قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثامن والخمسون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثامن والخمسون

في سجن النساء
ضمت ناريمان ركبتيها إلى صدرها، وظلت ترتجف وهي تتلفت حولها بذعر وهي جالسة على فراشها الموضوع في إحدى زوايا عنبر النساء..
وبدت كالموتى وهي جاحظة العينين، و بلا مساحيق تجميلها التي تزين تجاعيدها التي ظهرت بوضوح..
إرتعشت شفتيها وهي تغمغم مع نفسها بتلعثم وخوف:
-م.. ماقتلتش، م..آآ.. أنا ماقتلتش.. هو.. هو اللي عمل كده، أنا بريئة ! بريئة !

ثم صرخت بصوت مدوي في أرجاء العنبر، وهبت من على فراشها لتركض ناحية الباب الحديدي، ودقت عليه بعنف وهي تصرخ بإهتياج:
-مهاب اللي عمل كده، أنا ماقتلتش، ماقتلتش، خرجوني من هنا، طلعوني برا السجن، لألألأ !
-اسكتي بقى يا ولية، هو كل يوم الموال ده، قطعتي خلفنا !
قالتها إحدى السجينات بصوت حاد ومتذمر وهي تتلوى على جانبها في الفراش..
إلتفتت لها سجينة أخرى لتضيف بضيق:
-بعيد عنك نسوان عقلها فالت !

استمرت ناريمان في الصراخ بصوت أكثر حدة وهي تطرق بعنف على الباب:
-طلعوني من هنا، هو اللي قتلها، افتحوا الباب !
هدرت بها السجينة الغاضبة وهي ترمقها بنظرات متوعدة:
-يا ولية اتهدي بدل ما أقوملك أخرسك خالص
لم تعبأ بها ناريمان وواصلت هتافها، فإغتاظت السجينة منها، ولوت فمها لتنطق ب:
-يا نسوان يا كَسر، عرفوا المَرَة ( المرأة ) دي مقامها.

تجمع حولها عدداً من النساء، وقامت إحداهن بجذبها من شعرها، وأخرى بضربها في ظهرها، وثالثة بصفعها، ورابعة بلكمها، وخامسة بطرحها أرضاً، ثم تكالبن عليها، وأوسعوها ضرباً في بقية أجزاء جسدها
نظرت السجينة الغاضبة بشماتة، وأردفت قائلة بتشفي:
-كفاية كده عليها النهاردة !
نفضت النساء أيديهن بعد أن إبتعدن عنها، وبصقت عليها إحداهن وهي تنهرها ب:
-إياكي تفتحي بؤك تاني ! جتك القرف !
تكورت ناريمان على نفسها، ودفنت وجهها في الأرضية الباردة، وظلت تبكي من شدة الآلم والذل..
وها هي ليلة أخرى تمر عليها وهي تتجرع مرارة الظلم بمفردها، وتبقى لها الكثير...

في المنتجع السياحي
تلاشت ظلمات الليل، وأشرق فجر جديد و أخير يجمع تحت إشراقته أوس وتقى..
عاد هو بها إلى الردهة حاملاً إياها بين ذراعيه، وركض رجال حراسته نحوه بعد أن أصابهم الجنون لإختفائه..
لم يهتم بأسئلتهم، ولم يجب على شيء.. فقط إتجه نحو الأريكة ليجلس زوجته عليها..

ثم قام أحد أفراد حراسته بإبلاغ إدارة المنتجع بعودته، فحضر مدير المنتجع ومعه بعد المسئولين للإطمئنان عليهما، ولكن تفاجئوا بما صار معهما من تعدٍ سافر من ماركو الذي كان في حالة سُكر رهيبة وما إقترفه في حقهما ومحاولته لقتلهما..
تم التحفظ عليه بغرفته، ورافقه رجلين من حراسة أوس لضمان عدم هروبه، وكذلك أستدعي رجال الشرطة لتسجيل الواقعة..
جلست تقى على الأريكة وظلت تفرك أصابع قدمها، وشعرت بقلة وخزات الآلم، ثم قام أحد المسئولين بإحضار طبيب لتفحص قدمها، وطمأنة أوس بعدم وجود شيء خطير أو حتى يستدعي القلق..

وضع الطبيب رباط ضاغط، ونصحها قائلاً:
-يومين بالكتير ويتفك الرباط، مافيش حاجة خطيرة ياهانم، اطمني !
إبتسمت له مجاملة وهي ترد عليه بخفوت:
-شكراً
أردف مدير المنتجع قائلاً بهدوء:
-احنا أسفين يا فندم، هيتحاسب اللي عمل كده مع حضراتكم، والشرطة بتاخد أقوال الموجودين !

صاح به أوس بصوت متوعد وهو يحدجه بشراسة:
-أنا مش هاسيب حقي، ولا حق الهانم، سامع !
هز مدير المنتجع رأسه موافقاً وهو يجيبه بنبرة هادئة:
-اللي تشوفه يا فندم !
تدخل باقي أفراد الوفد الأجنبي وحاولوا التفاوض مع أوس للتنازل عن البلاغ في مقابل مادي كبير، ولكنه رفض التنازل.. وهتف قائلاً بصرامة:
-مستحيل !
توسل له المترجم برجاء:
-أنا أحدثك بشكل ودي سينيور أوس، برجاء اغفر له خطئه، هو لم يكن في وعيه !
نظر أوس إلى تقى التي كانت تتابع ما يحدث في صمت وهي عاقدة ساعديها أمام صدرها..
حدق في عينيها مطولاً محاولاً قراءة ما تقوله عينيها، ولكنه وقف حائراً في حسم رأيه..

لذا عاود النظر إلى المترجم مضيفاً بصوت جامد:
-القرار النهائي في إيد مراتي !
فغرت تقى شفتيها مشدوهة بما قاله تواً، ونظرت له بذهول محاولة إستيعاب ذلك القرار الذي حملها نتائجه.. وكذلك حلت ساعديها، وإبتلعت ريقها بتوتر..
إستدار أوس برأسه نحوها، وأمعن النظر فيها، فعاتبته بنظراتها لتحميلها تلك المسئولية، ولكنه في قرارة نفسه أراد أن يستشف بطريقة غير مباشرة إن كانت قادرة على العفو عمن إعتدى عليها، أم ستظل على رأيها.. لا تقبل العفو أو الصفح..

أخذت تقى نفساً عميقاً، وحبسته في صدرها، ثم أطرقت رأسها للأسفل لتنظر إلى أصابعها التي تفركها بإرتباك شديد وظلت صامتة لبرهة تفكر في قرارها، فقد أصبح كل شيء مشوشاً أمامها..
سلط المترجم أنظاره عليها قائلاً بإستعطاف:
-سينيورا ! لم نقصد إيذائك، إنه فقط المشروب الذي لعب برأسه، اعطيه فرصة من فضلك، رجاءاً اغفري له !
طال صمتها، فتوجس المترجم خيفة من رفض طلبه..

بينما كانت أعصاب أوس على أشدها.. فما سيلفظه لسانها هو الذي سيحدد مصير حياتهما القادمة معاً..
تأملها بدقة، وتفحص تعابير وجهها بتوتر كبير يختلج صدره رغم الجمود البادي عليه..
-ماشي، أنا هتنازل عن البلاغ !
قالتها تقى فجأة بصوت جاد وثابت ليقطع حاجز الصمت الرهيب، فتنفس الجميع الصعداء بقرارها هذا..
شعر أوس مع كلماتها تلك بأن روحه عادت إليه، وأن هناك بارقة أمل، و لا يوجد مستحيل..
فلو كان مكانها لم يكن لا يقبل بالصفح مطلقاً، ولفتك بمن تجرأ عليه بلا رحمة..

ولكن لا يهم ما يفكر فيه، فهي غيره، وقبلت بالغفران وعفت عمن أساء لها..
هتف المترجم قائلاً بحماس وقد تهللت أساريره:
-قرار صائب سينيورا، أشكرك على تفهمك، وسأبذل جهدي لأعوض كثيراً
ثم هز رأسه في إمتنان جلي، وأضاف قائلاً بسعادة:
-بوناسيرا ( ليلة سعيدة )

انتظر أوس رحيل الجميع عن الردهة، وجلس إلى جوار تقى، وتأملها لبرهة وإبتسامة خفية تتراقص على ثغره.. ثم تنحنح بصوت خشن، ونظر لها بإستغراب سائلاً إياها بفضول ب:
-سامحتيه ليه ؟ كان ممكن نوديه في داهية، وآآآ..
رفعت رأسها لتنظر نحوه بنظرات فارغة وهي تجيبه بقسوة:
-لأني مش عاوزة حاجة تربطني بيك !
وكأنها طعنته بلا رحمة في صدره، فصاح قائلاً بمرارة وغير مصدقاً ما سمعته أذنيه:
-نعم !

تابعت بقساوة أشد وهي تنظر له بإزدراء:
-ايوه، لو قولت لأ، كنت هاجبر نفسي أكون وياك، وأنا عاوزة أخلص من أي حاجة تجمعنا سوا، وأنسى أي لحظة كانت بينا
رد عليها بإحباط وهو يحاول الحفاظ على ثباته أمامها:
-للدرجادي ؟!
هزت رأسها وهي تجيبه بصوت مختنق:
-إنت مجربتش إحساس إنك تكون مقهور، مدبوح، مش قادر تقول لأ عشان تحمي غيرك !
هب من مكانه واقفاً ليوليها ظهره وهاتفاً بجمود:
-خلاص يا تقى ! انتهى !

نظرت له بكبرياء، وتنهدت بحرارة واضحة.. لقد تعمدت تذكيره بجريمته معها حتى لا يظن أنها مسألة سهلة النسيان..
و رغم هذا كان هناك آلماً قوياً يعتصر قلبها حالياً.. هي لا تعرف سببه، ولكن رؤيتها له يتعذب أمامها أصابها بالضيق..
نعم هي في صراع نفسي كبير معه.. هي تمقت جريمته بإغتصابها وعنفه الزائد معها، ولكنها تأبى أن تستمر في قسوتها تلك..
ربما بإفتراقهما ستتعافى من معاناتها وتحصل روحها على السلام الذي تنشده..

أخذت نفساً عميقاً لتسيطر على الإضطراب الذي يتملكها، وذكرت نفسها بأنها في النهاية نالت مرادها منه..
تحرك أوس خطوة للأمام، وأدار رأسه ناحيتها ليرمقها بنظرات خالية من الحياة وهو يضيف بصوت متصلب:
-استنيني هنا، احنا راجعين القاهرة الوقتي !
نظرت له بإندهاش، ورمشت بعينيها مصدومة، ولم تجد من الكلمات ما تجيبه بها.. في حين أعطاها هو نظرة أخيرة متعمقة قبل أن يسير مبتعداً بخطوات أقرب للركض..

كانت تلك النظرات كافية لتزيد من حزنها الغير مبرر..
ولمعت عينيها بعبرات غير مفهومة..
وضعت إصبعها على طرف أنفها، وأشاحت بوجهها للجانب، وحاولت أن تتنفس بعمق لتمنع نفسها من البكاء مجدداً..
ثم حدثت نفسها بعتاب ب:
-إنتي زعلانة ليه ؟ خلاص اللي عاوزاه حصل، وهانفترق وأرجع لحياتي !
أغمضت عينيها لتقاوم رغبتها في البكاء.. فلم تستطع أن تصمد وتمنع عبراتها من الإنسياب..
فأغرقت دموعها الحارة وجنتيها.. نعم دموعاً تختلف عن ذي قبل..
وخشيت أن تفسرها لنفسها..

في منزل الجارة أم بطة
جهزت بطة حقيبة ملابسها، وأسندتها بجوار باب المنزل، وجلست على الأريكة في إنتظار قدوم زوجها عبد الحق..
نظرت لها والدتها بإمتعاض، ولوت فمها قائلة بسخط:
-على الله المرادي تكني في بيتك ومالاقيكش جيالي تاني !
زفرت بطة بضيق، وهتفت قائلة بصوت محتد وهي تشير بكفيها في الهواء:
-يامه ارحميني شوية، ماهو على يدك، كنت بأشوف الويل معاها، خلاص بقى، فضيها سيرة.

لكزتها والدتها في كتفها وهي تضيف بتذمر:
-يابت أنا خايفة على مصلحتك، أديكي شايفة اللي بيحصل مع بنات الحارة والبلاوي اللي بتجرالهم، إن كانت البت تقى ولا آآ.. ولا رحمة !
نظرت لها بحنق وهي تقول بنزق:
-ربنا يرحمها، أهي أمها السبب في اللي حصلها !
زمت والدتها ثغرها في إعتراض وهي تجيبها بجمود:
-لأ يا ختي، البت طول عمرها ماشية في السكة البطالة، كان لازم يجرالها كده.

حدقت بطة فيها بغيظ، وصاحت بغل:
-يامه إنتي شمتانة فيها، ارحمي نفسك شوية !
أخفضت والدتها نبرة صوتها وهي تتابع بجدية:
-أنا عاوزاكي تتعظي من اللي بيحصل حواليكي !
لوت فمها للجانب وهي تجيبها بعدم اقتناع:
-أتعظ، ربنا ييسر !

ثم سمعت كلتاهما صوت طرقات على الباب المنزل، فنهضت أم بطة من على الأريكة، وقامت بفتح الباب ليرتسم على ثغرها إبتسامة زائفة وهي تهتف ب:
-ازيك يا جوز بنتي
أجابها عبد الحق بإبتسامة باهتة وهو يجوب بعينيه المكان:
-الحمدلله يا حماتي، بطة جاهزة
أفسحت أم بطة المجال له لكي يمرق للداخل، وأشارت بيدها نحوها قائلة بحماس:
-اه يا بني من بدري، وأعدة مستنياك.

حدقت بطة في عيني زوجها وهتفت قائلة بجدية شديدة:
-ازيك يا عبده، معلش عاوزاك في كلمتين جوا في الأوضة !
تعجب الأخير من ملامحها الغريبة تلك، وسألها مستغرباً:
-خير ؟
إنقبض قلب والدتها من شكل إبنتها، وخشيت أن ترتكب حماقة أخرى، فتسائلت بتوجس وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-في ايه يا بت ؟

لم تنظر نحوها، وظلت مسلطة أنظارها على عبد الحق، وردت بجفاء:
-مافيش يامه، أنا عاوزة أتكلم مع جوزي في حاجة قبل ما أمشي من هنا !
أثار الفضول عبد الحق لمعرفة تفاصيل ذلك الأمر الطاريء، فأشار بعينيه نحو غرفة بطة قائلاً بهدوء:
-تعالي جوا !

دلف عبد الحق إلى داخل الغرفة، فأغلقت بطة الباب، وإستدارت ببطء نحوه، ثم أخذت نفساً عميقاً، وزفرته بهدوء..
لحقت بهما والدتها، وإستندت على الباب محاولة التنصت على حوارهما معاً..
حدقت بطة في عيني زوجها، وأردفت قائلة بثبات:
-أنا عاوزة أحكيلك على حاجة مهمة
نظر لها بإستغراب وهو يسألها بإهتمام:
-في ايه ؟

تابعت قائلة بنفس الثبات دونأن ترمش بعينيها ب:
-عشان لو هنكمل مع بعض يبقى احنا الاتنين على نور
خفق قلبه بتوتر، وأمسك بها من كتفيها وهزها قليلاً وهو يسألها بنفاذ صبر:
-اتكلمي يا بطة، في ايه ؟
ابتلعت ريقها وهي تجيبه بصوت متلعثم:
-أنا.. أنا مكونتش حبلى !

لطمت والدتها على صدغها بصدمة، وكزت على أسنانها قائلة بحنق:
-يخريبتك بت، قولتيله ! يادي النصيبة وخراب البيت المستعجل !
فغر عبد الحق ثغره في عدم فهم ليصيح بضيق ب:
-ايه ! أنا مش فاهم !
تنهدت بطة بيأس، وأجابته بخفوت وهي تنظر له بعتاب:
-يعني أنا كدبت وقولت إني حبلى عشان اترحم من عذاب أمك واللي بتعمله فيا
اتسعت حدقتيه في ذهول، وهتف ب:
-هاه.

تابعت بطة حديثها قائلة بشجن:
-فكرت لما أعمل كده وأقول إني حبلى هاتحبني، وتعامليني كويس زي بنتها، بس هي فضلت كرهاني، ومش طايقة مني حاجة !
وضع عبد الحق يديه على رأسه، وضغط عليها بقوة وهو يتسائل بحيرة:
-أومال إنتي إزاي سقطتي ؟ والدم والفضيحة اللي حصلت هناك ؟!
ردت عليه بخفوت وهي تراقب ردة فعله:
-ده ملعوب عملته مع أم نجاح !
نظر له مدهوشاً وهو يهتف بصوت مصدوم:
-أم نجاح
أضافت بطة قائلة بحذر:
-الولية مالهاش ذنب ! أنا اللي قولتلها تعمل كده.

أمسكها عبد الحق من كتفيها وهزها بعنف وهو يصرخ بإنفعال:
-طب ليه ؟ عملتي ده كله ليه، انطقي ؟ قوليلي مافكرتيش فيا لما أعرف بالكدب ده كله هيحصل بينا ايه ؟
ابتلعت ريقها بصعوبة، وردت عليه بصوت مختنق ب:
-لأ فكرت، وعشان كده قولتلك باللي حصل، وبأخيرك، بين نكمل على بياض من أول وجديد، أو كل واحد يروح لحاله !
في تلك اللحظة تحديداً فتحت والدتها الباب، وإندفعت كالمجنونة للداخل وهي تصرخ بإهتياج:
-اييييه ! عاوزة تخربي بيتك بايدك يا متخلفة !

ثم أمسكت بها من شعرها، ولوت رأسها للأسفل عنوة، وصفعتها على وجهها بعنف وهي تصيح ب:
-كده هاترتاحي يا بنت ال ****
صرخت بطة متأوهة من الآلم، وحاولت تخليص خصلات شعرها من يد أمها قائلة بنشيج:
-آآآآه، بس يامه، كان لازم يعرف !
هزتها من رأسها بعصبية، وضربتها على ظهرها وهي تضيف بغضب:
-منك لله يا شيخة، من الأول أنا مفهماكي تحابي على بيتك وجوزك، وإنتي شيطانك راكبك !

ثم إنهالت عليها بقبضتيها على ظهرها بعنف أشد، فسقطت بطة على الأرضية، فركلتها والدتها بقدمها في بطنها وهي تصرخ بعصبية:
-منك لله ! خربتيها وأعدتي على تلها !
-آآآآه، موتيني يامه خليني أرتاح !
أشفق عبد الحق على زوجته، وأسرع ناحية والدتها، وأمسك بها من ذراعيها، وارجعها للخلف قائلاً بإستعطاف:
-خلاص يا حماتي، سبيها !

صاحت بطة ببكاء مرير وهي تحاول النهوض:
-آآآآآه.. ارحميني يامه، ما هو لو أنا كنت لاقية صدر حنين مكونتش فرط في بيتي، ورضيت واستحملت، بس ملاقتش إلا القرف والغلب هنا، عاوزاني أستحمل لحد امتى ؟ لحد ما أموت نفسي وتتبسطي ! لو ده يريحك أنا هاعمله !
صرخت فيها والدتها بعصبية وهي تشير بيدها:
-يا بت أنا عندي كوم لحم غيرك، عاوزة أسترهم وافرح بيهم !
ردت عليها بطة بنبرة يائسة:
-لأ يامه، مش كده، إنتي بترمينا للي يدفع ويشيل !

رمقتها والدتها بنظرات ساخطة وهي تهتف مدافعة وملوحة بيدها:
-أرميكم، ده انتو حتة مني !
نشجت بطة اكثر وهي تضيف بمرارة:
-لأ رميتينا وبالرخيص ! فملاقناش اللي يلمنا بعدك، كله بيدوس علينا ! لأننا مانسواش مليم في نظرهم !
ضربت أم بطة صدرها بكفيها قائلة بحسرة:
-أديكي رجعتي تاني هنا، وعبده مش بعيد يرمي اليمين ويطلقك، ما هو ده حقه، محدش هايلومه، و ابقي قابليني لو حد رضى بيكي تاني بعده، منك لله يا شيخة، وقفتي حالك وحال اخواتك !

صُدم عبد الحق من حديث والدتها الموجع.. وأدرك مدى المعاناة التي تقاسيها زوجته سواء في منزلها أو منزله.. والقهر الذي تعيشه رغم صغر سنها..
لم يرْ هذه المسألة بوضوح من قبل..
فقد كان يهتم برغباته وشهواته، لا بزوجته ولا بما تمر به من ظلم بيّن.. ولكن اليوم أدرك معنى انهيار أسرته بسبب القسوة والعنف.. لذا هتف قائلاً بصوت محتد وهو محدق بهما:
-مين قالك إني هاطلقها، أنا بأحب بطة وعاوزها معايا !

نظرت له والدتها بصدمة وهي فاغرة شفتيها:
-هاه، يعني انت آآ.. آآ..
إلتفت برأسه ناحية زوجته، وصاح مقاطعاً إياها بصوت متحشرج:
-يالا يا بطة، أنا هاخدك وطالع على أوضتنا في السطوح، ومالناش دعوة لا بأمك ولا بأمي
مسحت بطة عبراتها، ونهضت بتثاقل من على الأرضية، سألة إياه بصوت متقطع:
-إنت بتكلم جد ؟

أمسك بها عبد الحق من ذراعها ليسندها، وأجابها بجدية:
-ايوه، كفاية اللي حصل، وانسي ده كله !
حدقت فيه بعينيها الدامعين وسألته بتوجس:
-يعني انت مش.. مش هاتطلقني ؟

إبتسم لها قائلاً بهدوء:
-لأ، أنا عاوزك معايا، كفاية نكد في حياتنا !
ثم وضع يده على طرف ذقنها، وتابع بمزاح:
-بس ماتجبيش سيرة باللي لحصل لأمي
إبتسمت له بسعادة غامرة وهي تجيبه بتلهف:
-حاضر يا سي عبده !
لم تصدق أم بطة أذنيها، لقد تحول الأمر برمته لصالح ابنتها، ولم يفسد الزواج، فتنهدت بإرتياح وهي ترفع بصرها للسماء قائلة:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب، دايما مكملها بالستر مع الغلابة اللي زينا

في مشفى الأمراض النفسية
جلس عدي في مواجهة الطبيب المعالج لزوجته ليان في مكتبه الخاص، وهتف قائلاً بحماس:
-أنا متأسف إني جيت لحضرتك بدري أوي كده، بس مكونتش أقدر أستنى وأنا معايا أكتر شخص ممكن يساعد ليان
قطب الطبيب جبينه، وسأله بإهتمام:
-مين ؟
أشار عدي بعينيه وهو ينظر لتهاني الجالسة في مواجهته:
-مامتها الحقيقية ! مدام تهاني !

هتفت هي بنبرة متوسلة ونظراتها متعلقة بالطبيب:
-خليني أشوف بنتي يا دكتور، سيبني أخدها في حضني، وأطبطب عليها، وأعوضها عن اللي فات، كفاية إنهم حرموني منها !
رد عليها بنبرة رسمية وهو يوميء برأسه:
-حاضر يا هانم، بس قبل ما أعمل ده لازم أمهدلها الأول، وإلا هي هاترفض تتقبل الوضع الجديد، ويحصل إنتكاسة
-طب أشوفها بس، من غير ما اقول حاجة، أبص عليها، أشوف شكلها
مط الطبيب فمه للأمام، وهز رأسه قليلاً ليفكر فيما قالته، ثم تشدق قائلاً بهدوء:
-حاضر !

نهض هو عن مقعده، وإتجه إلى باب الغرفة، فتابعته نظرات تهاني المتلهفة لرؤية ابنتها بإشتياق حقيقي، فأردفت المدبرة عفاف قائلة بنبرة حانية:
-اهدي يا ست تهاني، الوقتي هاتشوفيها، وتقعدي معاها، بس لازم ننفذ كلام الدكتور، عشان مصلحتها
أومأت برأسها عدة مرات وهي تجيبها بتنهيدة واضحة:
-ماشي، آآآآه، أخيراً يا بنتي هاملي عيني منك !

أخرج عدي هاتفه لينظر إلى التوقيت، ثم أسنده على سطح المكتب، وظل يزفر بتوتر، ثم عقد ساعديه أمام صدره، وهز ساقيه بعصبية وهو يحدث نفسه ب:
-يا ريت اللي بأعمله يجي بفايدة يا ليان، وتخفي ونرجع نعيش سوا، ونكون أسعد زوجين ! الدكتور طمني إن في أمل فيا، والعلاج هايجيب نتيجة، كلها مسألة وقت بس !

إلتفت برأسه ناحية الباب، وظل محدقاً به لبرهة.. ثم نهض عن مقعده قائلاً بجدية:
-أنا هاشوف الدكتور وراجع تاني
ردت عليه عفاف بإبتسامة:
-ماشي يا باشا، خد راحتك، وأنا أعدة هنا مع الست عفاف
-تمام !
خرج عدي من الغرفة، بينما رفعت تهاني بصرها للسماء، وتنهدت قائلة بتوسل:
-يا رب اجمعني بولادي على خير، وعوض صبري خير

في المنتجع السياحي
أشار أوس بيده لحراسته الخاصة قائلاً بصرامة وهو ينظر حوله:
-الشنط تتحط في العربية، وباقي الناس تجهز ! وخلي السواق معاكم، أنا اللي هاسوق
أجابه أحد رجاله بجدية شديدة:
-حاضر يا فندم !
أضاف قائلاً بصوت متصلب وهو يوميء بعينيه الحادتين:
-عاوز حراسة مع الهانم لحد ما أرجع تاني
رد عليه الحارس بنبرة رسمية وهو يهز رأسه موافقاً:
-أوامرك يا باشا !

ثم تحرك أوس للأمام وأخرج هاتفه المحمول من جيبه، ليهاتف عدي، ثم وضعه على أذنه، وإنتظر أن يجيب عليه بفارغ الصبر..
في نفس اللحظة تحرك أحد رجال حراسته للخلف، وتوارى عن الأنظار ليتحدث في هاتفه بسرية دون أن يلحظه أحد..
نظر حوله بريبة، ثم همس قائلاً بكلمات مقتضبة:
-الباشا هايتحرك بنفسه، دي فرصتكم ! سلام !
ثم إشرأب بعنقه للأعلى ليتأكد من عدم متابعة أحد له، ومن ثم عاد إلى موقعه وهو يدس هاتفه في جيبه..

في مشفى الأمراض النفسية
نسي عدي هاتفه المحمول على سطح المكتب، فظل يرن لعدة مرات..
حدقت به عفاف، ونظرت بفضول إلى شاشته، فوجدت إسم أوس يصدح به.. فرفعت عينيها في إتجاه تهاني التي كانت مطرقة الرأس، ودار بخلدها فكرة ما.. لماذا لا تعيد لم الشمل من جديد، وتجعل أوس يستمع إلى صوت والدته..
لذا دون تردد مدت يدها لتمسك بالهاتف، ووجهته ناحية تهاني قائلة بخفوت:
-أوس باشا بيتصل !

رفعت تهاني رأسها للأعلى مصدومة، وإتسعت حدقتيها بتوتر شديد.. وتسارعت دقات قلبها..
فإبنها هو أكثر من تحتاج إليه لتبرر له موقفها، وتوضح له الحقيقة الغائبة عنه، وتستعيد ثقته بها،وتعيده إلى أحضانها..
أضافت تهاني متسائلة بإهتمام:
-تحبي تسمعي صوته ؟
هزت تهاني رأسها عدة مرات وقد أدمعت عينيها بشدة..
ضغطت عفاف على زر الإيجاب، وإبتسمت لها برقة وهي تناولها إياه..

بأصابع مرتجفة وضعت تهاني الهاتف على أذنها، وإستمعت إلى صوته وهو يهتف بجمود:
-ساعة عشان ترد !
كتمت تهاني شهقتها بعد سماعه لصوته الذي تشتاقه، وحبست أنفاسها قدر المستطاع..
مدت عفاف يدها لتمسك بكفها، وضغطت عليه، ونظرت لها برجاء حتى تتحامل على نفسها ولا تفضح الأمر ببكائها فتنتهي المكالمة..

بينما أكمل أوس قائلاً بصوت متصلب:
-صحصحلي كده واسمع، أنا لاغيت الصفقة مع الوفد الأسباني، ابن ال *** كان بيبص لتقى، وأنا كنت هافقع أم عينه وأموته، بس هي منعتني من ده، لكن هو استغبى معانا بزيادة.. هابقى هاحيلك على التفاصيل بعدين، بس أنا راجع القاهرة الوقتي، فعاوزك تطلع على الشركة بدري، وآآ..
تعجب أوس من صمت عدي عليه، فهتف قائلاً بضيق:
-إنت سامعني ؟ ولا ضاربها طناش ! إنت يا بني رد !

لم تستطع تهاني الصمود، فخفقان قلبها ولهفتها على ابنها دفعها للشهيق بنحيب قائلة:
-آآ.. أوس، إبني !
تجمدت تعابير وجهه بعد سماع صوتها، وتسائل قائلاً بصدمة رغم معرفته لهويتها بقلبه، ولكن عجز لسانه عن النطق بإسمها:
-مين معايا ؟!
ردت عليه بصوتها اللاهث ب:
-أنا.. أنا تهاني.. أمك يا حبيبي !
خفق قلبه بعنف وهو يضيف بجمود:
-إنتي ؟!

