قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

هناك خسارة كبيرة لا خسارة تعادلها تنتزع جزء من روحنا وتحطم الباقي. ندرك وقتها أن لا حيلة لنا في تصاريف القدر حين تنتابنا لحظات العجز بينما يصارع أحبتنا الموت.

كان يجري في أروقة المشفى لايدري كيف وصل إلى هنا بسيارته، فمنذ أن حادثته والدته وأخبرته بأنها وجدت سعاد غارقة بدمائها في شقتها وأنهما يتجهان إلى المشفى وهو يشعر بأن روحه تسحب منه وعقله قد أصابه الشتات وأصبح على مشارف الجنون، لم يتصور قط أن هذا الحيوان القذر قادر على فعل هذا الجرم بحق حبيبته. كيف استطاع أذيتها بهذا الشكل؟ كيف طاوعه قلبه على إسالة قطرة من دمائها؟ لقد جُن بكل تأكيد.

وجد والدته تقف أمام حجرة العمليات، اقترب منها بسرعة فما ان رأته حتى اندفعت إلى حضنه يستقبلها فيه ويضمها إليه بقوة، يشاركها دموعها التي سقطت بغزارة وهي تقول من وسط دموعها:
سعاد يامحمد. ضربها بالسكينة المجرم. منه لله. عايز يحسرنا عليها. يارب هي بين ايديك وانت عارف بنحبها قد ايه. يارب احميهالنا ده احنا روحنا فيها.
ربت على ظهرها قائلاً بصوت متهدج:
هيحميها ياأمي. ربنا أكيد هيحميها عشان خاطرنا.

ليردف متوعداً:
تقوملنا بس بالسلامة وأنا بإيدي اللي هقتل الندل الحقير اللي عمل العملة السودة دي.
خرجت من حضنه قائلة بفزع:
لا ياابني. متوسخش ايديك بدمه.
لترفع يدها الغارقة بالدماء تردف بحسرة:
مش احنا ياابني اللي نوسخ ايدينا بالدم. شوف شوف دم سعاد على ايدية يوجع القلب ازاي؟

أغمض عيناه عن مرأي دمها، يشعر بالدم يغلي في عروقه، يبغى أن يشفي غليله في التو واللحظة ويقبض روح هذا التعس انتقاماً لحبيبته. فتح الباب الجانبي لحجرة العمليات وخرجت الممرضة تقول بقلق:
المريضة فقدت دم كتير ومحتاجة دم ضروري، حد فيكم يقدر يتبرعلها؟
أنا.
قالها بلهفة فهزت رأسها قائلة:
تعالي معايا بسرعة.
أسرع يذهب معها بينما نظرت جليلة في إثرهم ترفع وجهها للسماء قائلة:
يارب نجيها لأجل خاطره وخاطري ياااااااارب.

رايحة فين ياولية؟
طالعته سميرة بعيون غارقة بالعبرات، تقول بمرارة:
هكون رايحة فين ياتوفيق؟ رايحة أشوف بنتي اللي بين ايدين ربنا دلوقت؟
انا مش قلتلك ملكيش بنات. خشي ياولية مش هتنزلي.
انت بتقول إيه؟ سعاد بين الحيا والموت في المستشفى وعايزني أقعد ومروحلهاش. ده كلام برضه؟
سعاد خلاص ماتت هي وأختها يوم ماخرجوا عن طوعي، وياتعيشي معايا على كدة ياإما يمين بالله لو روحتيلهم تبقى طالق بالتلاتة وتتحرمي عليا زيهم.

زاغت عيناها تتساءل هل جُن؟ أم اُنتزعت الرحمة من قلبه؟ يطالبها بنسيان بناتها واحداهما تصارع الموت في هذه اللحظة؟ يطالبها بنسيان أمومتها ووأد قلبها في صدرها. لقد فعلت الكثير لأجل الحفاظ عليه وهو في كل لحظة يثبت لها انها لاشيء بالنسبة إليه. لماذا تتمسك بهذه الحياة؟ هي لاتدري حقاً. هل أعماها الحب حتى لم ترى كم أصبحت عبدة له يفعل بها كل ماتسول به نفسه؟ هل تركها بلا كرامة ولا هوية. تفعل كل مايريد وبالنهاية تعامل كفردة حذاء لا قيمة لها. هل هانت إلى هذا الحد؟

نعم. الإجابات جميعها نعم. إذا فلتستفق وتدع مايؤذيها وقد آذاها توفيق كثيراً لذا وجب الفراق ولتأتي أمومتها و بناتها لأول مرة أولاً.
اتجهت إلى الباب فناداها توفيق بصدمة قائلاً:
سميرة رايحة فين؟
استدارت تطالعه بعيون يرى فيها النفور لأول مرة في حياته ليدرك في هذه اللحظة أنه خسرها ويالدهشته آلمه قلبه جراء ذلك، وجدها تقول بحزم:.

أنا ماشية ياتوفيق. هختار بناتي. خسرت بسببك كل حاجة حتى نفسي ومش مستعدة أخسر أكتر.

استدارت تخرج من الباب بينما أمسك توفيق قلبه يشعر بآلاف السكاكين تمزقه. ناداها بصوت ضعيف فلم تجبه، أمسك الكرسي جواره. رفع يده تجاه طيفها يحاول أن يهمس حروف اسمها فلم يستطع. ضيق أنفاسه يؤلمه بقوة لايصدق أنها رحلت وتركته. هل كان مخطئاً حين خيرها بينه وبين بناته؟ بالتأكيد نعم. نادم؟ الآن قطعا وهو يشعر بقرب الأجل بينما يقف وحيداً لا أحد جواره لينقذه من براثن الموت يمر شريط حياته أمامه يخبره بأنه أخطأ كثيراً في حق الجميع والآن فات الأوان للندم.

كانت تقف في محطة القطار لاتدري كيف تتحرك وقد تسمرت قدماها بالأرض واغروقت عيناها بالدموع. وجدت هاتفها يرن فرفعته إلى أذنها تجيب قائلة:
ألو.
انتِ فين؟
ماهر أنا..
صمتت فوصلها صوته القلق وهو يقول:
صوتك ماله يامروة؟ حصلك حاجة؟
مش عارفة. أنا حقيقي مش عارفة حاجة.
لفي.

استدارت فوجدته يقف على بعد خطوات يطالعها بنظرة جعلتها تترك حقيبتها تقع أرضاً وتسرع إليه ليتلقفها بين ذراعيه يضمها بقلب تسارعت خفقاته قلباً بينما هي تذرف الدموع على صدره. ليست على طبيعتها بكل تأكيد لترتمي في حضنه هكذا. هناك خطب ما. ربت على شعرها قائلاً بحنان:
مالك يامروة فيكِ إيه؟
قالت من وسط دموعها:
بكلم سعاد. خالتها ردت عليا وقالتلي انها في المستشفى. جوزها ضربها بالسكينة. سعاد بتموت ياماهر.

هش. خلي أملك في ربنا كبير. سعاد هتعيش. انتِ بس ادعيلها.
فتحت عيونها وقد أدركت في هذه اللحظة أنها بين ذراعيه، خرجت من حضنه تطرق رأسها وهي تمسح دموعها قائلة:
عايزة أروحلها. وديني عندها.
أمسك يدها فرفعت إليه عينان تسحره دوماً نظراتهم البريئة المرتبكة. تأمل ملامحها بحب قائلاً:
تعالي معايا.
على فين؟
رفع أحد حاجبيه قائلاً:
هوديكي عندها.

مشت إلى جواره فمال يأخذ حقيبتها ثم استقام يكمل سيره بالخارج، يدرك في أناملها التي ضمت كفه بقوة هذا الخوف الرابض بقلبها من الخسارة ولكن في هذه اللحظة لا يدري أتخشي خسارة الصديقة أم الحبيب؟
بنتي كويسة يامحمد؟

أنزل كم قميصه وهو يمشي بخطوات بطيئة تجاه الكرسي ليجلس عليه وقد شعر ببعض الدوار لايدري من تأثير نقل الدماء أم لرؤيته حبيبته تنام جواره مغمضة العينان لاحول لها ولا قوة، تتعلق خفقاته بصوت خفقاتها التي يصدرها هذا الجهاز، يتمنى فقط أن تنجو وتفتح عيناها مرة أخري حتي لو ضحى بحياته في سبيلها.
بنتي جرالها حاجة يامحمد؟أبوس ايدك طمني.
منحته والدته علبة عصير قائلة:.

اصبري عليه بس ياسميرة. انتِ مش شايفاه دايخ ازاي ووشه أصفر. الظاهر أخدو منه دم كتير، اشرب ياابني العصير ده عشان تقدر تتكلم وتطمنا.
تناول رشفة واحدة من العصير ثم نحاه جانباً وهو يقول بصوت واهن:
مش عارف ياأمي. مش عارف حاجة. قلبي بيقولي إنها هتبقى بخير لكن شكلها جوة ميطمنش. حاسس بروحي بتنسحب مني وده راعبني. لو جرالها حاجة مش هقدر أعيش. والله ماهقدر أعيش.

انخرط في بكاء حار شاركته فيه والدته وخالته. تبتهل ألسنتهم بالدعاء. يرددون:
ربنا يشفيكي ياسعاد ويقومك لينا بالسلامة يااااااارب.

أفاق طاهر من سباته الإجباري، يشعر بوجع شديد برأسه. حاول أن يفتح عيناه ولكنه وجد صعوبة في بداية الأمر ثم رويدا رويدا استطاع فتح عيونه ليجد نفسه ملقي على الأرض جوار سيارته بينما اختفت حبيبته. عادت إليه أحداث اللحظات الأخيرة قبل أن يفقد الوعي ليدرك بكل وضوح أن آيات قد اختطفت، اتسعت عيناه هلعاً. يعرف جيداً من فعلها. نهض بصعوبة يحاول أن يركب سيارته، تحسس جرح رأسه. يعلم أنه لابد وأن يتجه إلى المشفى ولكن لا وقت يضيعه الآن وحياة حبيبته في خطر. عليه انقاذها مهما كان الثمن. رن هاتفه فرأي رقم والدة آيات. أجابها على الفور فبادرته قائلة:.

طاهر انت فين؟
أنا جايلكم حالا...
قاطعته قائلة:
لأ متجيش.
عقد حاجبيه بينما تردف هي بصوت هامس مرير:
رأفت وابنه خطفوا آيات، سمعت رأفت بيقول لعصام يوديها على مخزن الشركة اللي في الصحراوي، اتصل بالبوليس وخليهم يلحقوها أرجوك. أما بتصل بيهم بيحطوني على الانتظار وخايفة رأفت يدخل عليا الأوضة ويعرف اني عرفت فينقلوها او يقتلوها.

مستحيل طول ماانا عايش وفيا نفس. اطمني ياماما وسيبي الموضوع ده عليا. خدي بالك انتِ من نفسك لحد ماأظبط الدنيا وييجي البوليس يقبض على الكلاب دول.
أغلق الهاتف ثم بحث في هاتفه عن رقم جده ليتصل به على الفور.
انتِ ليكِ عين تيجي لحد هنا؟ مش ده ابنك اللي عمل العملة السودا دي؟ مش دي خلفتك اللي بليتينا بيها؟ بنتي بتضيع مني ياناس. روحوا منكم لله. منكم لله.

كانت جليلة تقف بين سميرة وصفية التي نكست رأسها تذرف الدموع بألم. يقف جوارها رءوف لايدري كيف يتصرف ويمنع عنها كلمات هذه الأم المكلومة بينما لاذنب لصفية في كل هذا، يدرك كم تتألم في هذه اللحظة لتقول جليلة:.

اهدي ياسميرة. كلنا عارفين ان الست صفية ست طيبة عاملت بنتك بما يرضي الله وحبيتها واعتبرتها بنتها. بنتك نفسها كانت بتقول انها أحن عليها من أي حد. ذنبها ايه اذا كان ابنها شرب مخدرات لحست عقله؟كام مرة وقفت جنب بنتك حتى وهي بتطلب الطلاق وكم مرة رجعها توفيق بنفسه. اتقي الله ياسميرة ومتظلميش الست الغلبانة دي انتِ مش شايفة حالتها عاملة ازاي؟

أشاحت سميرة برأسها واتجهت لتجلس في أحد الأركان، بينما رفعت صفية عيونها تجاه جليلة امتزج فيهم الامتنان بالحزن وهي تقول:
أخبار سعاد ايه دلوقتي؟
تنهدت جليلة قائلة:
بين ايدين ربنا والدكاترة جوة. محتاجة بس نرفع ايدينا كلنا وندعيلها. نقول يارب واللي بيقول يارب مبيضيعش.
ياااااااارب. نجيها ياااااارب لأجل خاطري ولأجل خاطر ولادها.

انتبه محمد لكلمات السيدة صفية في هذه اللحظة، ليشعر بالصدمة بينما عقدت جليلة حاجبيه بدهشة قائلة:
هي..
قاطعته صفية قائلة بمرارة:
حامل. آخر مرة كلمتني كانت شايفة في طفلها أمل بس للأسف ضيعها وضيع نفسه معاها.
عشان كدة كان الدم مغرقها رغم ان مفيش جرح تاني غير الجرح اللي في ضهرها. يارب سلم يارب سلم.
أغمض محمد عيناه، يدرك أنها فقدت جنينها فإن أنقذها الأطباء من جراحها فمن ينقذ الروح من خسارة كهذه؟

بينما كانت تردد صفية:
لا حول ولا قوة الا بالله. اللهم اني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه.
خرج الطبيب في هذه اللحظة فأسرع الجميع إليه يبغون منه كلمة تنقذ أرواحهم العالقة. ليبتسم قائلاً:
الحمد لله أنقذنا المريضة.
زفرت القلوب ارتياحاً وهللت بصمت بينما ذُرفت دموع السعادة أنهاراً.
أردف الطبيب:.

حالتها محتاجة رعاية مشددة فهننقلها العناية المركزة فمن فضلكم ممنوع الزيارة لان الفترة الجاية مهمة جدا في عملية شفاء بنتكم. هي نزفت كتير بسبب جرح ضهرها وفقدان الجنين بس بفضل الله انكتبلها عمر جديد. بتمنى توفرولها الراحة النفسية لأنها عامل مهم جداً في حالتها وممكن يأثر على علاجها. انا هكون في المكتب لو احتجتوتي عن اذنكم.
مد محمد يده يشكر الطبيب قائلا:
انا مش عارفة أشكرك ازاي يادكتور.

ابتسم الطبيب قائلا:
الشكر لله. احنا بنعمل اللي علينا والباقي على ربنا ولولا دمك اللي أسعف المريضة كان الوضع هيتغير خالص.
اللهم لك الحمد والشكر.
عن اذنكم.
غادر الطبيب بينما يردد الجميع:
الحمد لله.
رن هاتف رءوف فاستأذن صفية في الايجاب. يسير مبتعداً قليلاً قبل أن يعود إليها قائلا:
مضطر أمشي دلوقتي ياصفية. فيه موضوع خطير يستدعي وجودي.
أمسكت يده دون وعي بقلق قائلة:
رايح فين؟ وموضوع ايه الخطير ده بس؟

فعلتها البسيطة ونبراتها القلقة أثارت شتي المشاعر بقلبه وأظهرت له اهتمامها، ليربت على يدها قائلا بحنان:
متقلقيش لما أرجع هحكيلك كل حاجة.
هزت رأسها قائلة:
خد بالك من نفسك. لا إله إلا الله.
محمد رسول الله.
غادر بسرعة تتبعه عيونها المبتهلة من أجل سلامته بينما دلفت للتو مروة تتقدم تجاههم بخطوات واسعة يتبعها رجل وسيم للغاية كأبطال السينما، ماان أصبحت قربهم حتى قالت بلهفة وقلق:.

سعاد أخبارها إيه حد يطمني عليها؟
قال محمد:
اهدي يامروة. الحمد لله خرجت من العمليات وهتبقى زي الفل. ربنا نجاها عشان خاطرنا.
اغروقت عيناها بالدموع وهي تردد:
الحمد لله يامحمد. الحمد لله.

طالع مرافقها بغيرة هذا الرجل الذي ينطق اسمها وتنطق اسمه بأريحية، يدرك في هذه اللحظة أنه لولا ثقته بها وبمشاعرها تجاهه لكان على وشك ارتكاب جريمة قتل، فهو عاشق مجنون تقتله الغيرة. يعلم أن غيرته بلا حدود. حبيبته له وحده. حتى اسمها غير مسموح لسواه بنطقه دون ألقاب. سيكون عليه فقط أن يدع الأمر في الوقت الحالي احتراماً للموقف الذي يمرون به.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة