قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السادس

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السادس

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السادس

كان الجد رءوف يحمل صينية عليها كوبين من العصير متجهاً إلى حيث يجلس حفيده مع الطبيبة آيات حين لمح السيدة صفية تجلس وحدها تمنحه ظهرها، يهتز جسدها بضعف ليدرك بصدمة أنها تبكي، عقد حاجبيه للحظة قبل أن ينادي الممرض جابر يمنحه بعض المال ويطلب منه جلب كوبين من العصير للطبيبة آيات وضيفها، ثم يتجه إلى صفية يتوقف خلفها تماماً وهو يقول:
مين بس اللي مزعل الست صفية ومخلي دموعها الغالية تنزل بالشكل ده؟

مسحت صفية دموعها بسرعة قائلة:
مفيش حد مزعلني ياسي رءوف، أنا بس انطرفت عيني، واقف ليه؟ ماتيجي تقعد.
وضع الصينية على الطاولة أمامها وجلس بهدوء يطالعها بنظرة متفحصة لملامحها قائلا بلهجة بها شيء من العتاب:
بتخبي علية؟للدرجة دي حاسة اني غريب عنك. أنا بجد زعلان منك.
قالت بسرعة:
لا والله ماتزعل مني.
ثم أردفت بمرارة:
أنا بس مش عايزة أشيلك همي، أنت شلت منه كتير.

هم إيه اللي شلت منه كتير ياست ياطيبة، وهو انتِ لما تفضفضيلي باللي في قلبك بتشيليني همك؟ بالعكس بقى. انتِ زي ماتكوني بتخِفّي همك وتحطيه في بير عميق بيسيبه في قراره وبيتخلص منه بطريقته وبتفضل ميته رايقة عشان تشربي منه وتروي قلبك وتريحيه.
ابتسمت قائلة:
كلامك حلو قوي ياسي رءوف، عامل زي البلسم بيطيب الجرح. العلام حلو مفيش كلام.
ابتسم بدوره يناولها كوب العصير قائلا:.

طب اشربي ده و يلا قوليلي بقي إيه اللي مزعل ست الكل ومنزل دمعتها؟
تناولت الكوب منه وقد عاد الحزن إلى ملامحها، تتنهد قائلة:
سعاد.
عقد حاجبيه قائلا:
مش كان ميعاد زيارتها ليكِ النهاردة، هي بقى اللي زعلتك بالشكل ده؟
سعاد تزعلني؟ دي عاملة زيك بالظبط. ملاك ماشي ع الأرض يطيب في القلوب المجروحة. سعاد دي تبقي بنتي اللي مخلفتهاش.
أومال فيه إيه بس؟
كلمتني النهاردة تعتذر عشان مش قادرة تيجي لإنها آخدة دور برد.

ودي فيها إيه دي؟
فيها كتير. سعاد لو أخدة دور برد كانت برضه هتيجي، سعاد صوتها فيه حزن وألم أنا اللي عارفاهم كويس، أكيد أشرف عامل فيها حاجة، يمكن ضاربها وهي مش عايزانى أشوفها عشان منقهرش عليها، ياريتني جنبها أواسيها، ياريتني أقدر احميها بس أعمل إيه ما باليد حيلة.

شعر الجد بألمها يضربه في قلبه، لقد مست هذه السيدة قلبه منذ اللحظة الأولى لها في هذا المكان، جذبه إليها هذا الحزن الرابض بسكناتها وطيبة قلبها التي غمرت بها الجميع، يإن قلبه لحزنها حتى يشعر بأنه يخصه كما يخصها ليقول بحزم:
مبقاش فيه حل تاني لازم سعاد تطلب الطلاق.
قالت صفية بمرارة:.

وتفتكر انها مفكرتش تتطلق، تفتكر اني مشجعتهاش؟ لكن منعها خوفها على تُقي. كان هيحرق قلبها عليها ويحرمها منها، مهو بقى قادر ويعملها.
تساقطت عبراتها على وجنتيها قائلة:.

ده لا يمكن يكون أشرف إبني أبدا، والله ياسي رءوف أنا ما قصرت في تربيته. لما أبوه مات الله يرحمه كنت له الأب والأم ومسبتوش لحظة لكن لما كبر أصحاب السوء اتلموا عليه وجروه لطريقهم عشان يدمن ويصرف عليهم من شغله، أصله كان صنايعي وكسيب، وواحدة واحدة الإدمان أكل عقله وبقي واحد تاني خالص بيإذي مراته وبنته وبيرمي أمه في الشارع.
اهدي ياست صفية. كل مشكلة وليها حل ومشكلة أشرف حلها الوحيد يتعالج من الإدمان.

رافض نهائي انه يعترف بإدمانه أو إنه لازم يتعالج.
قال بابتسامة:
سيبيها علية ومبقاش رءوف الفيومي ان ماعرفت أحل مشكلة أشرف ابنك في أقرب وقت وده وعد مني.
منحته نظرة امتنان، تثق بأنه قادر تماماً على تحقيق وعوده، فمثل هذا الرجل يمنحك وجودك جواره ثقة وأمان وإيمان بأن الله يبعث ملائكته في هيئة بشر يمدون يد العون لكل محتاج فتُجبَر الخواطر وتنجبِر القلوب.
فهمت هتعمل إيه؟

ربما. فقد سحرتني عيناكِ وفتنني ثغرك وحديثك حتى أنني ضعت في متاهتهم التي جذبت روحي فلم أستطع أن أعود لنفسي حتى هذه اللحظة.
أستاذ طاهر. انت مركز معايا؟الظاهر مفيش فايدة وحضرتك هتودينا في داهية.
قال طاهر:
متيأسيش بسرعة كدة، ابني جسر من الأمل فوق بحور اليأس وعدي بخطوة واثقة تديكي قوة وتوصلك لبر أمان.

عقدت حاجبيها وأُلجم لسانها من الصدمة. هذه كانت كلمات والدها الدائمة لها كلما أصابها اليأس وتملك منها الإحباط، طالعته بحيرة ليدرك انه استخدم كلمات والدها التي قرأها في مذكراتها ليردف بسرعة محاولا دحض ظنونها:
صدقيني. أنا فهمت كل حاجة، هتلاقيني بكرة اخدت ميعاد من عمك وهجيلكم البيت وهقول كل اللي قلتهولي، ياريت متقلقيش مني او تخافي. انا جنبك وهفضل جنبك لحد ما تخرجي من أزمتك.
تباً. تباً. تباً.

مجددا كلمات والدها ينطق بها وهو مؤمن كلية بحروفها. ترى ماالذي يدور بعقلها الآن؟
انت مين؟
لأول مرة تلين ملامحها منذ أن رأته وكأن كلمات والدها كانت سحراً جعلها تفتح قلبها له ولو قليلاً، ربما عليه أن يتبنى أفكاره وكلماته علها تكون المفتاح لقلبها. أو ربما تكون العكس وتخيفها منه، ليقول مجازفاً:.

أنا راجل مصري زي أي راجل في بلدك يادكتورة، ممكن يكون أي حاجة. لكن وقت ماتحتاجه بنت بلده بتظهر شهامته وبيبان أصله.
عادت ملامحها مغلقة كما كانت وهي تقول بسخرية:
الحقيقة مشفتش اي دليل على كلامك. الراجل كان زي مابتقول في زمن جدي وجدك، والدي ووالدك. لكن في الزمان ده. sorry. سامحني لو مش قادرة أصدقك. ورا شهامته المزعومة دي هتلاقي مصلحة او غرض وبعد شوية بيظهر وبتبان حقيقته.

تراجع في مقعده يطالعها بابتسامة هادئة وهو يقول:
وتفتكري ايه مصلحتي او غرضي من مساعدتك؟
مطت شفتيها قائلة:.

مش عارفة لحد دلوقتي بس بكرة أكيد هعرف، اعذرني يااستاذ طاهر لو مش قادرة اكون لطيفة وشاكرة لحضرتك الخدمة الكبيرة اللي بتقدمهالي بس ده لإني واثقة من انكم مبتعملوش حاجة لله زي ثقتي تماماً في أن بعد كل اللي قلتهولك ده لا هتزعل ولا هتضايق وهشوفك بكرة عندنا في البيت بتشرب القهوة مع عمي وبتطلب إيدي وده لغرض في نفس يعقوب زي مابيقولوا. ودلوقتي بعد اذنك مضطرة أستأذن لإني إتأخرت على مريض، الدار دارك.

نهضت مغادرة بخطوات واثقة زادت من اتساع إبتسامته وهو يقول:.

ذكية وواثقة من نفسك وتباني قوية لكن ضعيفة من جوة ومحتاجالي. الميكس اللي كان نفسي فيه يادكتورة، عندك حق تتعقدي من جنسنا بعد اللي شفتيه وقالهولي جدي وعندك حق تشككي في نيتي من ناحيتك، صحيح انا كنت جاي وناوي أساعدك فعلا لوجه الله. عشان انقذ بنت بريئة من ايدين شياطين كل همهم طمعهم فيها وفي فلوسها بس بعد ماشفتك بقى همي انقذ نفسي وأحافظ على البنت الوحيدة اللي شغلت عقلي وقلبي. ورغم كل الكلام اللي قلتهولي هاجي بكرة فعلا وادق بابك عشان احط دبلتي في صابعك اليمين ووقتها صدقيني مش هيهدالي بال غير لما أنقلها لصابعك الشمال وتبقى حبيبتي وملكي بجد ياآيات.

ليغمض عيناه على طيفها بثوب زفاف أبيض تتألق بين جفونه كعروس أحلامه ويقظته.

تأملت صغيرها الذي ينام بين ذراعيها بأمان، تتساءل بضعف. هل اتخذت القرار الصحيح حين آثرت الاستسلام لآل بدران أم كان عليها مواجهتهم حتى آخر رمق؟ليخبرها عقلها على الفور بما رفض قلبها تقبُله. في النهاية كانت ستخسر بكل تأكيد فلا مال لديها لتحاربهم به ولا طاقة لها بتحمل خسارته مطلقاً. فقد بات لها ذلك الطفل الصغير أغلى ماتملك؛ روحها التي ان غابت عنها تفنى وتزول.

لقد ظنت بعد وفاة أختها أنها صارت وحيدة وأن هذه الوحدة ستحيطها بكل قسوة فكان الصغير عوضاً جعلها تشعل شموع حياتها من جديد فتبدد ظلام اليأس الذي كاد أن يبتلعها. ربما تخشي القادم بكل ذرة في كيانها، تخشي أُناساً رفضوا أختها وقللوا من شأنها وسيعاملوها بالمثل ولكنها ستتحمل قليلاً حتى تستطيع أن تحتفظ بطفلها أو ربما الهرب به.

رفعت ناظريها إلى الطريق المظلم تتأمله في شرود، من كان ليظن أن هذه الفتاة ذات الروح المرحة البريئة ستضحي ذات يوم بروح عجوز عاجزة لا حيلة لها في أمرها؟ من كان ليعتقد ولو للحظة أن الفتاة التي ظنت أنها ستصل إلى السماء بطموحها ستصحو ذات يوم وتجد أنها في قاع الأرض تناضل من أجل الصعود للسطح لتجد أنها ماتحركت رغم كل محاولاتها قيد أنملة؟ شعرت بوجنتها رطبة فمدت أناملها تتلمسها لتدرك بألم أنها دموع سكبتها ضعفاً، مسحتها بسرعة عندما استيقظ الطفل يبكي بقوة تهدهده بلطف بينما كانت هناك عيون تابعت كل حركة صدرت عنها حتى هذه اللحظة يحاول صاحبهما التعرف على هذه الفتاة أكثر ليدرك سر تمسكها بطفل ليس لها. هل طمعاً بمال تدرك جيداً أنه سيرثه أم حباً له؟ لينفض هذا الاحتمال الأخير فما من امرأة عاقلة قد تضحي بكل شيء من أجل طفل لا يخصها، ولا رجل قد يرغب بامرأة تربى طفل ليس من لحمه ودمه حتى لو كانت جميلة كهذه الفتاة، فالجميلات كُثر. ربما الاحتمال الأقرب للحقيقة هو طمعها في ثروة ابن أخيه، وسيعمل جاهداً أن لا تنال منها قرشاً ولتوفر دموع التماسيح تلك لغيره فلن تجدي معه نفعاً ولولا حالة والدته لحاربها في المحاكم حتى نال الوصاية على الطفل ولم يكن ليصطحبها معه. ولكن لا بأس. فليصبر قليلاً وليلقنها درساً لن تنساه بكل تأكيد.

أفاق من أفكاره على صوتها وهي تقول ببرود:
عايزة اغير لصلاح الحفاضة وأكله.
طالع الطريق وهو يسرع قليلاً بسيارته قائلاً ببرودة مماثلة:
فيه استراحة قريبة هنقف فيها وهناك تقدري تعملي اللي انتِ عايزاه.
أشاحت بناظريها عنه تشعر بالغيظ من لهجته المتعالية تلك فتململ الصغير بين يديها وكأنه شعر بها لتربت على ظهره بحنان تطالع الطريق بدورها صامتة.

طالعها وهي تتنقل بين المطبخ وطاولة الطعام تحضر له العشاء بصمت تتحاشي النظر إليه، تظهر على وجهها آثار فعلته فتزيد مقترنة بعينيها الحزينة من شعوره بالذنب. لا يعلم ماالذي يحدث له؟ وكيف يسيئ إليها هكذا وهي حبيبته التي طالما أحبها في صمت؟ لا ينسى سعادته في هذا اليوم الذي أخبرته فيه والدته أنها ستخطبها له، كاد أن يطير من السعادة وقتها فكيف هان على قلب عاشق إيذاء معشوقته؟ انها غيرته المجنونة تلك عليها، يخشى ان يفقدها كما فقد الأمل في أن تحبه، يدرك بكل ذرة في كيانه أنها لا تكن له في قلبها سوي نفوراً وكرهاً وكيف لا تنفر منه وهو يعاملها بصلف وقسوة، بل يعامل الجميع هكذا، حتي والدته لم تسلم من أذاه فأرسلها إلى الشارع ومنه إلى دار العجزة ذاك، يخشى عليها بطشه حين يغيب عنه الوعي والشعور ويتحول لوحش لا يرحم، تباً لهذه السموم التي تأكل جسده وعقله وللأسف لا يستطيع أن يتخلى عنها حتى أنه أصبح موقناً من إدمان سيذهب بعقله ويتركه ذات يوم خاسراً.

زفر بقوة وفرك وجهه بيديه قبل أن ينهض ويتجه خلفها إلى المطبخ، كانت آتية فوقف بوجهها، توقفت تنظر إلى الأرض تنتظر ان يفسح لها الطريق كي تمر، ولكنه لم يفعل. بل امسك بيدها التي تحمل طبق الفول واخذه منها يضعه جانباً ثم يرفع كفها إلى ثغره لاثماً إياه برقة، سحبت يدها على الفور فتمسك بها قائلا بندم:
آسف ياسعاد، سامحيني. صدقيني. والله العظيم غصب عني. أذيتك بتإذيني يابنت الناس وتنكد علية عيشتي.

ظلت صامتة تطرق رأسها أرضا ليجد بعض قطرات من الدموع تتساقط منها، فمد يده يرفع ذقنها لتطالعه بعينيها الدامعتين العاتبتين ليقول بألم:
ربنا ياخدني ويريحك مني.
أطرقت برأسها مجددا تقول بصوت حزين:
متقولش كدة. ربنا يخليك لمامتك ولبنتك.
وانتِ ياسعاد؟مش عايزة ربنا يخليني عشانك؟ للدرجة دي كرهتيني يابنت الناس.
قالت في مرارة:.

انا بكره تصرفاتك معايا ياأشرف، انا خلاص تعبت وجبت آخرى ومبقتش قادرة أستحمل، انا هانت علية نفسي وبقيت اتمنى الموت في كل لحظة..
قاطعها واضعا يده على فمها قائلا:
بعيد الشر عنك.
هالته نظرة الخوف بعينيها فرفع يده عن فمها قائلا:
متخافيش مني، انا مستحيل أضربك وانا في وعيي. الله يحرقها المخدرات اللي عملت فية كدة وخليتك تخافي مني.
بطلها ياأشرف، روح اتعالج منها عشان خاطرنا كلنا.
وغلاوتك عندي حاولت بس مقدرتش.

حاول مرة واتنين وتلاتة. حياتنا بتضيع ياأشرف بسبب الهباب اللي بتشربه ده، انا مش خايفة على نفسي، أنا خايفة على بنتك، تقي بقت بتخاف هي كمان منك.
شعرت بصراعه الذي ظهر على ملامحه لتصر عليه قائلة:.

تعرف لما مامتك بتحكي عنك زمان ببقى مش مصدقة ان أشرف اللي بتحكي عنه ده هو أشرف اللي عرفته، منهم لله اللي ادوك القرف ده وعودوك عليه وخلوك البني آدم اللي بقيته ده. اوعدني ياأشرف اوعدني تبعد عن المخدرات عشان خاطر تقي بنتك.
طالع عيناها المتوسلتان إليه بقلب تاق لها عشقاً ليقول بحب:
اوعدك ياسعاد بس سامحيني، قولي انك سامحيني من قلبك وارضي عني، انتِ متعرفيش دموعك بتعمل فيا ايه.

قبل ماأسامحك عايزاك تروح لماما صفية وتطلب سماحها هي كمان وترجعها بيتها، فيه حد يبقى عنده أم زيها ويسيبها تبعد عنه؟
هروحلها وأستسمحها، ها. قلتي ايه بقى. سامحتيني؟

هزت رأسها ليغمرها بقوة فاستسلمت لغمرته مرغمة، تأمل في أن يتغير لأجلها فتحيا بسلام، طافت يداه على جسدها وهو يقبل جيدها برغبة فاغمضت عينيها تستسلم لإجتياحه رغم نفور قلبها، تخشي رفضاً سيعيدها في هذه اللحظة بضع خطوات إلى الوراء وهي غير مستعدة إطلاقاً لذلك بل ترغب في التقدم خطوات والحصول على سعادة لطالما حلمت بها وحتى الآن لم تنل ولو جزء بسيط منها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة