت على دخول الشارع الرئيسي تحاول الهرولة بمشيتها حتى لا يعترضها أحد هؤلاء العاطلين المجتمعين على ذاك المقهى الأكثر حداثة من مقهى جدها. تنبهت أنه يتعقبها فتنفست الصعداء في غيظ فما عادت قادرة على تحمل المزيد من الحماقات وتقمصتها روح حُسن الثائرة لتنتفض مستديرة نحوه هاتفة بلهجة حاولت أن تودعها كل ثقتها هاتفة في حنق: كفياك بقى لحد كده. أنت متعبتش!؟

تطلع إليها ذاك الغريب متعجبا لا يدرك ما دهاها وهتف في ذهن منشغل متجاهلا حنقها: تعرفي فين حارة الشمندورة!؟
هتفت بحنق زادت وتيرته: لا ده أنت قاصدها بقى.
هتف بحدة مماثلة وقد تنبه لحديثها المحتد: إيه فيه!؟ هو السؤال حُرم.!؟ خلاص بلاها.
واندفع باتجاه المقهى متسائلا بصوت عال بعض الشيء: السلام عليكم يا رچالة. فين حارة الشمندورة.!؟

هتف صبي المقهى ساخرا وقد أبصر نعمة تقترب في اتجاههم لدخول الحارة: شمندورة إيه بس يا باشا! ما القهوة دي أحسن من غيرها يا بلدينا.
توقفت نعمة في غيظ تتطلع لذاك الأحمق وقد تذكرت تحذيرات نادر بألا تثير المشاكل على أساس أنها قادرة على ذلك من الأصل. همت بالاندفاع مبتعدة إلا أن صبي المقهى هتف مغازلا: الجميل زعل ولا إيه؟!

توقفت تبحث عن سباب لائق يدفعه ليخرس لسانه عنها. لكن كان ذاك الغريب الأسرع أمرا إياه: خليك معايا أنا وسيبك من الحريم.
هتف صبي المقهى مستفسرا: إيه هي تخصك ولا إيه؟!
هتف الغريب مؤكدا: ايوه تخصني. سيبها فحالها وخليك معايا.
لكن يبدو أن ذاك الغبي لم يكتف من حماقته هاتفا في سخرية متطلعا نحو نعمة والتي كانت قد استدارت مغادرة بالفعل: وجيباه وراكِ كمان!

لم يعد بمقدورها الصمت على سخافات ذاك الحقير وهمت بالعودة والاندفاع نحوه تخرسه وليكن ما يكون. إلا أنها توقفت موضعها متطلعة الى ذلك الغريب الذي انتفض ممسكا بصبي المقهى في ثورة هادرة يهزه بقوة هاتفا: چايبة مين وراها يا عويل أنت؟! شكلك عايز تغير ديكور سحنتك البهية دي؟!
انتفض صاحب المقهى يلوذ عن صبيه هاتفا مهادنا: معلش يا بيه. عيل عبيط ميقصدش. أهدى بس وروق. تعالى أشرب لك حاجة تطرى على قلبك.

دفع الغريب صبي المقهى باشمئزاز وهتف مؤكدا: معيزش أشرب حاچة. سألت سؤال. عندكم رده جولوا. فين حارة الشمندورة؟!
أشار صاحب المقهى مؤكدا: على طول وخد أول يمين هي دي حارة الشمندورة. بس أنت رايح لمين هناك!؟

لم يجبه الغريب بل حمل حقيبته التي تركها جانبا عند إمساكه في تلابيب الصبي مندفعا يتخذ إشارات الطريقة حتى تنبه أنها كانت تسبقه بخطوات. لم يعرها التفاتا محاولا التركيز بطريقه عندما ظهر أحد الشباب منسلا من جماعته التي كان أفرادها يفترشون مدخل الحارة ناشرين الفوضى والفساد. اقترب منها ذاك الشاب في صفاقة هامسا: مش ناوي تحن بقى يا جميل!؟

هتفت به نعمة في اضطراب: أنت محرمتش يا قدورة!؟، شكلك نفسك فعلقة من أيدين نادر أخويا ترد لك عقلك زي كل مرة..
هتف قدورة وهو يمسك بذراعها في لهفة: بس استني بس. مال طبعك حامي كده!؟
جذبت ذراعها من كفه في غضب هادر وما أن همت برفع كفها لصفعه حتى توقف ذاك الغريب بينهما هاتفا في حمية: عنك يا ست البنات. معدمتيش الرچالة عشان متلاجيش اللي يربي النچس ده.

تراجعت نعمة خطوات للخلف في استغراب وهذا الغريب يلوذ عنها رافعا كفه ليسقط على جانب وجه قدورة صافعا إياه صفعة مدوية تردد صداها بالحارة كلها.
ساد الصمت مما أثار انتباه المعلم خميس من داخل قهوته لينهض من موضعه خلف البنك بتثاقل ليقف على أن أعتاب المقهى متسائلا بصوت جهوري: فيه إيه!؟ إيه اللي بيحصل!؟

استفاق قدورة من صدمة الصفعة التي تلقاها على يد ذاك المجهول مندفعا يمسك بتلابيبه أخذا بثأره إلا أن ظهور المعلم خميس لجمه.
اندفعت نعمة في اتجاه جدها تلوذ به بينما أنزل قدورة كفيه عن الغريب ناظرا إليه في غضب مكبوت يتوعده بنظراته المشتعلة.
تجاهله الغريب في لامبالاة متجها حيث كان يقف المعلم خميس متطلعا للافتة المقهى متسائلا: السلام عليكم يا معلم. ألاجي فين ورشة الأسطى ناصر خميس!؟

هتف خميس مؤكدا: خير يا بني. أنا أبوه.
هتف الغريب مادا كفه محييا في مودة: أهلا يا معلم. أنا راضي الحناوي. اللي كلمكم عني سيادة العقيد حازم الهواري.
تطلع خميس إليه في تيه لحظة لكنه تذكر فجأة ما أخبره به ناصر. أن حازم اوصاه بأحد أقربائه سيأتي للتدرب على صيانة العربات بورشته. لابد وأنه هو. ما دفع خميس يهتف مرحبا: أهلا. أهلا يا بني. شرفت. تعالى اتفضل.

كانت نعمة التي كانت ما تزل تراقب المشهد عن كثب. عيناها تتفحص ذاك الغريب الذي ظنت أنه يتبعها إلى هنا مغازلا. ليصبح هو ملاكها الحارس حتى وصولها لمقهى جدها.
هتف خميس ما أن استقر راضي قبالته على أحد المقاعد موجها حديثه لنعمة: يا نعمة. روحي اندهي لأبوك. شوفيه فالورشة ولا فوق. قوليه راضي الحناوي قريب عمك حازم وصل وقاعد مع جدي ع القهوة.

هزت رأسها في تأدب دون أن تنبس بحرف لكن عيونها ظلت معلقة بذاك الذي كان يجلس منكس الرأس في حياء وما رفع ناظره متطلعا إليها وجدها يحادثها حتى. من يره اللحظة وهو بكل هذا الحياء لا يمكن أن يتصور أنه من اثلج صدرها منذ دقائق بصوت لطمته المدوية على وجه قدورة. ويا لها من لطمة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة