رواية راسين في الحلال للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر
في القاعة الدراسية الخاصة بمرحلة ( بيبي كلاس )،
تشنجت تعابير وجه ريمان بصورة واضحة، وعضت على شفتيها من الغيظ، ثم صاحت بصوت شبه محتد:
-رانيا!
إلتفتت هي نحوها، وكذلك آياز، ثم ضيقت عينيها في إستغراب وهي تتسائل بتعجب:
-في حاجة يا ريمان؟
وقفت ريمان قبالتها، وهتفت بحنق وهي محدقة بها:
-اه في!
استغرب آياز من الحالة العصبية البادية على ملامحها، ولكن لم يهتم للأمر، و أثر عدم التدخل في حوارهما، وتراجع في إتجاه مكتبه الموضوع في زاوية القاعة..
حدجت رانيا ريمان بنظرات متحدية، ووضعت يدها في منتصف خاصرتها، وسألتها وهي تلوي شفتيها:
-خير، عاوزة ايه؟
صرت الأخيرة على أسنانها بغل وهي تصيح بضيق:
-ايه اللي عملتيه فيا ده؟
رفع آياز وجهه للأعلى لينظر إلى ريمان بغموض، ولعب الفضول دوره معه في إثارته لمعرفة ما يحدث بينهما..
سألتها رانيا ببرود:
-عملت ايه؟
قبضت ريمان على ذراعها، وكزت على أسنانها قائلة:
-اعملي نفسك مش عارفة!
أزاحت رانيا يدها من عليها، وسألتها بعدم فهم:
-انتي بتكلمي عن ايه؟
همست قائلة بعد أن لاحظت متابعة آياز لهما:
-العصير، وآياز، ولا عاملة نفسك نسيتي؟!
قرأ آياز اسمه من على شفتي ريمان، وبدأ يربط خيوط المسألة معاً، وخمن أن يكون خلافهما له علاقة بموضوع المقلب، فهو القاسم المشترك بينهما..
هزت رانيا رأسها بطريقة غير مبالية، وأجابتها بفتور:
-أها، وأنا مالي بالموضوع ده
إتسعت مقلتيها بشدة وهي تتابع بغيظ:
-هبة قالتلي على كل حاجة
قطبت رانيا جبينها بإندهاش مرددة:
-هبة!
أومأت ريمان برأسها بقوة، وهتفت بصوت شبه منفعل:
-ايوه هي سمعتك بتتكلمي عن ده، إنكري!
ردت عليها رانيا بنبرة حادة ب:
-ايه الهبل اللي بتقوليه، انا معملتش حاجة!
حدجتها ريمان بنظرات متوعدة وهي تضيف:
-عامة، أنا مش هاسيب حقي معاكي وآآ...
-خلصتوا إنتو الاتنين!
انتبهت الإثنتين إلى صوت آياز شبه المنزعج الذي قاطعهما، ونظرتا نحوه، بينما تابع هو بصوته الآجش:
-مشاكلكم الشخصية تحلوها برا، لكن هنا you have to stick to the rules ( عليكما الإلتزام بالقوانين ).
أطرقت رانيا رأسها للأسفل، وتقوس فمها للجانب، بينما حدجته ريمان بنظراتها المحتقنة، ولم تتفوه بكلمة، وغمغمت مع نفسها بغضب:
-مش هاعدي اللي حصل ده!
نظرت رانيا إلى ريمان من طرف عينها، وحدثت نفسها بتشفي:
-ماهو المثل بيقول اعرف عدوك وعلم عليه، وأنا هاعمل كده معاكي! أل أسيبلك المز أل، دي فيها رقاب!
أشار آياز بيده قائلاً بجدية:
-عاوزين نتفق على اللي هيتم داخل الكلاس.
هتفت رانيا دون تردد وهي ترسم على ثغرها إبتسامة بلهاء:
-أنا موجودة عشان أساعدك، شوف إنت عاوز ايه مني
هز رأسه بخفة ليقول بهدوء حذر:
-تمام يا مس آآ...
هتفت بحماس أشد وقد إتسعت إبتسامتها:
-رانيا، ومافيش داعي للتكليف، إحنا زملا مع بعض
رمقها هو بنظرات شبه ساخطة، ولم يعقب، ثم بهدوء سلط أنظاره على ريمان، وسألها بإقتضاب:
-وحضرتك يا مس Ready ( مستعدة )؟
ردت عليه ريمان بإيجاز وهي تبادله نظرات فاترة:
-yes ( نعم ).
-اوكي..!
عند مدخل مبنى الرياض،
كان الصمت هو سيد الموقف طوال طريق العودة بين عاليا وليلة، إلى أن قطعته الأخيرة قائلة بجدية:
-طب هانقول لمس إعتماد ايه؟
ردت عليها عاليا بإختصار وهي محدقة أمامها:
-معرفش!
سألتها ليلة مجدداً ب:
-يعني الممر هيتساب كده؟
تنهدت بإنهاك وهي ترد قائلة:
-اسأليها
وقفت ليلة في مواجهة رفيقتها، ونظرت لها بتمعن وهي تسألها بإهتمام:
-في ايه يا عاليا؟ مالك؟
أشاحت بوجهها للجانب وهي تجيبها بضجر بائن:.
-ماليش، أنا كويسة
هزت ليلة رأسها معترضة وهي تضيف:
-كويسة إزاي بس، انتي أحوالك متغيرة من ساعة ما آآ...
قاطعتها عاليا وهي تشير بإصبعها محذرة:
-لو هاتكلمي عن سيرة الشاب إياه يبقى بناقص
زمت ليلة شفتيها لتقول بجدية:
-ماهو مش طبيعي اللي بيحصل بينكم
صاحت بها عاليا بنفاذ صبر:
-مافيش بينا حاجة
تسائلت ليلة بإستفهام وهي محدقة بها بتفرس:
-أومال آآآ..
قاطعتها عاليا بصرامة وهي ترمقها بنظرات قوية وثابتة:.
-شوفي يا ليلة، من الأخر كده ده واحد حصل بيني وبينه كام موقف كده صدفة، وانتهوا، مش حكاية عشان أعيد وأزيد فيها
رفعت ليلة كفيها أمامها وابتلعت ريقها وهي تقول بتوجس:
-أوكي، خلاص، بلاش بس تقفشي!
تقوس فم عاليا وهي تتابع ب:
-لا بأقفش ولا غيره، أنا عاوزة أركز في الشغل
-تمام، تمام
ثم أضافت بجدية وهي تشير بعينيها:
-طب يالا نشوف هانعمل ايه في بقية الديكور
إبتسمت ليلة إبتسامة باهتة وهي تضيف:.
-نسأل سحر ممكن يكون عندها فكرة
-اوكي، وأنا برضوه هسأل فريال هي ساعات بتعين حاجات تنفع ك Dicoration في وقت الزنقة
-حلو أوي!
في ردهة الإستقبال،
وقفت ناظرة الرياض الأستاذة إعتماد في وسط الردهة وهي ممسكة بمفكرة ما في يدها، وبيدها الأخرى كانت تشير إلى إحدى الزوايا قائلة بجدية:
-البانر ده معوج، محتاج يجي يمين شوية
أومأت السكرتيرة أية برأسها وهي تجيبها بخفوت:
-اوكي، هاخلي الدادة تعدله
ثم تلفتت الناظرة حولها وهي تتسأل بصوت متصلب:
-فين الهدايا بتاعة الأطفال؟
ردت عليها أية بهدوء تام:
-محطوطين هناك
مطت شفتيها قائلة بصوت جامد:.
-اوكي، يبقى فاضل أشوف الكلاسز وأتأكد إن كل حاجة تمام
-أها
تحركت الإثنتين في إتجاه القاعات الدراسية للتأكد من إنتهاء تجهيزها..
بعد برهة، كان كل شيء قد أصبح جاهزاً من أجل إستقبال الأطفال..
واستعد حارس البوابة الرئيسية لمبنى الرياض سيد لفتحها من أجل مرور الصغار للداخل، والترحيب بهم في أول أيامهم الدراسية..
دلف الصغار ومعهم أولياء أمورهم لداخل المدرسة، ومروا عبر الممر الذي تم تزينه بالبالونات والشرائط اللامعة، ووقفت بعض المعلمات على الجانبين لتقدم الحلوى والسكاكر لهم..
كانت الإبتسامات السعيدة والممزوجة بضحكات آسرة للأطفال تخطف قلوب الجميع..
وتم إلتقاط العديد من الصور التذكارية لهم في أول لحظاتهم الدراسية..
كذلك تعالت أصوات الموسيقى الحماسية الخاصة بالأطفال بتضفي المزيد من السعادة والبهجة على الجميع..
أخذ آياز نفساً عميقاً، وزفره على عجالة، وبدى متوتراً للغاية وهو يترقب وصول أول الأطفال للقاعة، ورغم مهارته وخبرته وحرفيته مع الصغار بالخارج، إلا أنه مازال يرتبك ويتوتر بشدة مع أول يوم دراسي..
فمع مطلع كل عام، يختبر قدراته مع الصغار، ويحقق متعته برؤيتهم يكبرون نصب عينيه..
راقبته رانيا بنظرات والهة، وظلت تطلق تنهيدات خافتة، وتمتمت مع نفسها قائلة:.
-يا لهوي عليك وإنت تقيل وراسي، آآآخ منك، يا سلام لو تديني ريق حلو، هناخد وندي سوا، ونبقى حاجة!
تابعتها ريمان بنظرات متأففة، ولوت شفتيها وهي تغمغم بخفوت:
-أبرد بني آدمة قبلتها في حياتي، تعمل كوارث وتدعي البراءة، معندهاش إحساس!
نظرت لها رانيا بغموض متسائلة بإندهاش:
-بتقولي حاجة يا ريمان
أشاحت بوجهها بعيداً عنها بعد أن رمقتها بنظراتها المحتدة، ثم أجابتها بإيجاز:
-No ( لأ )!
لمح آياز جموع الأطفال وبصحبتهم ذويهم وهم يقتربون من قاعته، فأخذ نفساً عميقاً وحبسه في صدره لوهلة، ثم زفره على مهل، ورسم على ثغره إبتسامة عريضة..
إنتصبت رانيا في وقفتها، واقتربت من آياز، و صاحت بحماس ساخر:
-نستعد بقى للتتار اللي جاي
نظر لها آياز بإستغراب، وردد عفوياً:
-تتار!
رفعت حاجبيها للأعلى وهي تجيبه مازحة:
-أقصد الهكسوس يعني، ده احنا هانشوف أيام عجب!
عبس وجهه وهو يسألها بحيرة:
-نعم؟
مطت شفتيها هامسة:.
-أصل انت متعرفش، ده أوحش يوم في السنة كلها
نظر لها بإستغراب قائلاً:
-مش فاهمك
غمزت له وهي تقول بخفوت:
-هاتعرف دلوقتي يا مستر!
نظرت ريمان إلى كليهما بضيق، وعقدت ساعديها أمام صدرها، وظلت تهز ساقيها بعصبية، فالحوار الخافت بينهما يزعجها بشدة، فشيطان نفسها وسوس لها بأنهما يعقدان اتفاقاً ما حولها..
لذا سلطت أنظارها الحادة عليهما أكثر، وضغطت على أسنانها وهي تحدث نفسها قائلة:.
-يا ويلكم إنتو الاتنين لو عاملين رباطية عليا!
ولج أول الصغار إلى داخل القاعة ومعه والديه، فهتفت الأم بعاطفة واضحة وهي تضع يدها على كتف إبنها:
-يالا يا بودي، ده الكلاس بتاعك
أردف آياز قائلاً بإبتسامة خفيفة وهو محدق بالصغير:
-Welcome to school ( أهلاً بك في المدرسة )
نظر له الأب بإستغراب، ولم يهتم به، ثم أشار لصغيره بيده ليجلس على إحدى الطاولات..
اقتربت ريمان من الصغير وبدأت في مداعبته والترحيب به بأريحية واضحة، واستجاب الصغير لها وتعالت ضحكته البريئة..
حدق آياز في الأبوين بضيق، ولكنه عاود النظر إلى باب القاعة ليستقبل البقية..
دلفت عائلة أخرى للداخل، ومعها توأم من الذكور، فإنحنى آياز بجسده للأمام ومد يده لمصافحة أحدهما قائلاً بإبتسامة:
-هاي!
رمقه الصغير بنظرات مذعورة ثم صرخ بحدة وقد إلتصق بوالدته التي ضمته إلى صدرها، وقالت بهدوء:.
-اهدى يا سو، متخافش يا قلبي، عمو بيسلم عليك بس
بكى الصغير بصراخ جلي، فقبلته والدته من جبينه، وظلت تربت على ظهره محاولة تهدئته...
أشار الأب بيده لآياز قائلاً بجدية وناظراً إليه بجمود:
-معلش ممكن ترجع لورا شوية، ابني خايف منك
ضيق آياز عينيه الحانقتين بشدة، ورمق الأب بنظرات قوية قائلاً:
-Excuse me ( معذرة )، بتكلمني أنا؟
امتعض وجه الأب قائلاً بتذمر:.
-في إيه يا كابتن، بأقولك ابعد شوية، انت مش شايف ياسين مرعوب إزاي منك
قطب آياز ما بين حاجبيه، وأردف قائلاً بثبات
-بس آآ...
قاطعته رانيا قائلة بصوت حاني:
-هاي سو..!
نظر لها آياز بغل، بينما تجاهلته هي دون قصد، فقد.
تداركت الأمر سريعاً بحكم درايتها بنوعية الأباء هنا، وخمنت عدم معرفة الوالد بأنه يتحدث مع المعلم الخاص بإبنه، وخشيت من عدم تقبله للأمر لذا جثت على ركبتيها أمام الصغير، ومدت يدها تصافحه قائلة بصوت طفولي:
-إزيك يا سو؟ مش ده اسمك برضوه؟
هز الصغير رأسه إيجابياً، بينما هتف أخيه التوأم قائلاً:
-وأنا اسمي يوسف
صافحته بقوة وهي تهتف بثقة:
-هاي يوسف، وأنا مس رانيا!
تابعها آياز بإنزعاج ولم يتفوه بكلمة، وترقب وصول البقية..
وبالفعل دخل للقاعة مجموعة من العائلات وبصحبتها الصغار، وبدأوا في الإنتشار في أرجائها...
بدى آياز كالتائه وسط ما يحدث..
فلا أحد يعيره الإنتباه، وغالبية الموجودين يتعاملون مع ريمان ورانيا فقط، وهو كالغريب بينهم..
حك طرف ذقنه بضيق، ثم إعتدل في وقفته، وبدأ يتجول بين طاولات الصغار مقدماً نفسه للجميع قائلاً بإبتسامة مصطنعة:.
-هاي، أنا مستر آياز، How are you ( كيف حالك؟ )
استجاب عدد محدود من الأطفال لحديثه، وتجاهله الأكثرية إلى أن حانت لحظة إنصراف أولياء الأمور..
فقد ولجت ناظرة الرياض للداخل، وصاحت بصوت مرتفع ورسمي:
-بعد إذنكم، الوقت المخصص للجلوس مع أطفالكم انتهى، وده ميعاد مستر آياز عشان يتعرف اكتر على الأطفال ويتعامل معاهم!
بدى الإندهاش واضحاً على أوجه الحاضرين، وصاح أحدهم بقوة:
-مين؟
وأضاف أخر بإستغراب:
-إييييه؟
زمت إحدى الأمهات فمها بإمتعاض قائلة:
-مستر!
وتابعت أخرى بضجر:
-مدرس راجل؟
تسائلت أخرى بتذمر:
-طب ازاي؟
هتفت الأستاذة إعتماد بثبات وهي ترفع حاجبيها للأعلى:
-اتفضلوا يا حضرات..!
إعترض أحد الأباء بقوة قائلاً:
-مش ممكن
بينما تسائل أخر بصوت مصدوم:
-انتو إزاي تعملوا كده في أولادنا؟
هتف والد أخر متسائلاً بحنق
-خدتوا رأينا قبل ما تجيبوا مدرس راجل لعيالنا؟
لم يتوقع آياز أن يتلقى هذا القدر من الهجوم الشرس على شخصه وهو لم يبدأ بعد..
ولكن تلك هي طبيعة الشعب المصري الذي عهد أن تكون المسئولة عن تلك المرحلة الحرجة والهامة في حياة الطفل معلمة متخصصة، وليس رجلاً!
صاحت الأستاذة إعتماد بإصرار وقد بدى التجهم على وجهها ب:
-لو سمحتم أي نقاش او اعتراض هنتكلم عنه برا، اتفضلوا!
صرخ والد ما بصوت محتج:
-دي مهزلة!
في حين أضافت والدة ما قائلة بسخط:.
-أنا مش عارفة نوعية الإدارة اللي بنتعامل معاها، بجد قلة ذوق!
إستدارت الأستاذة إعتماد برأسها للجانب، وهتفت قائلة بصوت رسمي:
-مستر آياز تعامل مع أطفالك!
رد عليها بخفوت وهو يبتلع ريقه:
-أوكي مس اعتماد
وبصعوبة بالغة بدأ أولياء الأمور في الإنصراف واحداً تلو الأخر خارج القاعة، وتعلى مع إنصرافهم صوت صراخ الأطفال وصياحهم..
ومنهم من نهض من مقعده الضئيل ليركض خلف والدته، فمنعته ريمان من الذهاب، ومنهم من بكى بصوت مرتفع يصم الآذان فأسرعت رانيا بتهدئته وإلهائه..
أخذ آياز نفساً أكثر عمقاً وتأمل المشهد الفوضوي من حوله برعب واضح، فما هو مقبل عليه هو أهم لحظات حياته المهنية...!