تنهدت ببكاء أشد وهي تتوسله بإستعطاف:
-سامحيني يا ضنايا، غصب عني أسيبك لوحدك، هما السبب في ده، أنا معنديش أغلى منك يا حبيبي، إنت ابني وبس ! ابني اللي حرموني منه، وعذبوني ببعدك عني
صمت أوس ولم يجبها، وظل محدقاً أمامه بنظرات فارغة !..
تابعت تهاني حديثها الباكي ب:
-أنا ماليش غيرك إنت واختك، سامعني يا بني، أنا بأطلب منك السماح، أنا مش عايشة إلا ليكم وبس، سامحني، اغفرلي ذنب معملتوش !
إعتصر الآلم قلبه، ولم يستطع الرد على توسلاتها الباكية..

إختنق صوتها المتشنج وهي ترجوه قائلة:
-أنا أمك يا حبيبي، مش قادر تسامح أمك، طب وحياة أغلى حاجة عنك سامحني، كلمني طيب، قول حاجة، قولي انك معايا وحاسس بيا
طال صمته، فتقطع قلبها حزناً، وهتفت ببكاء حار:
-أوس.. رد عليا !

أبعد أوس الهاتف عن أذنه وهو يذرف العبرات تلقائياً..
فقد آلمه بشدة أن يكون متحجر القلب معها.. ولكنها من تتحمل اللوم فيما آل إليه حاله..
نعم هي والدته، ولكنها من جنت عليه، وتركته ليغتصب وينتهك على يد زوجها، ومن بعده أبيه الذي تفنن في تعليمه الموبقات، وها هو اليوم يدفع ثمن ما وصل إليه من سلوك مريض مع زوجته، ويتعذب من رؤية نظراتها التي تقتله كل لحظة.. فلماذا يصفح هو لها بسهولة وقد تحول إلى ذئبٍ لا يعرف الحب ولا يغفر..

سحبت عفاف الهاتف من تهاني، وأنهت المكالمة وهي تربت على ظهرها قائلة بأسف:
-اهدي يا ست تهاني، اهدي
نظرت لها بعينيها الباكيتين وهي تتابع بصوت منتحب:
-مرضاش يرد عليا ويقولي سامحتك يا أمي، لسه قلبه شايل مني، آآآه، لسه مش قادر ينسى اللي حصل زمان !
ردت عليها بهدوء وهي تواسيها بنظراتها:
-الأيام هاتنسيه، أنا شوفته وحاسة إنه اتغير، بس بياخد وقت
هزت رأسها في آسى وهي ترد عليها بحزن:
-يا ريت ينسى، يا ريت !

في المنتجع السياحي
صف السائق السيارة أمام مدخل الإستقبال الرئيسي لإدارة الفندق..
وترجل منها ووقف منتصباً بجسده في إنتظار وصول أوس الجندي وزوجته..
في نفس التوقيت، إستندت تقى بذراعها على إحدى الموظفات وهي تسير بخطوات بطئية في إتجاه الخارج..
وما إن لمحها السائق حتى أسرع ناحية الباب الأمامي للسيارة وفتحه لها قائلاً بهدوء:
-اتفضلي يا فندم
نظرت له تقى بإستغراب، وسألته بحيرة:
-أنا هاقعد ورا، ليه بتفتح الباب ده ؟

أجابها بهدوء شديد وهو مجفل عينيه:
-الباشا أوس هو اللي هيسوق يا هانم
فغرت شفتيها مصدومة وهي تردد:
-هاه، هايسوق !
-اركبي !
قالها أوس بصوت جاف وهو يتحرك بعصبية في إتجاه السيارة
تعجبت هي من حالته تلك، فقد كانت تعابير وجهه متشنجة للغاية..

نظر لها بأعين قاتمة وهو يضيف بصرامة:
-مش هاستنى كتير، يالا !
ضغطت على شفتيها بقلق، ثم ركبت بحذر إلى جواره..
أغلق السائق باب السيارة، وتراجع للخلف.. في حين أدار أوس محركها، وضغطت على الدواسة وهو يدير عجلة القيادة لتنحرف السيارة وتنطلق بسرعة في إتجاه مخرج المنتجع...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة