قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل السابع عشر

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل السابع عشر

في قصر عائلة الجندي،،،
أعد مهاب حقيبته للسفر، وتأكد من وجود كل ما يحتاجه بداخلها، ثم ولج خارج غرفة نومه، ووقف على مقربة من الدرج، وصاح عالياً:
-عفاف .. ابعتي حد ياخد الشنطة من أوضتي
أتاه صوتها من الأسفل وهي تجيبه بنبرة رسمية:
-حاضر يا مهاب باشا
نظرت له ناريمان بجدية وهي تسير في إتجاهه وتحمل بين كفيها قدحاً من الشاي، وسألته بنبرة عادية:
-خلاص، نويت تسافر ؟

رمقها بنظرات مطولة قبل أن يوليها ظهره ويتجه نحو الغرفة قائلاً بنبرة منزعجة:
-أها، ويا ريت ما تسألنيش
سارت خلفه وهي عابسة الوجه، وأردفت بتجهم:
-مش ناوي تطمن على بنتك الأول وتشوف عملت ايه مع عريسها ؟
رمقها بنظرات مستهزأة من طرف عينه وهو يجيبها بسخط
-مش لما تكون جوازة عدلة الأول، ما انتي عارفة كويس هما اتجوزوا ليه !

-بس at least ( على الأقل ) هما اتجوزوا
-مش فارقة، انا ورايا شغل وعاوز انتهي منه
-اوكي يا مهاب .. براحتك !
ثم تركته بمفرده، وإنصرفت خارج الغرفة ..
بينما أمسك هو بهاتفه المحمول ودسه في جيبه، وإرتدى ساعته في يده، وتوجه نحو الخارج وهو يغمغم لنفسه:
-فرصة أبعد شوية و ارتاح من القرف ده كله، وأشوف نفسي يومين !

على مقربة من القصر،،،
ترجلت فردوس من الحافلة وهي تلهث بسبب الحرارة العالية والزحام الشديد ..
مسحت بطرف حجابها جبينها الذي تصبب عرقاً من المجهود الذي استهلك طاقتها، وجابت بعينيها المرهقتين المكان ..
ثم إبتلعت ريقها في حلقها الجاف، وحدثت نفسها بصوت لاهث قائلة:
-أنا كنت جاية من هنا، و.. والواد قالي أمشي من هنا ..!
خطت نحو طريق فرعي بخطوات متثاقلة، وحدثت نفسها بإصرار رغم الإجهاد البادي عليها:
-آآه يا ركبي .. معنتش قادرة منها، استحميلي يا فردوس عشان بنتك !

بعد دقائق قليلة كانت تقف هي على مقربة من بوابة القصر الحديدية ..
تابعت بحذر شديد حركة الحرس المرابط أمام البوابة ومسحت بلسانها على شفتيها المشققتين، ثم تشبثت بحافظة نقودها الصغيرة وسارت بخطوات واثقة في إتجاه هذا الضخم الذي تحدثت معه من قبل ..
رأها الحارس جمال وهي تقترب منه فإمتعض وجهه على الفور، ونفخ بضيق، وتحرك بخطوات سريعة صوبها ..
إرتسم على ثغرها إبتسامة رضا حينما رأته يقترب منها، وقالت بتلهف:
-ازيك يا ابني، ف.. فاكرني ؟

أمسك بها الحارس جمال من ذراعها، ودفعها بقسوة نحو الجانب، وصر على أسنانه ناطقاً بغلظة:
-تعالي معايا يا حاجّة !
نظرت له وبريق من الأمل يلوح في عينيها قائلة:
-أنا كنت عايزة آآآ..
قاطعها بصوت جاد وهو ينظر حوله بريبة:
-هانتكلم هناك !
-ماشي يا بني
سارت معه إلى أن توارى الإثنين عن الأنظار، فسألها بضيق واضح وهو يتلفت حوله:
-خير.

نظرت له بأعين دامعة وهي تسأله بتلهف:
-مافيش أخبار يا بني عن تقى ؟
أجابها قائلاً بنفاذ صبر:
-لأ يا ست مافيش
أطرقت رأسها في إنكسار واضح، وبدى الحزن في نبرة صوتها وهي تسأله بتلعثم:
-طب .. طب البيه أوس موجود جوا آآ.. ادخل أكلمه
نظر لها بحنق وهو يجيبها بإيجاز:
-لأ مجاش من إمبارح.

إنتحبت فردوس وأجهشت بالبكاء المرير وهي تتابع حديثها قائلة:
-ليه يا بني بتكدب على ست كبيرة زيي متعلقة في حبال الهوى ونفسها تعرف أي حاجة عن بنتها !
إحتقن وجه الحارس جمال وهو يرد عليها بإنفعال بائن:
-يا ست لا بأكدب ولا بأتنيل، أنا لو شوفتها هاقول، لكن بنتك مجتش هنا خالص !
ثم قام بدفعها من كتفها للخلف وهو يأمرها بصرامة:
-ويالا بقى من هنا بدل ما تعمليلي مصيبة
نظرت له برجاء، وصاحت متوسلة:
-حرام عليك.

نفخ من الضيق وهو يبتعد عنها قائلاً بسخط:
-يوووه، يا شيخة اتكلي على الله، شوفي بنتك في حتة تانية !
ثم تركها وإنصرف في اتجاه البوابة الرئيسية وهو يتمتم بكلمات غاضبة ...
وقفت فردوس في مكانها حائرة وعينيها تفيضان من الدمع حسرة على إبنتها ..
حانت من نظرة إلى الأعلى محاولة إكتشاف ما الذي يوجد خلف هذا السور العالي ...
وقالت لنفسها بيأس:
-يا ما كان نفسي أدخل جوا واجيبك، بس أنا عاجزة لوحدي، آآآآه يا بنتي ..!
ثم جرجرت ساقيها المرهقتين، وسارت مبتعدة عن القصر ..

في منزل أوس بمنطقة المعادي،،،،
وقف أوس أمام بقايا المرآة المحطمة مزهواُ بنفسه، معتداً بمآثره، يمشط شعره المبتل بفرشاته .. ثم إلتفت برأسه للخلف لينظر إلى تقى الفاقدة للوعي على الفراش ..
تقوس فمه في تلذذ عجيب وهو يتذكر كيف نالها رغماً عنها، وإستمتع مجدداً بشعور الإنتصار وإثبات رجولته الطاغية ..
هي حقاً تمكنت من إسعاده دون أن تدري .. لبت رغباته الحيوانية وأثبتت له أنه قادر على إخضاع أي أنثى ..
لقد ظفر بأخر معاركه، وإنتصر لنفسه ..

على الجانب الأخر، جاهدت تقى لتكتم أنين جسدها المغتصب وروحها المنتهكة ..
إدعت النوم لعلها تهرب من واقعها المخيف .. فليس بها أي ذرة أخرى لتتحمل إعتداء وحشي أخر منه ..
فهي لم تعدْ تشعر بأي شيء بعد أن افترسها بلا رحمة سوى بالآلام الموجعة التي تفتك بها ..
ألقى أوس بالفرشاة دون إكتراث، وعدل من وضعية أكمامه، واقترب من الفراش، وجثى بركبته على طرفه، ومال على أذنها ليهمس قائلاً:
-شوية و راجعلك تاني !

إعتصرت تقى عينيها بقوة محاولة كتمان شهقاتها لعل تمثيليتها الزائفة بأنها غافلة تنجلي عليه ...
هي تبغض أنفاسه القريبة والحارقة لها، وتمقت كل لحظة يكون فيها إلى جوارها ..
لقد ذبحها بسكين بارد، ووقف متشفياً على بقاياها، مستمتعاً بجسدها المذبوح ..
شعر هو بتلك التنهيدات المكتومة تخنقها، فأراد أن يتسلى أكثر بها ..
لذا جذبها بقسوة من شعرها فصرخت عالياً:
-آآآآه .. لأ.

حاولت أن تخلص خصلات شعرها من أصابعه القاسية، ولكنها فشلت .. بينما أطبق هو بكفه على فكها وإعتصره بقوة أشد متلذذاً برؤية دموعها تغرق كفه .. وصر على أسنانه قائلاً بنبرة تشبه الفحيح وهو ينظر مباشرة في عينيها:
-خلي الآهات لليل وأخره ..!
ثم أرخى قبضتيه عنها، ورمقها بنظرات جريئة متفحصة لظهرها المكشوف أمامه، وأضاف قائلاً:
-وأنا مش هاغيب كتير عنك .. !
توجه أوس إلى باب الغرفة، وصفعه خلفه بقوة، فإنتفضت تقى على إثر الصوت وهي تجهش بالبكاء المرير صارخة بإنكسار:
-آآآآآآآآآآآآآه ...!

على مقربة من قصر عائلة الجندي،،،
فُتحت البوابة الرئيسية للقصر لتخرج سيارة مهاب الجندي ويقودها سائقه الخاص حيث إتجهت في الطريق الذي تسير فيه فردوس بخطواتها البطيئة ..
قاد السائق السيارة على مهل محاولاً إعطاء الفرصة لتلك العجوز لكي تسبقه .. ولكن إنزعج مهاب من بطء السيارة، فقال بضيق:
-إنت مش ملاحظ إني مستعجل يا بني آدم إنت
نظر السائق إليه عبر المرآة الأمامية، وأجابه بهدوئه المعهود:
-يا فندم في واحدة عجوزة ماشية قدامي.

لوى مهاب فمه في إمتعاض قائلاً بعدم إهتمام:
-دوسها، اخبطها، بس مش عاوز تأخير
زم السائق ثغره في تأفف، ورد عليه بإستسلام:
-ح.. حاضر يا فندم
ضغط بقبضته على بوق السيارة لتنتبه له تلك العجوز ..
وبالفعل إستدارت برأسها ناحية السيارة الفارهة التي تسير خلفها، ونظرت بإرهاق لسائقها، وهتفت بحدة وهي تلوح بيدها في الهواء:
-بالراحة يا بني، مستعجل على إيه.

نظر لها مهاب شزراً، وصرخ بصرامة جادة:
-مش قوتلك دوسها، ولا إنت مش بتنفذ الأوامر يا بهيم إنت !
أجابه السائق بتلعثم وهو يضغط على البوق:
-يا فندم هي آآآ...
قاطعه مهاب وهو يأمره بحدة:
-دوسها ..!

اضطر السائق أن يمتثل لأوامر رب عمله، وإنحرف بالسيارة بحرفية فائقة لكي يجبر فردوس على الإبتعاد عن منتصف الطريق، ولكنها لم تستطع أن تضبط خطواتها، فتعثرت وهي تحاول الركض، وإلتفت ساقيها حول الأخرى، وسقطت على الأرضية الترابية، فلامسه جبينها، وتغبرت عباءتها السوداء .. فصاحت بإهتياج وهي تشير بيدها بعد أن رفعت وجهها عن الأرضية:
-يا عالم إتقوا الله، ده احنا بشر مش حيوانات ماشية قصادكم، منكم لله، منكم لله ...!
ثم نفضت يديها، وأمسكت بحافظة نقودها، وبتثاقل تحاملت على نفسها ونهضت عن الأرضية وهي ترثي حالها ...

في جناح العرائس بالفندق الشهير،،،،
تمدد عدي على الأريكة العريضة، وأمسك بثمار الفاكهة يتناولها واحدة تلو الأخرى بهدوء عجيب وهو يشاهد التلفاز ..
كان يشعر بإنتشاء عجيب وهو يرى إنتصاره قد تحقق نصب عينيه ..
لم يحتاج إلى مجهود يُذكر معها، فالكلمات المعسولة قد أتت بنتائجها مع تلك الساذجة، وكيف لا يتمكن من خداعها وهو منغمس حتى أخمص قدميه في الرزائل
إبتلع حبات العنب الطازجة، وحدث نفسه بتفاخر قائلاً:
-مش ناقصني غير كام صورة من إياهم على الفيس بوك والمجلات، والناس تحكي عن قصة الحب الكبيرة اللي بينا، وأبقى محيت بأستيكة الماضي ابن ال *** اللي شابهني، وأفضى بقى لسهرات وليالي زمان !

نفخت ليان بضيق واضح وهي تضم ركبتيها إلى صدرها، وتعقد ساعديها حولهما .. وهمست لنفسها بحنق:
-أنا اللي عملت في نفسي كده، كان فين my mind ( عقلي ) وأنا بوافق عليه، طب هاقول ايه لمامي ولا دادي، إن اللي اخترته طلع **** !
أرخت ساعديها، وأسندت مرفقها على ركبتها، ثم مالت برأسها على كفها، وأضافت بحزن:
-مش لازم حد يعرف بالكارثة دي !
ثم حدقت في نقطة من الفراغ أمامها، وتوعدت قائلة:
-وأنا بنفسي اللي هاخلص منك قريب يا عدي، وهادفعك تمن الكدبة اللي كدبتها عليا، هي بس مسألة وقت يا *** وهاتشوف مين هي ليان الجندي !

في أحد المقاهي الشعبية،،،
نفث أحمد دخان الشيشة المحبوس بصدره، ثم إرتشف بضع رشفات من فنجان القهوة، و قال بخشونة لرفيقه الجالس إلى جواره:
-أديني بلقط رزقي من أي مصلحة، أنقل لده بضاعة، أوصل زبون
أسند رفيقه قدح الشاي، ونظر له بجدية وهو يتابع ب:
-طب ما تعمل جمعية وتجيبلك مكروباص بالقسط، وأهو يطلعلك منه حسنة
رمقه أحمد بنظرات مقتضبة وهو يجيبه بسخط:
-يا عم هو أنا معايا مليم، ده أنا يدوب مقضيها حبة من هنا وحبة من هناك
إرتشف رفيقه أخر جزء من الشاي الساخن، وأضاف قائلاً:
-ربك بيقول إسعى يا عبد وأنا أسعى معاك
-ماهو أنا آآآآ...

توقف أحمد عن إتمام جملته حيث رن هاتفه المحمول برقم غريب، فحدق بالشاشة في استغراب، وتسائل مندهشاً ب:
-ده مين ده ؟ أنا معرفش النمرة دي !
ضيق رفيقه عينيه، وأشار له بكفه وهو يهتف بإصرار:
-طب ما ترد عليه
ثم صمت للحظة قب أن يتابع مازحاً:
-أوعى تقولي بتخاف من المعاكسات ؟
نظر له أحمد بإستهزاء وهو يجيبه ببرود:
-يا عم معاكسات إيه بس، استنى كده أما أشوف
تنحنح هو بصوت عالي وهو يضغط على زر الإيجاب قائلاً:
-ألووو .. مين ؟

جاءه صوت المتصل على الجانب الأخر
-الأستاذ أحمد
أجابه أحمد ببرود شديد وهو ينفث دخان الشيشة:
-أه أنا، مين معايا ؟
-هاتعرف لما تيجي على العنوان ده !
حك أحمد رأسه بعد أن ألقى بالشيشة على الطاولة وهو يسأله بفضول:
-مش أما أعرف قبلة إنت مين ؟
-معاك المحامي أمجد سعفان، مدير مكتب الباشا سامي الجندي
جحظ أحمد بعينيه في صدمة وهو يجيبه بذهول قائلاً بعد ان نهض من مقعده مفزوعاً:
-مين ... ؟

في منزل أوس بمنطقة المعادي،،،،
وقفت تقى تنظر للكدمات الزرقاء والخدوش المحفورة في أجزاء متفرقة من جسدها أمام المرآة في المرحاض وهي تبكي بحسرة على حالها ..
فما أُرتُبك في حقها لم يفعله شخص سَوِيّ بل أقل ما يوصف به أنه ذئب غير طبيعي ..
تحسست بحذر تلك الكدمة الكبيرة على فخذها، وتأوهت بأنين واضح وهي تحاول نزع بقايا فستانها الملوث بدماء طُهرها ومقاومتها ..
مسحت بأناملها الضعيفة عبراتها، وهمست لنفسها قائلة بإنكسار:
-اشمعنى أنا ؟ ليه ؟

أطلقت لنفسها العنان لتخرج ما في صدرها، وبكت بحرقة أشد وهي تصرخ بإنفعال:
-ليه اتكتب عليا أتدبح على واحد زي ده، قتل كل حاجة كانت حلوة فيا، ليه ؟ عملت ايه غلط ؟ ما أنا طول عمري راضية بحياتي، وبنصيبي .. ليه يا ربي ؟ الحمل كبير عليا، أنا مش قادرة، أنا بأموت كل لحظة وأنا معاه، يا رب .. يا رب
إنهارت على أرضية المرحاض الباردة – وهي شبه عارية – ودفنت وجهها بين راحتي يدها، وتابعت بإهتياج:
-يا ريتني أموت وأرتاح من ده كله .. يا رب خدني، يا رب
ثم لمحت بعينيها تلك القطع الزجاجية المتناثرة على عتبة المرحاض، فبرقت عينيها، وتوهجت بوميض غريب.

إبتلعت ريقها وهي تقاوم سيطرة فكرة التخلص من حياتها على عقلها ..
لماذا تتحمل تلك الحياة اللا آدمية مع حيوان لا يعرف الرحمة ؟ فالموت أسهل بكثير من أن تخوض ذلك العذاب اليومي والمذلة المهينة على يديه ..
زحفت رغم آلامها على الأرضية لتتجه نحو عتبة المرحاض ..
مدت يدها المرتجفة لتمسك بقطعة الزجاج الحادة، ورفعتها نصب عينيها ..
رأت فيها إنعكاس شبحها، وببطء مصوب بالإرتعاش أنزلتها على رسغها ..
بكت بحرقة وشهقت بصراخ وهي تلصقها بجلد رسغها المتورم من أثار حزامه الجلدي ..

لم تشعر بآلام تلك القطعة الحادة وهي تخترقها .. فآلام نفسها أكثر بكثير ..
ثم سمعت صوتاً تطرب له الآذان يصدح من الخارج بقوة.. فإنتبهت حواسها له، وتوقفت عن إكمال غرز القطعة الزجاجية .. ورفعت بصرها نحو تلك النافذة العلوية الموجودة بالمرحاض .. ولمعت عينيها المتورمتين ببريق مختلف ..
نعم إنه صوت الأذان يأتي من مسجد قريب .. ذلك الصوت الذي آسر أذنيها، وجعلها تهدأ قليلاً، كم إشتاقت له، وكم أعادها سريعاً لذكريات طيبة مع عائلتها ..

نعم لقد جعل روحها المضطربة تسكن، وأعاد لذاكرتها ذكرياتها الجميلة مع والدها حينما كان يصطحبها معه للصلاة فور أن يؤذن لها ..
إبتسمت لنفسها وهي تتذكر كيف كانت تركض - بضفائرها الصغيرة - فرحة للمسجد لتؤدي الصلوات المفروضة وهي تهتف قائلة:
-يالا يا بابا، هايصلوا قبلنا
إبتسم لها والدها وهو يجيبها بصوت هاديء:
-يا بنتي استني، لسه في وقت على الإقامة !

-إنت مش قايلي يا بابا إن اللي بيروح المسجد أول واحد كأنه ضحى بجمل، واللي بعده بشوية ببقرة، واللي بيتأخر كمان شوية زي اللي ضحى بفرخة، واللي بيوصل يا بابا متأخر خالص خالص بيضحي ببيضة
-ايوه يا تقى
-طب أنا عاوزة أضحي بجمل مش بيضة
ضحك لبرائتها، وأردف قائلا بحنو أبوي:
-ربنا يباركلي فيكي يا تقى، ويحفظك
تنهدت بإختناق وهي تبكي ذكرياتها البعيدة مع أقرب شخص لقلبها ..

ذرفت الدموع بلا توقف وهي تحدث نفسها بصوت مبحوح:
-وحشتني يا بابا، وحشني حضنك .. وحشتني الأيام دي أوي .. آآآآآآه .. كله راح مني، آآآآآه .. كله ضاع
إزداد نحيبها، وعويلها .. وظلت تهز رأسها رافضة واقعها .. ثم دفنت وجهها في راحتيها، وصرخت بصوت مكتوم
لم تعبأ بالدماء التي تنزف من رسغها المجروح، وإمتزجت دموعها بدمائها.

صدح صوت إمام المسجد وهو يقيم الصلاة مردداً بعذوبة ملائكية آيات الذكر الحكيم جعلتها تتوقف فجأة عن البكاء، وأبعدت راحتيها عن وجهها الذي تلطخ بدمائها ...
نعم لقد كان صوته عذباً شجياً وكأنه كالبلسم لروحها المعذبة ..
إستمعت لصوته وهو يتلو: " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
وجدت تقى في تلك الآية الإجابة عن سؤالها ..

تحاملت على نفسها، وزحفت نحو المغطس، وأسندت كفيها على طرفه لكي تنهض عن الأرضية .. ثم بحماس مفاجيء قررت تقى أن تلجأ إلى الله – بصدق - في محنتها، أن تستعين بالصبر والصلاة على تلك البلوى .. وتجاهد نفسها من أجل الخلاص ..
هي حقاً في إبتلاء تحتاج فيه إلى معنويات روحانية عالية، تحتاج إلى دعم نفسي قوي حتى تتجاوز تلك الأزمة
قررت ألا تستسلم لمصيرها البائس .. وأن تقاوم رغبات الشيطان بإيمانها القوي ..
أن تتسلح بما تعلمته من أبيها الطيب من مواجهة الشر بالإستعانة بالله، وباللجوء دوماً إليه ..

حدثت نفسها برجاء:
-يا رب عيني عليه، ونجيني منه !
نزعت عن جسدها الفستان، ورفعت ساقها لتدخل إلى المغطس، وأدارت الصنبور، وتركت الماء الساخن ينهمر على جسدها ليغسل عنها ما علق فيها من رائحته العفنة ..
رأت الدماء تغطي أرضية المغطس الصلبة، فإختلطت عبراتها مع الماء ..

شعور رهيب بالدوار يجتاح رأسها فجعلها مترنحة غير قادرة على الوقوف ..
إستندت بكفيها على الحائط المبلل، ولكنها لم تستطع حفظ توازنها ..
فسقطت فاقدة للوعي، وإرتطمت رأسها بقوة بحافة المغطس، فجُرحت بعمق، ونزفت بغزارة، وتمددت كالموتى بداخل المغطس الذي غمرته المياه...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة