قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني

إنغلق باب المصعد على كليهما، فحبست تقى أنفاسها، وتراجعت بجسدها للخلف لتلتصق بالمرايا الجانبية، ثم أسندت كفي يدها على الحاملين المثبتين في منتصف المرايا لتعيد إتزانها المفقود، فساقيها كانت كالهلام، لا تقويان على حملها بالرغم من الصلابة الزائفة التي تدعيها أمامه، وجسدها في حالة إعياء رغم تماثله للشفاء، أما نبضات قلبها فكانت تتسارع بدرجة مخيفة ...

حاولت هي أن تضبط أنفاسها المتلاحقة، وتسيطر على نوبة الرعب التي تمكنت منها حتى لا تنهار سريعاً، وكذلك لكي تتمكن من التفكير فيما هو آتٍ بذهنٍ صافٍ ..
نظرت تقى بحذر بعينيها المرهقتين إلى أوس الذي كان متقدماً عنها بخطوة، وراقبته بتوجس شديد، فهي تخشى أن يباغتها بحركة ما تكون هي فيها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، فعقلها لم يتوقف للحظة عن التفكير فيما يمكن أن يفعله بها، فتصرفاته يصعب التنبؤ بها، وهي متأكدة من إستحالة ردعه طالما إنتوى أن يفعل أي شيء .. وبالفعل هي الضحية التالية لبطشه وجبروته اللامتناهي ..

إبتعلت تقى تلك المرارة المنتشرة في ريقها، وقبضت بعصبية واضحة على حاملي المصعد ..
بدأت حبات العرق الباردة في التجمع على جبينها، وتساقط البعض منها على حاجبيها، فرفعت كفها لتمسحهم بحذر .. ثم تلمست خصلات شعرها المتلبد والملتصق بجبينها، فببراءة أرادت إزاحتهم وتخبأتهم خلف حجابها – الذي ظنت أنها ترتديه – ولكنها أصدرت شهقة مكتومة حينما أدركت أن رأسها مكشوف، وأن حجاب رأسها غير موجود بالمرة ..

اتسعت عينيها في فزع، وتملكها الرعب بسبب شعورها الطاغي بأنها عارية بدون حجابها، وأن كل من رأها طوال الطريق قد إستباح لنفسه التمتع بما يخصها ..
فإنسلت من عينيها دمعات خزي وإنكسار بللت وجنتيها وأنفها، وكذلك شفتيها ..

أصدرت تقى أنيناً مكتوماً، وحدجت أوس – ذلك البغيض الذي يزداد كرهها له يوماً بعد يوم – بنظرات قاتلة .. فهو من وضعها في ذلك الموقف المخزي، هو من يتلذذ بتعذيبها دون وجه حق، هو من يريد أن يحني إرادتها ويكسرها بلا هوادة بسبب ذنب لا تعرفه ولم ترتكبه .. وهو من أوصلها إلى تلك الحالة المزرية وأباح لنفسه ما حُرم عليه ...

وضعت يدها على وجهها مجدداً، ومسحت عبراتها الملتهبة عنه، وأسندت إصبعها على طرف أنفها حتى لا يسمع هو صوت بكائها المرير ..
في حين وقف أوس معتداً بنفسه، متفاخراً بمآثره، ولم يخلوْ وجهه من إبتسامة الإنتصار التي تزيده عنجهية وجبروت ... فهو لم يكنْ ليخسر أي تحدي مهما كلفه الأمر، فقد إعتاد أن يفعل ما يريد وقتما يريد دون أن يكترث بأي أحد، ولم يهتم يوماً بمشاعر من حوله، فهو من أجبر نفسه – منذ الصغر - على أن يصبح شرساً، قاسياً، عنيفاً، ومتحجر القلب .. ولم يترك أي سبيل للرحمة أو المغفرة في قلبه .. وعُرف بين الجميع بصفاته البغيضة .. وبات الكل يخشاه بحق ..
وها هو اليوم قد أوشك على الظفر بمعركته الأخيرة التي خاضها قبل فترة .. وأصبح قاب قوسين أو أدنى من كسر من تجرأت على مجابهته ...

فُتح باب المصعد، فخرج منه أوس أولاً، بينما تسمرت تقى في مكانها، ورفضت ساقيها أن تنصاعا لها، وتلجان للخارج ..
إستدار أوس بجسده كلياً للخلف، وحدجها بنظرات صارمة من عينيه القاتمتين، ثم هتف بغلظة فيها ب:
-وصلنا .. تعالي يالا
هزت رأسها نافية لعدة مرات بطريقة هيسترية، وتشبثت بحاملي المصعد، وقالت بصوت متقطع يحمل القليل من القوة:
-م .. آآ... مش هاجي
ثم سلطت عينيها المذعورتين عليه، وترقبت بخوف بائن ردة فعله عليها ..

في نفس التوقيت أوشك باب المصعد على الإنغلاق وهي بداخله، فأسرع أوس بمد ساقه ليعترض البابين المعدنيين فبقى المصعد مفتوحاً ...
ثم إندفع كالثور الهائج إلى الداخل حيث تقى القابعة في زاويته، وأمسك بمعصمها الأيمن المرابط على الحامل، وجذبه بشراسة من عليه، ثم مد يده الأخرى ناحية كف يدها الأيسر، وإقتلعه من مكانه، وقبض على معصمها بعنف، ثم ضمهما معاً، وألصق رسغيها الموثوقين عنوة بصدره، ورمقها بقساوة أشد بعينيه المخيفتين، فشعرت بنظراته البشعة تخترقها، وتحرق روحها، ثم هتف غاضباً فيها ب:
-قولتلك مش بمزاجك تقبلي أو ترفضي، إنتي خلاص مابقتيش ملك نفسك

ثم هزها بعنف قبل أن يتابع بنبرة متشنجة تحمل التحذير ب:
-فأحسنلك متعانديش معايا

حركت هي رأسها للجانبين رافضة لما يقول بطريقة لا إرادية، وكأنها تؤكد له عدم خضوعها له بسهولة تامة، وأن المعركة لم تحسم بعد كما كان يظن .. فهي ستظل تقاومه حتى النفس الأخير مما جعله يستشاط غضباً ..
ضم أوس رسغيها معاً بقبضة واحدة .. ثم ضغط على زر إيقاف المصعد، وإندفع خارجه بنفس القوة والصلابة ساحباً إياها خلفه ..
كانت مقاومتها – مقارنة بإندفاعه – لا تذكر .. فقد إنساقت كالبهيمة ورائه، وإلتفت ساقيها حول بعضهما البعض، وتعثرت وهي تحاول الإبتعاد عنه .. لكنه جرها بلا هوادة خلفه ...
خرج صوتها ضعيفاً مبحوحاً متحشرجاً وهي تصرخ معترضة بيأس ب:
-سيبني لحالي، حرام عليك، أنا بأكرهك

لم يعبأ هو بها، بل إستمر في جرها نحو باب منزله .. وما إن وصل إلى وجهته حتى إلتفت برأسه ناحيتها، ثم رمقها بنظرات صارمة وعازمة تتأمل كل ذرة في وجهها، وسريعاً ما ضيق عينيه، وأردفت بنبرة محتدة وهو يكز على أسنانه ب:
-مش بمزاجك يا تقى تسيبني !

ثم ضغط بأصابعه القوية على رسغيها ليؤلمها أكثر، وتابع بشراسة جلية ب:
-وهافضل أقولهالك لحد ما تفهمي ده
كور أوس قبضة يده الأخرى، وضرب بها على جانب رأسها، ثم رسم إبتسامة مستفزة على وجهه، ونطق متوعداً:
-دماغك الناشفة دي هاكسرهالك ...!

نظرت هي إليه بنظرات مذعورة، فتلذذ برؤيتها على تلك الحالة الواهنة، وأراد أن يزيد من لذة إنتصاره تلك، وإراعبها أكثر، فأطبق بيده على فكيها، وقرب وجهها لوجهه لتزداد إرتجافتها، ثم لوى فمه قليلاً مستمتعاً بتحكمه الكامل بها، وحدجها بنظرات حادة من عينيه القاتمتين .. فتخللتها بقوة، وأشعرتها بمدى عجزها، ومدى سطوته وجبروته ..
تلوت برسغيها وبجسدها محاولة مقاومته، وحركت رأسها الأسير بين أصابعه لتبتعد عنه، ولكنه كان متمكناً منها، مسيطراً عليها تماماً .. فإزداد وهنها .. وحسرتها على حالها ..
لمح هو ذاك الوميض المرتعد المكسور في عينيها، فإزداد ثقة على ثقة، وسيطرت عليه عنجهيته وتسلطه، ثم أردف بنبرة خشنة تحمل القسوة والتأكيد ب:
-وأنا مش بأسيب اللي يخصني أبداً، حطي ده في بالك كويس، سمعاني ...!

ثم أرخى أصابعه عن فكيها، وشعر بالإنتشاء حينما رأى أثار أنامله محفورة على وجنتيها، وأدار رأسه للجانب، وإعتلى ثغره إبتسامة مراوغة، ثم أولاها ظهره، وأخرج ( سلسلة ) مفاتيحه الفضية ليضع المفتاح في مكانه بالباب ..
إنسابت العبرات الحارقة بغرازة على وجنتيها الذابلتين لتلهبهما أكثر، فكل شيء بات قاتماً مقيتاً خالياً من الحياة بالنسبة لها ..
وضعت يدها على فمها لتكتم صوت بكائها، لكن ذاك الأنين المكتوم كان يصم آذانها ..
فتح أوس باب منزله، ودفعه بخفة بكفه للأمام لينفتح على مصرعيه ...
ثم إستدار برأسه مرة أخرى ناحية تقى، ونظر إليها بنظرات جارحة متشفية وهو يرى حالة الإنكسار المسيطرة عليها، ثم أمرها ببرود قاسي ب:
-خشي، مش هانقف كتير برا !

أومأت برأسها موافقة وهي تمسح العبرات بكفها عن وجنتيها، فهي لم يعد لديها أي رغبة في المقاومة، فإستسلمت بيأس لأوامره، وإنصاعت ساقيها له، وسارت بخطوات واهنة – كالمغيبة - إلى الداخل ...

مرت تقى بجواره، ولم يتحرك هو من مكانه، بل تعمد أن تكون المسافة ضيقة ..
تحايلت هي على نفسها، وإنكمشت بجسدها وهي تمرق للداخل خافضة العينين .. منكسة الرأس، مسلوبة الإرادة ..
حدجها أوس بنظرات متشفية وشرسة وهي تمرق بجانبه،
فهزيمتها تسليه كثيراً، ورؤيتها خانعة تزيد من رغبته في الإستمرار هكذا معها، وكسرها أكثر .. فهناك شيء ما خفي يدفعه لأن يفعل بها ما لا تطيق ..

ما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى إستعادت تقى إدراكها الشعوري بعد أن صفق أوس الباب خلفه فإنتبهت له ..
إتسعت عينيها في ذهول، ونظرت حولها بصدمة وريبة، وإنفرجت شفتيها في خوف .. هي لا تعرف كيف إستسلمت بسهولة لأوامره ودلفت لداخل محبسها .. ولكن عند تلك النقطة أدركت أن أي سبيل للمواجهة لن يكون في صالحها .. فهي بين قبضتي جلادها الذي بات مستعداً تماماً للإنقضاض عليها والفتك بها إن خالفته ..
حاولت هي أن تبتلع لعابها الذي اختفى تماماً من حلقها الجاف، وكافحت لتستجمع شجاعتها الفارة، ثم بدأت نظراتها الزائغة تدريجياً تتسلط على من تمقته ..
رأت تقى تلك الإبتسامة القاسية و الماجنة على فمه، ولمحت في عينيه وميضاً شيطانياً لئيماً يضيئهما، فإنتفض قلبها فزعاً، وتعالت دقاته حتى كادت أن تخرق آذانها ..

لن تنكر أن دمائها فرت من عروقها، وأن عقلها أصبح مشحوناً بالرعب من مصيرها المجهول معه ..
شبكت أصابعها وكورتهم معاً حتى تخفي إرتجافتهم، ثم عضت على شفتها السفلى وحاولت أن تبدو ثابتة أمامه رغم إنهيار كل دفاعاتها ..
تكشفت أسنان أوس وهو يمرر عينيه ببطء على كل جزء فيها، مستمتعاً بحالتها المزرية تلك، وما زاد من تسليته هو شعورها بهيبته وجبروته ..
حدجها بنظراتها الوقحة، وهتف بقساوة وهو يضغط على كل كلمة:
-هنا يا .. يا تقى هتنفذي إتفاقك معايا ...!

في قصر عائلة الجندي،،،،

هزت ناريمان ساقها الموضوعة فوق الأخرى بحركة ثابتة وهي مسلطة لعينيها على عدي الذي كان يبتسم لها إبتسامة باهتة ..
تفرست في ملامحه محاولة فهم ما الذي يدور في عقله لكي يعرض هذا العرض السخي على ليان رغم معرفته بما دار، هناك أمر ما يدربه، وهي ستحاول إكتشافه..
لاحظت ناريمان أنها شردت كثيراً، لذا زمت شفتيها قليلاً، ثم أردفت متسائلة بحنق ب:
-نويت تعمل ايه ؟

تنفس عدي بهدوء وهو يجيبها بثقة، وبنظرات مغترة من عينيه الثاقبتين ب:
-كل اللي عاوزاه ليان أنا هاعمله أكيد
-أنا ماليش دعوة باللي هي تعوزه، أنا اللي يهمني آآآ...

قاطعها عدي بنبرة جادة وهو يشير بيده ب:
-كل حاجة هاتتعمل على مستوى عالي جدا، حاجة تليق بالعيلتين ومركزهم ..!

مطت هي شفتيها في إعجاب، وتوقفت عن تحريك ساقها، ومالت برأسها للجانب، وتفرست في وجهه، ورغم محاولتها الكبيرة إخفاء نظرة الإنبهار بما قاله، إلا أن قسمات وجهها كانت تتحدث عنها ..
رأى عدي تلك الإبتسامة المخفية بين ثنايا وجهها، فتملكه الغرور، وتابع بثبات ب:
-وأنا هاخلي ناس متخصصة في الأفراح تتولى كل حاجة، ده غير إن فستان ليان هايكون من مصمم مشهور، وعلى ذوقها .. وكمان هاعزم كل نجوم المجتمع، يعني هايكون من الأخر فرح مالوش زي

تنحنحت هي بخفوت، ثم أردفت بإيجاز ب:
-أوكي ..
أرجع عدي ظهره للخلف، وإستراح أكثر على الأريكة الذهبية التي يجلس عليها .. ولم يستطع أن يخفي تلك الإبتسامة المغترة من على ثغره ..
حدق هو أمامه، وأسند مرفقيه على ذراعي الأريكة، حدث نفسه بتوعد ب:
-شوية شوية يا حماتي، وهاخلي بنتك تدفع تمن غلطتها ...!

في الطابق الأول بإحدى البنايات الحديثة،،،،

تأمل ممدوح بنظرات مطولة تلك اللوحة التي وضعها أحد العمال على الجدار المقابل لمكتبه ..
كانت اللوحة عبارة عن رسمة لمزهرية مليئة بالأزهار البرية ذات ألوان هادئة .. تفنن رسامها في إبراز تفاصيلها بدقة واضحة مما جعل ممدوح يقبل على شرائها بثمن ليس بالقليل حينما تم عرضها بأحد ( المعارض الفنية ) ..

هز رأسه قليلاً، ثم إستدار للخلف، وتوجه ناحية مكتبه الجديد الموضوع في منتصف الغرفة ..
كان كل شيء مرتباً رغم وجود الأغطية البلاستيكية عليه، ورغم هذا جلس على مقعده الجلدي الكبير، وأراح ظهره للخلف، ثم أغمض عينيه ليريحهما بعد أن دعك طرفي أنفه ..
كان الإجهاد وتجاعيد السن بادية أسفل جفنيه .. فهو لم يرتح لأيام بسبب تجهيز المعمل الخاص به ..

أخذ ممدوح نفساً عميقاً، وزفره بتمهل .. ثم شبك قبضتيه معاً، وظل يهز مقعده بحركة خفيفة .. ومن ثم فتح عينيه لينظر إلى سطح المكتب وما عليه من أوراق متراصة بطريقة فوضوية ..
تنهد في إنهاك، وإعتدل في جلسته، ثم مد يده ليعيد ترتيبهم، ولكنه لمح اسم معمله على تلك الأوراق، فإبتسم في رضا، ولكن سرعان ما تلاشت إبتسامته حينما رأى ذلك الشعار المقارب في تصميمه لشعار المشفى الذي كان يعمل به في الماضي .. فشرد في ذكرياته الأليمة تلك ...
لم يكنْ لينسى أبداً ما قرأته عيناه ...

إنتفض ممدوح فزعاً من على مقعده بعد أن إطلع على نتائج التحليلات الحالية وقارنها بتلك السابقة التي أجرتها تلك الخريجة الشابة ناريمان، فألقى بالأوراق جانباً، وحدج مهاب بنظرات مميتة، وهو يهتف محتداً ب:
-ازاي عاوزني أداري على الكارثة دي ؟ انت عارف ايه اللي ممكن يحصل لو حد عرف باللي هي عملته ؟!

ظلت أنظار ممدوح مسلطة على مهاب الذي نهض هو الأخر عن مقعده المقابل للمكتب، وظل محدقاً به بنظرات ثابتة دون أن ترمش عيناه، ثم بنبرة ماكرة أجابه ب:
-أومال أنا جايلك ليه ..؟
وصمت للحظة قبل أن يتابع ببرود بائن:
-يعني خدمة قصاد خدمة !

برزت عروق ممدوح من عنقه وهو يهتف صارخاً بإعتراض ب:
-يا سلام بالبساطة دي.
دار مهاب حول المكتب، ووقف قبالته، أسند يده على كتفه، وضغط عليه قليلاً، وأردف بنبرة جادة تحمل اللؤم ب:
-إحنا في إيدنا كل حاجة، ومحدش هايعرف طالما هاتعمل اللي بأقولك عليه ..!

أزاح ممدوح كف يده بعيداً عنه، ثم دفعه من كتفه، وسار مبتعداً عنه، وتوجه ناحية النافذة، وظل محدقاً للحظات بها، ومن ثم إستدار ليواجه مهاب، وبنبرة شبه محتقنة صاح عالياً ب:
-دي مراتي اللي بتتكلم عنها !
ابتلع ممدوح ريقه قبل أن يكمل بنبرة تحمل الغصة وهو يرفع أحد حاجبيه للأعلى ب:
-وكانت مراتك برضوه، ولا نسيت ؟!

كانت تعابير وجه مهاب هادئة للغاية، لا يبدو عليه التأثر مما قاله رفيقه، بل على العكس تماماً كان يبدو متماسكاً صلباً وكأنه يتوقع تلك المشاجرة ..
أخذ هو نفساً مطولاً، وزفره بهدوء .. ثم تحرك في اتجاه ممدوح ليتابع بنبرة ماكرة ب:
-لأ مانسيتش .. وإنت كمان عاوز تخلص منها، وتشوف حالك، صح ؟ فأنا بأقولك على السكة ..!

ظهرت علامات التوتر والإرتباك على قسمات وجه ممدوح، فحاول أن يبدو طبيعياً، ولكن فضحته عينيه التي لمعتا من مجرد طرح لفكرة ..
أخرج هو محرمة قطنية من جيبه، ثم جفف بها حبات العرق الذتي بدأت بالتجمع على جبينه، ثم أردف بنبرة مترددة ب:
-بس مش بالشكل ده !

ابتسم مهاب إبتسامة شيطانية، وبرقت عينيه بقوة حينما تأكد من نوايا رفيقه الخبيثة تجاه تهاني، وأيقن أنه يحتاج فقط للضغط عليه أكثر، وتذليل العقبات أمامه من أجل إقناعه بمخططه في التخلص من تهاني نهائياً، وبالتالي سيتمكن من إنقاذ ناريمان من الأخطاء الفادحة التي إرتكبتها في تشخيص نتائج بعض التحليلات وتسببت في إلحاق الأذى ببعض المرضى ..
تنحنح هو بصوت خشن، ثم أردف بنبرة واثقة ب:
-خلي قلبك جامد يا ممدوح

وقعت عيني ممدوح على صورة فوتغرافية صغيرة لطفلتيه الرضيعتين موضوعة في إطار فضي على سطح مكتبه .. فنفخ في ضيق، ثم أردف بنبرة محتدة ب:
-الكلام ده كان قبل ما تبقى أم بناتي

وقف مهاب إلى جوار ممدوح، ولف ذراعه حول كتفه، ثم ربت عليه عدة مرات، فإستدار الأخير برأسه للجانب قليلاً، فإبتسم له مهاب، وتابع بنبرة هادئة ب:
-يا سيدي بناتك هانجبلهم مربية تاخد بالها منهم !

ضيق مهاب عينيه لتصبحا أكثر قتامة، ثم أكمل عبارته بصوت محذر ب:
-لكن وجود تهاني هيودينا كلنا في داهية، فلازم نخلص منها !

أزاح ممدوح ذراع مهاب من على كتفه، ونظر إليه شزراً، ثم هتف بحنق ب:
-إنت ايه يا مهاب ؟!

جمد مهاب ملامح وجهه، وبنظرات خاوية، ونبرة باردة أجابه ب:
-أنا عاوز مصلحتك يا ممدوح !

ثم اقترب منه أكثر، ونظر مباشرة في عينيه، وأكمل بخبث ب:
-مش إنت عاوز تتنعم بفلوسها، ويبقى عندك كل حاجة ؟!

إتسعت عيني ممدوح قليلاً، وشرد لوهلة، ومط شفتيه وهو ينطق بخفوت حذر ب:
-مممممم... هاه

مال مهاب على أذنه، وأردف بنفس النبرة اللئيمة ب:
-إحسبها معايا، فهتلاقي إن احنا مقدمناش غير نعمل كده

وضع ممدوح إصبعيه على طرف ذقنه، وظل يفركه بهما بثبات، فالوضع برمته مقلق، ومثير للمتاعب .. وبالتالي أي خطوة سيخطوها هو يحتاج إلى دراسة واعية حتى لا يقع في المحظور، ويدفع ثمن تلك الجرائم ..
صمت لبرهة، فلم يمانع مهاب في مقاطعته، بل ارتسم على وجهه إبتسامة إرتياح، فهو يرغب بشدة في أن ينفذ مبتغاه على أكمل وجه كي يظفر بكل شيء..
زفر ممدوح بإنزعاج، وظل يتمتم مع نفسه بكلمات مبهمة، ثم تنحنح بخشونة، و سأل رفيقه بجدية وهو يضيق عينه اليسرى ب:
-طب وإنت مصلحتك ايه من ده كله ؟

أجابه مهاب على عجالة، ودون أن تطرف عيناه ب:
-ولا حاجة

إزدادت نظرات ممدوح الحادة له، وتابع بصوت متصلب ب:
-عاوز تفهمني إنك بتعمل كل ده لله، أكيد هاتطلع بحاجة من الموضوع ده !

إرتبك مهاب قليلاً، ولم يعرف بماذا يجيبه في البداية، فحاول أن يخفي توتره هذا فأسرع بتغيير الموضوع، وبنبرة مكترثة نطق بتلهف ب:
-سيبك انت مني، وركز بس في التحاليل دي .. !

تأكد ممدوح من ظنونه، فإبتسم إبتسامة سخيفة له، و رد عليه بإيجاز:
-وماله !

ثم عاود الجلوس على مقعده، وأمسك بأوراق التحاليل المتبعثرة .. وجمعها بهدوء .. وتطلع إليها، ثم نظر إلى مهاب وبادر ب:
-ماشي، سيبلي الورق ده وأنا هاشوف هاتصرف إزاي !

أفاق ممدوح من شروده، وترقرقت في عينيه عبرة، لا يعرف من أين أتت .. ولكن ذكرى وفاة رضيعتيه، حركت في نفسه شيء ما ..
تنهدت في آسى، ثم مر بباله طيف ما صار بعدها من تطور للأمور وتلفيق إتهامات باطلة لتهاني، وطردها بعد سلبها أموالها قد أثار حنقه ..
فإكفهر وجهه، وتشنجت عضلات وجهه .. وإزداد إنعقاد حاجبيه، وحدث نفسه بصوت مسموع ب:
-قريب أوي يا مهاب هايجي وقت الحساب على اللي فات كله ... !

في مشفى الجندي الخاص،،،،

دفع مهاب باب غرفة العمليات بهدوء بعد أن لفظ المريض حياته بالداخل ..
إندفع نحوه أهل المريض ليسألوه عنه، فأجابهم بنبرة جامدة ووجه خالٍ من التعابير:
-البقاء لله

تعالت أصوات الصراخ الممزوجة بالعويل في الرواق، فلم يهتم هو بمشاعرهم المكلومة، وأكمل سيره بثبات نحو المصعد ..
ركض خلفه الطبيب حسن وهو يصيح عالياً ب:
-د. مهاب، د. مهاب

إلتفت له نصف إلتفاتة برأسه، وسأله بجمود:
-خير يا دكتور حسن

إلتقط الطبيب حسن أنفاسه، ثم أجابه بتلهف ب:
-في دعوة جت لحضرتك لحضور المؤتمر السنوي للأطباء بالنمسا

مط مهاب ثغره للأمام، ثم رد عليه بهدوء:
-مممم.. تمام

عقد حسن ما بين حاجبيه وسأله بجدية قائلاً:
-حضرتك هاتروح المؤتمر ؟

دلف مهاب إلى داخل المصعد، ثم أجابه بإيجاز:
-هاشوف

توقف حسن أمام باب المصعد، وبنظرات ثابتة، ونبرة هادئة هتف بإهتمام:
-طيب يا ريت حضرتك تبلغني يا دكتور هاتعمل ايه عشان أقدر أظبط جدول مواعيد العمليات

أومأ برأسه وهو يجيبه بنبرة رسمية قائلاً:
-اوكي .. نتكلم فوق في مكتبي

ولج حسن هو الأخر إلى داخل المصعد، وهو يجيبه ب:
-حاضر

فكر مهاب - وهو في طريقه إلى مكتبه - في إستغلال تلك الفرصة للهروب مما يحدث، ومن الكآبة التي تسيطر عليه في تلك الفترة ..
فنريمان هي المتولية زمام الأمور حالياً خاصة فيما يتعلق بزيجة ليان، ودوره هامشي مقارنة بها .. أما أوس فإصراره على الإرتباط بتلك البائسة الحقيرة - التي لا يعرف من أين جاءت وكيف إقتحمت حياة إبنه لتفرض وجودها عليه - جعل التوتر بينهما في أوج ذروته، وهو يحتاج إلى فاصل نفسي يتيح له فرصة التفكير الذهني السليم الذي يمكنه من إستعادة السيطرة من جديد على مجريات الأمور ...

في أحد النوادي الراقية الخاصة بالمجتمع المخملي فقط،،،،،

ألقى سامي الجندي بهاتفه المحمول على الطاولة التي يجلس عليها بعد أن قرأ البريد الإلكتروني الخاص به ..
نفخ من الغيظ وهو يحدث نفسه بحنق ب:
-خربت بيتي يا ابن مهاب، ده أنا شوية وهاعلن إفلاسي على ايدك !

ظل ينظر حوله بأعينه المحتقنة وهو يتخيل نظرات الشماتة الممزوجة بالحقد من هؤلاء المحيطين به وهم يرونه يطرد وتلغى عضويته من النادي، بالإضافة إلى بيع ممتلكاته في مزاد علني لسداد ديونه، والمصيبة الأكبر أن يتم الزج به في السجن ما لم يسدد المستحقات المتأخرة ...
نعم .. ربما تكون أيام بقائه وسط تلك الطبقة باتت معدودة على أصابع اليد، فهو لن يستطع تدبر الأموال الكافية للإنفاق على أسرته ببذخ كما إعتاد أن يفعل من قبل .. أو حتى ليتمكن من العيش في إستقرار مؤقت ..
ضاقت به السبل وهو يحاول التفكير في مخرج لذلك المأزق الكبير ..

ضرب بقبضته بعنف على الطاولة، فإنسكب كأس المشروب البارد عليها، وتناثر البعض منه على حلته السماوية فصبغتها بلونه، فهتف محتداً ب:
-يادي القرف، كنت ناقص ده كمان

نهض سامي عن مقعده، وجاب ببصره المكان بحثاً عن أحد الندلاء، وحينما لمحه صاح بإهتياج جعل من حوله ينظر له بإستغراب:
-إنت يا زفت، تعالى نضف القرف ده، اتعلموا إزاي تشوفوا شغلكم صح !

نظر له النادل بإندهاش بعد أن ركض نحوه، فهو لم يرتكب أي خطأ ليتلقى هذا الصراخ العنيف، ولكنه إعتاد على مثل تلك النوعية من الأشخاص .. فإكتفى بالإنحناء أمامه لينظف الطاولة، وأردف بهدوء حذر ب:
-أسف يا فندم، لحظة وكل حاجة هترجع زي الأول

حدجه سامي بنظرات محتقنة، ورد عليه بعصبية قائلاً:
-مافيش حاجة بترجع زي ما كانت

تنحنح النادل بصوت خشن، وأكمل بحذر:
-يا فندم اطمن،أنا بنفسي هاخد الجاكيت انضفه وأرجعه لسيادتك أحسن من الأول، عندنا المتخصصين في كده، لحظة بس

نظر سامي إلى النادل بنظرات مطولة وغريبة، وكأنه شرد يفكر في شيء ما ..
تعجب الأخير من تلك النظرات التي لم يفهمها، فتنحنح مجدداً، وأردف بهدوء:
-ممكن الجاكيت يا فندم

خلعه سامي بهدوء غريب لم يتوقعه النادل منه، ثم أعطاه إياه، وجلس على المقعد وعقد ساقيه معاً، وحدق في الفراغ .. وظل صامتاً لبرهة إلى أن إنصرف الأخير من أمامه بعد أن أسند الجاكيت على ذراعه، وحمل الصينية المعدنية بيده الأخرى .. فغمغم مع نفسه قائلاً:
-الحل لكل اللي أنا فيه هو إني .. إني أتخلص منك يا أوس ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة