قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع والعشرون

هبط الدرج في هوادة، وقد كان الجميع يتطلع له متعجبين من كونه بينهم، فقد رحل منذ فترة وجيزة على أساس أنه سيبقى مع أحد اصدقائه، ما الذي حدث ليدفعه ليعود من جديد، هابطا الدرج على هذه الهيئة المنشرحة، هاتفا بعمه في ثبات: أنا بتجدم لك تاني واطلب يد زهرة يا عمي، جلت إيه!؟

كان عاصم الجد، يتطلع للمشهد من ركن قصي، يبتسم في سعادة، لطلب عاصم، الذي كان يعلم أنه لن يتوقف حتى ينل مبتغاه، ويغرس جذور زهرته بأرض عمره القادم.
هتف أبوه مهران في حنق: خلاص ما بجيناه الموال ده يا عاصم، هي..
قاطعه عاصم مؤكدا: هي موافجة.
هتف ماجد متعجبا: موافقة إزاي! مش..

استوقفته إيمان، بضغطة خفيفة على عضده، جعلته ينظر إليها مستفهما، لتشير إليه بطرف خفي، أن نعم، زهرة ابنتك موافقة على الارتباط به، ما جعله يتطلع لعاصم في محبة: وأنا كمان موافق يا عاصم، هلاقي لها أحسن منك فين!؟

اتسعت ابتسامة تسنيم، وهي تشاهد اتساع ابتسامة ولدها وسعادته التي تقفز جلية من عينيه، ما جعلها تصدح بزغرودة مرتفعة، ليهتف مهران وقد اتسعت ابتسامته بدوره، لا يعلم ما يحدث بالضبط، لكن سعادة عاصم التي غمرت الأجواء حوله، وصبغت الجميع ببعض من آثارها، جعلت أبيه يفتح ذراعيه متلقفا إياه في فرحة، هاتفا في سرور: ألف مبروك يا حبيبي، ربنا يتمم لك على خير.

جذبه ماجد بين ذراعيه، مهنئا بدوره، بينما ارتفع صوت الزغاريد صادحا من إيمان وتسنيم، اندفعت الفتيات سجود ونوارة على أعتاب الدرج العلوي، متطلعتين لما يحدث في فرحة غامرة، أما تلك العروس المعنية، فقد كانت في عالم أخر، لا تصدق أن حلم العمر، يتحقق أمام ناظريها كما تمنت، بل أروع مما تمنت وحلمت يوما.

انسل عاصم من بين ذراعي عمه، متجها نحو جده، الذي كان يراقب المشهد في استمتاع، وما أن وصل لموضعه، حتى انحنى يقبل هامته في محبة صافية، ما دفع عاصم الجد، ليجذبه في مودة، مطوقا إياه بين ذراعيه، هامسا له في حبور: حمد الله بسلامة جلبك من توهته ووچعه يا حبيبي، من هنا ورايح مفيش إلا الفرح، ألف مبروك يا عاصم.
همس عاصم دامع العينين: الله يبارك فيك وفعمرك يا چدي.

تلقفته زهرة الجدة بين ذراعيها في سعادة تباركه بدورها، لتهتف بهم جميعا متسائلة: هنجوز العرسان فين بقى!؟
هتف عاصم الجد مؤكدا: هنا مكانهم، هيكون فين يعني!؟ فالاوضة الكبيرة اللي فوج.
وتطلع لزهرة في محبة، فبادلته ابتسامة متفهمة، فهذه هي نفسها، الغرفة التي جمعتهما لأول مرة منذ زمن بعيد، حين دخل عليها رغبة في أن يشفي غليل انتقامه، لتداوي هي قروح روحه التي خلفها الحقد، ببلسم العشق.

تطلع الجميع لعاصم الكبير في تعجب، ليهتف ماجد مشاكسا: الاوضة دي مقغولة ومحدش بيعتبها يا حاج عاصم، ده أنت حرمتها علينا كلنا لما نزلت قعدت فالاوضة اللي تحت! إيه هو الموضوع فيه خيار وفقوس ولا إيه!
أكد عاصم الكبير مؤكدا بابتسامة: ايوه فيه! لك شوج فحاچة!؟
أكد ماجد مازحا: لا يا حاج، سلامتك.

ليقهقه الجميع، ليربت عاصم على كتف جده في امتنان، والذي تطلع لحفيده في إكبار هاتفا: شد حيلك وظبط الاوضة لحد ما العروسة تخلص امتحانات ونفرحوا بيكم.
لتعلو الزغاريد من جديد، معلنة أخيرا على اقتراب اجتماع قلبين، ربطهما العشق برباطه منذ زمن بعيد.

هتف بتساؤله في أريحية وبفرنسية أنيقة، وهو يقف في ثقة على منصة الدرس، متطلعا لتلاميذه في ثبات: انتوا إيه رأيكم في اللي عمله سيرانو بطل روايتنا!؟ هل كان صمته عن الاعتراف بمحبته، خطأ أم صواب!
تطلع نحو طلابه، يرجو الإجابة، لم ينطق أحدهم بحرف، وقعت عيناه عليها، ليجد أنها الوحيدة التي هتفت في تعجل، وبفرنسية جيدة: خطأ.

كانت ما تزل متأثرة، بما حدث مع زهرة وعاصم، لذا أدركت أن كتمان مشاعر الرجل عن امرأة يحبها، حتى لو كان عنده بعض الشك على تقبلها لهذه المشاعر، خطأ فادح في حق نفسه وحقها.
ابتسم يوسف في بساطة، متسائلا: لماذا!؟

أجابت في هدوء، رغم اضطرابها الداخلي، واستشعارها أنها ورطت نفسها: لأنه ظلم نفسه وظلمها، تخيل أن مجرد دمامة وجهه قد يجعلها تعافه، لا يعرف أن طبيعة المرأة مختلفة وتفكيرها يختلف في الأمور العاطفية عن الرجل، لو كانت أدركت كل هذا الحب العظيم من جانبه، لرأته اروع الرجال، وما تنبهت لأي نقص في مظهره الخارجي، وظلمها لأنه لم يعلمها بحبه ويعطيها حق الإختيار.

ابتسم يوسف لاجابتها، هتف متطلعا لتلاميذه، أمرا إياهم: السؤال ده هتكون إجابته، البحث المطلوب منكم الترم ده، كل واحد يجاوب باللي شايفه من وجهة نظره صح، شكرا، تقدروا تتفضلوا.
وأشار لباب المدرج الدراسي، وعاد ليجمع حاجياته، والتفت نحو موضعها فتنبه أنها في سبيلها للمغادرة مع إحدى صديقاتها، فهتف يستوقفها، مناديا: آنسة سجود!

تنبهت بدورها، واستاذنت من رفيقتها، لتعود لموضعه، متسائلة في حرج: خير يا دكتور يوسف!؟
ابتسم في هدوء كعادته، معدلا من منظاره الطبي أمام عينيه الزيتونية: أكيد خير، أخبارك واخبار العيلة الكريمة!
هزت رأسها مؤكدة: كله تمام.
تطلعت حولها في اضطراب، ما جعله يسألها متعجبا: فيه حاجة!
أكدت في هدوء: لا أبدا، أصل وجفتنا كده الصراحة، يعني..
هتف يوسف يقاطعها: مالها وقفتنا، هو أنا مش الدكتور بتاعك!

أكدت سجود في ثبات، رغم أنها تنصهر خجلا من الداخل: أه طبعا، بس وجفتنا مع بعض، وخاصة إن دي مش المرة الأولى، اللي تناديني فيها، مخلي الزملاء يعني..
هتف متسائلا: هم مش عارفين اننا قرايب ولا إيه!
أكدت باسمة في حرج: ده كده الموضوع هيبجى أصعب يا دكتور! أكيد لا، أنا مجلتش لحد أننا جرايب، لأن هم فاكرين أننا..

وتوقفت عندما استشعرت أنها تمادت في كلامها، فقررت الرحيل فورا، لكنه استوقفها متسائلا في فضول: إننا إيه!
أكدت في اضطراب: إن حضرتك شاب ومش متچوز، ودكتور المادة، وكمان تكون جريبي، كده أنا بأكد لهم إن فيه بينا مشروع ارتباط، وده...
هتف مبتسما: ده حاجة جميلة، أصل الصراحة مش ناوي أكرر غلطة سيرانو.

تسمرت نظراتها على محياه، ما جعل ابتسامته تتسع في سعادة، لكن سجود لم يسعها إلا الاندفاع مبتعدة، لا تقدر على النظر خلفها لذاك الذي توقف يتطلع إليها، وعلى شفتيه ابتسامة رضا.
طرقات أحذية قادم بطول الردهة ما جعل حازم يتنبه بصحبة وحيد، ليجد أن اللواء الفنجري، ومعاونيه بصحبته، قادمين نحو غرفة العناية الفائقة التي انتقل لها منتصر بعد عملية طويلة استغرقت عدة ساعات،.

هتف اللواء الفنجري في اهتمام: ها، إيه الأخبار! والولد عامل إيه دلوقت!
اكد حازم بنبرة مرهقة: والله يا فندم الحالة مش مطمئنة، الدكتور اللي اشرف على العملية أكد أن موضع الرصاصات كان حرج، ونزف كتير، وربنا يسلم.
تنهد اللواء الفنجري، وهو يتطلع عبر النافذة الزجاجية، نحو جسد منتصر المسجي، مؤكدا في نبرة تحمل كم كبير من الفخر: الظابط دي قدم لنا خدمة عظيمة، وعمل اللي مقدرش حد يعمله، ربنا ينجيه.

همس حازم: أمين يا رب، بس هو إيه اللي حصل بااظبط، عشان يبقى حالته كده!
هتف اللواء الفنجري: والله إجابة السؤال ده عند منتصر نفسه، انت عارف احنا بتبقى مخططين لحاجة، والوضع على الأرض ممكن يضطرك لحاجة تانية خالص، وواضح أن ده اللي حصل، بس ايه بالظبط، محدش عارف، إلا إن في انفجار كبير حصل، وفجأة لقينا منتصر بإصابته، وسعفان ميت جنبه!

واستطرد اللواء الفنجري هاتفا: شكلك تعبان قوي يا حازم، لازم تستريح، إحنا عايزينك بصحتك.
أكد وحيد في تأدب: بعد إذن سعادتك، حضرتك روح استريح، وانا قاعد هنا مش هتحرك، والدكتور قال منقدرش نحكم قبل مرور ٤٨ ساعة، وبإذن الله خير.
ربت اللواء الفنجري على كتف حازم مطمئنا: ياللاه، تعالى معايا، نقابل الدكتور، نشوف الوضع النهائي إيه، وننزل سوا، أنت روح وانا راجع المديرية تاني، الدنيا مقلوبة بعد العملية.

هز حازم رأسه، عاملا بنصيحة اللواء الفنجري، عائدا لبيته، لتستقبله تسبيح في لهفة، هاتفة به متسائلة في عجالة: أخباره إيه! طمني يا حازم متسبنيش كده.
كان صامت تماما لا ينبس بحرف، وهو في اتجاه حجرة بدور، فتح بابها في هدوء، مقتربا من فراشها، كانت ما تزال على حالها، تغط في سبات عميق، بسبب تلك الأدوية التي كتبها لها الطبيب.

جلس على طرف الفراش، ممسدا على جبينها وجانب وجهها، وقد دمعت عيناه رأفة واشفاقا على حال ابنته، وحال ذاك الذي يقف ما بين حد الحياة والموت، لا يعلم مخلوق ما قد يكون مصيره.
ربت على كتفها، ونهض مغادرا الغرفة في اتجاه حجرته، وتسبيح ما تزال تسأله متلهفة تكاد تموت قلقا: ما ترد يا حازم، منتصر أخباره إيه! مش كفاية مكنتش بترد على مكالماتي.

هتف حازم متنهدا: مش لما اكون عارف حاجة ابقى اقولك، الولد حالته حرجة يا تسبيح، الوضع ميطمنش، ادعي له.
دمعت عينى تسبيح متضرعة: يا رب يا حازم، يا رب.

هم العساكر بالاندفاع لداخل الدار، إلا أن يونس اندفع يقف قبالة باب الدار، هاتفا بالضابط في نبرة حازمة: يا بيه ميصحش كده، البيت فيه حريم، ثواني أخش اديهم خبر، وادخلوا زي ما تحبوا، وخلي العساكر يحاوطوا الدار لو حضرتك شاكك إن ممكن حد يهرب كده ولا كده.
تنهد الضابط في نفاذ صبر، هاتفا في حنق: احنا مش فاضيين للكلام الفاضي ده، ادخل يا بني هاني لنا اللي اسمه سماحة ده وتعالى.

اندفع العسكري وخلفه بعض من زملائه عنوة لداخل الدار، ليخرج الأمر من يده، يتطلع في ترقب نحو الداخل، وصرخات أخوه سماحة تثير حفيظته، متوقعا ما بين وأخرى جذبهم لسماحة، ليلقى بها لتهمة لا يصدق أن في امكانها ارتكابها، حتى ولو كانت على وشك ذلك منذ أمد بعيد، لكنها وعدته بألا تفعل، ولا يعتقد أبدا أنها قد تخلف وعدها.

اندفع العسكري للخارج خالى الوفاض، وخلفه زملائه، هاتفا لضايطه في تأكيد: محدش چوه يا فندم، الحريم وبس.
تنهد يونس، متنفسا الصعداء، فما كان قادرا على احتمال رؤيتها تساق بين العساكر، وتلقي بسجن الرجال، بين المجرمين وقطاعي الطرق، هتف به الضابط محذرا: لو متستر على الغفير بتاعك هاتبقى حطيت نفسك في وش المدفع، سلمه أحسن للكل.

هتف يونس متعجبا: يا بيه أني لسه واصل من مشوار كنت غايب لي فيه ياچي اسبوع، وحضرتك لما وصلت، كنت واعيلي بنفسك وأنا لسه واصل، هعرف منين إيه اللي عمله الغفير الفجري ده! وبعدين هستر عليه ليه يا باشا، كان من بجية أهلي! ما يغور بعيد عنا طالما هياچي من وراه وچع الراس.
تنهد الضابط في قلة حيلة، عندما أدرك صواب منطق يونس، ما دفعه ليهرول نحو سيارته الميري مغادرا.

ظل يونس يتطلع نحو العربة حتى رحلت، ليستدير واقفا على أعتاب الدار في تأدب، هاتفا في هدوء: انتوا بخير يا خالة سعيدة!؟
اندفعت سعيدة من الداخل، تهرول نحوه، هاتفة في ترحاب: يا مرحب يا يونس بيه، رچعت ميتا!
هتف وعيونه تحاول أن تصل لمحياها بالداخل، لكنه كف عن ذلك احتراما لحرمة الدار، هاتفا في هدوء: توك واصل، هو إيه اللي چرى!

همت سعيدة بالافصاح عما حدث، مؤكدة على براءة سماحة مما اتهموه به، لكن صوت حازم من الداخل، أخرسها أمرا: خلاص ياما، البيه لازما يعرف كل حاچة.
شهقت سعيدة ما أن خرجت سماحة، على هيئتها الأنثوية، التي كانت تظل بها طالما هي بين جدران الدار، وهذا هو سبب دخول العساكر وخروجهم دون سماحة، الذي لم يكن هنا من الأساس، بل كانت هنا نسخته الأنثوية بديلا عنه.

ساد الصمت، وهي تقترب من موضع أمها ويونس، الذي لم يحرك ساكنا، يتطلع نحوها في صدمة، لا لعدم معرفته بحقيقتها، بل لأنها تبدلت كليا، المرة الوحيدة التي رأها فيها وهي تتمايل أمام مرآة غرفة نومه، تحتضن جلبابه في محبة، لم تكن بهذا البهاء الذي طل عليه اللحظة، سمراء سمرتها تسكر العابد، وعيونها نظراتها ألف مهر جامح، لم تعرف يوما الترويض، تقترب منه في خطوات ثابتة، لتزداد نبضات خافقه عن طبيعتها، رغم ادعائه الثبات، حتى أصبحت قبالته، لتنسحب أمها في هوادة مبتعدة، تبعتها سماحة بناظريها حتى غابت، لتعود متطلعة إليه من جديد، هامسة في هدوء: حضرتك عايز تعرف إيه اللي حصل! اتفضل وأني احكيك كل حاچة، بس جبل أي كلام، اكيد حضرتك بتجول هي مين دي من الأساس!، أني..

قاطعها يونس، متطلعا نحوها في محبة: سماحة!
تطلعت إليه بنظرات كستها الصدمة، ليومئ في تأكيد: ايوه، كنت عارف، مش هكدب عليكِ وأجول من أول يوم، ما أنت كنتِ حابكة الدور تمام، بس بعدها بشوية، عرفت إنك..
لم يستطرد وصفها بالرجل، فذاك الحسن الرباني الذي يربكه قبالة ناظريه، من الصعب نعته بصفة الرجولة مطلقا، لكنه استطرد هاتفا: لكن اللي عايز أعرفه، ليه!؟ وسماحة ده فعلا أسمك!؟

هزت رأسها، وأشارت لإحدى الغرف، ليدخل إليها جالسا لأحد مقاعدها، لتجلس قبالته، هاتفة في لهجة تقريرية: ليه! دي حكاية طويلة جوي يا بيه، لكن سماحة ده مش أسمي، أني سماح چابر الجناوي.
ابتسم يونس مؤكدا: سماح من سماحة مفرجتش كتير!
هتفت بلهجة موجوعة، مؤكدة: لاه يا بيه، الفرج كبير جوي، الفرج ده هو اللي خلاني عملت اللي عملته، وبجيت مكانه.
هتف يونس متسائلا: مكان مين!؟
أكدت سماح: مكان أخويا.

تذكر يونس بطاقة الرقم القومي التي كانت تحمل اسمه، وفيه بعض الشبه منها، كأنها كانت تقلده رجلا، منسلخة من كينونتها كأنثى، دافعة بنفسها لمعترك الرجال، متخذه مكان أخيها، للذود عن أمها وأخواتها الصغيرات.
هتف يونس متسائلا من جديد: وهو فين دلوجت!
تنهدت مؤكدة: عند ربه، الله يرحمه.
تطلع يونس نحوها في ريبة، متسائلا في نبرة قلقة: انجتل مش كده!
همست نافية: لاه، مات من الجهر يا بيه.

تساءل يونس: يعني مش ولاد نچم اللي جتلوه، وأنتِ جيتي النچع هنا تاخدي بتاره! كيف ما وعيت لك يوميها وأنتِ بتتسحبي وواخدة السلاح، وطالعة بيه بره الدار في عز العتمة!

أكدت سماح: لاه هم يا بيه، بس مش كل الجتل بيكون بالسلاح، ضحكوا عليه، وشاركوه بكل مالنا فعرببات نجل، وبعدها جالوله العربيات عملت حادثة وخلاص معدش فيه شراكة، ومليكش حاچة عندينا، أخويا ده كان هو اللي باجي لنا بعد أبويا الله يرحمه، بس كان صاحب مرض، مكنش ينفع ينزل الأرض يشتغل فيها، وميجدرش على متابعتها، لاف عليه واحد من ولاد نچم، وعمل له البحر طحينة، وجاله بيع الأرض وشاركنا بمالها فعربيات النجل، مكسبها مضمون، وترچع لك الفلوس في ظرف مافيش وفوجيها المكسب، وتجعد مرتاح تصرف على أمك وأخواتك البنات، أني كنت يوميها في ثانوية عامة، وكان كل همي ادخل كلية عدلة، عشان اعرف اشتغل بها، واشيل شوية من الحمل اللي على كتاف أخويا، لكن مفيش شهر والتاني، بعد ما دخلت كلية تچارة بشوية، حصل اللي حصل، وغدروا بأخويا اللي جلبه مستحملش، وراح فيها.

همس يونس: لا حول ولا قوة إلا بالله.
استطردت سماح وهي تزدرد ريقها في تأثر، لاحظه يونس على غير عادتها الصلبة: راحت كل حاچة، أخويا، راچلنا الوحيد، والفلوس والأرض، حتى الدار اللي كانت لمانا.
هتف يونس متعجبا: مالها دي كمان!

أكدت سماحة باسمة في وجيعة: ولاد نچم چابوا اللي يثبت إن أخويا باعها لهم، وكان معاهم أوراج بيجولوا بها كده، لكن أني متأكدة إن سماحة ميعملهاش، إلا الدار اللي كانت لامة لحمه، وورثنا من ريحة أبويا، اللي بنى الدار دي بيده، لكن مين يثبت بجى، انطردنا من الدار، وبجينا على فيض الكريم، وبعد ما كنا معززين مكرمين واصحاب دار وملك، بجينا كيف كلاب السكك، مش لاجيين العيش الحاف.

تنهد يونس يزفر في قهر، يكاد يندفع حتى دار أولاد نجم أخذا بثأرها، وليكن ما يكون.
ساد الصمت للحظة، وأمها تدخل حاملة صينية بها كوبين من الشاي، وكوب من الماء، وضعتها ورحلت، ليمد كفه في مودة، حاملا كوب الماء لها، هامسا في تفهم: اشربي لك شوية ماية، واعي إن الحكاوي كلها وچيعة.

تناولت منه كوب الماء في اضطراب، وقد كادت أن تسقط بعض منه، ارتشفت بعضه، ثم وضعت الكوب قبالتها على الطاولة، ليمد كفه في هوادة، متناولا الكوب، يشرب بعدها مرتويا، لتغض الطرف، عن هذه الرسالة التي يرسلها لها، ليهمس هو: طب عملتوا إيه، وعشتوا كيف! وكيف چيتوا على هنا من أساسه، وكيف معرفوش انتوا مين أساسه، واسمك هو اسم أخوكِ!

أكدت سماح: يا بيه عدوتنا مش مع ولاد نچم كلهم، مع مرتضى نچم بس، هو اللي نصب على خويا وراح بسببه، ومحدش يعرف أخويا من ولاد نچم غيره، وأني لما عرفت هو فين، چيت باخواتي وربنا عترنا فدار الحناوي، عشان تلمنا، وجعدت ألف وأدور لچل ما أعرف هو فين، بس كان مسافر، غار بره مصر، ولما وعيت لي يوم ما كنت واخدة السلاح وخارچة، كان يومها رچع بس بعدها غار تاني، وأني كنت وعدتك يا بيه، إني معملش حاچة تضيع أمي وأخواتي، ولا تسئ لك كمان، وأني نفذت.

هتف متسائلا رغم علمه بالإجابة: يعني أنتِ ملكيش يد فجتل مرعي نچم!؟
نفت مؤكدة: لاه يا بيه، مليش صالح، بس هو يعني..
هتف يونس يتعجلها: يعني إيه!
همست منكسة الرأس: أصلك واحد من العمال چاني من كام يوم، وجالي إن العمال مكبرين دماغهم عن الشغل عشان حضرتك كنت غايب، فروحت الأرض، وهناك اتعاركت مع اللي اسميه مرعي ده، عشان كان جاطع المية عن الأرض.

نهض يونس حانقا بعد أن أمسك نفسه حتى انتهت من اعترافها كاملا، صارخا في ثورة: تتحرج الأرض على صاحبها، أنتِ..
قاطعته في عجالة هاتفة: بعيد الشر..
وكأن كلمتها التي أطلقتها بعفوية شديدة، استشعرت الحرج بعدها، مطرقة الرأس في حياء، كانت هي الماء البارد الذي أطفأ نيران غضبه، التي أشعلها عدم طاعتها له، ونزولها الأرض على غير رغبته.

ما جعله يتنهد، جالسا من جديد، هامسا في نبرة ساخرة: يعني يا بت الناس حلو كده اللي بيحصل ده!؟ طب أچيب أمي تخطبك فين دلوجت!؟ فاللومان وهي چيبالك عيش وحلاوة!
فغرت فاها واتسعت عيونها عن أخرها، تتطلع إليه كالبلهاء لا تصدق ما تفوه به لتوه، ليهتف مازحا: أهو بالخلجة اللي واعيلها دلوجت دي، احتمال اصرف نظر من أساسه!
تنبهت هامسة بصوت متحشرج، متردد الأحرف: بتجول تخطبني! تخطب مين چنابك!؟

تطلع يونس حوله مازحا، وهتف مؤكدا: هو فيه هنا غيرك،! ايوه يا ستي تخطبك أنتِ، مواجفة ولا هتغلبينا، أنا لسه شارب من كبايتك، يعني هفضل أچري وراكِ لحد ما اجطع نفسك، وهتوافجي برضك.
دمعت عيناها وهي تتطلع نحوه، لا تصدق أن اروع أحلامها يمكن أن يتحقق هكذا في طرفة عين، لكنها همست في تيه: طب والمصيبة اللي تهمني فيها دي يا بيه!

هتف مازحا: لما يبجوا يلاجوا سماحة اللي بيجولوا إنه جتل ده، يبجوا يسلموا لي عليه!؟ وأنتِ لا تروحي ولا تاچي لحد ما نشوفوا موضوع واد نچم ده هيرسى على إيه!
هزت راسها موافقة، ليهمس مشاكسا: هو أنتِ كان لازما تعمليلي فيها سبع البرمبة! كان زمانا بنبلوا الشربات ونرفعوا الرايات.

اضطربت سماحة، لا تعرف لنظرات عينيها موضع، وهو يحاصرها بنظراته المشاكسة، ما دفعها لتندفع هاربة من أمام سطوة نظراته، في اتجاه حجرتها، ليهرول بدوره لخارج الدار ومنه للطابق العلوي، يصلها بالأسفل شدوه في سلطنة، وهو الذي كان قد قاطع الغناء لفترة طويلة، ها هو يصدح بما يعتمل بقلبه، مرسلا لها رسائل من عشق على أجنحة الكلمات العذبة، التي يترنم بها اللحظة:
وأدي اللي مش عاملنه حساب..
العشج سكرنا..

وإحنا اللي جلنا الحب عذاب..
وبيبانه سكرنا..
بنت اللذينا، جدرت علينا، سكنت فأفكارنا..

رنات متتابعة على هاتفها، ويبدو أنها ليست المرة الأولى التي تصدح فيها، ما دفعها لتركض نحو حجرتها، حين تناهى لمسامعها الرنين، لترد في لهفة: ألوو..
تسلل تنهد من الطرف الأخر، وهمس في نبرة مشتاقة: أخيرا رديتي، كنت فاكر إني هدخل أوضة العمليات قبل ما أسمع صوتك.
هتفت أية في صدمة: هو خلاص! أنت داخل العمليات دلوقتي!

أكد مروان هامسا: أه، ده أنا مأخرهم لحد ما اسمع صوتك، عايزه يكون أخر حاجة اسمعها قبل ما أدخل العملية.
بكت ولم تعقب، ما دفعه ليستطرد في عشق: أية! أنا داخل العملية وعارف إن ربنا مش هايخذلني، بس لو بفرض وده كان اللي ربنا كاتبه، ومخرجتش من...
هتفت أية في نبرة مذعورة: لا يا مروان عشان خاطري متقلش كده! هتطلع وتبقى زي الفل.
أكد هامسا: بإذن الله، خلي بالك من نفسك، وعايزك تعرفي حاجة مهمة قوي.

همست تسأل من بين دمعاتها: خير!
همس بشوق طاغ: إني عمري ما حبيت حد زي ما حبيتك يا أية.
شهقت باكية، وهمست تسأله: حتى بعد اللي عرفته عني! أكيد والدتك حكت لك عن..
قاطعها مؤكدا: ولا يفرق معايا، أنا لما حبيتك، حبيت فيك قلبك وروحك، وأنتِ عمرك ما بصيتي لعجزي وحال رجلي، بل بالعكس، معاكِ رغم نقصي، كنت دايما بحس إني راجل كامل في نظرك، وكان ده يكفيني.

همست بشوق: أنت راجل وسيد الرجالة كمان، اوعدني إنك ترجع لي يا مروان.
همس متنهدا: بأمر الله، ادعيلي، واوعديني أن مهما حصل تفرحي، عايزك دائما فرحانة يا أية.
همت بالحديث، لكنها استمعت لبعض الحديث بلغة أخرى يبدو انهم يتعجلوه، من زاد من انقباض قلبها، وهو يستأذنها مؤكدا على صدق توقعها: بيستعجلوني، لازم أروح دلوقتي، اقولك مع السلامة.
سال دمعها مدرارا، وهي تهتف في وجع: مع ألف سلامة، في حفظ الله.

هم بغلق الهاتف، لكنها صرخت باسمه تستوقفه: مروان!
استشعرت من ارتفاع صوت أنفاسه على الجانب الأخر، أنه ما زال يسمعها، لتهمس بعشق: بحبك.
ارتفع صوت تنهده، مغلقا الهاتف وقد كان له ما أراد، أن يكون صوتها، وهذه الكلمة التي تمنى سماعها كثيرا، هي أخر ما يربطه للواقع، قيل أن يذهب في رحلة لعالم الغيب، لا يعلم إلا الله، إن كان له عودة منها، ام ستكون هذه رحلته لمحطته الأخيرة!؟

دخلت تحمل صينية الطعام، تضعها على فخذيه، وتجلس على طرف الفراش، هاتفة في تودد: ياللاه كل يا واد يا راضي، أنت محتاچ تشد حيلك، عايزاك ترچع راضي بتاع زمان.
ابتسم راضي مؤكدا: من عنينا يا عيوش، هناكل ونرم العضم ونبقي تمام، مع إن يونس كان عامل الواجب بس أني اللي مكنش ليا نفس للأكل.

هتفت به عائشة متسائلة: هو البت اللي رايدها يونس دي زينة يا راضي! أنت عارف يونس جلبه طيب، خايفة تكون ميلت عجله ولعبت عليه!؟

أمسك راضي ضحكاته، على اعتقاد أمه، فكيف ذلك، وهي ترتدي ملابس الرجال، حتى أنها تتعامل مع يونس كأنها رجل، ولا تعلم أنه اكتشف سرها، لكنه همس لأمه مؤكدا: متجلجيش يا عيشة، والله بت حلال وزي الفل، وبميت راچل، وكفاية إن يونس بيحبها بچد، وجلبه متعلج بها، أني عمري ما وعيت ليونس فرحان كده إلا وهو بيتكلم عنها.
ابتسمت عائشة، فعادة ما تثق في عقل راضي وسداد رأيه، وهمست تشاكسه: وأنت ميتا تفرح يا حبيبي!

اضطرب راضي، هامسا: أني فرحان وأني معاكِ أهو، هعوز إيه تاني!
تساءلت في خبث: يعني البت اللي لحجتها فمصر دي، واتشندلت عشانها الشندلة دي، مش فبالك، وعايز تخطيها كيف ما جال أخوك!

لم يعقب راضي، مدعيا الانشغال في تناول الطعام، كانت أمه تتطلع إليه، تحاول سبر أغوار نفسه، وهي أدرى الناس به، متى ما حاول أن يخفي شيئا، يدعي الانهماك في أمر آخر تماما، ما دفعها لتهتف به في أمر ودود: بصلي هنا لما بكلمك، أتوحشت الأكل فچأة!
رفع راضي ناظريه متطلعا لها، ما دفعها لتهمس وهي تتطلع لعينيه في محبة، هامسة: بتحبها يا راضي!؟

ما استطاع أن يحيد ناظريه عن ناظري أمه المحاصرة لروحه، والتي استطردت في نبرة دافئة: العشج مش عيبة يا حبيبي، ده فرحة وعيد، فرح جلبك يا راضي، العشج نعمة.
ابتسم راضي في رزانة: وكمان عرفتي اسمها!؟
أكدت عائشة باسمة: والله ما أعرف اسمها، ولا اعرف عنها حاچة غير إنها بت الناس الطيبين اللي يعرفهم عمك حازم وبيعتبرهم أهله، واللي جعدت عندهم فمصر.

تطلع لها راضي هامسا: اسمها نعمة، وفأخر سنة في كلية آداب، وبنت الاسطى ناصر اللي عمي حازم بيعتبره أخوه، وهم فعلا ناس طيبين ومشفتش منهم إلا كل خير.
همست عائشة باسمة: يبجى على خيرة الله، شد حيلك أنت بس وإحنا نخطبهالك، بس بجولك، هي هتاچي تجعد معانا هنا، تفتكر أهلها يرضوا، ولا أنت بجى اللي هتروح معاهم هناك!؟

هتفت عائشة بتساؤلها في خباثة، ما دفع راضي يؤكد في هوادة، وهو يلوك لقيمة دفعها بفمه: لا هنا ولا هناك، أني هكمل بنا الدور الثالث عند يونس، وهبني مركز الصيانة على الطريج هناك، عشان نچع الحناوي أجرب للطريج من هنا، وابجى مع يونس.
ربتت عائشة على كتفه مشجعة: وماله يا حبيبي، مع إنكم هتبعدوا عني، بس كفاية عليا تكونوا بخير.

ربت راضي على كفها في محبة، لتنهض مندفعة تحاول أن تفض ذاك العراك بين أولادها، تاركة راضي، وقد راح مع ذكرى ذات الجديلة، التي اعترف بينه وبين نفسه، أنها عاشقها بحق.

اندفع نزار داخل غرفة الاجتماعات التي تضم جميع المساهمين في الشركة، كان اجتماع طارئ يضم الكل، لاتخاذ قرارات حاسمة فيما يخص بعض الأمور.
تطلع الكل إليه في تعجب، كيف يقتحم عليهم حجرة الاجتماعات بهذا الشكل، وهو ليس من المساهمين، وغير مرحب به هنا من الأساس.
هتف له حمزة في لهجة رسمية: خير يا نزار بيه! برغم أن طريقة دخولك المكان مش بتدل على أن حضرتك ناوي أي خير! بس وماله، آمر!

هتف نزار متطلعا لفريدة التي جلست في لامبالاة، هي لا تنكر أنها انصدمت في دخوله بهذه الطريقة المسرحية، لكنها اللحظة وعندما وقع ناظرها عليه، تأكدت أنها ما عاد يعني لها سيئا، وما عاد القلب يخفق عند رؤياه كما اعتاد.
كان يراقب رد فعلها في تلك اللحظة، سامر الذي كان يجلس قبالتها مباشرة، ولم يحرك.

ساكنا، تجاه أفعال نزار، الذي هتف بجرأة شديدة، متطلعا لفريدة لبرهة، ثم لسامر في نظرة عجيبة، قبل أن يعاود النظر لحمزة من جديد، هاتفا في نبرة قوية: انا جاي اصلح غلطة كبيرة، في حق الآنسة فريدة، واطلب أيدها من حضرتك، قلت إيه!
تطلع الجمع لبعضهم في غرابة، لكن رد فعل فريدة، هو ما حسم الأمر.

دخلت للحجرة، ما جعله يتنبه أنها غادرت الفراش منذ فترة دون أن يع، فيبدو أن الحمى كانت قد سيطرت عليه البارحة، ليغيب في سبات عميق، تخلله الكثير من الأحلام.
تطلع نحوها وهي تقترب، حاملة صينية وضعتها على الكومود الملاصق لموضعه، وتطلعت نحوه في محبة وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، وهمست: حمد الله بالسلامة، بجيت أحسن دلوجت!

جذب نفسه ليرتفع جذعه قليلا مسندا ظهره على الوسادة خلفه، وهز رأسه في إيجاب ردا على سؤالها.
جلست على طرف الفراش، ومدت كفها تتحسس جبينه، ومنه انخفض كفها ليعانق جانب وجهه، وهي تؤكد: لا ده كده عال، الحرارة نزلت، بس متفتكرش أن..

قاطعها مادا كفه، لتنام بوداعة على كفها التي كانت ما تزال موضعها، وقرب باطن هذه الكف الرقيقة ملثما إياها في عشق، لم تسحب هي يدها، بل نكست نظراتها حياء، ليمد هو يده الأخرى، تحت ذقنها، ليرفع وجهها مرغما ناظريها على التطلع نحوه، هامسا: إيه الموضوع المهم اللي جلتي عليه فالڤويس، وكنتِ عايزاني فيه لما أرچع!

لم تحيد نظراتها عنه، على الرغم من أن الخجل يتملكها، لكنها همست برقة: كنت برد على الرسالة اللي أنت بعتها، يا ترى الرسالة وصلت وفهمتها، ولا أجول تاني!
ابتسم مؤكدا: لاه، جولي تاني، أصلك أنا فالحاچات دي عجلي تخين، وفهمي على كدي.
همست متطلعة نحوه: أنت سيد الناس.

ارتجف قلبه لكلمتها المباغتة، وتطلع نحوها بنظرات عشق مفضوح، لتستطرد مؤكدة: ايوه يا سمير، انت سيد الناس، وسيد الرچالة كلهم، لأن مفيش راچل يعمل اللي عملته، وأني ربنا بيحبني إني كنت من نصيبك.
كان يستمع الى كلامها في سعادة غامرة، تصف أخلاقه وتمتدح أفعاله، لكن اين قلبها من الأمر!

مدت كفها تتناول طبق الحساء من على صينية الطعام، وبدأت ترفع الملعقة العامرة لفمه، والتي كان يتناولها فاغرا فاه في كلمة مرة، وهو مشدوها عيونه معلقة بمحياها الذي يعشق، يتمنى من صميم فؤاده، أن تنطق بكلمة عشق تبل بها ريق القلب الذي طاق إلى وصلها.
اغلق فمه، مكتفيا، وهمس في هدوء: هاجوم اخد دش، عرج الحمى ريحته ماسكة فالهدوم.

نهضت من موضعها، مفسحة له الطريق، ترنح قليلا وهو ينهض من موضعه، لتنحني واضعة الخف المنزلي بأقدامه، ليندفع مبتعدا عن تأثيرها المهلك برقة على أعصابه.
أنهى حمامه، وقد نسي أن يأخذ ملابس نظيفة بصحبته، لكنها لم تنسى، فتلك الطرقات على الباب، ثم الكف التي امتدت بجلباه، هاتفة: مخدتش هدومك وأنت داخل.

تناول ملابسه من كفها، التي اختفت سريعا من خلف الباب، لكن ما أن اكمل ارتداء بعض ملابسه، حتى وجدها تشرع الباب قليلا، هامسة في تساؤل متردد: عايز مساعدة.

تظاهر أنه يناولها إحدى القطع لتحملها عنه، وما أن مدت كفها، لأخذها، حتى كان هو الأسبق، ليجذبها للداخل، لتشهق في صدمة، وقد وجدت نفسها مدفوعة لصدره، تطلعت نحوه في اضطراب، ليسقط قطعة الملابس، محتضنا خصرها في تملك، مقربا إياها نحوه أكثر، مطوقا جسدها بين ذراعيه، هامسا بالقرب من مسامعها، وهي تدفن وجهها بأضلعه، في نبرة متحشرجة تضج شوقا: أني توك اللي خفيت.

رفعت ناظريها نحوه في تردد، وهمست في نبرة عاشقة لم تخطئها أذني قلبه: اتوحشتك.
ضمها إليه أكثر، وأخيرا، حملها بين ذراعيه، دافعا الباب بقدمه لينفرج، مندفعا بها حتى غرفة نومهما، وعيونهما تتواصل في هيام لم ينقطع.
هتفت نعمة بأمها في ضيق: مش وقته يا ماما، أنا داخلة على امتحانات ومش عايزة حاجة تشغل دماغي، لما أخلص نبقى نتكلم فالموضوع ده.

هتفت جدتها نعمة مؤكدة: ما هو العريس مش هيستنى، هو مش بيقول يتجوزك بكرة، هو عايز بس رد، عشان يبقى ربط كلام، والواد شاري ومستني ردك قبل ما يسافر.
هتفت نعمة الحفيدة في ضيق، وهي خارجة من باب المطبخ، حاملة أطباق الغذاء، لتضعها في عنف على المائدة، مؤكدة في حزم: يبقى يسافر بقى، ويسبني فحالي، أو يروح يشوف له شوفة تانية.

دخل ناصر وخميس، اللحظة من باب الشقة، لترتبك نعمة مندفعة نحو المطبخ، والتي ما أن رأتها شيماء أمها، حتى اتسعت ابتسامتها متشفية فيها هاتفة: كلتي لسانك دلوقتي، أول ما أبوك وجدك وصلوا، لكن عاملة علينا إحنا سبع البرمبة!

همت شيماء بالخروج من المطبخ حاملة آخر الأطباق، لتجد نعمة تنكمش موضعها، لا رغبة لها في الخروج لتناول الطعام من الأساس، لتجذبها شيماء خلفها، هامسة لها في محبة: يا بت تعالي، مش هنديله كلمة إلا بعد موافقتك.

سارت نعمة خلف أمها، لتجلس بعد أن تجمع الكل حول المائدة، وما أن بدأوا الطعام، حتى هتف ناصر من جديد: عريسك جاني النهاردة تاني يا نعمة، بيستعجل الرد، طولنا ع الراجل، وهو عايز يرتب أموره، عشان خلاص سفره قرب.
امتعضت نعمة ولم ترد بحرف، ليهتف خميس مؤكدا: العريس الصراحة ميتعيبش، أهله ناس طيبين، وأخلاقه عالية، وكمان حالته المادية كويسة، يعني تمام من كله، عريس ع المازورة.

دخل نادر اللحظة من الخارج، واندفع يجلس بينهم على المائدة، هاتفا في مزاح: بس أنا مش موافق يا معلم، كان على المازورة كان ع الفرازة، أنا مش موافق إنه ياخد نعمة.
تطلعت نعمة نحو أخوها في تعجب، بينما هتفت نعمة الجدة في دهشة: ليه يا بني، توقف سوق أختك، طالما النصيب جه.

هتف نادر وهو يقذف لقيمة نحو فمه في استمتاع، متطلعا نحو نعمة أخته مازحا: مش لما يبقى فعلا النصيب يا ستي! النصيب خلاص دق ع الباب، والصراحة كده أنا موافق وبالتلاتة.
تطلع ناصر نحو نادر، هاتفا في حنق: إيه الفوازير دي!؟ ما تنطق على طول، وتقول فيه إيه!؟
أكد نادر، وهو يغمز بعينه لنعمة في مشاكسة: راضي الحناوي، كلمني النهاردة، طالب أيد نعمة، إيه قولكم!؟

انتفضت نعمة في سرعة، مهرولة نحو غرفتها، لا تصدق أنه أخيرا تحرك، فقد كان الضغط عليها شديدا لقبول هذا العريس، كان صدرها يعلو ويهبط، مقيما الافراح بساحة الروح، دقات فؤادها تعلو في سعادة لا توصف، لكنها انتفضت حين أتاها طرق على الباب، دخل نادر متطلعا إلى اضطرابها اللذيذ، واقترب مشاكسا: كلهم رفضوا بره، مش عارف ليه!

رفعت نظراتها إليه في صدمة ممزوجة بالدموع، إلا أنه عاجلها فاتحا ذراعيه مهنئا، قبل أن تنفجر باكية: وافقوا والله، كنت بضحك معاكِ.
شهقت باكية بين ذراعي أخيها، الذي لم يظهر حنو كهذا من قبل، هامسا بها في محبة خالصة: هو الصراحة راجل جدع ويتحب، وأنا جاوبت بالنيابة عنك، وقلت له شد حيلك وتعالى، وإحنا مستنينك، بعد ما هي تخلص امتحانات.
رفعت رأسها تمسح دموعها، ليستطرد نادر مشاكسا: عشان المذاكرة وكده يعني!

امتعضت في براءة، ليقهقه نادر مؤكدا: خلاص، نجيبه على ملا وشه، بلا امتحانات بلا يحزنون.
اتسعت ابتسامة نعمة، وهي تخبئ وجهها بأحضان أخيها من جديد، والذي تنهد في سعادة، وعيونه معلقة بخصاص نافذة تلك التي حملت الفؤاد معها، وغادرت تاركة له اللوعة.

دخلت حجرتها، تحاول أن تتغلب على اوجاع روحها بأهازيج الفرحة المنتشرة بالسراي منذ أن تم إعلان خطبة عاصم وزهرة، ابتسمت في شجن وهي تتمدد على فراشها، تشعر بخواء رهيب يخيم على ذاك البراح بصدرها، لا تعلم هل كان هذا القرار الذي اتخذته فيما يخص علاقتها برائف، صحيح أم به بعض الاجحاف والظلم!؟

للمرة الأولى يغلبها التردد، وتنازعها الحيرة قراراتها الحاسمة، وهي التي ما ترددت لحظة في قرار ما، كانت امرأة باترة لكل ما يقلق راحتها، أو ينغص صفو حياتها، لكن هذه المرة الأمر مختلف، والقرار ليس قرار عقلها الذي ما خزلها يوما، إنما قرار هذه المضغة الخافقة بين جوانحها، والتي تخالف طبيعتها الحاسمة كليا، بترددها المقيت الذي يكاد يدفعها احيانا إلى حافة الجنون، متمنية لو كان باستطاعتها دفع كف يدها بين اضلعها، وانتزاع ذاك المتمرد على قرارات عقلها المطواع.

تنهدت من جديد، تحاول أن تفكر، ما عليها فعله لإنهاء هذه الفترة العصيبة من حياتها بأقل الخسائر الممكنة، ونهضت تبحث بين كتبها على كتاب ما تدفن به بعض من افكار عقلها المشوش على غير عادته، مدت كفها تسحب ذاك المرجع الهام، الذي كان عليها مطالعته منذ مدة، لكن العمل بنجع السليمانية امتص وقتها، جلست تحمله بين يديها، تشعر بالحنق، متسائلة، لما كل ما فكرت فالابتعاد عن هذا النجع وناسه، تجرها الأفكار قسرا إلى هناك!

فتحت المرجع الضخم، لتسقط منه فجأة، تلك الرواية التي أعطاها لها يوم أن أرسل فيها خطاب الاعتراف بعشقها، والتي تذكر أنها لم تقرأها حتى، بعد أن وعت للخطاب، وتناستها، كيف لم تتنبه وتعيدها إليه!؟

مدت كفها ترفعها عن الأرض، ليسقط منها بالتبعية جواب الاعتراف، فضته بأكف متمهلة، وقد قررت أن تقرأه للمرة الأخيرة، قبل أن تمزقه، لا تعرف ما الداعي من الأساس، لتعذيب الذات بهذا الشكل! لكنها فعلت، وبدأت في القراءة، لتنساب دموع عينيها دون وعي، أنهت الخطاب ودفعت به بطول ذراعها، لكن الورقة عاندتها لتعود فتسقط في حجرها، تطلعت لها نوارة ما بين ألق دمعها بنظرة مشوشة، لتتنهد ممسكة بالخطاب، لتضعه من جديد بين ضلفتي الرواية سميكة الغلاف، والذي شهقت عندما تمزق الغلاف الخلفي تاركا فراغا بين الغلاف الورقي الداخلي والغلاف الخارجي السميك، فكرت في لذق الغلافين وينتهي الأمر، لكن هذه الورقة المطوية الموضعة هنا، لم ترها من قبل.

مدت كفها لتخرج هذه الورقة المطوية في حرص، وبدأت في فضتها، عيونها تجري على اعترافات فتاة ما، تبرئ فيها ساحة أحد الأشخاص، والذي ما أن وقع اسم نوارة عليه حتى شهقت في صدمة.
إذن هذا هو سبب شجاره مع أمه وجده، وعار كوني من الهوارية، والذي كان السبب في عدم قدرته على المجئ لطلب يدها للزواج!

انتفضت مسرعة، فعليها الذهاب لنجع السليمانية، فورا، ستحنث في وعدها هذه المرة، يعد أن أقسمت أنها لن تطأ قدماها ثراه من جديد، لكن لهذه الضرورة القصوى أحكام.
اندفعت تستدعي عبدالباسط في عجالة، متحججة أن هناك حالة حرجة تستدعي تواجدها هناك، حيث مقر عملها، الذي حمدت ربها أنها لم تخبر أحدا بتركها له.

أمرت عبدالباسط على طول الطريق، بالاسراع، حتى إذا ما اقتربت، وقعت عيونها على تلك التلة التي كان رائف ينتظرها عليها كل صباح فوق فرسه الأدهم، غصت بدمع وغامت الرؤية من جديد، وفجأة بدأت في السعال، ماذا يحدث هنا!؟

تطلعت من النافذة وهي عل مشارف الطريق الترابي المفضي لدار السليمانية، أن الجو ملبد بالدخان، وما أن توقفت السيارة على بداية الطريق، حتى أبصرت بالفعل أعمدة من الدخان تخرج من داخل الدار، وصرخات النساء وركض الرجال من هنا وهناك، يؤكد أن الحدث جلل، لتترجل في سرعة من العربة، مندفعة تركض باتجاه دار السليمانية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة