قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الرابع والأربعون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الرابع والأربعون

في مخفر الشرطة
ألقى أوس الجندي بالقلم على الورقة الخاصة بالمحضر الرسمي بعد أن إنتهى الضابط من أخذ أقواله، وحدج أحمد بنظرات نارية متوعدة قبل أن ينطق بصوت قاتم:
-أقدر أمشي ؟!
تنحنح الضابط بصوت خشن وهو يجيبه بهدوء:
-اه طبعاً يا فندم !

ثم أدار رأسه في إتجاه الحارس أحمد الذي يقف على بعد، وتابع قائلاً بنبرة رسمية:
-وأتمنى حضرتك تكون فهمت الموقف، أي حد كان مكان الأستاذ كان هايتصرف كده، اتهام بخطف أنثى من بيتها، وتحت التهديد، والمفترض إنها خطيبته، فطبعاً تصرفه منطقي، لكن كون إن حضرتك جوزها فده ينفي الواقعة تماماً !

لوى أوس فمه بطريقة متهكمة، ولم يكف عن رمقه بنظراته الساخطة قائلاً بخفوت:
-هه !
ابتلع أحمد ريقه بخوف شديد، وهتف قائلاً بتوتر وفرائصه ترتعد ب:
-يا حضرت الظابط !
انتبه له الضابط، ونظر له بتمعن، فأشار أحمد بيده وهو يتابع قائلاً بهلع:
-أنا عاوز أعمل محضر عدم تعرض ضد الباشا ده
فغر الضابط فمه مصدوماً بعد أن تبدلت تعابير وجهه للإندهاش:
-هاه ! بتقول ايه.

هز أحمد رأسه بتوتر شديد وهو يكمل بخوف:
-ايوه، ده.. ده ممكن آآ...
نهض أوس عن مقعده، فهربت الكلمات من على طرف لسان أحمد فلم يكمل جملته..
ثم حدجه أوس بنظرات مشتعلة وهو يردف قائلاً بصوت متصلب:
-انا وقتي خلص مع اللي زيك !

ثم تحرك في إتجاهه، وحدق فيه بنظرات اكثر قسوة من عينيه الجامدتين، وتابع حديثه بشراسة:
-بس مابنساش حد فكر يجي جمب اللي يخصني !
ثم إنصرف من المكان دون أن ينتظر حتى محاميه الخاص الذي وقف يتبادل الحديث مع الضابط..
بينما لعن أحمد حظه السيء الذي أوقعه مجدداً مع ذلك الشيطان الذي لا يعرف المغفرة أو الصفح...

في منزل تقى عوض الله
لم تتحمل تهاني الوقوف على قدميها بعد تلك الصدمات المتتابعة عليها، فسحبت أقرب مقعد وجلست عليه وهي تشهق بصعوبة..
حاولت هي أن تتغلب على صدمتها، وتستوعب ما حدث..
هزت جسدها بحركة عصبية ثابتة وهي تحدث نفسها بآسى وبعدم تصديق:
-يعني.. يعني أوس هو.. هو اللي عمل كده في تقى ؟!

وضعت يديها على رأسها بعد أن طأطأتها في خزي لتكمل قائلة بحسرة:
-هو اللي دبحها، وخلاها توصل للحالة دي، طب لييييه ؟ لييييه يا بني ؟ ليه ؟ عملت فيك ايه عشان تعمل فيها كده ! آآآآه..!
أخذت تهاني نفساً عميقاً، وحبسته في صدرها لتكتم صوت أنينها الذي يعتصر قلبها، ثم زفرته بحزن وهتفت قائلة بمرارة:
-آآآه، أنا كنت فين عشان تبقى بالصورة دي يا أوس، إنت بقيت زي أبوك، هو اللي رباك وعمل فيك كده يا ضنايا، خلاك نسخة منه في بشاعته ووحشيته، ويوم ما تيجي يبقى بنت خالتك الطيبة، آآآآه.. ضيعت ابني يا مهاب، ضيعته، وضيعت اللي حواليه كلهم، منك لله يا شيخ، منك لله !

ولجت إجلال من الداخل ومعها فردوس، ونظرت بإشفاق إلى تهاني، فهمست لها بحنو ب:
-خدي بالك من أختك، هي برضك مالهاش ذنب في أي حاجة
رمقت فردوس أختها بنظرات منفرة، ثم لوت فمها بإستنكار قائلة:
-ربنا يسهل !
ودعتها إجلال، وأغلقت فردوس الباب خلفها، ثم إستدارت عائدة لتقف قبالة أختها..
عقدت ساعديها أمام صدرها، وصاحت قائلة بغضب:
-شوفتي الكلام اللي بيتقال يا تهاني
رفعت تهاني رأسها المنكسة، ونظرت إلى أختها بأعينها المتورمتين، وهمست قائلة بصوت متحشرج:
-في ايه تاني ؟

صاحت فردوس بصوت شبه منفعل وهي تشير بيدها:
-ان الجدع المفتري ده هو.. هو ابنك !
نهضت تهاني عن المقعد، ولطمت على صدرها بحركات ثابتة، وهي توليها ظهرها، ثم أجابتها بصوت باكي:
-آآآآآه.. يا حرقة قلبي على الغاليين كلهم !
تبعتها فردوس وهي تصيح بها بتشنج:
-بطلي نواح وردي عليا، ده ابنك ولا لأ ؟

وقفت تهاني على عتبة غرفة تقى، ونظرت بإشفاق وحسرة على تقى الراقدة على الفراش، ثم رفعت ذراعها ووضعته على الباب، ومن ثم أسندت رأسها عليه، وهزته في إنكسار وهي تجيبها بمرارة شديدة:
-مش عارفة أرد أقول ايه يا أختي، أقولك ابني بس معرفتش أربيه، وأبوه علمه يكون كده زيه، ولا.. ولا أقولك مش ابني ولا أعرفه !
سألتها فردوس بصوت فج وصادح دون أن يهتز لها جفن:
-يعني أوس الجندي ابنك يا تهاني !

على تلك العبارة الأخيرة،أفاقت تقى من نومتها، وإرتعشت بشدة وهي تستمع لإسمه القاسي يخترق آذانها، فتكورت على نفسها، وإرتجفت أكثر وهي متشبثة بالملاءة..
لقد كانت مفاجأة أخرى صادمة لها..
الوحش الهمجي الذي ذبحها وإغتال برائتها، وقضى على إنسانيتها هو الأقرب لها..
هو من دمائها.. ومن تلذذ بتعذيبها، وتفنن في إخضاعها وكسر روحها..
طيف ذكرياتها المشينة والموجعة معه كان يتجسد من جديد في عقلها ليزيد من رجفتها وخوفها منه..

تابعت فردوس قائلة بنزق دون أن تهتم بما يحدث لإبنتها:
-أهوو ابنك ده السبب في كل المصايب اللي احنا فيها، هو اللي سجني، وخرب البيت، وفي الأخر فضح بنتي وضيعها !
إلتفتت تهاني برأسها نحوها، وردت عليها بخزي:
-بس.. بس هي متجوزاه !
هدرت بها أختها قائلة بجموح:
-ومين يعرف ده غير احنا، الفضيحة والعار حطوا راسنا في الوحل يا تهاني، بقينا فرجة الناس كلها !

أجهشت تهاني بالبكاء المرير.. وهتفت قائلة بتوسل واستعطاف:
-آآآه.. كفاية يا فردوس، كفاية، إنتي مش حاسة باللي أنا فيه !
كانت تقى على الجانب الأخر تبكي بصوت مكتوم، وتدفن وجهها في وسادتها كي لا يصدر صوت نحيبها..
ووالدتها تتعمد وضع الملح على جروحها التي لم تندمل بعد لتزيد من لهيب عذابها ومعاناتها بحديثها الجامح..
أخرجت تهاني تنهيدات حارقة وآسفة وهي تصرخ بتشنج:
-آآآآآه.. آآآآه.

رمقتها فردوس بنظراتها القاسية وهي تكمل بجمود معنفة إياها بشدة:
-ابنك مهما عمل محدش هايكلمه، ده قادر وواصل، وايده طايلة، لكن احنا.. احنا مكنش عندنا الا الشرف وراح، وإداس علينا !
نظرت له تهاني بإستنكار وهتفت مدافعة وهي تشير بيدها ب:
-ابني اتاخد غصب مني زمان، وأنا معرفتش حاجة عنه، والوقتي جاية تحاسبيني على اللي عمله !
صرخت بها فردوس بشراسة وهي تلوح بكفها:
-أومال أحاسب مين ؟ قوليلي ؟ مين هايجيب حق بنتي ؟!

ردت عليها تهاني بنشيج خافت:
-هو بيقول متجوزها
صاحت فردوس بتعابير وجهها المتشنجة ب:
-ده كدب، كلام قاله عشان آآ..
قاطعتها تهاني قائلة بتبرير:
-لأ مش كلام، ما أنا قولتلك الدكتورة رجاء قالت إن تقى متجوزاه
لوت فردوس فمها قائلة بتهور وهي ترمقها بنظراتها الساخطة:
-تلاقيه ملعوب تاني عملاه معاه
تشنجت تهاني أكثر وهي تهتف بمرارة:
-يا شيخة حرام عليكي، معلوب ايه وزفت ايه، ما أنا طول عمري قدامك أهوو، كنت بأعاني وعقلي مش فيا، واتظلمت، واتبهدلت !

هزت فردوس رأسها في عدم إقتناع وهي تقول بإستنكار:
-أنا معرفش عنك حاجة يا تهاني من يوم ما سافرتي من 30 سنة، ورجعتي بعدها وإنتي عقلك تعبان، ايه اللي يخليني أصدق الكدب اللي بيتقال ده كله ؟!
ردت عليها تهاني بصوت مبحوح وهي تمسح عبراتها ب:
-أنا هاحكيلك عن كل حاجة حصلتلي، وإنتي أحكمي

في منزل ممدوح الجديد
خرج ممدوح من المرحاض وهو يلف نصفه السفلي بالمنشفة القطنية، ثم حدق بنظرات مذعورة في رحمة الممسكة بصور فوتغرافية، ووقعت عينيه على الصندوق القديم، فهتف بصراخ صادم:
-إنتي بتعملي ايه ؟!

إنتفضت رحمة في مكانها، وألقت بالصورة على الفراش، ونظرت بفزع إلى ممدوح، وردت عليه بصوت متقطع:
-آآآ..مافيش، أنا.. أنا كنت بس باتفرج على أوضتك
رمقها بنظراته القاسية وهو يجمع الصور ويضعها بداخل الصندوق قائلاً بنبرة متعصبة:
-ازاي تمسكي حاجة مش بتاعتك !
إرتبكت رحمة، ونظرت إليه بخوف من طريقته المتشنجة، وردت عليه بتوتر بعد أن نهضت عن الفراش:
-أنا مقصدش، بس..بس أصل آآآ...

رفع ممدوح عينيه ليرمقها بنظراته المحتقنة وهو متجهم الوجه، فتابعت هي بتردد:
-أنا.. أنا عارفة الست اللي في الصورة دي !
إنتبهت حواس ممدوح بدرجة كبيرة عقب جملتها الأخيرة..
فالصورة التي كانت ممسكة بها هي لتهاني في شبابها..
لذا إتسعت حدقتيه في صدمة، وسألها برعب:
-بتقولي ايه ؟

ابتلعت ريقها بتوتر، وأجابته بتلهف وهي تتفرس في تعابيره المتقلبة:
-ايوه، دي.. دي ولية مجنونة ساكنة عندنا بقالها زمن !
ألقى ممدوح بالصندوق على الفراش، وأمسك بها من ذراعيها، وهزها بعنف شديد وهو يأمرها بنبرته المتصلبة:
-ساكنة فين انطقي ؟
شعرت بقبضتيه تعتصران ذراعيها، فإلتوت شفتيها من الآلم، و ردت عليه دون أدنى تأخير وهي ترمش بعينيها في خوف:
-عندنا في الحارة
أرخى قبضته عن ذراعها ليقبض على عنقها، ويسألها بشراسة تبرز من بين أسنانه:
-فين حارتكم دي ؟

ردت عليه بصوت مختنق وهي تحاول إلتقاط أنفاسها بصعوبة:
-عند آآ.. ((...))
حفظ ممدوح العنوان عن ظهر قلب، ثم ترك عنقها، فسعلت رحمة بقوة، وتحسست بأيدٍ مرتجفة مكان أصابعه المطبوعة عليه..
ابتعد هو عنها، وأسند كف يده على جبينه، وغمغم مع نفسه بجدية قائلاً:
-لازم أوصلها بسرعة قبل ما تختفي تاني، ايوه، وهابلغ ناريمان بده !

ثم إستدار برأسه ناحية رحمة، وتنحنح بخشونة، واقترب منها بحذر.. ومن ثم أردف قائلاً بهدوء زائف:
-سوري رحمة.. آآ.. أصل أنا تعبان شوية
نظرت هي له شزراً، وعبست بوجهها بوضوح، ونهرته قائلة:
-يا باشا لو تعبان قولي أمشي، مش تخنقني بالشكل ده !
-معلش يا ريري، امشي الوقتي، وهاكلمك تاني.

رمقته بسخط وهي تنحني بجسدها للأسفل لتلتقط ثيابها الملاقاة على الأرضية قائلة لنفسها بتذمر:
-يعني اليوم اضرب عندي، وطلعت منه بلوشي ( بدون مقابل مادي ) !
تابعها ممدوح بنظرات مترقبة إلى أن جمعت متعلقاتها الخاصة، وتوجهت للمرحاض لتكمل إرتداء ملابسها..
ثم سار في اتجاه خزانة ملابسه العريضة ليضع بها الصندوق القديم في الضلفة المفتوحة، ومن ثم أخرج بدلته ليرتديها على الفور حيث المشوار الهام الذي سيقوم به بعد إنصراف رحمة...

في منزل تقى عوض الله
سردت تهاني لأختها فردوس ما جرى لها قبل عقود، منذ لحظة سفرها في البعثة التعليمية، وإلتحاقها بالعمل، وبعدها زواجها الأول من الطبيب الثري مهاب الجندي، وإكتشافها لوحشيته وقساوته، وتصرفاته الغير سوية، ثم إنجابها لطفلها الأول أوس.. وانفصالها عنه لاحقاً بعد أن طلقها للمرة الثالثة.. وما تبعه من زواجها من رفيقه ممدوح، وإنجابها لرضيعتيها ووفاتهما في حريق هائل بغرفة مكتبها بالمشفى الذي كانت تعمل به..

ثم إنهيارها العصبي، ومكوثها لبرهة في مشفى للأمراض النفسية، وطلاقها من زوجها الأخير.. وسعيها للحصول على ابنها، وتمكن مهاب من طردها والتهديد بالزج بها في السجن بتهم زائفة، وترحيلها جبرياً لتُحرم من كل ما كانت تملكه يوماً.. حياتها، أطفالها، أموالها، حريتها، وأخيراً عقلها..
تنهدت تهاني بحرقة مريرة وهي تطلق لعبراتها العنان مكملة بنشيج:
-عاوزاني أبقى بعقلي ازاي بعد ده كله، ردي عليا !

نظرت لها فردوس بجمود، ثم ردت عليها بقسوة:
-مش يمكن تكون دي تمثيلية إنتي مألفاها !
هدرت بها تهاني بصوت متشنج قائلة:
-حرام عليكي ! بعد اللي سمعتيه بتقولي تمثيلية ! طب ما أنا قدامك أهوو بقالي سنين، شوفتي حالتي كانت عاملة ازاي ؟ ولساني كان بيقول ايه ؟ فوقي يا فردوس من الأوهام دي !

لوت فمها وهي ترد بإمتعاض ورافعة لحاجبيها للأعلى:
-أنا مابقتش عارفة أصدق ايه ولا ايه !
تابعت تهاني قائلة بنبرة استعطاف:
-دي الحقيقة وربنا شاهد عليا، أنا شوفت الويل كله، واتحرمت من كل حاجة، وابني لو كان بشع بالصورة دي فأبوه هو السبب، هو اللي رباه على كده، وأنا.. وأنا لو كان آآ...
قاطعتها فردوس بسخط وهي تشير بيدها:
-أل يعني لما تقولي كده هترجعي اللي فات، ماهو اللي حصل حصل خلاص !

نظرت لها تهاني بتوسل، وأمسكت بها من ذراعها وهي تهتف بنبرة راجية:
-هاصلح اللي اتكسر يا فردوس، وهاعوض بنتك عن اللي فات، بس.. بس أوصل لإبني الأول !
نظرت لها أختها بنظرات محتقنة، وهتفت بتهكم عصبي:
-ده على أساس انه هيرمي نفسه في حضنك أول ما يشوفك
ثم أولتها ظهرها لتنظر بإحتقان إلى ابنتها الراقدة على الفراش، وأطلقت سبة خافتة..
وضعت تهاني يدها على كتفها، وضغطت عليه وهي تتوسل لها ببكاء:
-يا ستي هحاول معاه، بس.. بس قوليلي هو فين ؟ ساكن فين ؟ أوصله إزاي ! اكلمي يا فردوس !

في سيارة ممدوح
وضع ممدوح هاتفه على أذنه بعد أن إتصل بناريمان، وإنتظر ردها بفارغ الصبر، وما إن سمع صوتها حتى هتف بها بجدية:
-اسكتي يا ناريمان واسمعيني كويس
ردت عليه بتوجس قائلة:
-في ايه ؟
هتف بها بنبرة حادة وهو يضغط على دواسة البنزين:
-انا عرفت تهاني أعدة فين !
صرخت بصدمة ب:
-ايييه !

وظلت للثوانٍ في حالة ذهول محاولة إستيعاب ما قاله للتو
صاح بها بصوت جاد قائلاً حينما لاحظ صمتها المريب:
-مش وقته خالص، اكتبي عندك العنوان ده وحصليني على هناك !
أجابته بتوتر شديد وهي تحاول فهم ما يدور في عقله ومتسائلة ب:
-اوكي، بس انت ناوي على ايه ؟
حدق أمامه بنظرات عميقة تحمل الشر وهو يكز على أسنانه قائلاً بقسوة:
-هانهي كل حاجة، بس انجزي !
-تمام

في فيلا عدي
أمسكت ليان بالسكين الخاص بتقطيع الطعام، وحدقت به ببريق غريب يسطع من عينيها..
بدت تصرفاتها مريبة وهي تتفحصه بتلك الطريقة..
وإرتسم على وجهها ابتسامة شيطانية وهي تقرب نصل السكين من رسغها..
وفي نفس الوقت خرج عدي من المرحاض وهو ينشف رأسه المبتل بمنشفته، وتفاجيء بما تفعله ليان، فتحولت نظراته للذعر، وصرخ فيها بهلع:
-ليان !

إبتسمت له بشراسة بعد أن أدارت رأسها في إتجاهه قائلة ببرود قاسي:
-كده هاموت من غير وجع جامد، صح ؟
حدق بها بخوف واضح وهتف لها متوسلاً:
-إنتي.. إنتي هاتعملي ايه، ارمي السكينة دي
ردت عليه ببرود أقسى وهي تعبث بالسكين:
-تؤ.. دي حتى بتقطع كويس
صاح بها بنبرة استعطاف وهو يتحرك صوبها بخطوات حذرة:
-ليان ! اسمعيني، انتي اللي بتعمليه ده غلط، وآآ.. وأنا خايف عليكي تأذي نفسك !
ضحكت بصورة هيسترية وهي ترجع رأسها للخلف، ثم تشدقت قائلة بإستهزاء وهي تلوح بالسكين أمامه:
-ههههههه.. انت بتخاف عليا !

ثم عاودت الضحك مجدداً، ورمقته بنظراتها المحتقرة قبل أن تضيف بهدوء مريب:
-لأ حقيقي خايف ؟ تؤ تؤ تؤ ! مش إنت يا عدي، I don't believe it ( مش مصدقاك )
أشار بكف يده بإرتعاد وهو يتوسل لها بنبرة راجية ناظراً إليها بإضطراب:
-اسمعيني، أنا عارف إني غلطت في حقك، وضحكت عليكي، بس والله خايف عليكي ! صدقيني !
صرخت فيه بإهتياج وهي تلوح بالسكين في وجهه ك
-شششششش.. مش تكلم خالص، إنت أكتر واحد كداب، زيك زي الواطي اللي خدعني، زي مامي اللي مش طلعت مامي، أنا.. أنا ماليش حد، أنا مش بنت حد، أنا لوحدي في الدنيا دي
أصبح عدي على بعد خطوتين منها، وقال بنزق وهو مسلط عينيه على السكين:
-ليان كل دي أوهام، وآآ..

قاطعته بصراخها المخيف ب:
-بس، مش عاوزة أسمع صوتك، أنا هاريحكم كلكم مني !
ثم قربت نصل السكين من رسغها لتغرزه فيه، فهتف عدي بذعر:
-لألألأ !

ثم ألقى بثقل جسده عليها ليمنعها من تنفيذ تهديدها، فسقط كلاهما على الأرضية، وأحاط بها عدي من الخلف، وطوق ذراعيها بكفيه، وقبض على معصمها الممسك بالسكين، وأبعده عن جسدها، وجثى فوقها ليمنعها عن الحركة، فتشنجت بجسدها، وإنتفضت بشدة وهي تصرخ بإهتياج:
-سيبني أموت، سيبني !
ضرب بمعصمها على الأرضية الصلبة اللامعة لترتخي أصابعها عن السكين، ومع هذا لم يحرره، وهمس لها وهو يكز على أسنانه:
-اهدي يا حبيبتي، شششششش

عند مخفر الشرطة
حاول المحامي منعم إقناع أوس بضرورة التوقيع على محضر عدم التعرض لأحمد، ولكن رفض الأخير قائلاً بشراسة:
-مش هايحصل
-يا باشا ده بيتهمك رسمي بإن لو حاجة حصلتله هاتكون إنت المسئول
أطبق أوس على ياقة المحامي، وقرب وجهه منه، وهتف به بصوت فج ب:
-ماليش فيه، اتصرف، والواد ده يجي لحد عندي، سامع !
اضطرب منعم، ونظر له بخوف، وهمس بإعتراض:
-بس آآآ..

صاح به بقسوة أشد وهو يحدجه بتلك النظرات المخيفة:
-أنا مش بأعيد كلامي مرتين
هز المحامي منعم رأسه بخوف، وأجابه بإستسلام:
-ح.. حاضر
ثم إتجه أوس نحو سيارته الفارهة بعد أن أرخى قبضته عنه، وأشار لحراسته الخاصة بيده ليلحقوا به..
ومن ثم ركب بداخلها، وأدار عجلة القيادة وحدث نفسه قائلاً بتوعد:
-مش هارحم أي كلب يقرب من مراتي !

في منزل تقى عوض الله
وقفت تهاني على باب المنزل قائلة بنبرة صادقة:
-هاروحله يا فردوس، هاقوله إني أمه، وهو..آآآ..
قاطعتها فردوس بجمود قائلة وهي تعقد ساعديها أمام صدرها:
-ماتعشميش نفسك أوي، انتي متعرفيهوش زي ما احنا عارفينه كويس
هزت رأسها رافضة وهي تقول بإستنكار:
-لأ، أنا غير أي حد، أنا أمه الحقيقية.

أضافت فردوس قائلة ببرود بعد أن حلت ساعديها، ورمقت أختها بنظرات إستهجان:
-يا تهاني الزمن اتغير، والابن اللي بتحكي عنه زمان ده كبر، وبقى حاجة تانية، بقى وحش قادر بإشارة من صباعه يهد المعبد على اللي فيه !
أصغت تهاني لما قالته أختها، فربما هي مُصيبة في حديثها، ولكنها كأي أم تظن الخير في ابنها مهما بلغت به درجة الوحشية..
لذا إبتلعت غصة مريرة في حلقها، وقالت بإصرار:
-لألأ.. انتي مش عارفة حاجة، كله هيرجع زي زمان، وهاتشوفي
ثم أدارت المقبض، وخرجت من المنزل، وصفقت الباب خلفها وهي تمني نفسها بتحقيق حلم اللقاء بإبنها الوحيد...

في سيارة أوس الجندي
رن هاتف أوس الموضوع على التابلوه، فمد يده ليلتقطه، ونظر إلى شاشته بدقة، ثم ضغط على زر الإيجاب قائلاً بجمود:
-ايوه يا عدي !
صاح عدي بصوت مضطرب ب:
-أوس، إنت فين ؟
أجابه بهدوء وهو يوزع أنظاره ما بين المرآة الأمامية والجانبية:
-عندي حاجة مهمة بأعملها
أضاف عدي قائلاً بتوجس:
-أنا عاوزك تبعتلي عفاف حالاً
ضيق عينيه الحادتين بإندهاش وهو يردد ب:
-عفاف !

أجابه بصوت متوتر ب:
-أيوه، أنا مش عارف أتعامل مع ليان خالص، كل ما أقرب منها تصوت وتصرخ، وأخر مرة كانت ناوية تنتحر !
اتسعت مقلتيه في خوف عليها، وتسائل بجدية:
-اييييه، امتى ده حصل ؟
رد عليه دون تردد ب:
-من شوية
مط أوس فمه قليلاً، وتابع قائلاً بإهتمام:
-ممم.. ماشي، أنا هابعتلك عفاف على طول، بس ماتسبش ليان على حالتها دي، وكلم الدكتور
أضاف عدي قائلاً بإندفاع:
-اوكي، بس تيجي عفاف، لأني معاها !
-على طول، سلام !

على مقربة من الحارة
وصل ممدوح بسيارته إلى مدخل الحارة، وأطل برأسه خارج النافذة محاولاً الإستدلال على العنوان المذكور..
لمح أحد الأطفال وهو يركل الكرة لأخر، فهتف قائلاً بصوت مرتفع:
-خد يا بني هنا
إلتفت له الطفل، وضيق عينيه بإندهاش، ثم ركض نحوه وسأله بفضول:
-خير يا بيه ؟
سأله ممدوح بصوت خشن وهو يرمق الصغير بنظرات متأففة:
-اومال تهاني ساكنة فين ؟
رفع الطفل حاجبه للأعلى، وأردف متسائلاً بعدم فهم:
-تهاني مين ؟

مط ممدوح فمه للأمام، وقال بتردد:
-آآ.. تهاني، اللي هي.. الولية المجنونة
هتف الطفل قائلاً بثقة:
-تهاني مانخوليا !
هز رأسه وهو يجيبه بجدية:
-ايوه
إستدار الطفل برأسه للخلف، وأشار بذراعه نحو بناية ما وهو يجيبه بصوت مرتفع:
-عند البيت القديم اللي هناك ده
ابتسم له ممدوح بإبتسامة باهتة وهو يقول:
-ماشي، شكراً
-أي خدعة.

قالها الصغير وهو يوليه ظهره ويركض في إتجاه بقية رفاقه متابعاً بصوت مرتفع:
-شوط يا بني الفاول ده !
ضغط ممدوح على زر الإتصال بناريمان، ووضع الهاتف على السماعة الخارجية، وإنتظر ردها عليه..
بعد ثوانٍ أجابته بصوت متوتر ب:
-ايوه يا ممدوح، إنت فين دلوقتي ؟
رد عليها ممدوح بهدوء حذر وهو محدق بالبناية:
-أنا قريب من بيتها، وصلتي لفين ؟

هتفت قائلة بإرتباك واضح في نبرة صوتها:
-أنا قربت من الحتة اللي انت قولتلي عليها، دقايق وهاكون هناك، بس أنا خايفة من آآآ..
قاطعها بصوت جاد قائلاً:
-خلاص مش وقته، أما توصلي نكمل كلامنا.. يالا أنا مستنيكي !
ردت عليه بإيجاز:
-اوكي.. باي !

على مقربة من قصر عائلة الجندي
وصلت تهاني إلى الشارع الجانبي المؤدي إلى بوابة القصر الرئيسية، وجابت بعينيها المكان بتفحص شديد..
كان قلبها يسبقها في خطواتها من أجل رؤية ذلك الغائب الذي تشتاقه..
ابتلعت ريقها محاولة تخفيف حدة الجفاف التي أصابت حلقها..
وقفت حائرة على مسافة من البوابة ورأت الحرس منتبهين لكل شاردة وواردة، فخشيت أن يظنوا بها السوء ويتشاجروا معها..
فكرت في طريقة تمكنها من الدخول للقصر دون أن تثير الشبهات حولها..

فبوجود حراسة كتلك، سيتعذر عليها الدلوف من غير أن يتحقق من هويتها أحدهم..
لمحت إحدى السيدات وهي تخرج من البوابة وتتبادل الحديث مع أحد الحرس..
فضيقت عينيها متمعنة في ملامحها..
وحدثت نفسها قائلة بحيرة:
-أكيد دي دي واحدة شغالة جوا، طب.. طب أسألها عن أوس ولا أعمل ايه، ما أنا خايفة أشوف ناريمان جوا، وتمنع ابني عني !

سارت عفاف بخطوات أقرب للركض في إتجاه الطريق الرئيسي، فلحقت بها تهاني، وهي تهتف بهمس:
-يا.. يا أستاذة، لو سمحتي
إنتبهت لها عفاف، وتوقفت عن السير، وأدارت رأسها للخلف، وتفرست في ملامحها بإستغراب قائلة بنبرة غير مبالية:
-في حاجة ؟
وقفت تهاني قبالتها، ونظرت لها بحنو متسائلة بنبرة حزينة:
-ايوه، معلش، هو.. هو إنتي شغالة هنا في القصر ؟
أومأت برأسها بخفة وهي تجيبها بإيجاز:
-أها
لم تنكر عفاف أن ملامح تلك السيدة أثار فضولها بدرجة مريبة، فقد كانت بها لمحات جلية من الصغيرة ليان.. رغم فارق السن والتجاعيد البادية على وجه تلك السيدة..
سألتها تهاني بتلهف وعينيها تلمعان ببريق غريب:
-طب.. طب أوس الجندي موجود فيه ؟

ضيقت عفاف عينيها قليلاً، ورمقتها بنظرات أكثر دقة وهي تسألها بجدية:
-وبتسألي ليه ؟
ارتبكت تهاني لوهلة، وترددت في إخبارها بهويتها الحقيقية، وحاولت أن تختلق عذراً ما، فقالت بتلعثم:
-هاه.. آآ.. أنا.. أنا كنت عاوزة أشوفه
ردت عليها عفاف بهدوء وهي محدقة بعينيها التي كانت مشابهة لعيني ليان كثيراً وتشدقت ب:
-والله لو ليكي ميعاد معاه تقدري تقابليه في شغله
سألتها تهاني مجدداً بنبرة راجية وهي تشير بعينيها الحزينتين:
-أنا بس عاوزة أعرف إن كان جوا ولا لأ
أجابتها عفاف بإقتضاب وهي تتحرك للأمام:
-وأنا مقدرش أقولك !

لحقت بها تهاني، وأمسكت بها من ذراعها لتوقفها عن الحركة قائلة بإستعطاف:
-الله يكرمك بس ردي على سؤالي، أنا مش عاوزة أكتر من كده
أزاحت قبضتها عن ذراعها وهي تجيب سؤالها بسؤال:
-وأجاوبك ليه أصلاً ؟
لم تجد تهاني بداً من التصريح عن هويتها، فقالت وهي مطرقة الرأس وبتلعثم واضح:
-عشان.. عشان أنا.. أنا أبقى أمه
جحظت عفاف بعينيها في صدمة، وشهقت قائلة:
-هاه، ميييين ؟!

تابعت تهاني قائلة بنبرة متلهفة وهي تشير إلى نفسها:
-أنا أمه الحقيقية، صدقيني، أنا تهاني شحاته، أم أوس مهاب الجندي
فغرت عفاف ثغرها قائلة بذهول:
-إنتي تهاني !
هزت رأسها بهدوء وهي تجيبها بتلهف:
-ايوه
تقطع صوت عفاف وهي تسألها بصدمة:
-يعني.. يعني انتي مامت الباشا أوس ؟
-أيوه، دليني على طريقه.

لم تفق عفاف من تلك الحقيقة العجيبة، فمن تقف أمامها وتحدثها هي والدة أوس الجندي..
دار بخلدها فكرة أنها ربما تختلق تلك الأكذوبة، ولكن الشبه بينها وبين ليان كبير..
لذا دون وعي منها هتفت قائلة بإندهاش:
-معنى كده إنك تبقي.. تبقي مامت ليان كمان
فغرت تهاني شفتيها في حيرة، وتسائلت بإهتمام، خاصة بعد أن جذب الإسم إنتباهها بشدة، ب:
-هاه، ليان ! مين دي ؟!
تنحنحت عفاف بإرتباك، وتردد في توضيح موقفها قائلة:
-إحم.. آآ.. أصل
هتفت بها تهاني متسائلة بحدة:
-قولي مين ليان دي ؟

ردت عليها بنبرة خافتة وهي تتفرس في تعابير وجهها محاولة فهم ردة فعلها:
-دي المفروض إنها بنتك على حسب كلام ناريمان هانم !
اتسعت حدقتي تهاني الحمراوتين في صدمة أكبر، وخفق قلبها بقوة، وشهقت بفزع قائلة:
-بنتي ؟ هي.. هي لسه عايشة !
هزت رأسها إيجابياً وهي تسألها بإستغراب:
-أها.. هو حد قالك إنها ماتت !

وضعت تهاني يدها على فمها، وأردفت قائلة بنزق:
-يعني مهاب خطفها مني، وقالي إنها ماتت ؟ الكلب الواطي آآآآه !
ثم نظرت إلى عفاف، وامسكت بها من ذراعيها، وسألتها بتلهف:
-طب.. طب اختها موجودة ؟
سألتها عفاف بحيرة وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-اخت مين ؟

ردت عليها تهاني وهي تلهث بعد أن تلاحقت أنفاسها:
-ليان بنتي كان ليها توأم اسمها بيسان ؟!
ردت عليها عفاف بنوع من الجمود قائلة بعد أن سلطت أنظارها على قبضتيها:
-بصي أنا معرفش حاجة عن الكلام ده
أرخت تهاني قبضتيها، وسألتها بإستفهام وهي تتوسل لها بعينيها:
-انتي شغالة هنا من زمان ؟

أجابتها بهدوء وهي ترمقها بتلك النظرات الغريبة:
-اها، من سنين
ظهرت إبتسامة رضا على محياها، وهزت رأسها وهي تضيف بنبرة شبه هادئة:
-يعني.. يعني ولادي عايشين كويس ومبسوطين ؟
تقوس فم عفاف قليلاً، وأجابتها بإمتعاض:
-هاه، مش عارفة أقولك ايه، بس ادعيلهم
هتفت بها تهاني قائلة بإصرار:
-أنا عاوزة أشوف ولادي
ردت عليها عفاف بنبرة جادة وهي تدير رأسها للخلف:
-محدش فيهم موجود في القصر
-طب.. طب هما فين ؟

سمعت كلتاهما صوتاً رجولياً يأتي من الخلف متسائلاً بقوة ب:
-ست عفاف، في حاجة ؟ في حد بيضايقك ؟
إلتفتت عفاف برأسها نحو صاحب الصوت المألوف، وردت عليه بجمود:
-لأ يا جمال، مافيش
اقترب منهما، وسلط أنظاره على تهاني متفحصاً إياها بدقة، وتابع بنبرة جادة:
-أصل أنا شايفك بترغي مع الست دي
ابتلعت تهاني ريقها في خوف، وإرتعدت من فكرة التسبب في حدوث مشكلة لتلك السيدة، لذا ردت بتوتر:
-هاه.. أنا.. أنا كنت تايهة وبسأل عن عنوان كده
سألها بنبرة قوية وهو يحدجها بنظراته الحادة:
-عنوان مين ؟

أضافت عفاف قائلة بصوت جاد وهي تشير بكفها:
-خلاص يا جمال، مافيش حاجة، روح انت شوف شغلك وأنا طالعة على أول الشارع
لوى فمه في تأفف، ورد بإيجاز:
-ماشي !
ثم رمقهما بنظرات منزعجة قبل أن يتركهما وينصرف مبتعداً..
تابعته تهاني بنظراتها القلقة، ولكنها عادوت النظر إلى عفاف بعد أن شرعت حديثها بجدية ب:
-بصي يا ست تهاني، أنا مش هاعرف أتكلم الوقتي لأني مستعجلة، بس انتي ممكن تديني رقمك وأنا هأفهمك على كل اللي عاوزة تعرفيه بعدين
تهللت أسارير تهاني، ونظرت لها بإمتنان وهي تجيبها بنبرة شاكرة:
-ماشي، يبقى كتر خيرك، وده جميل مش هانسهولك أبداً

في منزل تقى عوض الله
لم يغمض لتقى جفن بعد تلك الحقائق الصادمة التي استمعت لها.. يكفيها ما عانته لتتجرع من جديد مرارة الظلم على يد أقرب أقربائها..
كانت عبراتها الساخنة تحرق قلبها قبل وجنتيها..
حبست أنفاسها قدر المستطاع حتى لا يستمع أحد إلى صوت صراخ قلبها الملتاع..
كانت والدتها تجلس على مقربة منها تحيك تلك الرقع المتواجدة بقميص زوجها، وتتنهد في حزن محدثة نفسها بصوت مسموع نسبياً:
-هاترجع وخيبة الأمل راكبة جمل، ويبقى ما نبنا غير الفضيحة بزيادة !

صمت لوهله قبل أن تكمل بإحباط:
-يا ربي ليه بس بيحصلنا ده كله، ما احنا طول عمرنا في حالنا، وأعدين كافيين خيرنا شرنا، وفي الأخر يبقى ده نصيبنا، والناس لسانها مابيسكتش، في الفضايح طول كده، وفي الحقايق ولا حس.. آآآه، يا ريتني مت ولا شوفت الهم ده كله، وعوض ايدي منه والأرض.. آآآه، كله في الأخر على كتافك يا فردوس !
بكت تقى أكثر وكتمت فمها بكف يدها كي لا تنتبه لأنينها الصامت..

فمن تزوجته قسراً نهش لحمها كما ينهش الأسد فريسته دون ندم، وبشهوة مريضة نَهِمَ من جسدها بإشتهاء مقزز، وتركها بلا روح..
أما والدتها فهي تعمد إلى وضع الزيت على النيران لتزيد من شرارة عذابها.. ألا يكفيها ما تقاسيه لتردد دوماً على مسامعها أنها الابنة المذنبة التي فرطت في شرفها رغم أنها كانت تحميها من ظلمات الحبس وبرودته القاسية..

تنهدت بآلم كبير.. وحاولت ألا تصدر صوتاً، واكتفت بحبس وجعها الثقيل في صدرها..
انتبهت فردوس إلى صوت قرع جرس باب منزلها، فنهضت بإرهاق من على الأريكة، وأنزلت ساقها المثنية على الأرضية، وأسندت أدوات الخياطة على جنب.. ثم سارت بخطوات عرجاء نحو الخارج
استغلت تقى فرصة خروج والدتها من الغرفة لتخرج شهقاتها المكتومة، وترثي حالها البائس..

لفت فردوس طرف حجابها حول كتفها، ثم فتحت الباب ونظرت إلى المرابطين أمامه بإستغراب، فقد كانت هيئتهما مختلفة وغريبة إلى حد كبير.. وخاصة أن ملابسهما تعبر عن ثراء واضح..
أفاقت هي من صمتها، وتسائلت بإهتمام:
-ايوه، عاوزين مين ؟
تحرك ممدوح خطوة للأمام ليرمقها بتلك النظرات الساخطة قبل أن يسألها بصوت متصلب:
-فين تهاني ؟
تراجعت فردوس للخلف، ونظرت بتوجس له، ثم سلطت أنظارها على تلك السيدة ذات النظرات المتعالية والإحتقارية التي دلفت إلى الداخل، وتسائلت بحيرة:
-إنتو مين ؟

رمقتها ناريمان بنظرات إحتقارية ومهينة وهي تضيف قائلة بسخط:
-ده بيت المجنونة !
لوحت فردوس بيديها وهي تصيح بقوة:
-في ايه ؟ مالكم داخلين كده من غير احم ولا دستور ؟ عاوزين مين ؟
أشار ممدوح بيده بعد أن أدار رأسه للخلف قائلاً بهدوء حذر:
-شش يا ناريمان !
ثم إلتفت لينظر ناحية فردوس متسائلاً بصوت قاتم:
-قوليلي يا ست، فين تهاني ؟
لوت فمها وهي تردد بإمتعاض:
-تهاني اختي
أشارت لها بإصبعها في إستهزاء وهي تقول بنبرة مهينة:
-ياي، هو انتي اختها، لوكال أوي !
صاحت بها فردوس بنبرة محتقنة:
-ما تقفي عوج وتتكلمي عدل يا ست إنتي !

لوت ناريمان فمها في تأفف، وقالت بإمتعاض:
-أوووف، ايه ده، بيئة !
إستدار ممدوح برأسه للخلف، وحدج ناريمان بنظرات محذرة وهو يصيح بشراسة من بين أسنانه:
-ناريمان، من فضلك، سبيني أتعامل !
ثم أدار رأسه في إتجاه فردوس، وتحرك قبالتها وهو يضيف قائلاً بجدية مريبة:
-احنا جايين نسأل عن تهاني !
رمقته فردوس بنظرات قوية وهي تهتف بنبرة محتدة:
-وأنا مش هارد عليكم قبل ما أعرف إنتو مين ؟

في نفس التوقيت وصلت سيارة أوس الجندي إلى الحارة، ومعه سيارتي حراسته الخاصة..
تفاجيء هو بوجود سيارة عائلته التي يعرفها وسيارة أخرى ملاصقة لها خمن صاحبها على الفور..
فإنقبض قلبه بشدة، وإكفهر وجهه بصورة واضحة..
ثم ترجل من سيارته، وأشار لرجال حراسته بيده، وهو يحدثهم بصرامة جلية:
-الكل يجهز، وتفتحوا عينكم كويس، مش عاوز حد لا يدخل ولا يخرج من هنا، مفهوم
أجابه أحدهم بنبرة رسمية ب:
-حاضر يا باشا !
ثم دلف أوس إلى داخل البناية وهو ينتوي شراً لمن سيجده بالأعلى...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة