قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

فتحت عيناها فقط حين شعرت به يُغلق الباب خلفه مغادراً المنزل، لقد تعدي الوقت الظهيرة بسويعات قليلة وهذه ليست عادتها حقا ولكنها لم تقوى على النهوض ومواجهته فلا طاقة لها مطلقاً، تدرك اليوم شيئاً واحداً.

لن تنتظر أحداً ليساعدها، ستصعد وحدها من جُب آلامها العميق وستترك مشاعرها في قراره، لن تعاتب أحداً يدرك تماماً مايفعله، نعم يحاصرها الظلام من كل مكان ولكن قوة إيمانها بأن ماهي فيه هو إبتلاء من الله سيزول ذات يوم ستجعله مصباحاً ينير لها عتمة الطريق، فإما ان تجد عوض الله في آخر الدرب أو يكون كل هذا كابوساً يوقظها منه الموت.

نهضت من سريرها تطالع صغيرتها النائمة بحنان تميل مقبلة إياها بحب غلبه الحزن، قبل أن تتجه إلى الحمام.

إغتسلت ثم ارتدت ملابسها دون أن تنظر إلى المرآة تدرك أن لطمته لها البارحة قد تركت أثراً على وجنتها وشفتيها لذا فقد آثرت اليوم عدم الذهاب إلى المدرسة حتى تستطيع إخفاء آثار الضرب، طرقات على الباب جعلتها تتجه إليه متوجسة تنظر من خلال عدسة الباب لترى صديقتها ففتحت الباب على الفور وما إن شاهدتها مروة حتى نظرت إلى وجهها بصدمة امتزجت بألم فأسرعت سعاد ترتمي بحضنها وتجهش بالبكاء.

لا يستطيع أن يصدق عيناه، إنها هي. من ظل يبحث عنها تقريباً طوال عمره، عرفها منذ عام وعدة أشهر تقريباً، كان يتوق لمعرفة إسمها على الأقل والآن بات يعرف عنها الكثير بفضل جده، ربما لو استمع لجده من قبل لكان قابلها منذ رحيلها عنه او قبل ذلك بقليل، فلطالما أصر عليه جده أن يأتي في يوم غير يوم الجمعة حتى يلتقيها فكان يصر بدوره ألا يفعل، قد رأي من النساء ماجعله عازفاً عنهن كارها التواصل معهن مثلها تماما مع الرجال حتى رآها، مهلاً راجع كلمات جده عنها بسرعة فأدرك شيئاً واحدا لا غير، حبيبته تحتاج إلى معاملة خاصة حتى يقنعها بنفسه وعشقه. حسنا. لا بأس. لديه كل الوقت لفعل ذلك وهو خطيبها، فبينما تظن هي انها تمثيلية محكمة من قِبله سيجعلها هو اليقين الأكيد في حياته وسيسعي جاهدا لإتمام زيجته منها مهما كلف الأمر.

طاهر ياطاهر.
ها. نعم ياجدي.
وكزه الجد قائلا:
مش هتسلم على الدكتورة.
إنها أغلى الأماني أيها الجد العزيز، مد يده ترتعش خفقاته وهو على وشك لمس يدها وبالفعل حين تلامست الأيدي، أدرك طاهر بكل قوة أنه وجد توأم الروح فقد شعر لحظتها بالكمال وكأن يدها خُلقت لتسكن يده، وجد نفسه يردد بهمس قائلاً:.

وأشتاق الى روح تشاركني كل شيء. يحتضن كفي أناملها كما يحتضن قلبي حروف اسمها وأتعهد إليها ألا أغار حتي من فنجال قهوتها حين يلامس ثغرها أو نسيم هواء يتخلل خصلاتها. أتعهد إليها ألا أغار من أهداب تحتضن صورتها بينما يعجز الصدر عن ضمها إليه ليجد أخيراً السكن.

لم يستطع أن يترك كفها يطالعها مع كلماته بنظرة جعلتها تضطرب بشدة من الداخل ولكن جل مابدا عليها هي تقطيبة صغيرة جعلتها تميل موجهة حديثها إلى الجد قائلة:
انت مش قلت ياجدي إنه بيحب واحدة تانية.
ترك يدها على الفور بينما علق الجد بدهشة:
والله ده اللي بقاله سنة بيقولهولي.
ابتسم طاهر قائلاً:
وأنا أعمل إيه بس قصاد الجمال ده كله؟ ماهو بصراحة ياجدي انت مقلتليش انها حلوة قوي بالشكل ده.

لقد اخبرتك أيها الكاذب. ماذا حدث لك؟ هل نسيت ذات الكتاب الأحمر حين رأيت كم هي فاتنة ابنتي آيات، حسنا هذا ما رغبته دون شك ولكني أخبرتك عن عقدتها فلا تزد.
قالت آيات بسخرية:
عشان تصدقني ياجدي لما قلتلك ان مفيش راجل مخلص أبدا لحبه.
طالعها بعينين تطوفان على ملامحها قائلاً:
وليه متقوليش اني شفت حبيبتي فيكِ؟
ابتدينا، انا بقول ياجدي نفضها سيرة وبلاها الحكاية دي من أولها.
همس الجد لحفيده قائلا بغيظ:.

انت جرالك إيه بس؟هو ده اللي اتفقنا عليه.
لم يجبه بينما عيونه متعلقة بفتاته التي أطلت من ملامحها برودة تطالعه بها أقسم ان يزيلها لتبدو كهذه النظرات المحبة التي طالعت بها جده الذي قال:
سيبك منه ده بيهزر، مش انتِ بتثقي فية؟
هزت رأسها على الفور فأردف قائلاً:
يبقى اقعدوا مع بعض اتفقوا على التفاصيل وأنا هروح أجيبلكم عصير.
طالعت آيات إبتسامة طاهر البلهاء ببعض الشك فقال الجد:.

انتوا لسة واقفين اقعدوا اتكلموا وأنا مش هتأخر.
تنهدت آيات ثم جلست بينما همس الجد لطاهر قائلاً:
اقعد يافالح واتعدل بقى. فضحت عيلة الفيومي. أعمل فيك إيه بس؟ تعرف لو عكيتها تاني هعلقك.
ثم تركهما مغادراً ليجلس طاهر بدوره يطالعها بنظراته تلك شعرت آيات بأنها لن تستطيع القيام بهذا الأمر مع ذلك الخائن لحبيبته على مايبدو، لتفتح فمها تبغى الرفض ولكن قبل أن تفعل وجدته يقول بهدوء وقد شعر بدواخلها وماتريد قوله:.

أنا آسف لو اديتك فكرة غلط عني بس صدقيني لما تعرفيني هتلاقي اني بحب الهزار.
مش هلحق اعرفك، كل الموضوع كام يوم وكل واحد يروح لحاله.
قال في نفسه..
تظنين ذلك بينما انتهى الأمر حبيبتي، لقد أصبحت لكِ منذ اللحظة الأولي وسأحرص بكل ماأوتيت من حب وذكاء واهتمام وجاذبية أن أجعلكِ لي في أقرب وقت.
وعلى فكرة بقى. أنا مبحبش الهزار بالشكل ده.
طب ممكن نبتدي من جديد. طاهر حسين الفيومي. 33 سنة كاتب و رسام أحياناً.

طالعت يده الممدودة إليها بتردد للحظات قبل أن تمد يدها إليه بدورها قائلة:
تمام. آيات محمود المنياوي، 27 سنة دكتورة علاج طبيعي.
ترك يدها هذه المرة على الفور قائلاً بابتسامة:
تشرفنا. ممكن اعرف إيه المطلوب مني بالظبط عشان اقدر أقوم بمهمتي؟
سؤال تجاوبني عليه الأول. انت ليه اصلاً قبلت انك تقوم بالدور ده؟ معتقدش كاتب زيك فاضي قوي وعنده وقت فقال يتسلى شوية.
تراجع في مقعده قائلا بابتسامته تلك:.

انا فعلا مش فاضي وعندي كتاب لازم أخلصه قبل معرض القاهرة السنة دي، بس جدي طلب مني خدمة لواحدة بيعتبرها زي بنته وانا طلبات جدي أوامر وأهم عندي من حياتي وارتباطاتي كلها.
شعرت بصدقه فتعجبت لتعبر عن مشاعرها قائلة:
لما انت بتحب جدي رءوف قوي كدة سايبه يعيش في دار المسنين ليه، مخدتوش يعيش معاك ليه؟

ظهر الحزن فجأة على ملامح طاهر حتى كادت آيات أن تندم على طرحها لهذا السؤال وتطلب منه نسيانه فلا علاقة لها بحياته الشخصية يفعل بها مايشاء ولكنها وجدته يقول:.

لما بابا وماما الله يرحمهم توفوا في حادثة عربية، غلطت غلطة كبيرة قوي في حق جدي، مقدرتش أتعامل مع شعور الفقد والحزن فقفلت على نفسي وبعدت عن كل اللي حوالية وحطيت كل مشاعري في كتبي، بعدت عن أقرب الناس لية في وقت كان اكيد محتاجلي فيه ولما فقت من اللي انا فيه كان خلاص فات الأوان وجدي جه المكان ده وارتاح فيه، اترجيته كتير يرجع يعيش معايا بس مع الأسف كان بيرفض ويقول انه مرتاح هنا أكتر.

تراجعت بدورها في كرسيها وهي تقول متفهمة:
الشعور بالوحدة بين حبايبك أصعب ألف مرة من لما تكون لوحدك فعلا. وعشان كدة جدي فضل يعيش معانا هنا.
هز رأسه موافقاً ثم قال:
بيتهيألي ننسى الكلام عني وعن جدي شوية ونتكلم أكتر عنك، جدي قالي اني المفروض هاجي اتقدملك، حفلة بسيطة نلبس فيها الدبل و...
حيلك حيلك. من غير حفلة طبعا بعيد عن إني مش عايزة حد يعرف فأنا والدي مات قريب واكيد مش هعمل حفلة.

الله يرحمه. تمام قوليلي ايه المطلوب مني وأنا هنفذه بالحرف؟

ترددت للحظات تفكر. هل عليها المُضي قدما في تلك الخطة أم عليها وأدها وهي مازالت بالمهد؟خاصة وهي لا ترتاح لهذا الطاهر كثير المزاح بنظراته التي تثير الاضطراب في نفسها. ليستقر رأيها. ستكمل للنهاية. فوجودها مؤقتاً مع هذا الرجل أهون عندها من الزواج بابن عمها عصام لذا ستخبره بما عليه فعله وفي نفس الوقت ستكون حذرة في التعامل معه حتى تنتهي من هذه التمثيلية السخيفة تلك.

تصفعك الحياة فتتألم بصمت وتخبر الجميع حين يسألونك عن حالك أنك بخير، تكتوي برغبة البكاء أمامهم ولكنك على العكس تبتسم، تنتظر الليل كي تطلق دموعك الحبيسة وصرخاتك المكبوتة. حتى يأتي هذا الشخص الذي يفهم ألمك ويحتويك قد يكون صديقاً أو حبيباً. لا فرق. ليصبح صدره ملجأك حين تضيق بك الدنيا فإنك ترتمي بين ذراعيه وتفرغ مكنون قلبك فتشعر على الفور براحة في القلب تجعلك قادراً على تحدي كل الصعاب.

شعرت مروة بالدماء تغلى في عروقها لتقول بحنق:
أنا شايفة ان كفاية قوي لحد كدة وكل واحد فيكم لازم يروح لحاله ياسعاد، أشرف مبقاش إنسان طبيعي ممكن يتعاش معاه أو يتآمنله.
مسحت سعاد دموعها بأناملها قائلة بضعف:
وأنا بإيدي أعمل إيه بس؟
قالت مروة باستنكار:
تطلبي الطلاق او حتى تخلعيه. سعاد اللي أعرفها مش بالضعف اللي شايفاه ده. انتِ جرالك إيه؟

كبرت وعرفت ان اللي ملوش ضهر بياخد على قفاه يامروة، أشرف عرف ان بابا في صفه ومهما عمل فية مش هيقفله وعشان كدة بيعمل معايا كل ده وعارف في النهاية اني مضطرة أقبل لإني مش هعرف أعمل معاه حاجة ولا ليا حد ياخدلي حقي منه حتى الطلاق مش هيطلق ولو فكرت أخلعه هيقتلني او ياخد بنتي مني.
ودي عيشة دي؟
هزت سعاد كتفيها قائلة:
ربنا موجود وقادر يفرج همي.

ونعم بالله. والله ماأنا عارفة هسيبك إزاي كدة وهمشي، هفضل قلقانة عليكي ياسعاد.
عقدت سعاد حاجبيها قائلة:
تمشي تروحي فين؟
اسكندرية.
زادت تقطيبة سعاد الحائرة وهي تقول:
هتروحي اسكندرية ليه؟
تنهدت مروة قائلة:
دي حكاية طويلة لا فيكي عقل ولا بال تسمعيها.
لأ فية. قوليلي هتسافري اسكندرية ليه؟ وهتسافري لوحدك ولا هتاخدي صلاح معاكِ.
صلاح السبب أصلاً في مرواحي اسكندرية.
السبب. إزاي يعني؟
هحكيلك ياسعاد. هحكيلك كل حاجة.

أغلقت الحقيبة ثم حملتها حتى باب الشقة، وقفت تطالع جنباتها بشيء من الحنين، لقد عاشت عمرها كله هنا، تراءت لها ذكرياتها مع أهلها، جميعهم وافتهم المنية وتركوها وحيدة، ظلت هكذا ترى في العزلة عن البشر راحة تسمع فيها أفكارها ومشاعرها بوضوح وتبتعد بها عن اللغو والمشكلات. حتى تعرفت بسعاد فصارت لها أخت عوضتها غياب أختها فخرجت من عزلتها وشعرت بأنها حية من جديد ثم جاء الصغير صلاح لتدرك أن وجود شخص آخر بحياتها نعمة تحمل الروح لها وتجعلها تنبض بالألوان. وها هي من جديد تبتعد عمن تحب مضطرة، تضحي بأحدهم من أجل الآخر، تشعر بطعنة تنفذ إلى قلبها لأنها مضطرة لترك صديقتها في هذه الحالة من أجل طفلها، نعم طفلها هذا الذي شعرت بأنه خرج من رحمها هي ليضحي جزءا من روحها إن ابتعد عنها تموت. سقطت دموعها على وجنتيها وهي تقول بأسي:.

سامحيني ياسعاد. سبتك وهسافر غصب عني بس أوعدك اول ماهقدر هجيلك علطول ووقتها مش هسيبك أبداً.
طرقات على الباب جعلتها تحمل الصبي وتذهب إليه تفتحه بعد أن مسحت دموعها، نظرة منه شملت وجهها فأدرك أنها كانت تبكي ولكنها أطرقت برأسها أرضا، لتعود وترفعها إليه حين قال:
هاتي صلاح أشيله.

وجدت نفسها تتمسك به لا إرادياً وتهز رأسها نفياً، وللغرابة لم يصر على طلبه بل اكتفي بهزة من رأسه مفسحا لها الطريق لتتقدمه ففعلت بينما حمل حقيبتها وأغلق الباب يتبعها بهدوء.

توقفت أمام سيارته الفارهة والتي بدت غريبة عن هذا المكان البسيط، تتطلع إلى هذه الحارة التي عاشت بها عمرها كاملاً، تسلل إليها صوت مذياع مقهى الحي لتحين منها نظرة إلى هناك، وجدت عم ناجي صاحب المقهى يلعب الطاولة مع عم رأفت جارها يجتمع بعض سكان الحارة حولهم فتضج الأصوات تشجيعاً لهم، بينما يجلس بجوار المقهى عم سعيد على كرسيه الذي لايفارقه يبيع الحلوى لبعض الأطفال. نظرة شاملة منها لحي تشابهت فيه ملامح سكانه وظروفه، قلوبهم نقية رغم عثرات الزمن لتتساءل بصمت عن سكان القصور وما الذي ينتظرها هناك في الإسكندرية لتفيق من شرودها على صوته العميق ذو النبرات الرزينة:.

يلا بينا.
حانت منها نظرة مضطربة إليه قبل أن تهز رأسها بهدوء وتصعد إلى سيارته بعد أن فتح لها الباب ثم اتجه إلى مكانه خلف المقود ليقود رحلتها نحو المجهول.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة