قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني والخمسون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني والخمسون

إستند أوس بظهره على جانب سيارته التي أوقفها على سفح جبل المقطم ليختلي بنفسه بعد تلك المواجهة القاسية مع زوجته..
أخذ أنفاساً عميقة لأكثر من مرة ليجبر نفسه على عدم البكاء.. ثم فرك وجهه بكفه، ووضعه على فمه ليكتم تلك الشهقة الحارقة التي تعتصر صدره.. فقرار الإنفصال عنها ليس بالأمر الهين، خاصة وأنه قد بذل المستحيل من أجل الظفر بها، ولكن شعوره بالذنب يقتله، ورؤيته لنظرات البغض والكره جلية في عينيها تذبحه بقساوة
لم يدرْ كم مر عليه من الوقت وهو شارد في ذكرياته الموجعة..

ثم تنهد بحرارة حارقة تلهب جسده وصدى كلمات تقى المؤلمة له تتردد في أذنيه..
كور قبضة يده في حنق، وإستدار بجسده للخلف، ثم ضرب على سطح السيارة المعدني بقسوة، وركل بقدمه إطارها بكل عنف وهو يكز على أسنانه قائلاً:
-ليييه ؟ ليييه مش بتديني فرصة ؟ لييييه ؟!
-بالراحة يا كابتن على العربية، لأحسن صاحبها يكدرك، وإنت مش أد تمنها..!

قالها أحد الأشخاص بصوت متهكم وساخر قبل أن يطلق ضحكة عالية مستفزة..
رفع أوس وجهه في إتجاه صاحب الصوت، فوجد شابين يجلسان على مقدمة سيارتهما، وممسكان بزجاجات " بيرة " في أيديهما، ويتمازحان بطريقة مستفزة..
فإحتقن وجهه بدماء غاضبة، وبرزت عروقه من عنقه، وحدق بهما بشراسة
أشار أحدهما نحوه، وهتف قائلاً بسخرية:
-ما بالراحة يا عمنا، غرضنا مصلحتك.

ضحك زميله بصورة هيسترية، ثم تجشأ قائلاً:
-تلاقي المزة معلمة عليه ولا حاجة، اشرب عشان تنسى
سار أوس نحوهما بخطوات عصبية، وهو ينتوي لهما شراً مستطراً..
حيث قبض على ياقة الشاب الأول، وسدد له لكمة قوية في وجهه، جعلت أنفه ينزف دماءاً بغزارة.. وتبعها بلكمات أكثر عنفاً أفقدته الوعي من شدتها..

إنتفض الشاب الأخر من مكانه مصدوماً، ونظر له بذعر، وأدار زجاجة البيرة التي كانت في يده في الإتجاه العكسي ليضرب بها أوس على رأسه، ولكنه كان الأسرع في تفاديه، ثم جذبها منه، وحطمها على رأسه بقسوة، فسقط على الأرضية الترابية.. وركله أوس أسفل بطنه بعنف لعدة مرات فتأوه الأخير من الآلم.. وصاح به بصوت غليظ:
-قبل ما تفكر تفتح بؤك ال *** ده مع أسيادك، اعرف انت أد كلامك ولا لأ.. يا ***
ثم بصق فوقه، ونفض يديه، وإتجه عائداً نحو سيارته ليركبها، وينطلق بها بعيداً...

وقف ممدوح أمام وكيل النيابة وهو عاقد لكفيه معاً، ومطرقاً لرأسه للأسفل، ورسم على وجهه قناع الندم الزائف.. ثم أردف قائلاً بصوت حزين:
-أنا مكونتش عاوز أتكلم، بس لازم تعرفوا الحقيقة
رد عليه وكيل النيابة قائلاً بنبرة رسمية وهو يعبث بقلمه الحبر:
-اتكلم يا ممدوح، قول
إدعى ممدوح تردده وهو يتابع بحرج مصطنع:
-أنا.. أنا على علاقة بناريمان شوقي حرم الدكتور مهاب الجندي.

مط وكيل النيابة فمه، وتوقف عن تحريك قلمه، ونظر له بتفرس وهو يغمغم ب:
-ممم.. علاقة، وضح من فضلك
أكمل ممدوح حديثه بهدوء وهو يرمش بعينيه:
-أنا كنت خايف اجيب سيرتها من الأول، بس طالما الموضوع فيه اتهام صريح ليا بالقتل، فأنا هاعترف باللي يخصها معايا لأني شاكك فيها !
هتف وكيل النيابة بجدية وهو يشير بإصبعه:
-حضرتك إحنا هنا اللي نقرر ونشوف إن كانت شريكة معاك ولا متهمة من عدمه
تدخل المحامي نصيف قائلاً بتوتر:
-موكلي يا فندم يقصد آآآ..

قاطعه وكيل النيابة بصرامة وهو يشير بكفه أمام وجهه:
-من فضلك، أنا عاوز أسمعه
ابتلع ممدوح ريقه، وأشار بعينيه نحو المقعد الجلدي مستأذناً بخفوت:
-تسمحلي أقعد ؟
أومأ وكيل النيابة برأسه وهو يقول بإيجاز:
-اتفضل
جلس ممدوح على المقعد، وإنتصب في جلسته، ثم فرك أصابع يده متوتراً، وقال بصوت متقطع:
-حكايتي مع.. آآ.. مدام ناريمان من زمان، إحنا أصدقاء، بس في الفترة الأخيرة غيرتها زادت جداً عليا
-أها.

مسح ممدوح على صدغه قبل أن يتابع بهدوء يشوبه القلق ب:
-وبقى في مشاكل مع جوزها كتير، وعاوزة تطلق، ولجأت ليا عشان أساعدها في ده، بس أنا رفضت، ونصحتها تكمل معاه، لكن لما اعترفتلي بحبها ليا، أنا بصراحة مقدرتش أقاوم الشعور بتاعها، واحدة وعاوزة حب وحنان، وأنا محروم من ده كله !

ثم صمت للحظة ليلتقط أنفاسه، وأكمل قائلاً بإرتباك:
-احم.. بس.. بس بعد فترة جوزها شك في وجود علاقة بينا، وآآ.. وآآ.. وأنا خوفت عليها، فقولتلها هابعد، هي.. هي صممت إننا نكون سوا لحد ما تخلص منه !
سأله وكيل النيابة بإهتمام شديد وهو يوزع نظراته بينه وبين كاتبه الخاص ليتأكد من تسجيل أقواله ب:
-ها، وبعدين ؟
نظر له ممدوح بقلق، وأجابه ب:
-كانت دايما بتجيلي الشقة ومعاها نسخة منه، وكنا بنقضي وقتنا سوا.

أمره مجدداً وكيل النيابة بنبرة جادة وهو يرمقه بنظرات متفرسة:
-فسر كلامك !
نظر ممدوح في إتجاه محاميه نصيف، وأطرق رأسه ليتابع بحرج:
-يعني.. كنا آآ.. يعني بنعمل علاقة مع بعض، بس جوزها جالي وهددني إني لو مبعدتش عن مراته، هاينتقم مني، فأنا بعدت، لكن هي لأ..!
لوى وكيل النيابة فمه مستنكراً ما سمعه، وسأله بجمود:
-ممم.. وإيه تاني ؟

أضاف ممدوح قائلاً بخفوت:
-هي عرفت إني على علاقة ببنت من إياهم، فهددتني بالقتل لو ماسبتهاش
إستند وكيل النيابة على مرفقيه بعد أن عقد كفيه أمامه، وسأله مستفهماً:
-وده امتى حصل ؟ وفين ؟
رد عليه على عجالة ب:
-من قريب و.. آآ.. وفي شقتي !

قطب وكيل النيابة جبينه، وحل تشابك كفيه، ثم أشار بإصبعه للخلف قائلاً بهدوء:
-شقتك اللي كانت بتدخلها بالمفتاح عادي
أومأ ممدوح برأسه إيماءة خفيفة، وأجابه بجدية:
-أيوه، ما أنا نسيت أخده منها
-مممم
ثم أضاف المحامي نصيف قائلاً بنبرة هادئة:
-موكلي يا فندم عاوز يتهم ناريمان شوقي إتهام صريح بإنها وراء مقتل المدعوة رحمة
مط وكيل النيابة فمه قليلاً، وتسائل بنبرة رسمية:
-أها، عندك أقوال تانية ؟

هتف ممدوح بنبرة جادة وبإيجاز:
-أيوه.. !
أشار له وكيل النيابة بكف ليشرع في حديثه مرة أخرى قائلاً بجمود:
-اتفضل
إرتسم على ثغر ممدوح إبتسامة لئيمة، ثم أرخى كتفيه قليلاً، وتابع سرد وقائع مغلوطة عن علاقته الآثمة مع ناريمان ليضمن توريطها بشكل تام في القضية..
وما إن إنتهى الأخير من حديثه حتى أردف وكيل النيابة قائلاً بصوت جاد للغاية:
-اكتب يا بني، وبناءاً على أقوال المتهم، يتم إستدعاء المدعوة ناريمان شوقي للتحقيق معها فيما هو منسوب إليها من إتهامات

في مشفى الجندي الخاص
حدق مهاب في اللوحة التشريحية المعلقة على حائط غرفة مكتبه بنظرات ثاقبة، وعقد ذراعيه خلف ظهره، وغمغم قائلاً بتهديد صريح:
-زي ما عالجتك زمان يا ناريمان، وخليتك تقفي على رجلك، وقدمتلك كل حاجة على طبق من دهب، هاحرمك من ده كله، وبمشرطي !
ثم إنتبه إلى صوت الدقات الخفيفة على باب مكتبه، فصاح قائلاً بصوت مرتفع:
-اتفضل.

دلف كبير الأطباء إلى الداخل وهو يرسم على محياه إبتسامة سخيفة، وهتف قائلاً بحماس:
-خير يا دكتور مهاب ؟ كنت عاوزني في ايه ؟
ظلت تعابير وجه مهاب جامدة، ثم سار في إتجاه مكتبه، وإستند بكفه عليه، و رد عليه بصوت جاد ب:
-المدام عندي تعبانة، وأنا عاوز أعملها عملية إستئصال !
عقد كبير الأطباء ما بين حاجبيه في إندهاش، وتسائل بتلهف قلق ب:
-تعبانة ؟ من ايه ؟ وعملية استئصال ايه بالظبط ؟
رد عليه مهاب بهدوء مريب وهو محدق فيه:
-الكلى عندها بقالها فترة مأثرة عليها.

وضع كبير الأطباء إصبعيه على طرف ذقنه، وفركه في حيرة، ثم هتف بإستغراب:
-بس على ما افتكر مدام ناريمان مش بتشتكي منها !
صاح به مهاب بصوت جاد وهو يرمقه بنظرات حادة ب:
-أنا بأقولك تعباها، يبقى تاخد كلامي ثقة
تنحنح كبير الأطباء بحرج، وأرخى يده وهو يتابع بخفوت:
-احم.. إنت أدرى يا دكتور مهاب
تحرك مهاب في إتجاه كبير الأطباء، وقال بصوت جاد:
-المهم، عاوزك تجهزلي كل حاجة عشان أقوم بالعملية دي من غير ما حد هنا يعرف
انعقد حاجبيه للأعلى وهو يسأله بإندهاش:
-طب ليه ؟

رد عليه مهاب بحدة وهو يشير بإصبعه محذراً:
-من غير ليه، أنا أمر وانت تنفذ
هز كبير الأطباء كتفيه في عدم إكتراث، ودس يديه في جيبي معطفه، وقال بفتور:
-اللي تشوفه..
إبتسم له مهاب إبتسامة مجاملة، وربت على كتفه وهو يقول بهدوء:
-المهم تبلغني بالميعاد في اقرب وقت
أومأ كبير الأطباء برأسه إيجابياً، وأجابه بنبرة عادية:
-حاضر يا دكتور مهاب.

عند قصر عائلة الجندي
وقفت سيارات الشرطة أمام بوابة القصر الرئيسية ليترجل منها عدداً من الضباط والعساكر، وصاح أحدهم بصوت جهوري:
-افتح البوابة
اقترب منه الحارس جمال، وسأله بضيق:
-انت مين ؟
صاح به الضابط بنبرة قوية وهو يرمقه بنظرات مهينة ب:
-ايه أعمى مش شايف إننا بوليس قدامك !
لوى جمال فمه قليلاً، ورد بهدوء حذر:
-مقصدش يا باشا، بس ليه ؟

أجابه الضابط بنبرة رسمية وهو يشير بيده:
-معانا أوامر بالقبض على ناريمان شوقي وتفتيش المكان ده كله
جحظ جمال بعينيه وهو يهتف بعدم تصديق:
-مييييين ؟
لكزه الضابط في صدره بقوة، وصاح بصوت آمر و متصلب ب:
-انت هتنح كتير، افتح الباب وإلا هاخد على البوكس
أشار له بكفيه وهو يقول دون تردد:
-وعلى ايه يا باشا، اتفضل !
ثم إلتفت برأسه للخلف وصاح بنبرة عالية:
-افتحوا البوابة بسرعة
ثم تنحى جانباً ليفسح المجال لسيارات الشرطة بالمرور، وأخرج هاتفه المحمول من جيبه ليهاتف مهاب الجندي، ويبلغه بما يحدث..

في منزل أوس الجديد
جلست تقى على الفراش وهي ضامة ركبتيها إلى صدرها، ومحدقة أمامها بنظرات فارغة من الحياة..
دلفت إليها عفاف ومعاها الخادمة ماريا وهي تحمل صينية الطعام، ثم أشارت لها بيدها دون أن تنطق لتضعها على الفراش وتنصرف..
فنفذت ماريا ما طلب منها، وخرجت من الغرفة..
نظرت عفاف بإشفاق إلى تقى، وجلست على طرف الفراش، وإلى جوارها، ثم مدت يدها وأسندتها على ركبتها، وهمست قائلة بصوت دافيء:
-قومي يا بنتي كليلك لقمة.

ثم هزتها قليلاً لعلها تستجيب لها، ولكنها كانت كالصنم الجامد الذي لا حياة فيه..
تنهدت عفاف بحسرة، وتوسلت لها ب:
-يا بنتي ماينفعش اللي بتعمليه في نفسك، كلي أي حاجة، ده إنتي الحالة دي من بدري
صرخت فيها تقى بصوت منفعل وهي تركل الصينية بقدمها ب:
-مش عاوزة أكل، سبوني في حالي !

هبت عفاف مفزوعة من مكانها، ونظرت لها بتوجس، ثم أشارت بكفيها لها وهي تقول بحذر:
-حاضر.. حاضر، إهدي يا بنتي، أنا هاعمل كل اللي انتي عاوزاه !
هزت تقى رأسها معترضة وهي تهدر بعصبية:
-محدش بيعمل اللي أنا عاوزاه، ولا حد فيكم حاسس بالعذاب اللي أنا فيه، أنا محبوسة هنا، مجبورة أكون مع أكتر واحد بأكرهه في الدنيا، وعاوزيني أعيش حياتي عادي، أكل وأشرب وأنام وأضحك..!

دفنت وجهها بين راحتي يدها، وأجهشت بالبكاء لتتابع بصوتها المتشنج ب:
-ارحموني بقى ! ارحموني وسيبوني في حالي !
نظرت لها عفاف بأسف، وردت عليها بنبرة حزينة:
-ماشي يا بنتي.. خلاص أنا هاخلي ماريا تنضف الأوضة، ونسيبك على راحتك !

في قصر عائلة الجندي
صاحت ناريمان بإنفعال جلي وهي تجر قسراً إلى خارج القصر مكبلة بالأغلال الحديدية ب:
-انتو قابضين عليا ليه، أنا معملتش حاجة، بريئة، سيبوني !
رمقها الضابط بنظرات ساخطة، وهتف قائلاً بصرامة:
-حطوها في البوكس
صرخت بإهتياج وهي تقاومهم بشراسة ب:
-لألألألأ.. أنا بريئة، قتل ايه اللي بتكلموا عنه، صدقوني !

دفعها العسكري من خصرها نحو مؤخرة السيارة وهو يقول بجمود:
-اطلعي يا مدام
هزت رأسها بعصبية وهي تصيح صارخة:
-لألألأ.. سيبوني !
ثم سحبها عسكري أخر من ذراعيها للأعلى لتصعد إلى السيارة..
رفع ضابط أخر يده بمفتاح ما أمام وجه زميله قائلاً بجدية:
-ده المفتاح يا باشا !

حدق الضابط فيه بدقة وسأله بهدوء:
-مممم.. مواصفاته مطابقة للوصف اللي معانا ؟
أجاب زميله بثقة بالغة ب:
-ايوه !
تابع الضابط حديثه الجاد وهو يشير بعينيه:
-اتحفظ عليه، ويتبعت للمعمل الجنائي
أومأ زميله برأسه موافقاً وهو يجيبه بإيجاز:
-تمام يا باشا

في منزل أوس الجديد
وضع أوس ساقه فوق الأخرى بعد أن جلس على الأريكة في صالة منزله الواسعة، ثم أشعل سيجارته الكوبية، وتسائل قائلاً:
-جهزتي شنط السفر يا عفاف ؟
ردت عليه بهدوء وهي تهز رأسه:
-حصل يا باشا !
ثم زمت فمها، وأضافت قائلة بتردد:
-بس أنا.. آآ.. كنت عاوزة آآ..
نظر له بنظرات ضيقة، وأمرها بصوت جاد وهو ينفث دخان سيجارته عالياً:
-قولي على طول.

تنحنحت بخفوت وهي تجيبه بتوتر:
-يعني.. احم.. كنت عاوزة ألفت نظر حضرتك إن تقى محجبة، والهدوم الموجودة مش آآ.. مش هاتنفع تلبسها
لوى فمه للجانب، وأخذ نفساً مطولاً من سيجارته، وتحدث قائلاً وهو يزفره بإيجاز:
-والمطلوب ؟
بإهتمام واضح في نبرة صوتها هتف ب:
-يعني.. لنفسيتها، هي أكيد هترتاح في لبس المحجبات، لكن.. لكن ماظنش إنها هتلبس الفساتين اللي في الدولاب !
-مممم..
ثم تابعت قائلة بثقة بعد أن وجدت منه هدوءاً عجيباً:
-لو تأذنلي أنا أعرف محلات لبس كويس ممكن أنزل اجيبلها كام حاجة مناسبة !

أردف أوس قائلاً بصوت عميق وهو يرمقها بنظراته الجادة:
-رغم إني مابحبش حد يعمل حاجة أنا مش موافق عليها، بس إنتي استثناء يا عفاف !
إبتسمت له مجاملة وهي تجيبه بصوتها الهاديء:
-شكراً يا باشا على ثقتك فيا
أخرج أوس حافظة نقوده من جيبه، ثم عبث بها ليخرج كارته البنكي، ثم مد يده للأمام وهو ممسك به بإصبعيه قائلاً بجدية:
-خدي الكريدت كارد بتاعتي، وهاتي المناسب ليها.

هزت رأسها موافقة وهي تتناوله منه مضيفة بهمس:
-حاضر يا أوس باشا
ثم أولته ظهرها، وسارت مبتعدة عنه، ولكن أوقفها صوته حينما صدح ب:
-عفاف !
إلتفتت برأسها نحوه، وأجابت على الفور ب:
-ايوه
تنهد بعمق، وأكمل قائلاً بهدوء جدي:
-وجودك الفترة دي مع تقى مهم بالنسبالي، فماتسيبهاش !

إبتسمت له بإمتنان لإعترافه الضمني بمجهوداتها، فأجابته بإبتسامة خفيفة:
-اطمن يا باشا، دي أكتر من بنتي والله
هز رأسه بخفة، وأشار بعينيه قائلاً بصرامة:
-تمام، روحي إنتي !
-عن اذنك !
ثم أكمل تدخين سيجارته وهو محدق أمامه في الفراغ، وعقله لم يتوقف للحظة عن التفكير في قرار الإنفصال عن تقى بعد عدة أيام..

في مشفى الجندي الخاص
رن هاتف مهاب لأكثر من مرة، ولكنه لم يجبْ على إتصالات الحارس جمال المتكررة به.. فقد كان مشغولاً بالإعداد لتقارير مزيفة عن سوء تدهور حالة زوجته من أجل ضمان عدم الملاحقة القضائية له في حالة وفاتها..
إلتوى فمه بإبتسامة شيطانية وهو يرى موظفيه ينجزون ما يريده على أكمل وجه، وحدث نفسه قائلاً بغرور:
-وكده محدش هايمسك عليك حاجة يا مهاب، ماهو تزوير التقارير لعبتي من زمان !

إنتهى الحرس الخاص من إعداد السيارات المصاحبة لأوس الجندي في رحلته إلى الساحل الشمالي حيث الجولة السياحية التي سيقوم بها مع الوفد الأجنبي..
وقف أحدهم على مدخل البناية منتظراً قدوم رب عمله.. وأشار للبقية بيده ليستعدوا..

عاونت عفاف تقى في إرتداء ثيابها الجديدة التي إشترتها لها.. والتي راعت أن تكون مناسبة لها..
في حين نظرت الأخيرة إلى نفسها في المرآة بنظرات خاوية من أي شيء..
ورغم هذا لفت أنظارها تلك الأناقة الغريبة التي لم تتعود عليها..

فقد كانت ترتدي كنزة طويلة قطنية تصل إلى ما بعد ركبتيها من اللون البرتقالي.. وأطرافها مطرزة بقماش حريري بني لامع.. وفتحة صدرها مثلثة..
ومن أسفلها برزت ياقة قميصها الأبيض المعقود شريطيه على هيئة أنشوطة.. وكذلك إرتدت بنطالاً من الجينز من اللون الرمادي الفاتح..
مدت عفاف يدها بحجاب حريري ذي اللون الزيتوني لتغطي رأس تقى به، وإبتسمت لها إبتسامة رقيقة وهي تقول:
-ربنا يكفيكي شر العين يا بنتي زي القمر
لم تبتسم لها تقى، بل إكتفت بتحريك رأسها بإيماءة خفيفة..

أمسكت بها عفاف من ذراعيها، وأدارتها في إتجاهها، وتابعت قائلة بخفوت:
-ماتقلقيش يا بنتي، الباشا أوس عمره ما هيأذيكي
لوت تقى فمها بسخط، وتنهدت بحرارة.. وأغمضت عينيها لتبتلع تلك الكذبة على مضض..
فهمت عفاف من نظراتها، وتعبيرات وجهها الحزينة عدم إقتناعها بما تقول.. فإلتمست لها العذر.. لأنها لم تعرف أوس جيداً كما عرفته هي.. وأيقنت أنه قد تبدلت أحواله مؤخراً بعد زواجه من تقى ودخولها للمشفى..

هزت رأسها بإشفاق وهي تغمغم لنفسها قائلة بحزن:
-يا ريتك تشوفيه زي ما أنا شايفاه الوقتي يا بنتي..!
ولجت الخادمة ماريا إلى داخل الغرفة، وهتفت قائلة بلكنة غريبة:
-الباشا أوس منتظرك مدام !
حدقت بها تقى في خوف، ولم تجيبها..
بينما نظرت لها عفاف، وردت عليها قائلة بهدوء:
-قوليله هي جاية على طول يا ماريا
-حاضر.

قالتها ماريا قبل أن تنصرف إلى خارج الغرفة..
ثم ربتت عفاف على ظهر تقى، وهمست لها بحذر:
-يالا يا بنتي
شعرت عفاف بإرتجافة جسد تقى، فحاولت أن تطمئنها، فأضافت بحنو:
-أنا معاكي يا بنتي !
سارت تقى بخطوات بطيئة نحو الخارج، وظلت عفاف واضعة لكف يدها على ظهرها لتبث لها الأمان..

وقف أوس بجوار باب المنزل منتظراً زوجته بترقب شديد، وواضعاً يديه في جيبي بنطاله القماشي الأسود..
ظل يهز ساقيه بعصبية، وأجفل عينيه للأسفل لينظر إلى لمعان فردتي حذائه.. ثم رفع بصره للأعلى فجأة حينما سمع صوت عفاف يهتف ب:
-احنا جاهزين يا باشا !

سلط أوس أنظاره على تقى، وتحولت نظراته إلى الإعجاب بهيئتها المحتشمة.. وعلى الرغم من إعتياده رؤية أجساد النساء – وخاصة عاهراته – عارية، إلا أنه شعر بالغبطة لأن زوجته تختلف عنهن.. فهي جوهرته الثمينة..
إلتوى فمه بإبتسامة رضا، ولكنها تلاشت سريعاً ليحل محلها الجمود وهو يتشدق قائلاً:
-تمام، يالا.

أمسك بمقبض الباب وأداره لينفتح قليلاً، ثم وقف ملتصقاً به، وأشار لتقى بعينيه لكي تتحرك
نظرت له شزراً قبل أن تسير نحوه بإضطراب يسيطر على أوصالها..
مرت بخطوات حذرة من جواره، وتحاشت النظر إليه، في حين حدق هو بها بدقة رهيبة، واستنشق عبيرها بكل حواسه، وأغمضت عينيه ليحفر في عقله جبراً تلك اللحظة العابرة..
راقبتهما عفاف بنظرات متفائلة، وتقوس فمها بإبتسامة أمل..

وقفت تقى أمام المصعد ووجهها خالي من التعبيرات، بينما وقف أوس خلفها، على بعد سنتيمترات منها، مسبلاً عينيه نحوها بشغف جلي..
شعرت هي بحرارة جسده من خلفها، فإبتلعت ريقها بتوتر..
وأجفلت عينيها للأسفل، وظلت تحرك أصابع يدها بإرتباك..
طال وقوفهما ولم يحضر المصعد، فتسائل أوس بجدية:
-هو انتي دوستي على الزرار ؟

لم تجبه، ولم تنظرْ نحوه، بل ظلت جامدة كالصنم..
سألها مجدداً بنبرة شبه متصلبة وهو محدق بها:
-دوستي ولا لأ ؟
لوت فمها ولم تجبه، وعقدت ساعديها أمام صدرها في عدم إكتراث بما يقول..
نفخ من الضيق، وتابع قائلاً بنبرة مغتاظة:
-على الأقل عرفيني !

ثم إنحنى للأمام ليضغط على الزر مجدداً، ولكنه إرتطم عمداً بظهرها، فأجفلت هي مما فعله، وحلت ساعديها، وتجهم وجهها، وإلتفتت برأسها للجانب لترمقه بنظراتها الغاضبة، فوجدت وجهه يكاد يلامس وجنتها، وعينيه مسلطتين عليها.. فتوردت خجلاً من اقترابهما الشديد، وإبتلعت ريقها متوترة..
إلتوى فم أوس بإبتسامة صغيرة، وهمس لها قائلاً:
-كده الأسانسير هايجي !
ثم تراجع للخلف، فعضت على شفتها السفلى، وعدلت من وضعية ياقتها بإرتباك ملحوظ...

في مشفى الأمراض النفسية
تجول عدي بصحبة الطبيب المعالج لليان في الحديقة الواسعة الملحقة بالمشفى، وأردف الأخير قائلاً بجدية:
-هو في تقدم ملحوظ، بس هانخد وقت لحد ما هي تكتسب ثقة من جديد في اللي حواليها
تسائل عدي بإهتمام جلي في نبرته:
-طب هازورها امتى ؟
أجابه الطبيب بإيجاز ب:
-قريب
هز رأسه بخفة وهو يردد:
-تمام
حك الطبيب طرف ذقنه وهو يضيف بنبرة حذرة:
-أنا كان عندي سؤال !

قطب عدي جبينه مهتماً، وتشدق قائلاً:
-اتفضل يا دكتور
سأله الطبيب بنبرة جادة وهو محدق في وجهه:
-مين تهاني دي اللي على طول بتقول اسمها ؟
ضيق عدي حدقتيه في إستغراب، وهتف بصورة عفوية:
-تهاني !

حرك الطبيب رأسه مبرراً ب:
-أها.. هي ساعات كتير تفضل ساكتة مع نفسها، وفجأة تنفعل وتردد جمل زي " أنا مش بنتها، هي بتكره ولاد تهاني، احنا ولاد تهاني "، وحاجات مشابهة لده
هز عدي كتفيه في حيرة، وتابع قائلاً بنبرة جادة:
-مش متأكد، بس هسأل وأعرفلك !
إبتسم له الطبيب ممتناً وهو يقول:
-يا ريت، أي معلومة بتقدمهالي حتى لو كانت صغيرة بتفيد في علاج الحالة
-اوكي.

فتح أحد رجال الحراسة الخاصة باب السيارة الخلفي ليلج أوس الجندي إلى الداخل بعد أن إستقرت زوجته في مكانها، ثم أشار له بيده ليغلق الباب، ومن ثم أومأ بعينيه لينطلق السائق بهما..
توقعت تقى أن تركب معهما عفاف، لكنها تفاجئت بالسيارة تتحرك، فنظرت حولها بذعر، وتلفتت برأسها في ريبة متسائلة بصوت محتد:
-فين عفاف ؟ هي مش هتركب معانا ؟

أجابها أوس بهدوء شديد وهو يسند مرفقه على جانب السيارة:
-لأ، هي مش هاتيجي أصلاً السفرية دي
إتسعت مقلتيها في ذعر، وهتفت قائلة بصدمة:
-اييييييه !
ثم إلتفتت برأسها للخلف لتجد عفاف واقفة في مكانها، وإبتسامة خفيفة مرسومة على ثغرها، وتلوح لها بيدها، فتلاحقت أنفاسها بخوف، ونظرت بطرف عينها إليه، وهي تهز رأسها مستنكرة...

هتف قائلاً بصوت رخيم وهاديء دون أن ينظر نحوها:
-زي ما وعدتك، هاطلقك أما نرجع، فمافيش داعي للإنفعال
إعتدلت بيأس في مقعدها، وأشاحت بوجهها بعيداً عنه، وعقدت ساعديها أمام صدرها، وظلت تنفخ بإستمرار
إختلس أوس النظرات إليها، وتقوس فمه بإبتسامة باهتة، ثم عاود النظر إلى الطريق...

في مكتب المحامي أمجد سعفان
أومأ أمجد برأسه عدة مرات وهو واضع لهاتفه المحمول على أذنه، ثم جاب غرفته ذهاباً وإياباً وهو يمط فمه متمتماً بكلمات غير مفهومة.. ثم أنهى المكالمة وإلتفت إلى سامي الجندي وهتف قائلاً بحماس:
-زي ما مصادرنا قالوا، هو بنفسه اللي رايح الساحل الشمالي !
إتسع ثغر سامي بإبتسامة شيطانية، وأردف بشراسة وهو يكور قبضته في الهواء:
-حلو أوي، ودي فرصتي عشان أخلص منه من غير ما حد ياخد باله.

سأله أمجد بإهتمام وهو يرمقه بنظرات حادة:
-فكرت في الخطة اللي هاتعملها ؟
رد عليه بثقة وهو يشير بيده:
-اه فكرت وهي استوت على الأخر كمان
هز أمجد رأسه بهدوء، وتابع بجدية:
-تمام.. يبقى مش ناقص غير تحديد وقت التنفيذ
إتسعت حدقتي سامي بطريقة مخيفة وهو يضيف بتهديد صريح:
-مش هاترجع من هناك يا ابن أخويا إلا جثة !

في سيارة أوس الجندي
ظلت تقى طوال الطريق صامتة، ومحدقة بالنافذة الملاصقة لها..
بينما كان أوس يدير رأسه ناحيتها بين الحين والأخر لينظر لها بتفحص..
لاحظ إهتزاز ساقيها بصورة متوترة، ثم سكونها، ثم تكرار تلك الحركة وكأنها لازمة لها.. فإلتوى فمه بإبتسامة باهتة..
نظرت له فجأة ورمقته بنظرات حادة وهي تنهره بضيق:
-بتبص على ايه ؟

وضع أوس إصبعه على أنفه ليداعبه، وأجفل عينيه قليلاً، ولم يجبها..
نفخت من تجاهله الرد عليها، ونظرت للطريق من جديد..
أمسك أوس ب " التابلت " الخاص به، وظل يتابع بعض المراسلات الإلكترونية الخاصة بشركاته، ويرد عليها بهدوء تام..
شعرت تقى بثقل في جفنيها، وأرادت أن تتثاءب ولكنها قاومت بجهد كبير هذا الإحساس المغري للنوم، ولكن حركة السيارة الثابتة والهادئة في آن واحد جعلت جسدها يسكن ويستجيب لسلطانه..
أرجعت رأسها للخلف، وأسندته على المقعد، وحدقت بالطريق، ثم إستسلمت للنوم تماماً..
رن هاتف أوس، فإلتقطه من جيب قميصه العلوي، ثم نظر إلى المتصل، ورد عليه بجدية:
-نعم !

ثم هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يضيف بجمود:
-مش كتير، حاجة بسيطة، تقريبا تلاتربع ساعة بالكتير.. مم.. أها !
وفجأة مالت رأس تقى ناحية كتفه، وإستندت عليه، فنظر لها أوس بإندهاش عجيب، وتلعثم وهو يكمل مكالمته، فهمس بصوت جاد:
-هاكلمك بعدين، سلام !

ثم أعاد وضع هاتفه في جيبه، ورفع ذراعه بحذر شديد للخلف لتميل رأس تقى أكثر على صدره، ثم أحاطها به، وشعر بأنفاسها الهادئة تلفح عنقه وصدغه.. فإبتسم لها برضا.. وحدق مطولاً في قسمات وجهها الدقيقة، وتأمل ذلك الجمال النقي الذي أنهكه الحزن..
تنهد بحرارة شديدة وهو يحدث نفسه بنبرة عاشمة:
-آه لو تديني فرصة بس أصلح غلطي... !

تمطعت تقى بجسدها وهي غافية في أحضان أوس، ثم فتحت عينيها قليلاً، فرأت عينين تحدقان بها بشغف، وإبتسامة صغيرة بادية على ذلك الوجه المقترب منها..
ظنت في البداية أنها لا تزال في سباتها غير واعية، فأغمضت عينيها مجدداً، ولكن لإهتزاز السيارة بحركة قوية جعلتها تفتح عينيها فجأة بإنزعاج، ثم أمعنت النظر في وجهه فأدركت أنها تنظر إليه.. فإتسعت حدقتيها الزرقاوتين في ذهول، وفغرت شفتيها للأسفل مدهوشة من تلك الوضعية التي كانت غافية عليها..
هزت رأسها مستنكرة ما حدث، وشعرت بقبضته ممسكة بها من ذراعها، فإنتفضت من حضنه مذعورة، وأزاحت يده بعيداً عنها، وصاحت بإنفعال:
-إنت.. إنت عملت إيه ؟

هز كتفه في عدم مبالاة، ورمقها بنظرات هادئة وهو يجيبها ببرود:
-ولا حاجة ؟
نظرت له بذعر، وصرخت فيه بعصبية وهي تشير بإصبعها:
-إنت.. إنت خدرتني !
نظر لها بعتاب، ثم أجابها بفتور:
-مش اسلوبي على فكرة !
سألته بزمجرة قوية وهي تتلفت حولها:
-أومال أنا جيت هنا إزاي ؟
نظر لها بتعجب وهو يرفع حاجبه للأعلى، ثم عقد ساعديه أمام صدره، ورد عليها بنبرة عابثة:
-بمزاجك !
حدجته بنظرات محتقنة وهي تهتف ب:
-نعم ؟

أمال رأسه للجانب، ونظر له بتسلية وهو يجيبها ببرود مستفزاً إياها:
-يعني إنتي جيتي هنا العربية على رجليكي، وبعد شوية نمتي، وبعدها ريحتي على كتفي !
ثم حل ساعديه، وتحرك في المقعد ليقترب منها ويقلص المسافة بينهما، فإنكمشت على نفسها بخوف، ورمشت بعينيها بتوتر ملحوظ، فهمس لها وهو يميل على شفتيها برأسه:
-يعني مش أنا اللي قربت منك ! بس جايز عقلك الباطن عاوزني !

إبتلعت ريقها بخوف واضح منه، ورددت بتلعثم:
-إنت.. إنت آآآ..
قاطعها بصوت جاد وهو مسبل عينيه:
-أنا عند كلمتي معاكي !
ثم صمت لثانية ليقترب أكثر منها حتى كاد أن يلامس شفتيها بفمه، فتوردت وجنتيها بحمرة واضحة، وهمس قائلاً وهو يغمز لها بثقة:
-إنتي بتتعاملي مع أوس الجندي يا.. يا بنت خالتي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة