قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

تنبه لحفيف الأقدام القادم من ناحية الدرج فألتفت نحوه مدركا من يكون صاحبه قبل أن تطالعه صورته. ومن يمكن أن يكون مستيقظا في مثل هذه الساعة قبيل الفجر بدقائق معدودة إلا هو. عاصم حفيده الذي تجهز ليندفع نحو المسجد ليؤذن لصلاة الفجر كعادته منذ أن كان طفلا يرافق اباه مهران الذي سلم له المهمة ما أن أشتد عوده.

تنبه عاصم الحفيد لموضع جده داخل حجرة المكتب فدلف إليها والابتسامة ترتسم على وجهه هاتفا: أنت صحيت يا چدي!
وانحنى طابعا قبلة حانية على جبين جده مستطردا: صباح الخير.
أكد عاصم في بشاشة: صباح السعادة يا باشمهندس. إيه. صلاة الفچر وچبت!
أكد عاصم الحفيد: أه يا جدي. يا دوب ألحج.
دفعه عاصم برفق مؤكدا: طب ياللاه روح شوف حالك. وهستناك نفطروا سوى.

اندفع عاصم الحفيد لخارج الغرفة متجها لخارج السراي لتدخل زهرة الحجرة فور خروجه منها متجهة نحو زوجها هاتفة: صباح الخير يا عاصم. خدت الدوا اللي بيتاخد ع الريق!؟
هتف عاصم ممتعضا: ما جلنا مش واخد أدوية أني!؟ بلا دوا بلا يحزنون. أني شديد ومش محتاچ علاچ.
هتفت زهرة مؤنبة: يا عاصم هاتتعب. لما بطلته من فترة تعبت وكانت حكاية. أنا رايحة اجيبهولك.

هتف عاصم مازحا: يا شيخة. لا تروحي ولا تاچي. تعالي بس جربي كده وأني أجولك فين الوچع وطيبيه أنتِ بمعرفتك.
قهقهت زهرة مؤكدة: برضو هتاخد الدوا.
دخل مهران متنحنحا وقد هل صوت عاصم الحفيد من خلف اسوار السراي مؤذنا لصلاة الفجر ليهتف مهران مبتسما: صباح الخير عليكم. إيه عاركة كل نهار بتاعت الدوا!
هزت زهرة رأسها إيجابا بينما قطب عاصم حاجبيه مؤكدا: موخدش أني أدوية ولا هم.

هتفت زهرة متعجبة: اللاه. مش كنت هتخده واتفقنا خلاص.
هتف عاصم: لااه متفجناش. عايز بيض بالسمن البلدي وجشطة بالعسل الأبيض ع الفطور.
قهقه مهران ولم يعقب على طلبات المساومة التي يفندها عاصم واندفع ليلحق بصلاة الفجر. بينما هتفت زهرة مدعية الضيق: إيه ده يا عاصم! ده فطور عريس ليلة صبحيته.
هتف عاصم مؤكدا في مجون: وأني كنت باكل كده وأني عريس!؟ كنك نسيتي.

قهقهت زهرة تاركة إياه تسير الهوينى مبتعدة نحو حجرتهما بالطابق الأرضي لتحضر له الدواء ولتعطي الأوامر للخدم لتجهيز الإفطار.
وضعت الأطباق على مائدة الإفطار في أخر جولة لها قادمة من المطبخ وتنهدت بعد أن ألقت نظرة استحسان على المائدة العامرة قبل أن تخطو لداخل الردهة تطرق الباب على خالها وزوجه هاتفة: الفطار جهز يا خالي. ياللاه يا أما نعمة. قوموا على بال ما أنادي على ناصر والعيال.

هتفت نعمة من الداخل: حاضر يا شوشو قايمين.
اندفعت شيماء باتجاه الدرج صاعدة لشقتها متجهة نحو حجرة ولدها نادر طارقة الباب في سرعة: ياللاه يا باشمهندس. كده هتتأخر على الجامعة.
لم يحر نادر جوابا إلا همهمة كسولة وصلتها من خلف الباب لتندفع لحجرة ابنتها دافعة الباب لتدخل هاتفة بها: ياللاه يا نعمة. قومي أعملي لك همة. عندك جامعة ولا إيه النهاردة!؟

هتفت نعمة مؤكدة في تكاسل: أه يا ماما. كمان ساعتين. بس كنتي سبتيني أنام شوية.
هتفت شوشو في حنق: تنامي! بدل ما تقومي تساعديني في حطة الفطار!؟ عوض عليا عوض الصابرين يا رب.
واستطردت وهي تندفع خارج الغرفة في اتجاه غرفتها: ياللاه بلاش دلع. انزلي حطي براد الشاي عند ستك تحت. عقبال ما أصحي أبوكِ.

ما أن همت شيماء بدخول حجرتها حتى طالعها محيا نادر ولدها خارج من حجرته في اتجاه الحمام يتثاءب ملقيا التحية: صباح الخير على أجدع شوشو.
هتفت شوشو في محبة: صباح الخير يا حبيبي. ياللاه أسرع ع الحمام عشان أبوك هيصحى وهتعملوا عليه خناقة كل يوم.
ابتسم نادر مؤكدا: حاضر فوريرة.
هتفت شوشو: أهو أنا مبقلقش إلا من فوريرة دي. فيها خمس أشهر في الحمام.

قهقه نادر: لا والله هنجز عشان عندي أول محاضرة النهاردة. متعطلنيش بقى يا شوشو. وروحي صحي أبو النصر.
وقال كلمته الأخيرة في نبرة رفيعة مقلدا إياها، ما دفعها لتجذب إحدى المناشف من المشجب المخصص لها على الحائط المقابل، ملقية إياها عليه ليتلقفها مقهقها قبل أن يندفع لداخل الحمام. لتبتسم بدورها قبل أن تفتح باب حجرتها برفق متسلسلة نحو فراشها تنحني نحو ناصر هامسة بجوار مسامعه: ناصر. الفطار زمانه برد تحت.

يا بوالنصر. قوم بقى.
همهم ناصر متعلقا بكفها التي كانت تداعب خده في شقاوة، هامسا بصوته الأجش مازحا: أنتِ أد الحركة دي!؟
اتسعت ابتسامتها وهمست متحدية بنبرة مشاكسة: أه قدها ونص كمان.
هتف ناصر مؤكدا في مزاح: أنا بقى مش قدها والنعمة. عشان كده لازم أقوم حالااااا.
قهقهت شوشو هاتفة: أيوه كده. هو لازم تخافوا يعني. رجالة متجيش إلا بالعين الحمرا.

تطلع ناصر إليها واتسعت ابتسامته لكن ما أن سمع شدو قادم من الحمام حتى انقلبت سحنته هاتفا: هو المحروس ابنك لسه جوه فالحمام. والله لأص.
هتفت به شيماء: أهدى أهو خارج. عليه أول محاضرة ومش هيتأخر.
ما أن نطقت كلماتها حتى انفرج باب الحمام محدثا صريره المعتاد، منبئا أن نادر قد غادره، ما جعل شوشو تتنفس الصعداء لأن المعركة اليومية بين زوجها وولدها البكر قد وضعت أوزارها قبل أن تبدأ من الأساس.

اندفع ناصر في اتجاه الحمام يسعل بصوته المعتاد في تلك الساعة من الصباح، ما ذكرها أيام أن كانت تلك الحمقاء التي تكره سماع صوت سعاله من خارج باب حجرتها، قبل أن تدرك ذاك الحب الكبير الذي يكنه لها والذي ما زال متأججا بينهما حتى هذه اللحظة. ابتسمت للذكرى من جديد وهي تندفع للأسفل في انتظارهم من أجل إفطار جماعي لم ينقطع يوما.

أخذ يقلب بين محتويات خزانة الملابس لعله يجد بغيته، لكنه لم يفلح في ذلك ولم يهتد إليها، ما دفعه ليصرخ هاتفا بأخيه الذي يغط في نومه: أنت يا بني آدم. فين الچلابية الرمادي!؟ غورتها فين!؟
همهم يونس من بين سباته: تلاجيها في الغسيل. أني كنت لابسها إمبارح.
هتف راضي محتدا: اه. حلو جوي. وأني أتنيل ألبس إيه دلوجت!؟ الدولاب فاضي. ومفيش ولا چلبية مكوية.

فتح يونس إحدى عينيه هاتفا في مزاح: روح اتسحب على دولاب أبوك، واسحب لك واحدة ولا من شاف ولا من دري.
هتف راضي حانقا: إيووه. ولما يعرف. أنت أول واحد هتجوله راضي. ما حاكم أني عارفك. تموت فالأذية.
قهقه يونس مؤكدا: أكدب يعني وأخش النار عشان خاطرك!؟
هتف راضي حانقا: لاه يا مؤمن. أولع أني بچاز.

ودفع راضي بجسده داخل إحدى الجلاليب الموضوعة جانبا هاتفا في عجالة: آها أي حاچة وخلاص. هروح ألحج لي لجمتين من الفطور، جبل ما الچيش اللي بره يخلص عليه.
قهقه يونس مؤكدا: إبجى جابلني.
خرج راضي مندفعا نحو مائدة الطعام، وما أن هم بوضع كفه محاولا الحصول على أي كسرة خبز يتناولها، إلا ووجد إخوته الصغار قد قضوا على الأخضر واليابس، ليهتف في حنق: إيه ده! فين الأكل!؟

هتفت عائشة أمه في لامبالاة: بجالي ساعة بنادم عليكم وأجول الفطور. أخواتك كلوا عشان يلحجوا مدارسهم. أنت وأخوك عايزيني أدخل أحط لكم الأكل على سرايركم.
وتركته ومضت ترى ما عليها فعله. ليهمهم راضي في غيظ مندفعا في اتجاه غرفته من جديد ودخل على يونس ممتعضا لترتفع قهقهات الأخير مؤكدا: أني مش جلت لك. تعالى أجعد چار أخوك لحد ما نشوفوا لنا حد يعطف علينا ويعملنا لجمة فالبيت ده.

هتف راضي حانقا: ما البركة فيك. كان زماني لحجت لي لجمتين فول ولا بيضة حتى. منه له.
قهقه يونس من جديد هاتفا: خلاص. متزعلش كده. جوم نغلس ع البت دعاء. دي أكيد زمانها واجفة فالمطبخ تعمل لها طابونة عيش عشان تاخدها معاها الچامعة تشج بيها ريجها.
قهقه راضي مؤكدا: على جولك صح. تعالى. بس تفتكر هنطلعوا منها بأي مصلحة البت دي!؟ ما أنت عارفها، تعز الأكل زي عينيها.

نهض يونس مندفعا لخارج الغرفة وراضي يتبعه هاتفا: أهو نچرب.
تسلل كلاهما للمطبخ وتطلعا نحو أختهما دعاء وهي تتمايل بجسدها الممتلئ وكومة من الساندوتشات المعدة قبالتها وهي في سبيلها لصنع المزيد. تترنم بأغنية طفولية كانت قد حفظتها عن ظهر قلب من كثرة ما كانت ترافق إخوتها الصغار أمام قنواتهم على التلفاز.

سار نحوها راضي في تؤدة لتنفيذ الخطة التي اتفق عليها مع يونس هاتفا: صباح الخير يا دعاء. أنتِ نازلة الچامعة النهاردة!؟
أكدت متوجسة: إيوه. إيه الچديد يعني!؟ ما أني بنزل كل يوم.
كان راضي يحاول جذب انتباهها عن يونس الذي تسلل من خلفها وبدأ في سحب الأرغفة واحدا تلو الآخر.
ليهتف راضي الذي ما وجد ما يقوله فهتف في حماقة منهيا الحوار: طب ربنا معاكِ.

تنبهت في تلك اللحظة ويونس يجذب أخر الأرغفة لتصرخ هاتفة مستغيثة: يا مامااااا
انتفض يونس يخرس فمها قبل أن تظهر أمه موبخة. فقد كانت دعاء عندها فرخة بكشك كما يقول المثل الشعبي. وما كان لأحد أن يغضبها أو يدوس لها على طرف.
هاتفا في رجاء: خلاص يا دعاء. إلا أمك.
استكانت، فأزاح يونس كفه عن فمها. وربت راضي على صدره مستعطفا لتنفجر ضاحكة مؤكدة: خلاص صعبتوا عليا.

وتطلعت نحوهما مستطردة: وعلى فكرة أنا عاملة حسابكم معايا فالأكل.
هتف راضي في امتنان: والنعمة أنت أچدع دعاء فالدنيا.
وبدأ في التهام أحد الأرغفة في جوع، ليقلده يونس مؤكدا وهو يبتلع قضمة بدوره: تسلم إيدك يا بت يا دعاء. الساندويتشات تجولي حاطة فيهم سكر.
انتفخت أوداج دعاء في فخر مؤكدة: أوماااال. لا هو أنا هاكل أي حاچة وخلاص. عمايل أيديا وحياة عنايا.

كانت تصنع الشطائر في احترافية كبيرة فعلا. كانت تحب الطعام وطرق إعداده. وذاك ما أورثها هذا الجسد الممتلئ الذي كان مأساتها منذ صغرها. لكنها ما كانت تقيم للأمر وزنا.

انساب ذاك اللحن الفرنسي الشجي عبر الغرفة في عذوبة وأخذت سجود تكرر مع مغنيته كلماتها التي تصف لوعة العشق وناره. كانت تتطلع عبر النافذة لذاك الصباح الوليد وهي تجول بناظرها للأفق الذي تحتل صفحته أحلام يقظتها التي لا تفارق مخيلتها، تراها متمثلة في ذاك الفارس الذي يختطفها على صهوة جواده، ليرحل بها لعالم أبدي غارق في العشق.

تنهدت وهي تتخيل هذا الفارس القادم من هذا الأفق البعيد. متمثلا في صورة سمير بن سهام عمتها. فارس وسيم، فارع الطول، خفيف الظل كما حلمت دوما.
رفعت عقيرتها بالغناء من جديد، لتصرخ نوارة أختها ورفيقتها بالغرفة في غيظ، وهي تضع إحدى الوسائد على رأسها في حنق: حرام عليكِ يا بعيدة. إجفلي المخروب ده، وإخرسي اللي جاعدة تنوح دي، عايزة أنااام.

هتفت سجود في اعتراض: مين دي اللي بتنوح!؟ دي من أچمل الأغاني الفرنسية في التاريخ يا چاهلة.
رفعت نوارة الوسادة عن رأسها، ملقية إياها في اتجاه سجود، هاتفة في حنق: سبنالك أنتِ العلم يا أستاذة. روحي بجى وسبيني أنام.
هتفت سجود متسائلة: كلهم تحت. مش هاتنزلي تفطري معانا.
أكدت نوارة وهي تجذب الغطاء على جسدها في عزم: لاااا. لو حد سألك عليا جوليلهم نايمة. أنا سهرانة طول الليل بذاكر.

هتفت سجود تشاكسها: حاااضر. من عنايا. بتذاكر جال. جولي جاعدة تشرحي فالخلج. يا چزارة.
اندفعت سجود هاربة من الغرفة قبل أن تطالها إحدى وسائد أختها الطائرة. والتي دفنت نفسها بين الأغطية من جديد فقد كان عليها الإجتهاد بالأشهرالأخيرة حتى تنهي فترة الإمتياز لتخرج لحياتها العملية أخيرا. فها قد أوشكت رحلة الدراسة على الانتهاء. وهي لها.

علق سترة بدلته الميري على ظهر كرسي المائدة الذي دفعه ليجلس على رأسها قبل أن تضع تسبيح أحد الأطباق أمامه لتجلس جواره هاتفة وهي تبدأ في صب كوب من الشاي لأجله: ها يا حازم. على فين العزم المرة دي!؟
ابتسم وهو يلقي إحدى اللقيمات بجوفه هاتفا في لامبالاة: والله ما عارف يا تسبيح. أهو على حزب الريح ما تودي. بس يا رب مكان ميبقاش بعيد. لحسن العضمة كبرت.

ابتسمت بديلوماسية وهتفت بقلق: يا حازم بدور في نهائي هندسة. السنة دي محتاجة تركيز. مكنتش عايزة اشحططها. خليها تخلص على خير.
هتف متعجبا: طب وهو ده بأيدي يا تسبيح!؟ اللي ربنا رايده يكون. واهو الحمد لله السنة لسه فأولها. يعني لو ربنا أراد ورحت مكان كويس، هتنقل كلية كويسة. أهو قعدت سنوات الكلية كلها في جامعة المنصورة. خليها تتخرج بقى من جامعة تانية. وأهي خبرة.

تنهدت تسبيح هاتفة: أنا مش عارفة هجبهالها إزاي!؟ بص. أنت اللي هتقول لها.
قهقه حازم هاتفا وهو يمد كفه ليتناول كوب الشاي مرتشفا بعضه: بقى تسليح بجلالة قدرها بتخاف م البت بدور دي!؟ ياعيني ع الشديد لما تبهدله الأيام.
ابتسمت تسبيح مؤكدة: دي چباااارة. والله ما عارفة دي طالعة لمين!؟
تطلع إليها حازم في نظرة يملؤها الشك والتعجب، لتنفجر ضاحكة على تعبيرات وجهه هاتفة في مرح: خلاص. عرفت. يا ساتر.

هتف حازم مازحا: أحب التصالح مع النفس.
همت تسبيح بالرد عليه، إلا أن هاتفه ارتفع رنينه، ما دفعه لينتفض مجيبا، مترقبا أخبار التنقلات. كانت تسبيح بدورها تكتم أنفاسها توترا وهو يرد على محدثه بالطرف الآخر، وما أن أنهى مكالمته وهو يرد على مباركات الطرف الأخر، حتى انتفضت هاتفة في لهفة: هااا. على فين!؟
تنهد حازم في راحة هاتفا في سعادة: مديرية أمن القاهرة بإذن الله.

هللت تسبيح في راحة: الحمد لله. ربنا يجعلها خير عليك وعلينا يا رب.
ربت حازم على كتفها ممتنا، وانحنى يقبل جبينها قبل أن يتناول سترته لارتدائها، مندفعا للخارج حتى يجهز نفسه لتنفيذ النقل، تاركا تسبيح تعد العدة للانتقال إلى القاهرة.
وقفت أمام مرآتها تعدل من هندامها وتضع أخر اللمسات على غطاء رأسها قبل أن تجيب نداء أمها للإفطار.

تطلعت بنظرة أخيرة لتلك البدلة العملية التي ترتدي ساترة ذاك الجسد الممشوق المفعم بالثقة وانعكست نظراتها على زجاج المرآة لترى تلك المرأة التي حلمت أن تكون يوما. امرأة قادرة. واثقة. لا تهزها الخطوب. امرأة عملية. تقيم الأمور بمقياس المكسب والخسارة كما تعلمت في تخصص إدارة الأعمال الذي بدأت في تحضير أوراق دراستها العليا به.

تلك النظرة الجوفاء الباردة التي تحير من يتلقاها، والقادرة تماما على إخفاء كل ما تحمله من مشاعر داخلية، تعلمت في السنوات الماضية كيفية اخفاءها بمهارة كبيرة واحترافية عالية.

ابتسمت لصورتها في المرأة ابتسامة رضا، واندفعت لخارج الغرفة في اتجاه الدرج الذي ما أن همت بنزوله حتى تذكرت أنها لم تمر على حجرة جدها لتلق التحية كما اعتادت. فعادت أدراجها لتقف أمام باب الحجرة طارقة الباب برفق، دافعة إياه تطل منه برأسها لتتأكد أنه مستيقظا في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح.
وجدته جالسا على كرسيه الذي لا يبرحه بالشرفة. يتطلع للبحر من موضعه مركزا على نقطة بعيدة غارقا في تيهه.

انحنت تقبل جبينه هاتفة في رقة: صباح الخير يا جدو.
تنبه زكريا متطلعا إليها في شرود للحظة، قبل أن يبتسم مجيبا: صباح الفل يا فريدة يا حبيبتي. أنتِ رايحة الكلية!؟
ابتسمت نافية: لا يا جدو. أنا رايحة مع بابا الشركة. أنا اتخرجت السنة اللي فاتت يا زكريا بيه. وبدرب مع بابا من ٣ سنين.
ابتسم زكريا، رابتا على كفها المضمومة بحجرها في وداعة: ربنا يبارك فيكِ يا بتي.

نهضت فريدة مقبلة جبين جدها من جديد، تاركة الغرفة لتلتحق بأمها وأبيها على مائدة الإفطار.
ألقت التحية في هدوء، وجلست تعلم هدير أمها: جدي زكريا صحي يا ماما.
هتفت هدير مؤكدة: صحي بدري عن معاده، هاخد له الفطار.
هتف حمزة وهو يرتشف الجرعة الأخيرة من قهوته الصباحية: أنا طالع معاكِ أصبح عليه.

ووجه كلامه لفريدة مؤكدا: شدي حيلك يا فريدة. أنزل من عند چدك تكوني فطرتي. عندنا اچتماع مهم النهاردة مش عايزين نتأخر عليه.

هزت فريدة رأسها إيجابا دون أن تنبس بحرف واحد. كانت تأكل بلا شهية من الأساس. فكل ما كان يشغلها اللحظة هو ذاك اللقاء المرتقب. والذي لم تعد له العدة كما يجب. تطلعت أمامها في تيه. وشردت في الماضي البعيد الذي يحمل لها ذكري غيرتها كليا. جعلت منها امرأة أخرى غير تلك الساذجة التي كانت عليها يوما ما. ذكري ستظل كالندبة على جدار القلب لا تمح. وحمدت الله أنها ستظل دوما هناك. لتذكرها أن شؤون القلب ضعف. وأن الحب وتباريح الغرام ترهات مُختلقة لا تليق بذي عقل.

تنبهت منتزعة من خيالاتها عندما هتف بها حمزة أمرا: ياللاه بينا.
نهضت تحمل حقيبتها تتبعه في خطوات رسمية ثابتة لامرأة تعرف أين يكون موضع خطوة قدمها القادمة.
أطلق ماهر وولده مؤمن التحية عند دخولهما الدار ليتنبه أهله. ابتسمت هداية وهي قادمة من المطبخ تحمل بعض أطباق الإفطار هاتفة في ترحاب: وعليكم السلام يا مشايخ. إيه اتأخرتوا النهاردة!؟ مش بعادة.

هتف ماهر متنهدا وهو يجلس لأحد مقاعد الدار: أبدا يا ستي. الشيخ مؤمن صمم نجعد نجروا قرآن لحد الشروج. هجول لاه. رحت جاعد.
ابتسمت هداية في فخر لولدها هاتفة: يا رب دايما من حملة كتاب الله. عجبال اللي فبالي.
لم تنه كلماتها حتى هل عبدالله من داخل إحدى الحجرات متثائبا، وتوجه مباشرة نحو المائدة وبدأ في تناول الطعام بشهية كبيرة.

لتستطرد هداية في حنق: أهاااا. چبنا فسيرة الجط چه ينط. وشوف جايم ع الأكل طوالي، تجولوا كان صايم بجاله عشر سنين.
قهقه مؤمن على مظهر عبدالله أخيه الأصغر هاتفا: يا عم حتى قول سلام عليكم.
هتف عبدالله وفمه يملأه الطعام: وعليكم السلام يا شيخ. تعالى كل لك لجمة.
هتف ماهر ساخرا: ده بيعزم علينا ما شاء الله. ده أنت تتحسد والله.
هتفت هداية ساخرة بدورها: على جولك يا حاچ. ده إلا الأكل. عشجه ومذهبه.

تطلع إليهم عبدالله في لامبالاة، فقد اعتاد هذا الحديث كل صباح، معاودا التهام الطعام وكأن هذا الحديث لا يعنيه من أساسه، بل أنه أشار لمؤمن هاتفا في
رجاء: وحياة أبوك يا شبح مؤمن ناولني طبج الفول اللي جدامك ده.
اتسعت ابتسامة مؤمن وهو يناوله الطبق وهتف متعجبا: أنا بس عندي سؤال واحد محيرني. أنت بتودي الأكل ده كله فين!؟

هتف ماهر وهو يأخذ موضعه على المائدة: أه والله. ده يحمد ربنا إنه بالاكل ده كله وشكله زي اللي جاي من مچاعة على هنا عدل.
ارتفعت ضحكات هداية مؤكدة: الواد ده فبطنه دود بياكل أكله.
أكد ماهر ضاحكا: جولي كام حنش كده. جال دود جال.
قهقه عبدالله نفسه على كلمات أبيه، بينما هتفت هداية تستدعي ابنتها التي غابت بالداخل ولم تحضر باقي الأطباق: يا بت يا سمية! فين بقية الفطار. هي نامت چوه ولا إيه!؟

همت بالنهوض لترى ما الذي أخر ابنتها هاتفة في حنق: واحد مش ملاحجين عليه أكل. والتانية مش ملاحجين عليها سرحان وتوهه. الرحمة من عندك يا رب.
لكن سمية طلت تحمل الصحون الناقصة تمشي على مهل في رقة هاتفة: أنا چاية أهو. الفول برد جلت أسخنه.

وضعت الأطباق على المائدة وجلست بجوار أمها تتطلع لمؤمن تود لو أنها سألته عما يدور بخلدها اللحظة. تظاهرت بتناول الطعام وهي تحاول صياغة سؤالها والذي اخيرا هتفت به في تردد: مسمعتش صوتك فالآذان ليه يا مؤمن!؟
هتف مؤمن في نفس اللحظة التي طالبها فيها أبوها بكوب الماء المجاور لطبقها. مدت كفها به لكنه اضطرب قليلا حتى كادت تسقطه ما أن فسر: أبدا. سبجني عاصم للثواب. هو اللي أدن الفچر النهاردة.

كان ذكر عاصم يثير فيها مشاعر شتى جعلتها تتقوقع على نفسها دون أن تنبس بحرف. مجرد ذكر اسمه يجعل الاضطراب يشملها كليا.
هتفت هداية مؤكدة في انشراح: عاصم واد مهران الهواري. والله شاب زي الفل. ميتخيرش عنك يا مؤمن. ربنا يحميه.
غاصت سمية في كرسيها أكثر وأكثر عند ذكر عاصم من جديد. مستشعرة أن سيرته العطرة تلك تدثر قلبها بدثار من طمأنينة و راحة. حتى أنها ما عادت لها الرغبة في شيء أخر إلا ذكره الذي يطرب قلبها.

نهض عبدالله في تثاقل متنهدا في راحة، رابتا على معدته في سعادة، وقد أتم مهمة تعبئتها بنجاح، هاتفا في أريحية: سلام عليكم. أروح أنام لي شوية.
هتفت هداية في غيظ: يا واد ما أنت لساتك جايم م النوم. هتنام تاني!؟
أكد عبدالله وهو يتثاءب وعلى شفتيه ابتسامة ساذجة: أه. لسه مشبعتش نوم. أنا جمت أشبع أكل. وراچع أكمل نومي. تصبحوا على خير.

هتف هداية في حنق شاكية لماهر: شايف عمايل ولدك. والله ده ما مكانه هنا. ده ينحط بچنينة الحيوانات. فجفص الدب. أخره ينام ويجوم ياكل. ويرچع ينام.
قهقهه مؤمن مؤكدا: مضايجيش نفسك. ربنا يهديه.

كان عبدالله قد وصل لعتبة باب حجرته، فاستدار نحوهم وبدأ في تقليد الدب ضاربا على صدره بكلتا يديه. قبل أن يدخل الحجرة من أجل استكمال بياته الشتوي، تاركا الجميع غارقا في الضحك على أفعاله الصبيانية، رغم أنه تخطى الرابعة والعشرين من عمره.
هتفت صارخة باسمه كأن هناك مصيبة قد وقعت، ما دفعه ليهرول نحوها في سرعة متسائلا: إيه في يا ستي!؟ أنتِ بخير!؟
هتفت سهام جدته مؤكدة: أحسن منك.

تنهد سمير في راحة معاتبا: طب وليه الصريخ ده يا ستي!؟ جطعت الخلف. يرضيكِ متشوفيش واد واد ولدك.
هتفت به سهام في لامبالاة: يعني هشوف ليلة الجدر ياخوي. معلوم عيل مخبل كيف أبوه.

قهقهت سهام الصغرى التي كانت تجلس على مقربة مستمتعة بجدال سمير المعتاد مع جدتها. ما دفع سمير ليلق عليها بإحدى الوسائد في غيظ. لترتفع قهقهاتها وجدتها تهتف به أمرة وهي تسلمه جهاز التحكم عن بعد الخاص بالتلفاز: خد. چيبلي المسلسل التركي اللي أني متبعاه.
ضرب سمير على جبهته في نفاذ صبر هاتفا في لهجة حاول أن يضبط نبرتها: يا ستي أنتِ متابعة لحد دلوجت ياچي ٣٧٠ مسلسل تركي. أعرف منين أنا جصدك على مين فيهم!؟

هتفت سهام في ضيق: يا واد يا بوعجل تخين. المسلسل بتاع البت اللي كانت بتمثل ع الواد إنها بتحبه.
أكد سمير متنهدا: ده خلص من ياچي شهرين يا ستي. بالأمارة يوم ما أترفع عليكِ الضغط لما جعدتي تعيطي ففرحهم.
انفجرت سهام الصغيرة مقهقهة من جديد مؤكدة: حصل يا ستي وأنا شاهدة.
أكدت سهام وهي تنظر إلى حفيدتها المفضلة مؤكدة وهي تعاود النظر لسمير: ما دام سهام جالت يبجى صادجة. شكله خلص بچد.

هتف سمير مغتاظا: يعني أني اللي بكدب عليكِ يا ستي. طب والنعمة ما أنا چايب حاچة. أهاااا.
وترك جهاز التحكم من يده ما دفع سهام لتصرخ هاتفة: تعالي يا سندس. تعالي يا بت أخوي شوفي ولدك جليل الرباية بيعمل إيه في سته أم أبوه. والله لما ياچي باسل لأخليه يعلجك من ودانك فالسجرة يا جليل الرباية. أدبك عليٌ.

قهقهت سهام الصغيرة من جديد على ذاك الفصل المسرحي المتكرر مؤكدة من بين قهقهاتها: مفيش شجرة هتاچي على مجاسه يا ستي. هو أطول من شجر الجنينة كله.
هتفت سهام وقد نسيت غضبها في لحظة تفتح كفها كاملا في وجه حفيدتها: جولي ما شاء الله. ربنا يحميه ويبارك فيه واد ولدي. تعالى يا واد الغالي أجعد چاري. اتوحشتك.

تطلع سمير في شك لأخته التي كانت تكتم ضحكاتها، ليذهب للجلوس جوار جدته متوجسا، والتي ما أن استقر جوارها حتى تنبهت لما كان منه منذ لحظات، فرفعت كفها ضاربة مؤخرة رأسه في غيظ هاتفة: ياللاه هات المسلسل اللي أني متبعاه. انچز. عايزة ألحج الحلجة من أولها. تلاجي الواد عرف أن الولية اللي ربته مش أمه يا عين أمه.
هتف سمير محتجا: يعني الواد صعبان عليك يا ستي، وانا مش صعبان عليكِ من اللي بيحصل فيا ده!؟

هتفت سهام الصغرى من بين قهقهاتها متسائلة: أنا نفسي أفهم إيه اللي بيعچبك ف المسلسلات التركي دي يا ستي!؟
أكدت سهام متنهدة: بيفكروني بچدك حسام الله يرحمه.
هتف سمير ساخطا: چدي حسام كان شبه الأتراك! أوماااال إيه الخلجة العفشة اللي ورثتها دي!؟
ارتفعت ضحكات سهام بينما ضربته جدتهما على مؤخرة رأسه من جديد هاتفة: دي مش وراثة يا واد. العفاشة دي اچتهاد شخصي.
قهقهت سهام الصغرى مؤكدة: قصف چبهة محصلش يا ستي.

استطردت سهام مؤكدة في حنين: چدك الله يرحمه كان حنين وحبيب كده كيفهم.
وتنهدت مستطردة في حسرة: واااه لو يرچع الشباب والعمر من تاني!
هتف سمير متسائلا في نبرة ماجنة: يرچع ليه بجى يا ستي. هااا. ليه!؟
هتفت سهام في حنق: عشان أعلمك الأدب من أول وچديد. جوم من چاري.
هتف سمير ساخرا: طب والأتراك اللي مستنظرينك يا ستي.
أكدت سهام: لاااه. خلاص. سديت نفسي يا بَعيد. أني جايمة أسمع الست.

هتف سمير مازحا: إيوه بجى يا سوسو. وتفتكري الذي مضى.
تطلعت إليه سهام مؤكدة: مش بجولك ناجص رباية.
لتنفجر سهام الصغرى في الضحك من جديد، وجدتها سهام تلقى بجهاز التحكم عن بعد في اتجاه سمير، الذي ولى هاربا من أمامها.
كان متوجها صوب باب الشقة مغادرا للجامعة إلا أن نعمة استوقفته راجية في نبرة مستعطفة: استناني عشان خاطري يا نادر، خدني في طريقك.

هتف نادر متعجبا: هو انتِ مش بتروحي كل مرة مع حُسن! عايزاني ليه أروح معاك النهاردة بالذات!؟

كانت نعمة تتعرض لمضايقات من بعض شباب الحارة العاطلين والمتسكعين على الأرصفة بلا شاغل إلا مضايقة الفتيات وإزعاج خلق الله. لكنها لم تشأ أن تخبره الحقيقة خوفا عليه منهم، وحتى لا يتهور كعادته ويتوعدهم. لذا أثرت الصمت والخروج معه حتى يكون وجوده رادعا لهم عن ايذائها وخاصة أنها لا تعلم إن كانت حُسن ستصحبها اليوم أم لا. والتي كانت كعادتها لا تدخر وسعا في تلقينهم ما يستحقون. لكن الأفضل وجود نادر، حماية لها ولحُسن نفسها.

هتفت نعمة متعللة: لا مفيش. بس أهو ونس معاك. وبعدين أنا لسه هشوف إذا كانت خُسن هتروح ولا لأ.
هز نادر رأسه موافقا ليهبطا الدرج سويا. سارا حتى وصلا لنافذة بيت حُسن. دقت عليها نعمة هاتفة: حُسن. يا خسن. هتروحي الجامعة النهاردة!؟
وضعت حُسن غطاء رأسها ودفعت بخصاص النافذة مطلة منها نافية: لا يا نعمة. مش هروح النهاردة. أبويا تعبان.

أرتفع سعال أبيها من الداخل مؤكدة: منمش طول الليل. هقعد جنبه والبركة فيكِ. أبقى أنقل المحاضرات منك لما ترجعي.
هتفت نعمة في عجالة: طيب تمام. هسيبك عشان نادر بيستعجلني.

هزت حُسن رأسها متفهمة، وهي مدركة أنه كان هناك بالفعل. على بعد خطوات بسيطة من موضع وقوف نعمة. وكيف لا تعي أين يمكنه أن يكون. وهو قِبلة القلب التي يتوجه إليها كل صباح. هل يتوه قلبها عن قِبلته التي أهتدى إليها نبضه منذ أدركت أن لها خافقا يترنم باسمه!؟
تنهدت وهي تلقي بناظرها نحوه وهو يسير جوار نعمة. ولم يفتها سماع عبارته الساخرة التي ألقاها لتوه تعقيبا على غيابها، غير مدرك أنها وصلت اسماعها.

الحمد لله. هيتعتق الرجالة من تحت ايدين خسن النهاردة .
ابتسمت في وجع مغلقة خصاص النافذة بعد أن ابتعدا عن مجال رؤيتها. ليعاجلها أبوها سالم هاتفا من بين نوبات سعاله ما أن دخلت حجرته تطمئن عليه: مروحتيش الجامعة ليه مع نعمة يا بنتي!
هتفت حُسن وهي تندفع إليه لتساعده على الاعتدال في جلسته، تضبط الوسادة خلف ظهره مؤكدة: مكنش فيه حاجة مهمة تستاهل أروح وأسيبك يا بو حُسن. أرتاح أنت وكله ها يبقى تمام.

تنهد في راحة، بعد أن انقطع السعال لبرهة وهو يتطلع لابنته الوحيدة، التي تمتلك جمالا مغمورا خلف ذاك المظهر الرجولي الذي تتخذه، والذي كان يدرك تماما، أنه من عزز ذاك الشعور بكرهها لأنوثتها داخلها منذ نعومة أظافرها.
تركته لخواطره لتحضر له الافطار. والذي لا يعلم من أين أتت بمال لشرائه، فقد أضحى جيبه خاليا بعد أن أغلق ورشته لفترة بسبب مرضه. ما دفع نوبة السعال لتعاوده من جديد.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة