قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني

انتفض يونس موضعه يخبئ شيء ما بسرعة ما أن انفرج الباب فجأة. لكنه تنفس الصعداء ما أن أدرك أن القادم لم يكن إلا راضي. هتف به في حنق: داخل زي الجطر كده. مش بالراحة.
هتف به راضي متطلعا لما يحمل يونس بين يديه في قدسية شديدة متسائلا: هو أنت لسه يا يونس الموضوع ده فدماغك!؟
أكد يونس بهزة من رأسه هاتفا: وهو من ميتا خرج من دماغي يا راضي!؟ ده أني بحلم باليوم اللي هروح اتجدم لها فيه.

هتف راضي متوجسا: بس. يعني. أنت مالي يدك م الموضوع ده!؟ أصلك مفيش حاچة تخليك متأكد أنها ممكن تجبل بِك لو اتجدمت لها. واللي فيدك ده كان شغل عيال.
ضم يونس تلك الطاقية الصوفية المتعددة الألوان. والتي لم تكن محاكة بحرفية من الأساس مؤكدا: جلبي حاسس انها هتكون عايزاني زي ما أنا عايزها يا راضي.

تنهد راضي في محاولة لبث روح التعقل خوفا على غرق يونس في وهم بلا طائل: يونس. أنا بجول تفكر فالموضوع ده من تاني. اللي فيدك دي طاجية كانت شغلاها وهي عيلة صغيرة. كانت لسه بتتعلم فيها و هديتهالك. تلاجيها هي نفسها مش فكراها.
هتف يونس في عزم: حتى لو هي مش فكراها. أنا هفكرها. هعرفها إني كنت بعد الأيام والليالي عشان تبجى من نصيبي. سهام هاتبجى من نصيبي يا راضي ومش هتنازل عنها أبدا.

اضطرب راضي قليلا للهجة يونس القاطعة رابتا على كتفه متعاطفا وهتف في محاولة لمساندة أخيه: وماله يا يونس. هي هتلجى أحسن منِك فين يعني!؟ ربنا يچعل لك فيها نصيب.
أمّن يونس بقلب وجل خلف دعاء راضي الأخير وهو ما يزال محتضنا تذكارها الذي احتفظ به جوار قلبه لسنوات طوال.

كانت تندفع في عجالة على غير عادتها لتلحق بمحاضرتها التي كانت على وشك البدء. فهي لم تكن تحب أن يعتقد أحد أنها لا تنضبط في الحضور استنادا على مركزيً أمها وأبيها كأساتذة بالجامعة التي تدرس بها. كانت تغادر لتوها حجرة مكتب أبيها الدكتور ماجد الهواري لتصطدم به وهو قادم من الإتجاه المعاكس قاصدا مكتب أبيها. شهقت في صدمة وتراجع هو في إحراج.

تنحنح معتذرا هاتفا في نبرة هادئة وهو يعدل ذاك المنظار الطبي الأنيق دافعا به لأعلى أنفه في اضطراب: أنا آسف. أصل أنا مستعجل وأتأخرت على محاضرتي.
وجدت صوتها الغائب أخيرا لتقول في نبرة خجلة مرتعشة: حصل خير. أنا كمان كنت مستعجلة. عن إذنك.

استأذنته وتوجهت للمدرج على أمل أن يكون المحاضر قد تأخر بدوره. إنها المرة الأولي التي ستراه فيها. فقد جاء بديلا عن أستاذها المفضل. وصديق ماجد. الذي جاءته فرصه للعمل بإحدى الدول. فأعتذر عن تدريس المادة لهذا العام.
تنفست الصعداء عندما وصلت للمدرج ولم يكن من أحد هناك إلا الطلبة في انتظار أستاذهم الجديد.

جلست جوار صديقاتها المقربات. لحظات بعد دخولها حتى هل لداخل القاعة ليصمت ذاك الصخب الدائر ويحل الصمت بديلا.
وقف موضع أستاذ المادة هاتفا في ثبات وهو يعبث بمنظاره الطبي من جديد: السلام عليكم. أعرفكم بنفسي. أنا الدكتور محمد عزام. اللي هدرس لكم مادة الشعر الحديث السنة دي بإذن الله. واتمنى انها تكون سنة موفقة.

هم بالاستدارة ليكتب بعض الجمل فوقعت عيناه على موضعها حيث تجلس. برهة مرت حتى أدرك أنها نفس الفتاة التي اصطدم بها منذ قليل أمام مكتب الدكتور ماجد الهواري. اشاح بناظره مسقطا جل اهتمامه على ما يقوم به. بينما غاصت هي في مقعدها تستشعر اضطرابا عجيبا شملها كليا. تحاول التركيز على ما يقوم به صاحب النظرة الخاطفة. التي أربكت دواخلها بغتة.

كانت تقف بشرفة حجرتها عندما أبصرته قادما نحو البوابة الرئيسية للسراي. فأسرعت تضع إسدال الصلاة مندفعة لأسفل الدرج في هرولة مدعية أنها في طريقها للقراءة بالحديقة. التقطت أنفاسها تحاول أن توقف تسارع نبضات قلبها وهي تدرك أنها ستراه اللحظة.
خرجت من باب السراي الداخلي في اتجاه الحديقة الخلفية لتجده يقف مع ياسين ابن عمها ماجد يشاكسه كالعادة.

سارت مدعية انشغالها بكتابها مارة بهما ليهتف سمير باسمها في أريحية: سچود.
تنبهت ورفعت رأسها من بين طيات كتابها بينما سار سمير صوب موضعها هاتفا في مرح ملقيا تحية الصباح بالفرنسية: بنچور عليكِ يا بت خالي.
اتسعت ابتسامة سجود مجيبة: صباح الخير يا سمير. أخبارك.
أكد في فرنسية متعثرة: أنا بخير شكرًا.
واستطرد مازحا: ومتسألنيش أي حاچة أكتر من كده. لأن دول أخر كلمتين فرِنساوي أني حافظهم.

قهقت ولم تعقب ليستفسر مشيرا للداخل: بجولك. هو عاصم چوه. أصلك رنيت عليه موبايله مش متاح.
أكدت في هدوء: أه چوه. بس نايم. يمكن عشان كده جافل موبيله. أروح أصحيهولك!؟
أكد سمير: لاااه. ملوش لازمة. أنا رايح أسلم على چدي عاصم. لحسن يعرف إني چيت ومعدتش عليه. والله يسلط عليا ستي سهام. وهي أصلا مش محتاچة وصاية.

ورفع كفه يتحسس موضع ضربات جدته سهام بمؤخرة رأسه والتي تكيلها له ما أن يصبح جوارها ويبدأ في مشاكستها. فانفجرت سجود مقهقهة من جديد.
اندفع سمير لداخل السراي حيث يعلم أين يجد جده عاصم ولكن قبل أن يتركها هتف متسائلا في جدية غير معتادة: بجولك يا سچود. هو إزاي تجولي بالفرنساوي. چيت ولجيتك نايم. افتح موبايلك يا بارد.

أمسكت ضحكاتها واجابته في فرنسية جيدة لحد كبير. انطلق بها لسانها ووجه سمير يمتعض بشكل مرح على ما تقول ليهتف بها ما أن انتهت: يا ريتني ما سألت.
علت ضحكاتها ليستطرد مؤكدا: الرسالة شديدة اللهچة دي. واللي مفهمتش منها ولا كلمة، توصل لأخوك النعسان فوج ده. حرف حرف. ياللاه. أجولك العواف. جصدي. أوريفوار.

ما أن دخل إلى السراي حتى انفجرت ضاحكة على كلماته وأفعاله، وما عاد من حاجة لبقائها بالحديقة، فقد نفذت غرضها بمقابلته، وعليها الصعود لحجرتها قبل أن يمسك بها أحدهم متلبسة بضحكاتها، التي تركها مرسومة على شفتيها كما هي عادته دوما.
هتفت تسنيم في نفاذ صبر: يا بنتي متتعبيش جلبي. ايه لزمتها دوشة الدماغ دي!؟
هتفت نوارة بالمقابل: لزمتها مستجبلي يا ماما.

هتفت تسنيم بضيق: - هو مستجبلك ميبجاش إلا بالتنطيط يمين وشمال.
هتفت نوارة مؤكدة: فين التنطيط ده بس!؟ چواب التكليف چه على بلد چنبنا. يعني خطوتين. إيه فيها دي!؟
هتفت تسنيم معترضة: فيها روحة وچاية كل يوم ع الطريج. ما تجعدي هنا معايا تساعديني وخلاص. ولا هو لازما أي حتة بعيدة والسلام. ما هو الشيخ البعيد سره باتع زي ما بيجولوا.

همت نوارة بالرد إلا ا أن مهران أبيها دخل متعجبا: إيه في!؟ صوتكم چايب أخر السرايا.
هتفت نوارة تتعلق بذراع مهران هاتفة بلهجة مرحة محاولة استمالته كالعادة: يرضيك يا شيخ مهران بنتك تتقاعس عن أداء الواجب!؟
أكد مهران مبتسما: لاه طبعا ما يرضنيش. وعچبتني تتقاعس دي.
هتفت تسنيم متجاهلة مزاحهما: وهو الواچب لازما يكون بره نچع الصالح!؟ ماله الواچب اللي چوه!؟

تنهدت نوارة هاتفة: يا بابا چالي چواب التكليف على نچع جريب. إيه فيها دي!؟ ما أنا بقالي سبع سنين رايحة چاية ع الطريج أيّام الكلية. إيه الچديد!؟
أكدت تسنيم بحنق: أيّام الكلية مكنش ليها بديل. لكن دي إيه عازتها. وليه التعيين من أساسه أنتِ محتاچاه ف ايه!؟، ما كفاية عليكى تشتغلي هنا او حتى تفتحي عيادة ف سوهاچ ولا جِنا.
تطلعت نوارة إلى أبيها تستعطفه ليهتف مهران متسائلا: هو فين النچع ده!؟

هتفت نوارة تشجعه: ده جريب يا بابا. هروح بالعربية الصبح وأرچع بالعربية أخر النهار. أنا اتخصصت أمراض نسا وماما أصلا تخصصها جلدية يعنى لو قعدت هنا مش هستفاد. لكن هناك معمول وحدة كاملة لأمراض النسا والدكتورة هناك ممتازة وهتعلم على أيديها وبعد ما فترة التكليف تنتهي هرچع هنا وأمارس.
تنهد مهران رابتا على كتف ابنته: طب خلاص. على بركة الله. تروحي وترجعي بالعربية مع عبدالباسط السواج. وربنا يحميكِ.

هتفت تسنيم في غيظ: يعني أطلع منيها أنا زي كل مرة. خليك دلعهم كده.
واندفعت تهم بالرحيل إلا أن مهران أمسك بكفها يستوقفها هامسا في محبة: يعني مدلعتيش جبل سابج!؟ شكل الدلع وحشك ولا إيه!؟
همست تسنيم تحاول مداراة الابتسامة التي تكاد تقفز على شفتيها، هامسة مدعية الحنق: سيب يدي البت مركزة معانا.

هتف مهران بابنته التي كانت توليهما جل اهتمامها وتركيزها محاولة استنباط فحوى حديثهما: أنتِ لسه واجفة بتعملي إيه!؟ مش جلنا خلاص هتروحي. ياللاه چهزي حالك.
قهقهت نوارة مشاكسة: ما هنا حالي يا شيخ مهران. انتوا ف أوضتي على فكرة. اللي واخد عجلك.
وتطلعت لأمها مستطردة في شقاوة: هنياله.

تطلع مهران حوله ليتأكد أنه بغرفة ابنته بالفعل، ليتطلع لتسنيم التي قهقهت رغما عنها، ليخرج من الغرفة جاذبا إياها خلفه، هامسا في حرج: ضحكتي البت علينا.
لتستمر في قهقهاتها حتى خرجا وأغلقا الباب خلفهما، تاركين إياها تستعد لبدء حياتها العملية في ذاك النجع البعيد بأحضان الجبل.

طرقت على باب حجرته لعله يسمح لها بالدخول، إلا أنه كان بعالم أخر. عالم صنعه لنفسه بعد ذاك الحادث الذي غير مجرى حياته كليا. لقد اختلف كل ما كان. ليصبح سجين ذاك الحيز الذي صنعه لنفسه، غير متقبل من أحدهم الولوج إليه.

دفعت ثريا الباب قليلا تتطلع نحو الداخل لترى ما يفعل. لم يكن بالأمر الصعب أن تدرك أنه يرسم. وهل كان هناك أنيس له سوى فرشاته وألوانه طوال السنوات الماضية!؟ كانت تلك الألوان هي كل ما يملك من حطام عالم رحل بلا رجعة. كان يحاول استعادته بضربات الفرشاة على لوحته الناصعة البياض. ليصنع كون من وهم. كان ماهرا بحق. وبالأخص في رسم الخيول بأشكالها وحركاتها وعنفوانها وثورتها ووداعتها. وجموحها. وياله من جموح بري متوحش! استطاع التعبير عنه ببراعة منقطعة النظير، كأنه يظهر ذاك الوجه الآخر الذي ما كان يعرفه عن الخيل قبل حادثته القديمة.

تنهدت ثريا وهي تدلف للحجرة هاتفة في ثبات: مش كفاية كده رسم يا مروان. أحط لك الغدا!؟
لم يلتفت إلى موضع وقوف أمه المعتاد بباب الحجرة بل ظل يضرب بفرشاته في مهارة هاتفا: وكفاية ليه!؟ إيه ورايا تاني يا باشمهندسة أقوم أعمله.
وانفجر ضاحكا مستطردا دون أن يلتفت كذلك: شوفتي كلمة أقوم دي!؟ المفروض أحذفها من قاموسي بعد اللي انا فيه ده. بس الظاهر بقى حكم العادة.

غصت أمه بدموع قهر حاولت ابتلاعها وهتفت بصوت متحشرج تأثرا دون أن تعقب على كل ما قال بحرف واحد: طب مش هتاكل!؟ ده أنت على لحم بطنك من صباحية ربنا. مبتشربش إلا النسكافيه وبس. والدكتور جال كده مش صح.
هتف مروان متجاهلا ما جاءت به على سيرة الأطباء مؤكدا: لا يا ماما. مش جعان. مش بابا رجع من السفر! كلي معاه. ولما أجوع هبقى أطلب الأكل.

هتفت ثريا متحسرة: طب حتى أخرج من أوضتك دي شوية. أطلع اجعد معانا. أو حتى روح لسمير أو مؤمن أو حتى أبعت لهم لو مش حابب تخرچ بس متجعدش لوحدك كده.
تنهد مروان مؤكدا: أخلص بس اللوحة اللي فأيدي دي. وبعدين أبقى أشوف.

لم يكن يرغب في مصاحبة أحد. كان الجميع يسعى بالفعل لصحبته خاصة بعد انتقالهم إلى هنا. فقد كان استقرارهم منذ فترة ليست بالبعيدة بالعاصمة. وخاصة بعد وفاة كل من جدتيه نجاة وسيدة ومن قبلهم سعيد جده. لكن بعد حادثته. عادوا جميعا لنجع الصالح. اعتقادا من أبويه أن جو النجع هو الأصلح لتحسن نفسيته. سنوات منذ انتقلوا وهو في معزل عن الجميع. وما زالت تلك العزلة هي ملجأه. بعيدا عن صخب شباب العائلة وقصصهم التي لا تنتهي.

تنهدت ثريا وقد شعرت بالعجز وفشلها في تغيير حال ولدها مرة بعد أخرى. فاندفعت لخارج الغرفة تاركة إياه منغمسا في لوحته التي تركها متطلعا نحو موضع رحيل أمه التي يعلم قدر وجعها على حاله. رفع كفيه وأخذ يضرب بهما يدي كرسيه المدولب في عنف. شاعرا بالعجز التام على إتيان أي رد فعل إلا صب غضبه على مقعده. دلالة عجزه الملتصق بها كالغراء، والتي لا يفارقها إلا لحظات النوم.

دفع الفرشاة جانبا في عنف. تطلع للفرس الصهباء المتطلعة إليه في عنفوان من قلب لوحته كأنما تتحداه، ما جعله يدفع باللوحة هي الأخرى، بعيدا في حنق.

اندفعت مسرعة تتلفت حولها لا تعلم اين يمكنها الذهاب وقد تاهت في تحديد وجهتها حيث ستكون محاضرتها القادمة والتي هي على وشك البدء. ما جعلها مضطربة لا ترغب في الدخول متأخرة عن موعدها في أولى محاضراتها هنا بجامعة القاهرة. على الرغم من عدم حماستها للانتقال للقاهرة وهي بالسنة الأخيرة في كلية الهندسة جامعة المنصورة إلا أنه ما كان باليد حيلة في أن تلحق بأبيها كعادته دوما مع كل انتقال. ما كان يتركها وأمها خلفه أبدا.

اخيرا وصلت للمدرج وما أن همت بالدخول إلا واصطدمت بعنف بأحدهم. تأسف في محاولة منه للاعتذار عن هرولته في الاتجاه المعاكس. لكنها نظرت إليه نظرة سريعة ولم تعقب أو حتى قبلت اعتذاره بكلمات بسيطة لم تكن لتكلفها شيئا. تطلع نحوها ذاك الشاب في حنق لقلة تهذيبها على حد زعمه وهتف في ضيق: حصل خير. ده الرد الطبيعي على حد أعتذر لكِ. إيه التناكة دي! ما كلنا مهندسين بالمناسبة.

تطلعت إليه بدور في لامبالاة ولم ترد من جديد. هم بالرد عليها لكن دكتور المادة ظهر فالصورة متجها نحو المنصة ما دفع الجميع لإلتزام الصمت. جلست بدور بين الفتيات اللاتي ألقت عليهن التحية سريعا. بينما هو. لم يبارح محياها ناظريه. لا يعلم لما تعلق ناظره بها مستشعرا أنه يعرفها منذ زمن بعيد. لم يكن من النوع الذي تجذب بسهولة انتباهه أي امرأة. لكن ذاك الشعور ظل هو المسيطر عليه. حتى أنه بعد انتهاء المحاضرة حاول السؤال عن اسمها لكن ما من أحد كان يعرف أي معلومة تخص هذه الفتاة الجديدة ولا حتى اسمها. تلك المغرورة التي هبطت عليهم فجأة لتقلب يومه رأسا على عقب. دون أن تدري.

صدح صوت المؤذن لصلاة العصر ما دفعه لينهض في عجالة يضع عليه جلبابه النظيف. استرعت هرولته راضي ليهتف متسائلا في سخرية: على فين العزم متسربع كده!؟
هتف يونس وهو يتعطر: رايح الچامع.
هتف راضي مازحا: من ميتا التجوى دي يا واد أبوي!؟ ده أنت مبتعتبوش إلا يوم الچمعة.
هتف يونس مؤكدا في جدية: سمير أخوها دائما بلمحه بيروح الچامع على صلاة العصر. لازما أكلمه ضروري.

انتفض راضي متعجبا: أنت اتچننت!؟ هتكلمه منك لروحك كده من غير ما تشور أبوك!؟
هتف يونس مهادنا: يا بني أفهم. أني بس هجس النبض وأشوف إيه الجول. ولما أخد الإشارة الخضرا هبلغ أبويا وأجوله. أوماااال يعني هروح أخطبها لحالي برضك!؟

تنهد راضي وهو يدرك تماما أن أي محاولة منه لإثناء يونس عن عزمه. ستبوء بالفشل الزريع. ما دفعه لإلتزام الصمت معاودا الجلوس على طرف فراشه تاركا أخاه يغادر نحو الجامع كأنما يسابق الريح.
لعن راضي العشق ألف مرة. وهو يرى كيف يبدل حال أخيه، من حال لحال في لحظة.
وصل يونس للمسجد متفرسا في صفوف المصلين. تنفس الصعداء ما أن لمح سمير بقامته المديدة فاندفع يجاوره في الصف.

حتى اذا ما انتهت الصلاة وهم سمير بالمغادرة إلا واستوقفه يونس هاتفا: سمير يا تهامي. استنى أني عايزك ضروري.
تنبه سمير فعاد لموضعه ليشير يونس لأحد الأعمدة المتطرفة قليلا ليجلسا بالقرب منها.
هتف يونس متسائلا: كيفك يا سمير. إيه معدناش بنشوفك كيف الأول!؟
رد سمير ببشاشته المعتادة: مشاغل بجى. والحمد لله على كل حال. خير يا واد عمي!؟

اضطرب يونس قليلا قبل أن يهمس محاولا تجميع الأحرف: يعني. أصلك عايزك فموضوع كده. ومفيش غيرك اللي هيفيدني فيه.
هتف سميرا في نبرة صادقة: يا سلام. تحت أمرك. أطلب وأني سداد بعون الله.
أكد يونس في امتنان: تعيش. الموضوع مش موضوع فلوس. ده موضوع نسب. أني طالب الجرب. طالب يد أختك سهام.
هتف سمير مترددا: البت سهام أختى!
واستطرد مؤكدا: بس المواضيع دي متاچيش كده يا يونس وأنت أدري بالأصول.

هتف يونس متعجلا: ايوه طبعا. معلوم. بس إحنا شباب زي بعضينا. ويعني لو تچس النبض. وإن فيه استعداد. يبجى أحسن. ساعتها هچيب العيلة كلها وناچي نخطبوها.
صمت سمير لبرهة مفكرا ما دفع يونس لتعجله هاتفا: هااا. أجول موافج. أني مش عايز إلا كلمة. وبعدها كله هايبجى تمام.
هز سمير رأسه موافقا تحت ضغط وإلحاح يونس ما دفع الأخير ليربت على كتفه في امتنان مستأذنا.

دخل لحجرته ليتعجله راضي الذي كان يجلس بانتظاره على أحر من الجمر، مستمعا لكل ما دار في اللقاء. يستشعر أن الأمر لن يكون أبدا كما يتمناه قلب أخيه، منتظرا سماع الرد الذي حلم به لسنوات. لكن من منا يستطيع التكهن بالمقادير التي كتبت علينا!؟

توقف في نافذته متطلعا للأسفل وشرد بناظريه في اتجاه تلك الحجرة. يتذكرها دوما حيث كانت بحجرة القراءة التي لم تكن تبرحها تقريبا. دائما ما كانت تشغلها ولا يخلو كفها من كتاب ما.
ابتسم عاصم رغما عنه وهو يتذكر كيف كان وما زال يتسلل ليلا إلى تلك الغرفة باحثا عن الرواية التي كانت تقرأها صباحا يفتحها مفتشا بين أسطرها باحثا على أثر لها بين زحام الأحرف ولم يكن يخيب ظنه أبدا.

كانت من عاداتها أن تضع خطا خفيفا بقلمها الوردي المميز أسفل بعض السطور التي أعجبتها أو أحدثت أثر ما بنفسها. وكان من عاداته أن تلتهم عيناه تلك الأسطر بشراهة كأنما يبحث عن محياها مجسدا في كلمات تكون سلوى له عن تباعدها.

كان ينقل هذه الكلمات الوردية حرفا حرفا إلى مفكرته حتى يعاود قراءتها مرارا وتكرارا مع نوبات الشوق التي ما تفتأ تهاجمه واحدة تلو الأخرى وما كان له القدرة على صدها أو حتى الرغبة في ذلك. بل إنه كان متيما بالاستسلام لها. كالملقى في جوف بحر لا يرى شاطئيه. فلا رغبة لديه في النجاة من الأساس.

الآن هو يمارس عادته المفضلة، يجلس في هدوء متطلعا إلى روايتها الصباحية التي التهمت سطورها في نهم. فتح الصفحات باحثا عن الخطوط الوردية في لهفة. وتوقفت كفه فجأة على إحدى الصفحات قبل أن يقلبها، متطلعا للسطر الأخير بها، والذي زيلته بقلمها مشرفة إياه وهمس قارئا: في بعض الأحيان نعتقد أن الحلم صعب المنال، ولا ندرك أنه أقرب إلينا من واقعنا الذي نحياه.

أعاد الجملة عدة مرات، وأخيرا نقلها بمفكرته، واندفع لحجرته ليخرج المفكرة من جيبه متطلعا للكلمات، وهو يتمدد على فراشه، يعيد قراءتها وكأنما يحفظها حرفاً حرفاً. وأخيرا ابتسم في سعادة، فقد خيل إليه وهمه أنها قد تقصده. فمثلها يلمح دوما ولا يصرح أبدا. أيمكن أن يكون هو ذاك الحلم الصعب المنال!؟ وهو الأقرب إليها من الواقع.!؟ لم لا.!؟
هكذا أخذ يمني نفسه في سعادة.

مر ما يقارب الأربعون دقيقة وما زالت السيارة تنهب الطريق نهبا دون أن تصل لوجهتها. لم تكن تدرك أن المسافة بين نجع الصالح وذاك النجع حيث ستقضي فترة تكليفها يبعد كل هذه المسافة. يبدو أن أمها كانت على حق حين حاولت إقناعها بالعمل معها بنجع الصالح ورفض أمر التكليف ذاك، والذي يبدو أنه لن ينالها من ورائه إلا المشقة بلا طائل.

زمجرت السيارة فجأة مما دفعها لتهتف في عبدالباسط السائق متسائلة في قلق: إيه في يا عبدالباسط!؟ العربية عملتها تاني ولا إيه!؟
توقفت العربة تماما، فاندفع عبدالباسط مترجلا يستطلع الأمر مؤكدا: باينها كِده يا داكتورة!؟
همست نوارة في حنق: هي أمي أول ما تكون مش راضية عن حاچة لازما تتعجرب. طب هوصل إزاي فميعادي!؟ من أول يوم متأخرة!؟ هيجولوا إيه!؟
هتف عبدالباسط متسائلا: بتجولي حاچة يا داكتورة!؟

هتفت بحنق: - لااااه مبجولش. هجول ايه! ما أنا أصلا منبهة عليك تچبني بالعربية الچديدة.
هتف عبدالباسط ينفي عن نفسه الذنب: والله يا داكتورة الباشمهندس عاصم كان خرچ بيها. أعمل إيه طيب!؟
هتفت وهي تخرج من العربة صافقة بابها في عنف: العمل عمل ربنا. خلينا جاعدين.
ونظرت في شاشة جوالها مستطردة في غيظ: حتى مفيش شبكة نعرف نتصل بحد يلحجنا. ياللاه عشان تكمل.

مر الوقت دون جدوى وما مرت سيارة واحدة بذاك الطريق المقفر، ما دفعها يائسة لترك السيارة مبتعدة باتجاه صف من الأشجار تحتمي به من حرارة الجو، حتى يأذن الله بالفرج.
جلست معتلية صخرة ضخمة، وبدأت في العبث ببعض الأغصان، وقطف بعض الزهور المتناثرة بالقرب منها.
لاحت سيارة بالأفق تسير في اتجاههما
ما دفعها لتهرول مشيرة للسائق في تهور والذي توقف مستطلعا الأمر.

اخفض زجاج النافذة المواجهة لها وهتف متعجبا: خير يا آنسة!؟ عربيتكم فيها حاچة!؟
هتفت في ضيق لسؤاله: لا. عاملين فيك مجلب الكاميرا الخفية!؟
ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يحاول فتح الباب قبالتها: طب اتفضلي أوصلك مطرح ما أنتِ عايزة. ونبعت حد يساعد السواج.
ابتعدت خطوة للوراء ما أن انفرج باب السيارة، وتطلعت في تعجب لصاحبها هاتفة في حنق: ومين جال إني هركب معاك من الأساس!؟ أنا معرفكش.

هم بالرحيل هاتفا في حنق: خيرا تعمل شرا تلجى.
هتفت تستوقفه: استني بس يا حضرت. أنا فعلا معرفكش. أركب معاك إزاي!؟
أدخل كفه في جيب سترته، وأخرج منها بطاقته الشخصية ودفع بها إليها. ترددت لحظة وهي تمد كفها لتناولها. تطلعت إليها في قلق وأخيرا هتفت: هخليها مع السواج عشان أهلي يعرفوا أنا فين.
هتف ساخرا: واچب برضك. مش يمكن أخطفك!؟
هتفت تؤيد الفكرة رغم نبرة السخرية التي كانت تغلف صوته: أه. احتمال. ليه لأ؟!

اتسعت ابتسامته لخيالها الواسع، وهتف في أريحية: مفيش مشكلة، خليها معاه. بس ممكن تركبي بقى. أنا أتأخرت. ولا أمشي!؟
هتفت تستوقفه وهي تمد كفها لعبد الباسط ببطاقة الرجل الشخصية: لا. هركب أهو.
انتظر صعودها جواره، لكنها دفعت الباب تغلقه بقوة، واتجهت لباب المقعد الخلفي تفتحه، وتدفع نفسها داخل السيارة لتستقر داخلها.
تطلع ذاك الغريب إليها في تعجب، وهمس ساخرا: أي خدمة تانية يا هانم!؟ أنتِ تأمري.

هتفت بأريحية شديدة لا تعي أنها وضعته في موضع سائقها الخاص وهو صاحب معروف لا أكثر: لا. شكرًا.
تحرك بالسيارة في ثقة من يحفظ الطريق عن ظهر قلب، وتطلعت هي إليه تحاول حفظ ملامح ذاك الطريق الجبلي، تجذبها خواطرها لذاك الغريب الذي تتطلع إلى كتفيه وكفيه الواثقين المتحكمين بمقود السيارة في حزم.

ورغم أنها لم تكن يوما ممن يلقون للخواطر الرومانسية بال إلا أنها وجدت عقلها يجذبها لذكري ما فعل جدها عاصم مع جدتها زهرة ذات ليلة، لتبدأ بعدها قصة حبهما التي لم يسدل عليها الستار حتى يومنا هذا. شردت مع الخاطر وابتسمت كالبلهاء رغما عنها. أمسك ضحكاته وهو يتابع رد فعلها العجيب عبر زجاج السيارة الداخلي.

توقفت السيارة لتنتفض مطرودة خارج نعيم خواطرها متطلعة حولها في تيه لذاك الجبل الذي يطل شامخا من بعيد، وتلك الأرض الخضراء التي يحتضنها في عزة. وأخيرا ذاك البيت الكبير الذي يطل من فوق تلك التلة المرتفعة كأنما يناطح الجبل الموازي شموخا.
استدار قليلا هاتفا في جدية: نجول حمدا لله بالسلامة.
همست مترددة: - هو إحنا وصلنا!؟

ترجل من السيارة يستدير حولها ليفتح لها بابها، لتترجل منها بدورها تشعر بوجل عجيب، ليهتف مشعرا إياها بالطمأنينة: أه وصلنا. أهلا بكِ فالسليمانية يا دكتورة.
ومد كفه السمراء الرجولية معرفا: باشمهندس سامر شحاتة.
مدت كفها في تردد هاتفة: تشرفنا. خدت بالي من البطاقة. وأنا دكتورة نوارة مهران. التكليف بت.
هتف سامر مشيرا للدار: أه عندي فكرة. هو حضرتك! اتفضلي يا دكتورة. الدكتورة سميحة منتظراك چوة.

هتفت نوارة بنبرة معتذرة: أنا آسفة. أكيد أتأخرت عليها. بس.
قاطعهما هذا الصوت العميق ذو النبرة الرخيمة الذي ظهر صاحبه ببهو الدار ما أن ولجتها أقدامهما: مفيش بس يا دكتورة. المفروض ده أول ميعاد عمل لكِ. يعني الانضباط في المواعيد واحدة من أهم الأمور اللي المفروض تراعيها.

تطلعت نوارة نحوه في عدائية واضحة. من هذا الذي يعطيها درسا في الأخلاق ويحكم على مدى انضباطها من عدمه!؟ اندفعت تجيب عليه في محاولة لوقفه عند حده، لكن ظهور هذه المرأة الباشة الوجه ذو القسمات المريحة، والتي ارتسمت على شفتيها ابتسامة ودودة، جعلها تبتلع لسانها والمرأة تهتف في أريحية: أهلا يا دكتورة. نورتي السليمانية.

توقعت نوارة ترحيب رسمي، مجرد مصافحة باليد لا أكثر، لكن المرأة طوقتها في حنو، هاتفة في ترحاب: أنا الدكتورة سميحة العيسوي. مبسوطة قوي إنك جيتي. وأكيد هنعمل مع بعض شغل هايل.
كانت سميحة تحاول امتصاص الشحنة المتوترة، التي ملأت الأجواء جراء ظهور هذا الصارم، الذي كان ما يزل يقف موضعه لم يحرك ساكنا، وكأنه تمثال من صلب قُد بملامح من صرامة لم يسبق أن رأتها مرتسمة على محيا مخلوق.

ألقت نوارة عليه نظرة أخيرة قبل أن تجذبها سميحة لداخل إحدى الحجرات الجانبية، وقد أيقنت، أن أيامها هنا لن تكون سهلة بوجود كائن الصرامة ذاك، والذي تركته لتوها منتصبا في حنق كأنما يقف على حد سيف.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة