قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن والعشرون

اندفع وحيد في اتجاه حازم الذي كان يقف اللحظة على باب غرفة العمليات، هاتفا في لهفة، بعد تأديته التحية العسكرية: إيه الأخبار يا فندم!
أشار حازم نحو غرفة العمليات، مؤكدا في حزن: حالته خطيرة، ربنا يسلمه وينجيه.
ساد الصمت بينهما، ووحيد يهمس في تضرع، هامسا في اضطراب: أنا حذرته، قلت له دي عملية انتحارية، قالي وماله، معرفش ليه كان مستبيع قوي كده، كأنه بيرمي نفسه فالنار بأيديه!

تطلع حازم نحوه في صدمة، ليستطرد وحيد صديق منتصر: حتى يوم ما اتصابت، سحبني بعيد عن الضرب، مسكت في أيده، وقلت له بلاش، عشان يتراجع، مسمعنيش طبعا، وبعدها فضلت محبوس هنا فالمستشفى على أساس إن حالتي خطيرة، وإن هو السبب في إصابتي، وإني بين الحيا والموت، وده كله باتفاق مع اللواء الفنجري، عشان يعرف يدخل فعمق العصابة ويقنعهم، الموضوع ده إحنا شغالين عليه بقالنا شهور يا فندم، ده بسببه سبنا كام عملية تعدي من أيدينا، نسربها لمنتصر، عشان يثقوا فيه، كانت طالعة من نافوخنا، بس كله يهون، عشان سعفان النادي ده واللي معاه يوقعوا.

ربت حازم على كتف وحيد في إكبار، هاتفا في فخر: ربنا يحميكم يا بني.
هتف وحيد: متشكر يا فندم، يا رب يقوم لنا منتصر بالسلامة، هو حضرتك قريبه!؟ أصل محدش هنا غير حضرتك، ولا انتوا مبلغتوش حد من قرايبه!؟
ابتسم حازم، مداريا غصة بقلبه، يهز رأسه في تأكيد: أه لسه مبلغناش، بس تقدر تقول كده إني قريبه وبلدياته.
ليستطرد وحيد في أريحية: منتصر دائما كان بيجيب سيرة حضرتك بكل خير.

ابتسم حازم ابتسامة شجية، وحاد بناظره في اتجاه باب غرفة العمليات، يتمنى لو كان بمقدوره اقتحامها، ليدرك ما يحدث بالداخل، ويسمع ما قد يطمئن قلبه، ويريح أعصابه التالفة منذ أتاه الخبر، وهو بصحبة اللواء الفنجري.

عادت تقف تتطلع نحو الأفق البعيد، لا قدرة لديها على مواجهة نوارة وهي تدلي باعترافات بطول سنوات العمر بأكمله، هامسة من بين شهقات بكائها: من وإحنا صغيرين، وعاصم كان كل حاجة، ولسه كل حاجة ليا، لكن هو عمره ما حسسني إلا إني بنت عمه اللي بيخاف عليها زيك انت وسجود، في أولى جامعة، اعجب بيا شاب، كان فعلا كويس، وصحابه بدأوا يوصلوا لي رسايل إنه بيحبني وعايز يتقدم لي، بس انا مكنتش برد، كان عاصم موجود وكنت بقارن بِه كل واحد يقرب مني، وفجأة عرفت إن الشاب ده بباه اتوفى فاليوم اللي كانوا هيكلموا بابا عشان يجي يخطبني، ساعتها سمعت أصعب كلام ممكن واحدة تسمعه، وشوفت نظرات من زمايلي، كأني أنا السبب فموت والده، وبدأوا يتغامزوا ويتلامزوا عن زهرة النحس، اللي واكلة ناسها، اللي الشاب ملحقش حتى يكلم أبوه عشان يخطبها، واللي أهله كلهم رفضوا يتمموا الموضوع بعد فترة من وفاة بباه عشان أنا واحدة شؤم وهم مش ناقصين حد من العيلة يجراله حاجة تاني.

ساد الصمت، وتعجبت نوارة كيف لم يعرف أحد بهذه التفاصيل التي ترويها، وتطلعت لسجود في حزن، ولم تعقب، بينما استطردت زهرة تمسح دمعها عن وجنتها، هاتفة: وجه محمد، كان انسان محترم وطيب قوي، حبني بجد، كنت بحاول أوهم نفسي إني بحبه، يمكن أقدر أخرج عاصم من قلبي وعقلي، وأحب راجل أنا عارفة ومتأكدة إنه بيحبني، وحاولت انسى اللي حصل مع الشاب الأول، وموضوعه، وأخرج أي خوف من جوايا، من أن اللي حصل ده ممكن يتكرر، وفعلا عدت الخطوبة على خير، فرحت مش عشان أنا فرحانة به، لكن عشان الذنب اللي لذقوه فيا مش صحيح، انا مش نحس، انا مش السبب في موت حد، أنا بنت زي أي بنت نفسها تحب وتتحب، لكن للأسف أتكرر الموضوع مع محمد واللي قعدت شهور بحاول اتعافى من الصدمة بعد موته، ولسه ذنبه حساه مطوق رقبتي، واللي لما حاولت انزل الجامعة عشان احاول استأنف حياتي، وانسى الارتباط والجواز، واركز فدراستي، أول ما رجعت، سمعت نفس الكلام تاني، والمرة دي بقى، مكنش بيتقال من ورايا وبيوصلني، لا بقى بيتقال وهم مصرين إنه يوصلني، وخلاص أنا بقيت مصدقة كلامهم، أنا فعلا واحدة نحس، وأي حد هيقرب مني عشان يفكر يرتبط بيا، هيكون مصيره الموت.

ساد الصمت من جديد لبرهة، تحاول فيها التقاط أنفاسها، لتستطرد بعدها: ولما عرفت إن عاصم بيحبني، حاولت أبعد بكل طريقة، بس أبعد إزاي وده حلم حياتي اللي اتمنيته من ساعة ما وعيت ع الدنيا، حاولت والله ومقدرتش، بس لما فكر إنه يتقدم لي محستش إلا وأنا بصرخ بالرفض، وأنا هموت وأقول أه، ايوه، يا ريت، أنا كنت مستنية اللحظة دي من زمان قوي، ولما جت مكنش ينفع تقولي اه، عارفة يعني إيه يا نوارة، حلم حياتك يتحقق قدام عينك في لحظة، ومتبقيش طيلاه وأنتِ اللي تبعديه عنك!

جاء السؤال لنوارة في مقتل، فقد كانت تسألها انك كانت تدرك هذا الشعور أم لا، وهي الغارقة فيه حتى الثمالة، يموت قلبها قهرا اللحظة، على فراق ذاك الذي ما دق الفؤاد لغيره، وما شرعت نوافذ الروح إلا له وحده، أنساب دمع نوارة رغما عنها، وهزت رأسها بلا وعي، مصدقة على كلامها،.

لتستطرد زهرة مقهورة: مكنش ممكن أتخيل أن عاصم ممكن يحصل له حاجة يا نوارة، عشان ده عاصم، عارفة يعني إيه عاصم! لو حصل له حاجة، عمري ما هسامح نفسي، ده لو قدرت أعيش بعده ثانية واحدة، لأني عارفة إن روحي متعلقة بيه، ولو راح هروح معاه.

وصرخت مؤكدة لنوارة، هاتفة بالاعتراف الأروع، وبنبرة قوية كأنها أخيرا تزيح ذاك الثقل الذي كان جاسما على قلبها: أنا مش بس بحب عاصم، أنا بعشق النفس اللي بيتنفسه، التراب اللي بيمشي عليه، كنت ممكن اضحي إنه يكون لواحدة غيري أو إني أكون لواحد غيره، ولا يحصل له حاجة تمس شعرة منه.
وشهقت شهقة قهر، نابعة من أعماق صدرها، هاتفة بنبرة موجوعة، ممزوجة بعشق قاهر: إلا عاصم يا نوارة، إلا عاصم.

اندفعت نوارة نحوها، تتلقفها بين ذراعيها، لتبكي كل منهما بأحضان الأخرى، ترتفع شهقات زهرة في وجع مطالبة نوارة: قوليله يرجع يا نوارة، هتقوليله صح، أنت وعدتيني!
هزت نوارة رأسها في إيجاب وربتت على كتفها في محاولة لتهدئتها، هامسة: حاضر يا زهرة، حاضر، إهدي بس وكله هيبجى تمام.
طرقات على الباب، ودخول إيمان متطلعة للفتيات في ريبة، ما جعلها تندفع نحو زهرة، تضمها بين ذراعيها، متسائلة: هو فيه إيه يا بنات!

هتفت نوارة مؤكدة، وهي تمسح دموعها، مشيرة لسجود لترك الغرفة لزهرة وأمها، مؤكدة: مفيش حاچة، زهرة تحكيلك.
خرجتا سويا، نوارة وسجود التي ناولت هاتفها لأختها، لتضغط زر الإرسال، لتلك الرسالة المسجلة بكل هذه الاعترافات، لرقم واحد فقط، عاصم.

صعد الدرج مترنحا، يقدم قدم ويأخر الأخرى، لا يعرف كيف سيواجها، حتى بعد رسالتها المطمئنة تلك، يشعر باضطراب اللحظة، وهو يضع مفتاح باب الشقة في موضعه، وما أن هم بفتحه، حتى كانت هي الأسبق، لتجذب الباب، لتطالعه بمحياها المتجمل، ابتسم في سعادة واهنة، لتبادله الابتسامة بمثلها بل أكثر إشراقا لمرآه، هامسة في رقة: حمد الله بالسلامة.
همس بدوره: الله يسلمك.

أشارت نحو المائدة التي أعدتها عندما علمت بقرب مجيئه من أمه، فمنذ رسالتها الصوتية التي ارسلتها، لم تسمع منه حسا أو خبر، هز رأسه متجها للمائدة، ورغم عدم رغبته في تناول الطعام، إلا أنه جلس إكراما لها، حاول أن يمد كفه، لأي صنف من صنوف الطعام الشهية، لكنه كان يشعر أنه ليس على ما يرام، تنبهت سمية أنه يدعي تناول الطعام، لكنه لم يضع لقمة بفمه، همست في فطنة: شكلك تعبان!

نهضت في عجالة من موضعها، تضع كفها على جبينه، ليرتجف من لمستها، وهي تشهق في قلق، بعد أن تأكدت أن حرارته مرتفعة بالفعل.
ربتت على كتفه، هامسة: شكلك خدت برد چامد، جوم أرتاح وأني هعمل لك حاچة سخنة.
همس وهو ينهض في وهن: متتعبيش روحك، أني عايز أنام وبس.

توجه نحو الحمام، غاب فيه لبضع دقائق، وما أن خرج، حتى هم بالتوجه نحو غرفته المعتادة، ليجدها تمسك بعضده، توجه خطواته المتمهلة، نحو غرفتها، التي من المفترض أن تكون غرفتهما المشتركة، هامسة في هدوء: مكانك هنا.
تنبه لما تفعل، لكنه كان قدر من التعب، أفقده أية قدرة على أي جدال.

أجلسته متكئا على الفراش، غابت لبرهة، قبل أن تعود بإحدى جلابيبه المنزلية النظيفة، مدت كفها تساعده على خلع ما كان يرتديه، مبدلة إياها بما أحضرت، فردت غطاء صوفي ثقيل، دثرت به جسده، وجلست على طرف الفراش، تضع إحدى حبات الدواء بفمه، مع رشفات من كوب الماء، الذي كان هنا بجانبه، وجواره ماثل كوب من اليانسون الدافىء، الذي يبدو أنها أعدته أثناء غيابه في الحمام، والذي رفعته، تساعده على ارتشاف بعضه، حتى أشار لها لتتوقف، فما عاد قادرا على تناول المزيد.

اطاعت ليسحب نفسه تحت الغطاء، حملت الأكواب للمطبخ، وأعادت ترتيب المائدة من جديد، بعد أن أعادت الاطباق بكاملها لأوعيتها، لتعود للغرفة، تشعر بخجل فطري من مشاركته الفراش للمرة الأولى، بعد ليلتهما الموعودة تلك، وعلى الرغم أنه غير واع، إلا أنها تستشعر أن جو الغرفة معبق بحضوره، مدثر بأنفاسه، ما جعلها تتعجب، كيف لنفس الغرفة، التي قضت بها كل هذه الفترة وحيدة، أن يتبدل احساسها بها كليا، بهذا الشكل العجيب، لمجرد وجوده بها، مستشعرة هذا الانس الرحب، الذي سربل روحها بقربه!؟

تسللت في هدوء أسفل الغطاء، بعد أن خلعت عنها مئزرها، تنام على ظهرها تتطلع للسقف، وهي متسمرة على طرف الفراش، حتى تدع له حرية التحرك، لكنها غيرت وضعها، لتنام على جنبها، متطلعة نحوه، حيث محياه الغائب معظمه أسفل الغطاء، مدت كفها من جديد، تستطلع حرارة جبينه، وقد بدأ يرتجف، ارتجافات خفيفة، ما دفعها لتقترب، قلبها مفطور على حاله، ولا تعلم كيف انحنت بالقرب من مسامعه، هامسة في حنو، وهي تمسد على جبينه، الذي بدأ يتفصد عرقا: أنا هنا يا سمير!

وكأنه وحتى بعقله اللاواعي، أدرك قربها، واستمع لهمسها المطمئن، ليستدير ببطء، دافنا رأسه بصدرها، لتضمه إليها، محتميا بين ذراعيها، من هلاوث الحمى، دافعا ذاك البرد الذي ينخر عظامه، بدفء قربها الحار.

كادت أن تجن، غاب هذه المرة في زيارته لدار أبيه، على خلاف العادة، تشعر بشوق هائل لمحياه، ورغبة في الاستئثار بحضوره، فما كان لها الفرصة طوال فترة بقاء أخيه راضي هنا، على البقاء معه وحيدة كما كانت العادة دوما.

قررت الذهاب للأرض على غير العادة، فقد منعها النزول إليها، لا تعرف لذلك سببا، لكن بفطرتها استشعرت أنه اكتشف سرها، منذ كان بالقاهرة، وهو يحدثها على الهاتف بالالغاز، كانت قد قررت أن تصارحه بكل حكايتها، وليكن ما يكون، فهو بعد الكثير من المواقف، تأكدت أنه الرجل الذي يمكنها الاعتماد عليه، وإلقاء سرها بعمق صدره.

تنهدت بطريقها، وهي تعلم أنه سيثور غاضبا، إذا ما علم بنزولها الأرض، لكن ما أن جاءها أحد العمال الموجودين بالأرض، ليخبرها أن بغياب يونس، ما عاد العمال على عهدهم، وتكاسل بعضهم عن عمله، والبعض تقاعس عن الحضور من الأساس، ما دفعها لتقرر النزول في جولة تفتيشية مفاجئة، مخالفة لأمره، رغما عنها،.

لأن بخلاف تمرد العمال، كان هناك مشكلة في ميعاد الري، كان يمكنها التجاهل لو كانت تعلم ميعاد لمجيئه، لكنها لا تعلم متى سيعود، ولا قدرة لها على رفع هاتفها لتسأله مثل هذا السؤال، أو بالأحرى، لا قبل لها على سماع صوته يأتيها مشاكسا، وعاتبته بينها وبين نفسها، على عدم اتصاله، موفرا عليها الحرج، ومهدئا لصراع قلبها وعقلها الذي لا يهمد للحظة.

كانت على مشارف الأرض، وشاهدت بعينها ما يحدث من البعد، فلا أحد من العمال يعرفها، فلم يهتم أحدهم لأقتراب ذاك الرجل المسربل بجلبابه، والذي لا يخلع عنه عمامته صيفا أو شتاء، وما أن وصلت لحدودها بالفعل، حتى وقفت تصرخ في صوت جهوري: هو إيه! إن غاب الجط، إلعب يا فار!

انتفض العمال، ما دفعها لتهتف مستطردة: طب يكون فمعلومكم مفيش يومية النهاردة، واحمدوا ربكم إني مخصمتش من اللي فات، ريحوا بجى ع الأخر، بلا شغل بلا يحزنون، اجيبلكم شيشة ونجلبوها جعدة فرفشة وأنس!
هتف أحد العمال متحججا: ما هم جافلين علينا المية، نعملوا إيه يعني!
هتفت سماحة متسائلة: مين دول! الرية النهاردة من نصيب أرض يونس بيه!
هتف عامل أخر: ولاد نچم، هم عشان يونس بيه مش موچود، واكلين حج أرضه فالمية.

اندفعت بلا هوادة، في اتجاه أرض أولاد نجم، متناولة أحد الفؤوس في يدها، هاتفة بأحد أبناء هذه العائلة، والذي كان يقف بالقرب من أطراف الأرض الفاصلة بين أرضيهما، زاعقة في حنق، بصوت خشن جهوري، احترفت تصنعه منذ زمن بعيد: هو الچيرة ملهاش حج عنديكم! ولا انتوا صح من ميتا بتعرفوا الحج من أساسه!

هتف الرجل من أولاد نجم، حانقا: ما تلم نفسك يا واد أنت، عامل لي نفسك فيها صاحب ملك، لما يبجى ياچي صاحب الأرض، يبجى يتكلم! مش باعت لنا ديله.
هتفت به صارخة في حنق: أنا ديل يا ديل الكلب أنت!

ورفعت فأسها، لتهوى به على رأس الرجل، لكن الرجل استطاع تفادي ضربتها، دافعا بالفآس بعيدا، وما أن هم بالاستباك معها، حتى تجمهر العمال حائلين بينهما، دافعين سماحة لترحل عائدة للدار، تتوعد لذاك الأحمق، بصوت عال مهددة بقتله، والذي كان عليها الخلاص منه، منذ زمن بعيد.

كان يجلس بالمقعد الخلفي للسيارة، تاركا أمر القيادة لعبد الباسط، فما كان له القدرة على التركيز في القيادة، وكل ما يمر أمام ناظريه اللحظة، هي وذكرياتها معه، والتي كانت بطول العمر كله.
فتح صفحته، يبثها أوجاعه كالعادة، ليكتب قلبه بأحرف من وجيعة: في الصدر فؤاد يحترق قهرا، حبكِ ونبضه بعضا من هشيمه المتطاير.

نشر الخاطرة، وأغلق الهاتف، بل إنه قطع اتصال الانترنت عنه، رغبة في عدم ازعاجه، يكفيه ما فيه من ألم يعتصر روحه، يكاد يزهقها.
شرد في الطريق، وتاه مع الذكريات التي تصهر تحمله وصبره، كحمض حارق، ما أخرجه من التيه أكثر في خضمها، إلا رنين الهاتف الذي نسي إغلاقه بالمثل، كانت نوارة، تطيل الرنين بشكل غير معتاد، وضع سماعات الأذن، وقرر الرد، فيبدو أنها ستلومه على رحيله دون أن ينتظر وداعها حتى.

رد في هدوء: ايوه يا نوارة، أنا عارف..
هتفت به في لهفة باكية، ضاحكة في آن واحد: والله أنت ما عارف حاچة!
تعجب عاصم لتصرفها ذاك، الذي لم يكن من طبيعة نوارة الرزينة، والتي هتفت أمرة في عجالة: افتح الواتس ضروري، واسمع الرسالة اللي بعتتهالك سچود، والإختيار لك بعد كده يا عاصم، سلام.

ما هذا الحنون! أعاد تشغيل شبكة الإنترنت على هاتفه، لتتدافع الاشعارات في سرعة، ليلمح من بينها، اسمها، يبدو أنه تعليق على خاطرته، فتح صفحته في عجالة، ليتطلع لتعليقها في لهفة، هامسا بكلماته في وجل: وأني أحمل حبك بين جنبات روحي، تاج على مفرق فؤادي، كما تحمل أعواد الكبريت موتها فوق رأسها، لكني لا أبالي، فأنا التي ما عاد يهمها، إن كان حبك هو البلية أم العطية، يكفيني أني أحبك، فبربك عد إليّ، فبالصدر فؤادا يحترق شوقا لقربك، يا شيخ العاشقين.

أعاد قراءة الخاطرة عدة مرات، لكن عقله المشوش ما استوعب ما المقصود بكل هذا، وماذا تعني هذه الخاطرة التي كتبتها لصاحب الصفحة، بالضبط!

تذكر في أثناء تيهه، رسالة سجود على الواتس، فدخل في عجالة وما أن فتح الرسالة، حتى انتفض عندما أتاه صوتها وتوالت اعترافاتها ما دفعه ليهتف بعبدالباسط الذي تنبه مذعورا، بأن يقف على أحد جوانب الطريق، لينزل من السيارة، ليعيد التسجيل من بدايته، يدور حول حاله في اضطراب، لا يصدق ما يسمع، حتى إذا ما انتهى، صعد السيارة أمرا عبدالباسط باتخاذ طريق العودة لنجع الصالح على وجه السرعة، وقد اخذ يتطلع من جديد، لخاطرتها، ليدرك أنها كانت على علم بأنه شيخ العاشقين، وكل تعليقاتها السابقة ما كانت إلا رسائل إليه، أدرك فحواها اللحظة، لتدمع عيناه فرحا.

كانت تقف تصنع لها كوبا من النسكافيه، هي تحمل أحد كتبها، تكرر بهمس بعض من النقاط الهامة التي عليها حفظها، دخل المطبخ ليجدها لا تعره اهتماما، هل ذاك توهما، أم أنها تتجاهله فعلا!
همس مناديا، في تردد: حُسن!
تنبهت أنه هنا، فاعتدلت متطلعة نحوه، فتنهد في راحة، هي لا تتجاهله إذن بل كانت مأخوذة بما تحفظ، ما زاده شجاعة، ليسألها في نبرة مترددة الأحرف: أنتِ بتكلمي ربى!

هزت رأسها في تأكيد دون أن تنبس بحرف، ترتشف أولى رشفات مشروبها، تستمتع بتردده وحيرته، مستشعرة أنها أعطت ربى النصيحة السليمة تماما، ليتها أحضرت هاتفها من الغرفة معها، لكانت سجلت لها هذه اللحظة التاريخية، وهي تراه بكل هذا الارتباك.
هتف من جديد، متسائلا: هي بخير! بدج عليها ما بترد!؟ هي بتكون..

قاطعته حُسن متعجبة: أنت لسه بتسأل ي ترى لسه زعلانة ولا لأ!، يعني بقالها كام يومين لا حس ولا خبر، وهي اللي كانت بتملى البيت صياح وهزار، وتقولي لسه زعلانة!
ابتسم ابتسامة شجية: أي صدجتي، البيت ما إله طعمة بلاها، في چو كئيب مخيم على الدار في غيابها.
همست حُسن متخابثة: على الدار بس!

لم يرد شعيل، ساد الصمت ليتحرك جالسا على تلك المائدة الدائرية، قاطعه هو هاتفا في عجالة، كأنه يعترف في نوبة شجاعة فاجأته: أنا خايف فعلا يا حُسن.
تنبهت، واقتربت تجلس قبالته، تضم كوبها بين كفيها، ولم تعقب، تاركة إياه الفرصة ليتم اعترافه، قبل أن يفقد الشجاعة المؤقتة التي واتته، مستطردا في اضطراب: أنا خايف، بس مش من التجربة، أنا خايف عليها، على ربى.

تنهد مستكملا: ربى تستحق حد أفضل، ما يكون حامل آثار تجربة مريرة بأعماقه، يمكن يكون لها تداعيات على علاقتي بها، انا رجل يكبرها بحوالى ١٢ سنة، لي خبرة مع النساء، كانت تجربة عمر بأكمله، خرجت منها محطم، كاره، كئيب، ومنعزل، غير راغب في الحياة، والتي اعيشها باهتة بلا لون، أما ربى فصغيرة، حلوة، نارية، مزاجية، طيوبة، بقلب من ذهب، وروح طفلة و...
هتفت حُسن بأعين دامعة: وبتحبك.

تطلع شعيل نحو حُسن في صدمة، لا يعلم لما اعترته، على الرغم من كونه مستشعرا لذلك من زمن، لكن أن يأتيه الأمر اللحظة بشكل تقرير واقع لا ريب فيه، فذاك هو الصدمة نفسها.
رد ما أن جمع شتات نفسه، هامسا في اضطراب: بتحبني! أنا، المفروض..

همست حُسن: ليه دايما عندكم مفروض ومش مفروض، الحب مش بيخضع لقوانين و افتراضات، هي بتحبك من سنين، ولا أنت داري من أساسه، قافل على قلبك، وعايش في الماضي وسايبها تتعذب وهي بتحاول ترضيك، عارف ساعة ما عرفت سبب زعلك، اشفقت عليك، ربى بتعاملك بقلب أم عندها استعداد تغفر وتسامح، وأنت قاعد هنا تقول صغيرة و كلام ملوش عندي إلا مدلول واحد بس، إنك لسه خايف أو بتتهرب من المسئولية تجاه مشاعرها.

هتف شعيل: انا فعلا حاسس بالمسئولية تجاه مشاعر ربى، لكن عمري ما اتهرب منها، ربى ربيبتي، حملها كتفي وكبرت على كفي، ولا يمكن اخذلها أبد.
همست حُسن وهي تنهض حاملة كتابها، هاتفة به في تأكيد: اتعشم يا شعيل، ربى ما تستاهلش منك إلا إنك توارب باب قلبك شوية، وأنا متأكدة إنها هتفتح الباب ده وهتلاقيها فجأة قاعدة ومربعة جوه، وبتقولك شعيل، بدي بوظة.

قهقه شعيل وحُسن تقلد ربى، لتشاركه الضحكات، وما أن همت بالتوجه لغرفتها، حتى هتف شعيل يستوقفها: حُسن! أنا ممتن لك كتير.
ابتسمت ليستطرد هامسا في تخابث: نردهالك فالافراح! مش بتقلوها كده يا ناس مصر!
وغمز بعينه عند ذكر ناس مصر، وكأنه يرمي لأمر ما، جعلها تتورد خجلا، مندفعة نحو غرفتها، مغلقة بابها خلفها، وبصدرها يتردد صدي خفقات قلبها المدوية.

أما شعيل فدخل غرفته، والابتسامة تعلو شفتيه في راحة عجيبة، مد كفه متناولا جواله، وأرسل اغنية لطيفة لربى، التي ترددت اتفتحها أم لا، ارسلت لحُسن تستشيرها، لتقهقه حُسن في سعادة، وهي تكتب لها: افتحيها، واسمعي وقوليلي بعت اغنية إيه، ومترديش إلا لما يكلمك يعتذر لك.

أكدت ربى على تنفيذ نصائحها، وقد ارسلت لها اسم الاغنية التي ارسلها، ما جعلها تتطلع نحو الباب، وصدى الأغنية نفسها يتردد حتى غرفتها، لتتنهد في سعادة، وهي تتساءل بدورها كما المغني:
يا طيب الجلب وينك، حرام تهجر ضنينك..
مشتاج لك يا حياتي، عسى يردك حنينك..
يا شوج عيني، لعينك..

وصل لداخل السراي، يقفز من السيارة حتى قبل أن تتوقف، ليتطلع إليه عبدالباسط متعجبا، فما كانت تلك الطبيعة المتهورة من سمات عاصم أبدا.

اندفع يعتلي الدرج، وما أن وصل لتلك الردهة التي تصل لحجرة الفتيات، حتى وجد نوارة وسجود في انتظاره، مشيرات إليه ليدخل لحجرتهن المشرعة الباب، والتي خرجت منها أمها لتوها، متطلعة نحوه في ابتسامة هادئة، تاركة إياه يطرق الباب المشرع، هامسا من خلفه، في نبرة ثابتة نسبيا، وقلب وجل ينتفض بين جنبات صدره: ممكن أدخل!

انتفضت عندما اتاها صوته، تدور حول نفسها في اضطراب، وأخيرا جذبت غطاء رأسها تضعه بأكف مرتجفة، وهي تهمس بصوت مرتعش الأحرف: اتفضل.
دفع الباب بقدر ما يدخله، وتركه منفرجا، متطلعا نحو أختيه وأمها، ليفهمن مقصده، منسحبات من أمام باب الحجرة التي كن يعسكرن أمامها منذ دقائق.

كانت توليه ظهرها، تفرك كفيها في اضطراب مجنون، نبضات خافقها المرتلة لإسمه، تصم آذانها كطبول حرب بدائية، شاعرة باقتراب خطواته من موضعها، لترتجف كل خلية من خلاياها، وصوته الشجي النبرة، الذي طالما أسرها كليا، يهمس باسمها، بشكل يتناهى لمسامعها للمرة الأولى: زهرة.
ما كان لها الشجاعة لتستدير لمواجهته، لكنه أمرها في رفق: لفي كده وبصيلي.

لا تعرف كيف اطاعت، لتستدير في هوادة، منكسة الرأس، لا قبل لها، لتتطلع لمحياه الذي تعشق.
أخرج هاتفه، وبدأ في تشغيل اعترافاتها، هاتفا في نبرة متحشرجة: الكلام ده صحيح!
شهقت باكية، وهزت رأسها في ايجاب، أغلق صوتها على التسجيل، ملقيا الهاتف جانبا، أمرا إياها: ارفعي راسك لفوج وبصيلي يا زهرة.

هزت رأسها رافضة، ودمعها ينساب على خديها في غزارة، لكنه هتف بلهجة أمرة صارمة، يحاول السيطرة على ارتفاع نبرة صوته: بصيلي.

اطاعت في هوادة، ترفع ناظريها إليه في تردد، وما أن تلاقت نظراتهما، مبصرا ذاك العشق الجلي بأعماق روحها، النافذة اللحظة من بين خصاص نظراتها الخجلى نحوه، حتى ألتقط نفسا عميقا لصدره، كأنما عادت له الروح بعد غياب، وهمس دامع العينين: لو اللي جولتيه لإخواني ده صحيح، وده اللي فدماغك، واللي خلاكِ تبعديني عنك وأنا اللي كنت هموت رضا منك، أحب أجول، لو أخر حاچة فحياتي ممكن أعملها إنك تكوني ليا، فأنا راضي، ومش راضي وبس، ده أني هكون محظوظ كمان، لأنك هتكوني حلالي، هموت...

صرخت واضعة بلا وعي باطن كفها على فمه حتى لا يكمل، فما عادت تحتمل كلمة الموت شاخصة بينهما، ليغلق ناظريه، للمستها لشفتيه بهذه الرقة، رفعت كفها تبعده في حياء لفعلتها، ليتركها مهرولا للخارج، لتستوقفه متسائلة: عاصم، رايح فين!
هتف مؤكدا، غير قادر على الاستدارة إليها: رايح أطلبك من عمي تاني.
هتفت تلحق به مؤكدة: لا، مش موافق.
استدار لها هاتفا بعزم: يبجى هطلبك تالت ورابع وعاشر ولو حكمت، هتچوزك غصب.

واقترب متطلعا لعينيها هامسا في عشق: لأن معنديش استعداد أبعد عنك تاني، مبجاش في جلبي مكان لوچع تاني، فرحي روحي بجربك يا زهرة.
هزت رأسها في إيجاب، ودمع عينيها يسيل
مؤكدا على قدر ذاك الهوى الذي تحمله بين طيات فؤادها، ليندفع خارج الحجرة، مطالبا بقربها من جديد.

ضغط زر تشغيل الأغاني، وجلس خلف مقود السيارة في سلطنة بالغة، متجها نحو نجع الحناوي، وقد أفضى بكل ما في جعبته لأمه، والتي وافقته على الاقتران بها، شريطة أن تراها وترى أمها، ووعدها بترتيب ذلك في أقرب فرصة، لكن بعد أن يفاتحها في رغبته أولا.

كان يطير على جناح السعادة، يدفعه شوقه لمحياها الخشن، وادعائها الصلابة التي يدرك بشكل عجيب، أنها صلابة هشة، تخفي خلفها قلب عامر بالمحبة والحنان الدافق، الذي يشتاق التمتع به حد اللامعقول.

هو نفسه لا يعلم من أين اتته هذه الثقة، في ذاك الشعور الواثق، لكنه على يقين منه، ابتسم عندما لاحت أمام ناظريه اللحظة، بعض ذكرياتهما ومشاكساته لها، لكم اشتاق محياها، . الاستئثار بصحبتها مستمتعا بمحاولتها الحثيثة للعب دور الرجال، في جلبابها الفضفاض، الذي يدرك أنه يخفي الكثير من أنعم الله، وكذا عمامتها التي لا تخلعها والتي تخفي تحتها ذاك الغجري الذي اسر قلبه من نظرة ما تكررت.

تنبه فجأة لذاك التجمهر بالطريق المؤدي للنجع، يبدو أنه حادث ما قد وقع هنا، ويبدو أن الأمر جلل، فالشرطة كلها هنا، ما دفعه ليتخذ طريقا فرعيا، بعيد عن ذاك الزحام، حتى يصل لدار جده الحناوي، ولو في فترة أطول قليلا من المعتاد.

قطع المسافة المتبقية على الدار في بطء وحذر، لضيق ذاك الطريق الفرعي، لكنه وصل بفضل الله لوجهته، وما أن ترجل من السيارة مغلقا بابها، يدفعه الشوق دفعا ليهرول للداخل، إلا واستوقفه وصول سيارة الشرطة لتقف في محازاة سيارته، هاتفه به تستوقفه، يسأله الضابط الذي ترجل منها بدوره: أنت يونس حامد الحناوي!
أكد في ايماءة من رأسه، مؤكدا وهو يهتف: ايوه يا بيه، خير!

هتف الضابط، بنبرة حازمة: مطلوب القبض على المدعو سماحة جابر القناوي، اللي شغال عندك خفير، بتهمة قتل مرعي نجم.
تطلع يونس إليه في صدمة، فاغر فاه، والضابط يأمر عساكره، بإحضار المدعو سماحة، على وجه السرعة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة