قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثلاثون

لا تعلم ما الذي يحدث بالضبط، ولا من بالداخل، لكن كل ما استطاعته، هو الاندفاع للداخل في غفلة من الرجال، الذين كانوا يحاولوا جاهدين، السيطرة على ألسنة اللهب التي بدأت في إخراج لسانها للجميع من نافذة الطابق السفلي بالخصوص.

وضعت طرف حجابها على أنفها تمنع استنشاق الدخان، ظلت تركض في اتجاه حجرة الجد عبدالسلام السليماني، دفعت باب حجرته ولم تجد أحد، تراه اين ذهب، في مثل هذا الظرف!؟ قررت الركض في اتجاه الطابق العلوي، الذي لم تصله ألسنة النيران لكن الدخان كان يعبق الأجواء بالأعلى، دفعت باب حجرة الدكتورة سميحة، لكن الباب كان مغلقا، هل تغلقه وهي ليست بالداخل! تذكرت يوم أن سقت في ماء الترعة، كانت نائمة بفعل حبوب منومة، هكذا ذكر رائف، وانها تغلق عليها بابها، فلم يستطع أن يدخل ليستعير من ملابسها، تأكدت اللحظة أن الدكتورة سميحة بالداخل، ما دفعها لدفع الباب في قوة، عدة مرات بقدمها حتى ينفتح، كان معدل الأكسجين بصدرها يتناقص، لكثافة الدخان المتصاعد من الحريق الذي بدأ ينتشر في الطابق السفلي، دفعت من جديد، بكل قوتها، لينفرج الباب أخيرا، لتجد الدكتورة سميحة مستلقية على فراشها بالفعل، اندفعت تحاول افاقتها، بكل ما لديها من عزم لإنقاذها، لكن لا جدوى، فيبدو أن الدخان قد عبء رئتيها، بجانب تأثير المنوم، حاولت من جديد لكنها أيقنت أنها النهاية، لكن..

ظهور رائف فجأة، قلب الموازين، دخل ملثما يسألها في لهفة: أنت بخير!
هزت رأسها رغم شعورها ببعض الاختناق، ليندفع حاملا أمه، في اتجاه الخارج أمرا نوارة في اهتمام: خليكي ورايا على طول، هحاول اوصل لطريق بعيد عن النار.
اطاعت في هدوء، وكأن لها خيار آخر، إلا البقاء بقريه، حتى النهاية.

هبطا الدرج في هوادة، والذي بدأ يئن في انزعاج، والنيران قد أمسكت ببعضه، ألتصقت نوارة بظهره، تحاول الاحتماء من صهد النيران، الذي طالهم وهم يحاولوا النجاة للخروج، يضم جسد أمه لصدره، كأنما انقلبت الأدوار لبرهة من الزمان، ليأخذ كل منهما دور الأخر، لكن أخيرا، بدأ الطريق يتضح للخارج، ترى الناس خلف الأدخنة والنيران، كأنما هم سراب، يتقافزون مهللين لرؤية رائف، ظافرا بنجاتهما، هتفت به مشيرة لحجرة جده، متسائلة وهي تزعق: جدك مش فأوضته، راح فين!؟

هتف رائف زاعقا: بره، لحجوه.

استراحت، أن هذا الشيخ الكبير قد تم اتقاذه، فما كان ليحتمل مثل هذه الأدخنة، تدخل إلى رئتيه، وخاصة وهو عائد من المشفى منذ فترة قصيرة، لكن وفي لحظة ما، تنبهت، أن حقيبتها التي نسيت خلعها عند اندفاعها لداخل الدار، قد سقطت منها، تلك الحقيبة، التي تحمل دليل براءة عائلتها وأحد أفرادها، والذي وصمت بالعار لأجل حملها لقبها، لسبب مجهول لم تكن تعلمه، ما دفعها لتتراجع عائدة للأعلى من جديد، وليكن ما يكون.

تنبه رائف وهو على أعتاب الخروج من الدار بصحبة أمه، أنها تركت موضعها خلفه، وعادة للأعلى من جديد، صرخ بها أمرا إياها لتعود: نوارة، ارجعي، السلم مش هيستحمل، والنار مسكت فالدور الفوجاني.

لم تكن تسمعه من الأساس، كان كل ما يجول بخاطرها اللحظة، هو إيجاد حقيبتها قبل أن تطالها النيران، فيبدو أنها سقطت منها، دون أن تعي، عند محاولتها فتح باب حجرة الدكتورة سميحة، خلعت عنها غطاء وجهها، فما عادت قادرة على التنفس، وملأ الدخان رئتيها، وبدأت الرؤية تهتز أمام ناظريها، لكنها أخيرا وجدت الحقيبة، ملقاة أرضا، أمام الحجرة، تناولتها وحاولت أن تعود ادراجها، لكن ألسنة اللهب حاصرتها وبدأت تأكل في درجات السلم الذي يفضي للدور السفلي، حاولت أن تعود أدراجها، بطول الردهة المفضية للغرف الداخلية، لتجد غرفة متطرفة لحد ما عن باقي الغرف بابها مفتوح، دفعت به، مهرولة للداخل، وهي تسعل في شدة، لتتجه نحو الشرفة، لتفتحها على مصرعيها، تتطلع نحو الأسفل، وهي تحاول استجماع بعض الهواء النقي ليدخل رئتيها، لكن كانت لها النيران التي جاءت على الطابق السفلي، لها بالمرصاد.

طل رائف على باب الحجرة، والذي لا تعرف كيف ظهر اللحظة، ولا كيف استطاع الوصول إليها من الأساس، وهو يتدثر بغطاء من الصوف، من رأسه حتى أخمص قدميه، مندفعا نحوها، مدركا لحالة الاختناق التي بدأت تتملكها بعد كل هذا الوقت محاطة بالدخان وادخنة الحريق، خلع عنه كمامة أنفه المبللة بالماء، واضعا إياها حول أنفها، وكذلك دثرها بغطائه الصوفي، محاولا العودة بها من جديد، لأول الردهة في اتجاه الدرج، لكن ألسنة النيران صعدت حتى وصلت تقريبا لأعتاب الحجرة، التي ما رأتها مفتوحة من قبل، ولا تعرف لمن تكون، وهي التي صعدت لهذا الطابق عدة مرات.

ما عاد لدى رائف خيار أخر، جذبها نحو الشرفة، وتطلع نحوها في نظرة غريبة، ما كانت قادرة على تفسيرها في خضم هذه الفوضى، قبل أن يجذبها لأحضانه عنوة، مطوقا جسدها بذراعيه، دافعا بجسديهما لخارج الشرفة، ليسقطا معا، ويغيب كل منهما عن وعيه، فاقدا الاتصال بالعالم الخارجي، إلا من صوت سرينة ما، لا يعلم أحدهما إن كانت سرينة لسيارة إسعاف أخرى، غير تلك التي حملت الدكتورة سميحة، لإسعافها، أم عربة المطافئ، والتي عادة ما تأتي بعد أن تلتهم النيران كل شيء!

انتفضت فريدة من موضعها في ثبات، هاتفة لأبيها في ثقة: باشمهندس حمزة، حضرتك تقدر تاخد الأساتذة كلهم لقاعة الاجتماعات التانية، عشان معتقدش أن وقتهم يسمح بالمسرحيات دي.

هز حمزة رأسه مؤكدا صدق كلامها، متطلعا نحو نزار في نظرة حانقة، يرغب في قتله اللحظة لو ترك العنان لغضبته الصعيدية، لأرداه قتيلا بموضعه، لكن ما ذنب هؤلاء! وكيف ستكون سمعة الشركة وتقييمها أمام ناظريهم، أشار للجميع ليتبعه، وهو على ثقة تامة بقدرة فريدة على وضع ذاك الأحمق بموضعه الصحيح، حتى يكف عن سخافاته.

توقفت أن يغادر الجميع بصحبة أبيها، لكنه ظل موضعه لم يتحرك قيد أنملة، متطلعا نحوها ونزار في نظرات تحمل ترقب عجيب، هتفت به فريدة: باشمهندس سامر، مش هتلحق بالاجتماع!
هتف سامر في هدوء: عندي الأهم يا آنسة فريدة، وبعدين أنا عاجبني المكان هنا، كله طراوة، تقدري تقولي ساقع وبارد.

قال جملته الأخيرة متطلعا نحو نزار، الذي وقف كالتمثال لم يحرك ساكن، حاولت أن تمسك ضحكاتها قدر استطاعتها من تلميح سامر، متطلعة نحو نزار هاتفة: خير يا باشمهندس نزار، ايه العروض العجيبة دي والدخلة المسرحية المبهرة دي!
هتف نزار متعجبا: مش أنتِ بتحبي الحاجات دي قلت افاجئك!

هتفت فريدة متعجبة: وأنتِ عرفت اللي بحبه من مين وامتى! يا باشمهندس بنات الناس ميتخطبوش بالطريقة دي! بنت الناس اللي أنت جاد معاها، وعايز فعلا ترتبط بها، ليها بيت أهل تخبط عليه وتطلبها منهم، وعن طريقهم هتعرف هي موافقة ولا لأ، اعتقد دي الأصول اللي اتربينا عليها ولا إيه!
هتف بها نزار: كنت فاكر ان حاجة زي دي هتسعدك وترد لك اعتبارك بعد اللي حصل من فترة.

قهقهت فريدة في وجع: ترد لي اعتباري في أوضة اجتماعات شركتنا قدام خمس اشخاص، ومراتك شهرت بيا بطول إسكندرية وعرضها، لا بجد فعلا عايز ترد اعتباري! رد اعتباري الحقيقي كان يجي بعد الموضوع ما انتشر مباشرة وبتكذيب منك شخصيا، وانت كنت تقدر تعمل ده، لكن كانت مصالحك مع مراتك تتعارض مع إعلان براءتي من اتهاماتها المخجلة، ايوه مخجلة زي ما كان حبي لك عار على قلبي، زي ما كان اعترافي لك بحبي عار على كرامتي.

تطلع لهما سامر في صدمة، لتهتف فريدة في قوة، مؤكدة: ايوه كنت بحبك يا نزار، من أيام ما كنت لسه عيلة عندي اربعتاشر سنة، كنت بحاول ألفت انتياهك كتير، ولما ملقتش فايدة، وعرفت انك هتخطب بنت خالتك، جيت لك لحد عندك وقلت لك إني بحبك، مش ده اللي كنت جاي تقوله وتساوم عليه يا نزار باشا، مش ده اللي كان مخليك تجري ورايا بعد ما اتاكدت انك خدت اللي انت عاوزه من بنت خالتك، خدت الفلوس منها ادور ع اللي بتحبني بقى، بس حابة اقولك حاجة، الطمعان في كل حاجة، بيخسر كل حاجة، وبيطلع بمفيش.

هتف نزار حانقا: يعني إيه!
انتفض سامر حين أحس أن عليه التدخل: يعني مفهومة، لو عندك ذرة كرامة تتكل ع الله من سكات، لأن طلبك مش هنا.
هتف نزار صارخا: كل إسكندرية من بكرة، مش هيبقى لها سيرة إلا أنتِ، إما قفلت لكم الشركة دي وقعدتكم في بيوتكم، ولبست أبوكِ الصعيدي الترح..

لم يكمل نزار تطاوله، بعد أن لكمه سامر بقوة افقدته توازنه، لينحني سامر ممسكا بتلابيه، يساعده على الاستقامة، هاتفا به وهو يهزه في غضب هادر: لحد هنا وتوقف معووج وتتكلم عدل، فاهمني، الراجل اللي بتطاول عليه ده أشرف واحد، وبنته دي من انضف البنات اللي عرفتها، ولو ملمتش نفسك عنهم يا نزار، اقسم بالله ما هخليك تبات في اسكندرية ليلة واحدة، بعد ما هطلع لستة البنات اللي أنت كنت بتبزهم عشان أهاليهم مش هيقدروا يوقفوا قصادك، انا كنت بره مصر ولسه راجع، واللي سمعته عنك بعد رجوعي والله يوسخ ايدي اللي ماسكة ببدلتك، بس للضرورة أحكام.

وصرخ سامر زاعقا، وقد زاد من هزه بشدة: فريدة الهواري غير يا نزار يا غمري، تيجي عندها وتعمل استوب لقذارتك، واتاكد تماما أني اللي فات ده كان لعب عيال، لكن فريدة الهواري يوم ما هتختار، هتنقي راجل بجد، مش معدوم الرجولة زيك.
قال سامر كلماته الأخيرة، دافعا بنزار الذي ترنح قليلا، قبل أن يشير سامر للباب، أمرا إياه بالمغادرة، دون أن ينبس بكلمة، لينفذ نزار في طاعة، دون أية معارضة.

تطلع سامر نحو فريدة، التي كانت تحبس دمعها في محاولة لتبدو قوية، هاتفا وهو يعيد تعديل هندامه، مقتربا منها: عيطي يا فريدة، عيطي وارتاحي، ولو عايزة تبقى لوحدك، ..
صمت ولم يعقب، ما دفعها لتتطلع إليه، ليهمس مازحا: مش هسيبك وهفضل على قلبك، وأوأي زي ما تحبي، وأدي كم البدلة أهو، امسحي فيه زي ما أنتِ عايزة.
همست مازحة من بين دموعها التي بدأت تنساب بالفعل: كم البدلة ليه! مفيش مناديل!

همس بمحبة للمرة الأولى يظهرها جلية بعيدا عن أي هزل، وهو يمد لها عضده مؤكدا: دراعي أهي يا فريدة، تمسحي فيها دموعك، تسندي عليها راسك، أو تتعكزي عليها فمشيتك، هي لكِ أنتِ، ومش هتكون لغيركِ أبدا.
شهقت في رقة، وازداد انهمار دموعها، ومدت كفها لتضعها على عضده، متشبثة به، ليضم العضد لصدره وعلى وجهه البشوش ابتسامة رضا وسعادة غامرة، لتهمس به فريدة وهما على أعتاب الحجرة مغادرين: هنرجع نحضر الاجتماع.

أكد مازحا: أه، اجتماع قمة مهم جدا، بس لأتنين بس، أنا وأنتِ، وعلى فكرة، أنا مستأذن من الحاج زكريا ووالدك، عشان نخرج سوى، عشان فيه كلمتين سر عايز اقولهملك، فأسمحيلي اعزمك بقى على شوية سندوتشات كبدة انما ايه، عجب! بعدهم تلت أيام نزلة معوية، وكله يبقى تمام.
انفجرت ضاحكة، هاتفة وهي تتأبط ذراعه، لخارج الشركة: لو على تلت أيام مش مشكلة، بسيطة.
أكد مازحا: مش كده بزمتك.

ارتفعت ضحكاتهما، وهي تركب السيارة جواره، وقد أدركت الآن، مرسى مركب قلبها الذي ظل تائها لفترة طويلة في خضم بحار الهوى، حتى وجد أخيرا المرفأ.

مر أكثر من أسبوع على إجراء العملية، ولا خبر يطمئنها على ما يحدث هتاك، كلمة واحدة تعطيها الأمل أنه خرج سليما معافى،.

أمسكت بهاتفها، تحاول الاتصال على هاتفه من جديد، بعد مرات عدة، لا تذكر لها عددا، وما من مجيب، اعتصرت الهاتف بين كفيها، تشعر أنها في سبيلها للانهيار، عملية مروان، وخبر وجود منتصر بالمشفى، بعد عملية خطيرة، كادت أن تودي بحياته، وما زال تحت مؤشر الخطر، وحالة جدتها التي لا تتحسن، والتي لم تستطع تركها، والذهاب مع بعض من رجال العائلة، للاطمئنان عليه، بعد إعلامهم بما جرى مع منتصر، الأمر الذي كانت تتكتم عليه جهات عمله، رغبة في الحفاظ على أمنه، حتى يستعيد وعيه.

بكت، وسلاميات كفيها قد برزت من شدة ضغطها على الهاتف، هامسة في تضرع: يا رب قومه بالسلامة، أنا عمري ما طلبت حاجة لنفسي يا رب، مات أبويا وأمي قدام عيني، وسلمت، جسمي بقى مشوه، وسلمت، ستي كانت بتعاملني وحش وقاسية عليا شوية، وكانت دايما بتعايرني أني خلفة شوم، عشان بابا كان أقل من أمي ومكنش عاجب ستي جوازها به، واللي جه غصب عنها، واضطريت توافق عليه عشان متتفضحش، وسلمت، بس مروان يا رب، أنا مش هقدر، لو حصل له حاجة، أنا..

وشهقت باكية في وجع، صارخة: يا رب.
هز تضرعها أركان روحها، مرتجفة في وجيعة تسربل فؤادها المقهور قلقا عليه، لتنتفض متطلعة نحو شاشة الهاتف، اللي سطعت بنمرة غريبة، ترددت فالرد، لكنها تماسكت وعدلت من نبرة صوتها المتحشرج بكاءا، وردت في ثبات وهمي: ألووو.

هتف بها على الجانب الأخر، صوت امرأة تكاد تطير فرحا: أية أنا ثريا مامت مروان، العملية نجحت الحمد لله، معلش مكتاش عارفين نوصل لك، عشان نبلغك، وكانت حالته حرجة فالأول، بس هو فاق اهو اخيرا وعايز يكلمك.
ارتعشت يدها الممسكة بالهاتف، لا تصدق ما تسمع، تجري الدموع أنهارا، تصنع أخاديدا بطول خديها، ليأتيها صوته أخيرا، هامسا في وهن: إزيك يا أية!

شهقت ولم تستطع الإجابة، وكل ما طاله صوتها المتضرع الباكي، الذي ما توقف عن ترديد كلمة واحدة، وهي ساجدة: الحمد لله يا رب، الحمد لله.
ابتسم، ابتسامة واهنة، فقد كانت هذه الإجابة تكفيه وزيادة.
هتف عاصم الجد، متطلعا نحو الحديقة القبلية، متسائلا وهو يتناول إفطاره بصحبة حفيده: خلاص، النجاشين والصنايعية، چايين النهاردة يظبطوا الاوضة يا عريس!
اتسعت ابتسامة عاصم في سعادة، مؤكدا: ايوه يا چدي، كلها ساعة ويوصلوا.

هتف عاصم الجد متسائلا من جديد: طب سألت العروسة، كيفها فأية!؟ ولا غشيم كيف چدك!
ابتسم عاصم مؤكدا: لا عاش ولا كان، مين ده اللي غشيم، ده انت ابو المفهومية كلها!
وع العموم، سألتها وجالت اللي اختاره على ذوجي هيعچبها.
ونكس نظراته يتخفى من سخرية جده التي يعرف انها ستطاله اللحظة، ما دفع عاصم الجد لينفجر مقهقها، هاتفا في مزاح: سيدي يا سيدي، ده أنت نلت الرضا السامي، بدري جوي.

هتف عاصم الحفيد، يتنهد ساخرا: كل ده وبدري يا چدي، ده أنا كنت خلاص!
قهقه عاصم الجد من جديد، ساخرا: وااه، إحنا فينا من كده، لاه ولدنا شٓديد، ولا إيه!
هتف الجد بتساؤله الأخير، في نظرة مرتابة، ما جعل عاصم الحفيد يؤكد باسما: شديد يا چد وحديد كمان.
ربت عاصم الجد في قوة، على ظاهر فخد حفيده، أمرا في محبة: طالما شٓديد كده، تعال وريني، هتسند چدك كيف!

هتف عاصم الحفيد متسائلا: على فين يا چدي، طب جول عايز إيه وأني اچيبهولك، وخليك مرتاح.
أكد عاصم مؤكدا: في حاچات مينفعش حد يچيبها لحد، هو اللي لازما يچيبها لحاله، يمد يده وينزعها من الدنيا نزع، ولو هيمسك فخناجها يا ولدي، وميسيبهاش إلا وهي طايعة، وهو واخد اللي رايده وزيادة.
هز عاصم الحفيد رأسه موافقا جده، ومد كفه يسنده للداخل، ليهتف عاصم الحفيد متعجبا: طب مجلتش على فين يا چدي!

لم يجبه عاصم على سؤاله، بل أمره: نادم على ستك زهرة، ستك ها بلاها تلاكيك.
قهقه عاصم، هازا رأسه في طاعة، ونادى على جدته، لتظهر من الداخل، بعد عدة نداءات، هاتفة في تعجب: إيه في ايه! ليه الغاغة دي كلها!؟
هتف عاصم الحفيد، مؤكدا: أنا مليش صالح يا ستي، چدي اللي جالي أنادم عليكِ.
هتف عاصم الجد مازحا: اخس عليك، بتبعني كده عن أول محطة.

تقدمت زهرة ودون أن يطلب، مدت كفها تسند الكف الاخر لعاصم في محبة، هامسة به: رايح على فين يا عاصم، قلبك يتعب من السلم.
هتف عاصم الجد أمرا في محبة: بسي تعالي، تبعيني ياللاه.
اقترب عاصم الحفيد منهما، هاتفا: طب تسمح لي يا چدي.

تطلع عاصم الجد نحو حفيده، متسائلا، لينحني عاصم الحفيد، حاملا عاصم جده في سهولة، صاعدا به الدرج خوفا على قلبه من المجهود، لتصعد زهرة ورائهم في هوادة، ليهتف عاصم الجد مازحا: الواد بيعمل بروفة ع الفرح.
قهقه عاصم الحفيد، وزهرة كذلك، والتي وصلت متنهدة أخيرا، أمام حجرتهما القديمة، التي انزل عاصم جده قبالة بابها، مخرجا مفتاحها من جيب جلبابه،.

ليفتح الباب في هوادة، دافعا باب الحجرة، سامحا للهواء النقي أن يدخل أولا، على الرغم من أن الحجرة، يتم تنظيفها بشكل دوري، ثم تغلق من جديد.
أعطت زهرة لعاصم، عصاه التي لا تفارقه، إذا ما اضطر لترك كرسيه، متوكزا عليها، والتي حملتها عنه، أثناء صعودهم الدرج.

ليضرب بها الأرض، متخطيا عتبة الحجرة، ما جعل زهرة تبتسم لذكرى بعيدة، يوم عرسهما المزعوم، عندما ارتجفت لسماع صوت عصاه وهو يدلف إلى الحجرة، لتبدأ بينهما المواجهة.
دخلت زهرة، وظل عاصم الحفيد على الأعتاب في تأدب، تطلع عاصم الجد لكل ركن من أركان الحجرة، وابتسامة عريضة مرسومة على شفتيه، وأخيرا وقع ناظريه على زهرة، التي كانت تتطلع إليه في محبة خالصة، كأنما تقرأ أفكاره، لتتسع ابتسامتها بالمثل.

اقترب منها متسائلا في همس: فاكرة!
مشيرا نحو النافذة، مستطردا: أول مرة شفتك فيها بفستان الفرح كان هناك، يومها قولتيلي متقدرش تقرب لي، وأني خدتني النعرة الكدابة، وازعج وأجول، هي اللي هتاچي لحد عندي.
قهقهت، ليستمر مؤكدا: عشت أيام زي النيلة، ليالي وأنتِ وجاري ومش طايل حتى نظرة رضا.
همست زهرة مازحة: أنت اللي جبته لروحك.

أكد هامسا في محبة: طب دي أحلى حاچة چبتها لروحي، اتعذبت بس كفاية عليا إنك نسيتيني العذاب كله، ودوجت الشهد على يدك.
وأشار للأريكة هامسا من جديد: فاكرة! يا زهرة زاد..
تعالت ضحكاتها، وهي تتطلع إلى موضع الأريكة، حيث تمدد يوما واضعا رأسه على فخذها، لتقرأ له رواية كبرياء وتحامل بأنفاس متقطعة، واحرف مهزوزة خجلا.
همس عاصم الجد من جديد، متطلعا لكل ركن بالحجرة: مفيش ركن فالاوضة دي مفيهوش ذكري بيني وبينك.

هزت زهرة رأسها دامعة، وهمست وهي نشبك كفها بعضده، تستند إليه: حتي لما كنا بنتخاصم، مكنش حد فينا كان يقدر يبعد عن التاني، نقعد نحرجم لحد ما نتصالح.
همس عاصم الجد ماجنا: فاكرة كنت بعمل إيه!
قهقهت هامسة، وهي تهز رأسها مؤكدة: كنت تعمل نفسك بتتقلب فالسرير، وأنت بتقرب لي بضهرك، حد يتقلب فالسرير بضهره بس يا عاصم!

قهقه عاصم ولم يعقب، لتستطرد هامسة: تفضل تتقلب، لحد ما ضهرك يخبط فيا، وأنا بقى مبقاش نايمة، قاعدة مستنياك، لحد ما توصل بالسلامة، و..
توقفت، فتطلع لها بنظرة ماجنة، لم تخف الأعوام أو السنون توهجها، ما دفعها لتنفجر ضاحكة، منكسة رأسها خجلا، هامسة: ما أنت عارف.
أكد مشاكسا: لاه معرفش، نسيت، فكريني كده!

أمسكت ضحكاتها، هامسة: لحد ما تحضني، وتقولي مش خلاص، صافي يا لبن، أقوم أنا بقى ما أصدق، أدخل في حضنك، واقولك حليب يا قشطة.
همس عاصم في نبرة ماجنة: وكانت بتبجي ليلة عسل وزيدة.
قهقهت زهرة ولم تعقب، لكن عاصم الحفيد الذي كان ما يزل واقفا على أعتاب الحجرة، تاركا المساحة لجده وجدته لاسترجاع ذكريات الماضي هو من هتف مشاكسا: مش كفاية كده، ولا أروح أنا أجيب اتنين لمون!

قهقه عاصم الجد، متعكزا للخارج، وبجانبه زهرة، مسلما المفتاح لحفيده، هاتفا: خد يا خويا المفتاح، غيران مننا، طب بس يا رب تعرف تعمل نصنا.
وتطلع نحو زهرة التي كانت تمسك ضحكاتها، مستطردا: والنعمة عيال خايبة، طالعين لمين العيال دي يا زهرة! إحنا مكناش خايبين كده! طب ده أني..
قاطعته زهرة محذرة، من استطراده في ذكريات ماجنة ليس من اللائق ذكرها: عاااصم.

صمت على مضض، متطلعا لعاصم الحفيد الذي كان يمسك ضحكاته بالكاد، مؤكدا وهو يغمز له بإحدى عينيه: هبجى اجولك بعدين، بيني وبينك كده.
أسندت زهرة هامسة في عتب: تقوله إيه يا عاصم، ميصحش كده!
همس عاصم الجد لها: الواد عريس، مش نفطموه من دلوجت.
امسكت زهرة ضحكتها هامسة: لا ملكش دعوة به، سيبه بس يشوف اللي وراه، خليه يخلص الاوضة ويتلم فيها هو وعروسته، ويبقوا يصطفلوا سوى زي ما أنا وأنت اصطفلنا.

ألقى عاصم الجد بتعليق ماجن أخر، ما دفع زهرة لتنفجر ضاحكة، قبل أن يقترب عاصم من جديد، حاملا جده، معيدا إياه لموضعه على كرسيه، لتجلس زهرة جواره، وصوت ام كلثوم شاديا في عذوبة:
والحب، الحب عمره ما جرح، عمره،
عمره ما جرح..
ولا عمر بستانه طرح، غير الهنا وغير الفرح.

تعالت الزغاريد في دار ماهر الهواري، ما أن اعلمهم مؤمن بحمل سهام، لتصدح هداية بزغاريدها في سعادة، هاتفة في بهجة: ألف مليون مبروك، عجبال ما تجوم لنا بالسلامة، وعجبال سمية بتي يا رب.
أمن الجميع خلفها، بينما هتف عبدالله مازحا: أني مش عارف ليه الرجالة متحملش هي كمان!؟ والله أني لو حامل لكنت اتشرطت واتفردت على كيفي!

تطلع إليه الجميع في صدمة لم يتنبه لها وهو يوجه حديثه نحو سهام هاتفا: بجولك إيه يا سهام! نتفج من دلوجت، اللي نفسي فيه، هجولك عليه، تجولي بتوحم ياچيني على طول، لحسن والله ولدك ده هطلع عينه لما أشوفه..

قهقه مؤمن على أفعال أخيه، وكذا سهام وماهر، بينما هتفت هداية في صدمة: عوض عليا عوض الصابرين يا رب، ولدي عايز يبجى حامل عشان يتشرط ع الأكل! هو إحنا حرمينك يا واد، بس جولي، مانعين عنك الأكل، وحبسينك فالكرار، مع الفيران!

ارتفعت قهقهات الجميع، وعبدالله يتطلع نحوها في لامبالاة، هاتفا: خلاص يا عم، بصي يا سهام، اللي تتوحمي عليه أني جابله، اعملوا لي حساب معاها، بس يا رب يكون واد عنده دم، ويتوحم على حاجة تستاهل، مش كلام فاضي ملوش عازة.
هتفت هداية في حنق: كمان عايزها تتوحم على مزاچك، الله يكون فعونها من دلوجت، اللي ربنا يكتبهالك.
هتف عبدالله مؤكدا: متجلجيش، هچيب واحدة بتفهم فالأكل، ونتوحموا سوا، ولا الحوچة.

قهقه الجميع، وهداية تضرب على رأسها في قلة حيلة من أفعال عبدالله.
كان يجلس على مصلاه، ينهي تسبيحه يشعر أن الأيام الماضية أيام ثقال، ما مرت به من قبل، يتمنى من الله أن تمر بسلام.
رن هاتفه، مد كفه في عدم رغبة فالرد، لكنه استشعر بحسه الأمني أن الأمر جلل، فرد بسرعة، متلهفا: ألووو
هتف وحيد من الجانب الأخر: السلام عليكم يا فندم، آسف على ازعاج جنابك، بس حبيت ابلغك إن منتصر فاق الحمد لله.

هتف حازم في سعادة: فاق! اللهم لك الحمد والشكر..
أكد وحيد في نبرة مبتهجة: الدكاترة بيقولوا دي معجزة، ده مكنش عندهم أمل فالحالة، بس ربك كريم يا فندم.
هتف حازم من جديد: اللهم لك الحمد والشكر، حد من أهله اللي بلغناهم جه!

أكد وحيد ممتعضا: أه يا فندم، تلات رجالة كده، معرفش يقربوا له إيه جم بعد ما حضرتك مشيت، قعدوا شوية، وواحد منهم بيت امبارح، وكان لسه ماشي من شوية هو كمان، وقالوا هايجوا تاني لان عندهم مصالح هيخلصوها الأول، طالما موال تعبه مطول.
تنهد حازم هاتفا: طيب يا حضرة الظابط، أنا جاي حالا، وحمد الله بسلامته.
اغلق حازم الهاتف، ونهض في عجالة يرتدي ملابسه، فإذا بتسبيح تدخل عليه الغرفة مهرولة: حازم، حازم.

انتفض مذعورا: في إيه! بدور كويسة!؟
هتفت تسبيح باكية: تعالى إلحق، بدور فاقت.
تطلع مصدوما نحوها، شرد لبرهة، ما دفعها لتسأله قلقة: مالك فيه إيه! أنت كويس!؟
همس حازم يعلمها: لسه مبلغني دلوقتي، منتصر كمان فاق.

تطلعت تسبيح نحوه، وأخيرا شهقت باكية، اقترب منها، يضمها بين ذراعيه، رابتا على ظهرها في حنو، هامسا: معلش، كانت ايام صعبة ع الكل، روحي خليكي معاها، وأنا هكلم الدكتور سامي جارنا، يجي يبص عليها، يشوف إيه الأخبار.
رحل الطبيب الذي جاء على عجل، وكتب بعض المهدئات الخفيفة، والاهتمام بالغذاء والراحة، والبعد تماما عن أي توترات أو منغصات.

دخل حازم، جالسا على طرف فراش بدور، هامسا في محبة: كده برضو تخضينا عليك يا بدور، بقيتي كويسة دلوقتي!
هزت رأسها في وهن، هامسة بصوت قادم من اعماق سحيقة: لحقت منتصر يا بابا! ده من بيودعني كأنه رايح ومش راجع، شوفته وهو بيلبس الصديري الواقي من الرصاص، بعيد عن عيني، هو..
همس حازم رابتا على رأسها في تعاطف: متخافيش، بقى كويس، كان تعبان زي حالاتك، ولسه فالمستشفى، بس بلغوني إنه فاق، تحبي تيجي معايا نزوره.

تطلعت في شك نحو والدها، ليهز رأسه موافقا، هاتفا في ود: حتى نشكره يا ستي ع اللي عمله معاكِ، ولا إيه!
هزت رأسها باسمة، ونهضت بمساعدة أمها، لترتدي ملابسها، في عجالة، ترغب في الاطمئنان عليه بشدة، بعد كل ما كان.
هتفت سندس وهي تضع هاتفها جانبا، تنضم إليهم على المائدة في سعادة، مبشرة: سهام حامل، لسه مبلاغاني حالا.
وتوجهت نحو سمية وسمير بحديثها: عجبالكم يا ولاد.

هتف باسل مهللا: ربنا يقومها بالسلامة، ونفرح بعوضها يا رب.
أكدت سهام الجدة معاتبة، وهي توجه حديثها لسمير: جوم أعمل بلجمتك، وچيب لنا حتة عيل نلعبوا بيه!
نكست سمية رأسها حرجا، بينما هتف سمير مازحا: حاضر من عنايا، أخلص الغدا، واطلع اچيبهولك من فوج يا ستي، أنت تؤمري.

أمسك الجميع ضحكاتهم، بينما شاكسته سمية، من تحت المائدة، ضاربة قدمه بقدمها، ليتطلع نحوها، عاتبته بنظرات لائمة على أقواله، بينما رد عليها بنظرات ماجنة، جعلت الدماء تصعد لوجنتيها خجلا، تضع نظراتها بطبقها، في محاولة لاستيعاب جرأته، فلربما تنبه أحدهم لنظراته.

رفعت الملعقة لفمها وبدأت في تناول غذائها تحاول تجاهله، إلا أن عيونها سقطت عليه من جديد، ليبدأ مشاكساته، ما دفعها لتستأذن متعللة بأمر ما نسيته على الموقد، مؤكدة على أنها نالت كفايتها من الطعام، ظلت تقف على الدرج المفضي للطابق العلوي، حيث شقتهما، مدعية أنها فتحت الباب ودخلت، لتسمع سمير يهتف بعدها مباشرة: تسلم ايديك يا حاجة سندس، اطلع أني ارتاح شوية.

هتفت الجدة سهام مشاكسة: ومالك ياخويا متسربع ليه كده! ايوه مش جادر على بعاد العروسة!
ارتفعت ضحكات سندس وباسل بأريحية، ليهتف سمير ماجنا: ايوه بجى، لكِ شوج فحاچة يا سهام، كنك غيرانة، إيه رأيك ادور لك على عريس!
هتفت سهام حانقة، مصحوبة بضحكات سندس وباسل: فشرت، أني اتچوز بعد حسام الله يرحمه.
وانقلبت لهجتها فجأة هاتفة في وداعة: بس تصدج يا واد يا سمير، اتوحشته جوي.
هتف باسل وسندس: الله يرحمه.

هم سمير بالتحرك نحو الطابق العلوي، لتهتف به سهام من جديد: على فين العزم يا واد، كده تسبني وأني بتحدت معاك، وتطلعت نحو باسل وسندس مؤكدة؛ أني جلت لكم دلعكم فيه مش هاياچي بخير، اهااا، رايح فين بجى وسايب أم أبوه تهاتي كده!
هتف سمير مازحا: رايح أجيب لك العيل اللي نفسك فيه يا ستي!
أمسك كل من سندس وباسل ضحكاتهما على اقول ابنهما، لتهتف سهام مؤكدة: طب روح، بس جوام، تنزل طوالي، اچري ياللاه.

ليهتف باسل مازحا بدوره: متعوجش يا سمير، يومين ونلاجيك نازل بالعيل.
تطلعت له سندس لائمة، إلا أن سمير هاتف مازحا: عيني، أي خدمة تانية، انتوا تأمروا.
ارتفعت ضحكاتهم، ليتركهم مندفعا للأعلى في عجالة، ليفاجأ بسمية تنتظره على باب الشقة جاذبة به للداخل، ليهتف بها في مجون مازحا: إيه متوحشاني جوي كده!
ضربت صدره في رقة، تشعر بالاضطراب هامسة: بجولك يا سمير!

همهم وهو يقترب منها، يضمها إليه في محبة، لتهمس بأحرف مترددة: على سيرة حمل سهام، والعيال وكده.
حملها مندفعا نحو حجرتهما، هاتفا في مزاح: ياچوا العيال، هو إحنا ورانا غيرهم.
قهقهت وهي محمولة بين ذراعيه، لتصمت ضخكاتها ما أن وضعها على طرف الفراش، مقتربا منها في عشق، لتستطرد دافعة بالكلمات التي تسد حلقها، هامسة: سمير، أني حامل.

توقف عن الاقتراب منها، متطلعا نحو عمق عينيها الدامعة فرحة، مصدوما ومشدوها في آن واحد، ليهمس بصوت متحشرج، وكفه تمسد على جانب وجهها في مودة: أنتِ متأكدة!
هزت رأسها في إيجاب، وكأنه كان ينتظر تأكيدها ذاك، ليطبع قبلة عميقة على جبينها قبل أن يندفع كالمجنون لأسفل، صارخا في جنون: حصل والنعمة حصل، أني راچل مرتي متنزليش كلمة الأرض أبدا.

تطلع إليه كل من باسل وسندس في تعجب، بينما هتفت سهام الجدة ساخرة: أهو عرج الچنان طفح عليه.
ليستطرد سمير مستطردا في صراخه المفعوم بالفرحة: جلت لكم طالع اجيب العيل، نزلت بيه، حد شاف كده! هو أني أي راچل ولا إيه!
قهقه باسل على أفعال ولده، بينما نهضت سندس، تطوقه في سعادة مهنئة، أما سهام الجدة فتطلعت نحو سمير في محبة، هاتفة به أمرة: والله طلعت چدع يا سمير، وبتسمع كلام ستك، تعالى أما ابوسك يا واد، تعال.

قهقه سمير لأقوال جدته، مندفعا إليها، يقبلها قبلة عميقة على وجنتها، ما جعلها تدفعه عنها هاتفة في حنق: حاسب يا واد طجم السنان، اهاا هيتخلع عچبك، متتعفاش علي يا واد باسل، الله يكون فعونك يا سمية يا بتي.
قهقه الجميع على أقوالها، ليندفع سمير نحو شقته من جديد، ليجد سمية ما زالت موضعها، لم تتحرك، ليندفع متمددا جوارها، ملقيا رأسه بين ذراعيها، لتهمس به في فرح: مبسوط يا سمير!

أحاط خصرها بذراعيه، هامسا: مش مبسوط عشان الحمل يا سمية.
ورفع رأسه متطلعا نحوها بنظرات تقطر عشقا، مستطردا في هيام: أني فرحتي فالأساس، إن العيل ده منك.
دمعت عيناها فرحة، وجذبت رأسه لأحضانها من جديد، هامسة وهي تعنيها بكل خلجة من خلجات روحها: بحبك يا سمير.

رفع رأسه منتفضا، يتطلع نحوها مشدوها، لتهمس من جديد، في نبرة صادقة، تتطلع لعمق عينيه في وجد: أيوه بحبك، وعمري ما حبيت ولا هحب حد غيرك، أنت الأول والأخير فقلب سمية، وأي حاچة كانت جبلك وهم، ولا ليها أساس، بحبك.
وسال دمعها يكمل روعة ذاك الاعتراف الصادق، ما دفعه ليعتصرها بين ذراعيه، ضاما إياها لأحضانه، فلتوه أيقن أنه اكتمل بمحبتها، وأن الليلة هي ليلتهما الأولى كعاشقين قبل أن يكونا زوجين.

كان يجلس خلف البنك بديلا عن جده الذي صعد لتناول غذاء مبكرا والخلود للراحة قليلا، فما عاد لديه القدرة على المداومة بالجلوس لفترات طويلة لداء ألم بفقرات ظهره، سمع تهليل بعض صبية الحارة والذي عادة ما يحدث عند دخول عربة فارهة لعمق الحارة، وخاصة لو كان من يستقلها شخصا معروفا بينهم.
تطلع خارج حدود المقهى، ليجد عربة كان يعرفها جيدا، مرت به للتو، كانت عربة شعيل ابن عمة حُسن، إذن فقد عادت.

لا يعرف ما الذي دهاه ليتسمر موضعه كالتمثال، لا يحرك ساكنا، رؤيتها من موضعه وهي تترجل من السيارة، أمام بيت أبيها، جعله يستشعر أنه في حلم، وهو يراها قبالة ناظريه اللحظة، بعد شهور مضنية من التيه والبعاد.
اقترب كالمشدوه المنوم مغناطيسيا من موضع توقف السيارة، وما أن أصبح قبالتها، حتى هتف في جديته المعتادة: حمد الله بالسلامة يا حُسن، مصر نورت.

تطلعت نحوه، وغامت عيونها بالدموع، والتي رأى ألقها ينير مقلتي عينيها العسليتين، وأخيرا وجدت صوتها، واستجمعت أحرف الكلم، هامسة: الله يسلمك يا باشمهندس.
هم بالتحدث من جديد، ليهتف شعيل مازحا: ومفيش حمد الله بالسلامة لشعيل ابن عمتها!؟

اضطرب نادر على غير العادة، متنبها أنه نسى وجوده بالفعل، ما أن وقع ناظريه عليها، نسى الدنيا بأسرها الا محياها الذي اشتاقه، ما جعله يندفع نحو شعيل، مساعدا إياه على حمل بعض حقائبها في اتجاه باب البيت المكون من طابقين، والمغلق بابه بسلسلة من حديد، متناولا مفتاح القفل من جيبه والتي كانت قد استأمنت أمه على نسخة منه، تراه اللحظة لما يضع نسخة مفتاح دارها، بسلسلة مفاتيحه!

لا تعلم أنه، ما أن أخذته الوحشة حتى فتح الباب، ودلف للداخل في غفلة من الجميع، يتطلع لكل أركان الدار، لعله يلمح بعضا من طيفها هناك، يسكن ذاك الوجع الذي استشرى بروحه لغيابها.

دفع الباب الحديد، والذي أصدر صريرا معتادا، وفتح باب الشقة بالدور السفلي، دافعا بالحقائب لداخل الشقة، مؤكدا في هدوء، وهو يتطلع نحو شعيل: طبعا انتوا منيهتوش على مجيتكم، كنا نضفنا البيت قبل ما تيجوا، عشان كده اتفضلوا معايا، اقعدوا فشقة جدي، لحد ما نتصرف.
هتفت حُسن مؤكدة: مفيش داعي، انا هنضف البيت.
أكد نادر في حزم: أنتِ لسه جاية من السفر تعبانة، تنضفي إيه!

هتف شعيل متفقا: كلام الباشمندس مظبوط يا حُسن، إحنا قررنا السفر بسرعة، وجاية للامتحانات، لازم تستريحي.
هزت رأسها في طاعة لكلام شعيل، ما دفع دماء الغيرة لتغزو شرايين نادر، الذي هتف في محاولة لضبط النفس: الحمد لله إنك بقيتي بتسمعي كلام حد، والدماغ الناشفة خفت شوية.
هتف شعيل مازحا: متتعشمش يا باشمهندس، الدماغ لسه على حالها والله، بس دي من الحاجات المميزة لحُسن.

لم تخفف كلمات شعيل من نار الغيرة التي أمسكت بتلابيب عقل وقلب نادر، الذي قرر الاندفاع مبتعدا، باتجاه بيت جده، في انتظار قدومهما خلفه لاستضاقتهما.
منذ أن أعلنت عن حقيقتها، ما عادت تظهر أبدا، معتصمة بالدار وجدرانه، ولا تصعد للأعلى كما السابق، لتحضر له طعامه، وتعدل من أمور الشقة.

كانت بالنسبة له سماحة الرجل، وهي بقربه، أفضل من كونها سماح الفتاة التي تنأى عنه، ولا لم يرها منذ طلبها للزواج، فهربت خجلى من أمام ناظريه.
لم يعد يطيق، فهتف من الأعلى: يا خالة سعيدة!
طلت أمها من الطابق السفلي، مجيبة ندائه: نعم يا يونس بيه.
هتف بها: يونس بس يا خالة، أني بجيت فمجام سماحة الله يرحمه.
همست سعيدة في إكبار: الله يعز أصلك يا حبيبي، والله نفس العزة وربنا العالم، طولة العمر لك يا بني.

هتف يونس: امين يا خالة، بجولك، أني عايز ع الغدا طاجن سمك بالفريك.
انتفضت سماح من الداخل، وهي تتسمع حواره مع أمه، وما أن أتى على ذكر طاجن السمك بالفريك، حتى انتفضت في حنق، في اتجاه الباب، لتخرج زاعقة في اعتراض: عايزه ليه! مش بجيناه الحديت ده يا سي يونس!
اتسعت ابتسامته، فقد نجحت خطته في إخراجها من مخبئها، والظهور أخيرا، هاتفا مشاكسا لها: نفسي فيه يا ستي، أنتِ إيه اللي مزعلك!

هتفت أمها تؤيد رأيه: ايوه نفسه راحت له، أنتِ إيه اللي مزعلك دلوجت!
هتفت سماح في حنق: مش هو ده الطاچن اللي كنتي بتعمليه عشان ينسى العشج اللي كان!
كان يونس يتطلع نحوها، مبتسما في سعادة، وهو يرى دلالات غيرتها عليه، وعدم رغبتها في ذكرى محبته القديمة لسهام، لتهتف سعيدة في فطنة أم: يا خايبة، أبوكِ كان دايما يجولي، طاچن السمك ده، لو عليك عفريت هيطلعه، إلا العشج لو متبت فالجلب ولا إيه ينزعه.

تطلعت نحو أمها لبرهة، ثم تطلعت نحو يونس، الذي كان يتطلع نحوها وبناظريه نظرات عشق فاضحة، لتهمس به بصوت متحشرج، وأمها تنسحب بهدوء من موضعها للداخل، تاركة كلاهما: يعني أنت نفسك رايحة لطاچن السمك بچد!
هز يونس رأسه مؤكدا، لتهم بالاندفاع للداخل، ليستوقغها هاتفا: على فين!
أكدت في حماسة: هروح اعملهولك بيدي، ميكنش نفسك فحاچة وما تاچيش.

همس يونس في محبة: هيبجى أحلى طاچن سمك، بس اتوصي عشان تتأكدي، أن كلام أمك صح، وكيف ما جالت لو عليك عفريت بيطلعه، إلا العشج لو كان متبت فالجلب، ولا إيه يجدر ينزعه، وأني عشجي لكِ، ما ينزعه إلا خروچ الروح يا سماحة.

سال دمعها، لا تصدق أنها تسمع منه مثل هذا الكلام الذي كان أبعد من أن تتخيله في أروع أحلامها، كان يتطلع لها مشدوها، فهذه هي المرة الأولى التي يبصر فيها تأثرا أنثوي منها، كانت دوما تتصنع الصلابة الذكورية، لكنها اللحظة انثى كاملة من رأسها حتى أخمص قدميها، انثى خلبت لبه وسبت قلبه، وما عاد له عنها غنى في حياته، هبط درجتين من السلم، ثم وعى أنه لو اقترب فلن يكون له القدرة على الابتعاد من جديد، ما دفعه ليتقهقر من جديد، عائدا درجتى السلم، هاتفا في حنق: منك لله يا سماح يا بت ام سماحة، كان زماني دلوجت متأهل وداخل دنيا، مش متشعلج فحبال الهوى لا عارف اطلع ولا انزل، أجول إيه، بس صبرك علي، كله هيخلص.

اتسعت ابتسامتها رغم دموعها، هاتفة في دلال: كلامك كله ماشي، محدش يرد لك كلمة يا سي يونس.
هتف يونس وهو يصعد مهرولا مبتعدا عنها، هاتفا في حنق: بجولك إيه يا بت الناس، ادخلي الله لا يسيئك، ومش عايز سمك بالفريك، ولا سمك بالدجيج.
هتفت سماح متعاطفة: طب عايز ايه!
هتف يونس وهو يغلق باب شقته، زاعقا في قلة حيلة: يونس عايز يتچوووز، چوزوني يا حكومة، يا رب يلاجوا الجاتل يا رب.

قهقهت سماح بعد أن وصلها بعض من صدى كلماته، لتقرر صنع طاجن السمك بالفريك، لعله يطيب بعض من خاطره.

تطلعت حولها في تيه للحظة، حاولت النهوض لكنها شعرت بألم متفرق بجميع أنحاء جسدها، عادت لتستلقي من جديد، متطلعة للسقف، تحاول استرجاع ما حدث بين كل هذه الفوضي، ليتمثل أمام ناظريها مشهدهما الأخير معا، وهو يضمها بذراعيه ليسقطا سويا، ويغيبا عن الوعي، تنهدت فتجمع بخار الماء، داخل ذاك القناع الاكسجيني الذي كان يغطي معظم ملامح وجهها، نزعته مبعدة إياه، ونهضت في تثاقل، تبحث في اضطراب عن حقيبتها، دخلت الممرضة في تلك اللحظة، لتسألها نوارة في لهفة: هو الناس اللي جت معايا كويسين!

أكدت الممرضة: اه الحمد لله، الست الكبيرة كويسة بس تحت الملاحظة، وابنها في قسم العظام، عنده بعض الكسور، وحضرتك اهو كويسة الحمد لله.
هزت نوارة رأسها في محاولة لإخفاء قلقها على حال رائف، متسائلة: طب فين شنطتي!
أكدت الممرضة: موجودة في أمانات المستشفي، حضرتك وأنتِ خارجة تقدري تستلميها.

نهضت نوارة، واستلمت حقبتها، واتجهت نحو قسم العظام، حيث علمت رقم حجرته، وفي هدوء وبقلب مضطرب، وضعت كفها على مقبض باب حجرته، تتطلع نحو جسده المسجى، غائب عن الوعي، وكفه وذراعه التي كانت في جبيرة من الجبس، معلقة بشكل يمنعه عن تحريكها.

شعرت بغصة في حلقها، ودموع محبوسة بمقلتيها، فتحت حقيبتها، وأخرجت الخطاب، ومدت كف مرتعش، تضع الخطاب بجيب سترته، بعد أن صورت الخطاب كنوع من أنواع الحفظ لحق من حقوقها، وتحركت مغادرة، تحاول التواصل مع عبدالباسط، لتعلم أين يكون، للعودة لنجع الصالح، بعد أن أخذت منه الوعد، حتى لا يخبر أحدهم بما حدث بنجع السليمانية، وترك هذه المهمة لها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة