قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع والخمسون والأخير

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع والخمسون والأخير

في مشفى الأمراض النفسية
أشار الطبيب بيده إلى طاولة ما تجلس عليها ليان ثم أردف قائلاً بجدية إلى تهاني الواقفة إلى جواره:
-هي اللي أعدة هناك دي !
وضعت يدها على صدرها لتشعر بضربات قلبها المتلاحقة..
نظر نحوها الطبيب وهو يتابع بنبرة محذرة:
-بس خلي بالك وإنتي بتكلميها، مش لازم تعرف إنك أمها، إنتي بالنسبالها واحدة غريبة، جاية تقعدي معاها شوية
أومأت برأسها وهي تجيبه بسعادة:
-حاضر.

أسند عدي كفه على كتفها، ونظر لها برجاء وهو يهتف بخوف:
-مدام تهاني مش هاوصيكي، ليان آآآ..
قاطعته بنبرة حانية وهي تزيح يده من عليها:
-دي بنتي، ماتوصنيش عليها !
ثم تركته وسارت وعلى وجهها إبتسامة أمل بلقاء ابنتها الغالية..
تحركت تهاني بخطوات محسوبة نحوها، ولم تحيد بعينيها عنها..
ركض قلبها نحوها قبل ساقيها..

لمحتها وهي تنظر بشرود أمامها، وتمعنت بدقة في تفاصيل وجهها..
كم أن ملامحها تقاربها بدرجة كبيرة..
هي تشبهها، بل على الأحرى أن نقول هي صورة مصغرة منها في شبابها..
إعتلى صدرها وهبط وهي تقترب منها حتى صارت على بعد عدة خطوات..
وضعت يدها المرتجفة على صدرها، وخفق قلبها بشدة، وتلاحقت أنفاسها..
لهثت بصوت مسموع، وصمت دقات قلبها العالية آذانها..

أخذت نفساً عميقاً وحبسته في صدره لتسيطر على حالة الإرتباك التي تتملكها..
وقفت خلفها، ومدت يدها للأمام لتتلمس خصلات شعرها، ولكنها قبضت يدها وسحبتها للخلف سريعاً..
راقبهما الطبيب وعدي بتوتر شديد..
فهي لحظة حاسمة لكلتاهما.. ونتائج هذا اللقاء سيترتب عليه الكثير
إبتلعت تهاني ريقها، وتحركت للأمام وهي تهمس بصوت متحشرج:
-إحم.. ص..صباح الخير
لم تنظر لها ليان بل ظلت محدقة أمامها بحزن بادي في عينيها...

ضغطت تهاني على شفتيها بقوة لتمنع نفسها من البكاء، وأدارت رأسها للجانب وهي تضع يدها على أنفها، ثم أغمضت عينيها متحسرة على حال إبنتها..
نظرت لها ليان بطرف عينها دون أن تنبس بكلمة.. ومن ثم حدقت أمامها مجدداً..
جلست تهاني إلى جوارها، وفركت أصابعها بتوتر وهي تردف بخفوت وتلعثم:
-أنا.. أنا آآ.. شوفتك أعدة لوحدك من بعيد، ف.. آآ.. فقولت أقعد معاكي شوية
زفرت ليان بعمق، ولم تجبْ عليها..

مدت تهاني يدها بحذر نحو ذراع ليان لتلمسه، فهاجت عواطفها، ونظرت لها بحنو أمومي حقيقي سائلة إياها بصوت دافيء:
-مالك يا بنتي ؟ ساكتة ليه ؟
لوت فمها لتبتسم ساخرة وهي تجيبها بتهكم:
-بنتك ! هه ! ده كدب.. أنا مش بنت حد، أنا ماليش أهل !
خفق قلب تهاني بعنف، وعلقت غصة مريرة في حلقها، فهتفت بنزق وهي دامعة العينين:
-لأ إنتي بنتي !
أدارت ليان رأسها في إتجاهها لترمقها بنظرات متعجبة..

في حين رفعت تهاني أناملها نحو وجنتها لتتلمس بشرتها، وشهقت بخفوت من أثر تلك اللمسة التي إفتقدتها..
فاضت عبراتها عفوياً.. وتنهدت بحرارة وهي تتأمل ابنتها بتمعن..
يا الله ! كم كبرت كثيراً، وصارت تشبهها..
لقد حرمها القدر من أن تراها تحبو وتخطو أولى خطواتها أمامها، ومن إصطحابها للمدرسة في أول يوم دراسة لها، ومن رؤيتها تنضج وتصير عروساً تزينها بيديها لترسلها إلى زوجها بكل محبة..
قطبت ليان جبينها في إستغراب من تصرفات تلك المرأة الغريبة، وسألتها بجمود:
-في ايه ؟ إنتي بتعيطي ليه ؟

أجابتها بصوت مختنق وهي تحدق بها:
-قلبي واجعني أوي !
سألتها ليان بإهتمام وهي تراقب تصرفاتها:
-ليه ؟
ردت عليها بصوت منتحب وهي تجفف عبراتها:
-خدوا بنتي مني، وحرموني من حضنها، بس غصب عني أشوفها ومقدرش أخدها في حضني، وأطبطب عليها !
سألتها بفضول وقد إزداد إنعقاد ما بين حاجبيها:
-ليه مش قادرة ؟

أجابتها بصوت متقطع:
-خايفة.. خايفة تنكر وجودي، و.. وتبقى قاسية عليا زي أخوها، وترفض حبي ليها
تنهدت ليان بحرارة وهي تضيف بآسى:
-يا ريت كان عندي حد يحبني بجد ويخاف عليا، لكن ماليش حتى أم تسأل عليا !
إختنق صدر تهاني وهي تحدث نفسها بمرارة:
-أنا هنا يا حبيبتي، قصادك يا غالية ! بأحبك من قبل ما تتولدي، من أول ما عرفت إني حامل فيكي، أنا جمبك يا ضنايا، ومش بعيدة عنك !
إنتصبت ليان في جلستها، وأردفت فجأة بجمود:
-أنا ماشية !

ثم نهضت عن مقعدها، فخفق قلب تهاني بعنف وهي تراها تبتعد عنها، لذا نهضت هي الأخرى من مكانها وهتفت بتلهف:
-ليان، استني يا بنتي ! أنا أمك !
تسمرت ليان في مكانها مصدومة، ونظرت أمامها بذهول واضح في مقلتيها..
وقفت تهاني خلفها، وتابعت قائلة ببكاء:
-أيوه أنا أمك تهاني، أنا اللي خدوكي مني وحرموني منك، أنا اللي بتحبك بجد وبتخاف عليكي، إنتي بنتي، وأنا أمك، أيوه.. أمك !
إستدارت ليان بجسدها ببطء لتنظر لها بصدمة..
رأت في عيني تلك السيدة عبرات صادقة، ولمس حديثها قلبها بشدة..

لا تعرف لماذا لم ترفض ما قالته أو تغضب أو تثور عليها مستنكرة هذا.. لكنها وجدت في عاطفتها الجياشة شعوراً حقيقياً ودت أن تشعر به يوماً مع ناريمان..
اقتربت منها تهاني، ومدت يديها المرتجفتين لتتلمس وجهها وتحتضنه وهي تضيف بخفوت:
-إنتي بنتي، ولو كنت أعرف إنك عايشة مكونتش سيبتك لحظة ليهم، كنت خدتك في حضني تاني، وحميتك من أذاهم !
أدمعت عيني ليان، وتنهدت بحرارة وهي تحاول كبح رغبتها في البكاء..
أومأت تهاني بعينيها المتورمتين من كثرة البكاء وهي تكمل بإصرار:
-أنا أمك، ومش هاسيبك يا بنتي ! ربنا جمعني بيكي تاني، وهافضل جمبك على طول، مش هياخدوكي مني !
حركت ليان شفتيها ببطء وهي تهمس بتلعثم:
-م.. ما آآ.. ماما !
-بنتي !

قالتها تهاني وهي تجذب ابنتها إلى صدرها لتضمها وتحتضنها بإحساس صادق في مشاعرها..
شعرت ليان بين ذراعي تلك السيدة براحة غريبة.. بسكون عجيب هدأ من روحها المضطربة..
لم تدعْ تلك السيدة حبها كغيرها، بل بكتْ لإجلها بحق دون أن تزيف مشاعرها..
ورغم أنها لم تتقبل بعد فكرة كونها أمها إلا أنها لم تقاوم شعورها بالإستسلام لدفيء حضنها...
ربت الطبيب على ظهر عدي بسعادة حقيقية وهو يرى تجاوب ليان مع تهاني، وهتف قائلاً بحماس:
-بداية مبشرة إن شاء الله !
نظر له عدي ببريق أمل في عينيه وهو يجيبه بإرتياح:
-ايوه يا دكتور !

في سيارة أوس
قاد أوس سيارته عبر الطريق الصحراوي بسرعة عالية إلى حد ما، وظل صامتاً، ولكن عقله لم يتوقف للحظة عن التفكير..
وضع نظارته القاتمة على عينيه ليخفي تلك الحمرة الشديدة التي ألهبتهما..
راقبته تقى بإستغراب شديد من طرف عينها، وتعجبت من تبدل حاله للجمود الشديد، وتسائلت مع نفسها عن سبب تغيره هكذا..
خشيت أن تتجرأ وتسأله فينتهز الفرصة ويصب غضبه عليها.. فأسلوبه صار أكثر حدة منذ أن ركبا السيارة سوياً حتى مع أفراد حراسته..

كما وضعت إصبعها بين أسنانها، وعضت عليه قليلاً معتقدة أن للأمر علاقة بالعمل، وربما خسارته لتلك الصفقة الجديدة أزعجه بشدة.. فإبتلعت ريقها متوترة وهي تحسب القيمة المادية لها..
وفجأة فغر أوس ثغره ليتسائل بصوت آجش قاطعاً لذلك الصمت المشحون ب:
-بتحبي خالتك ؟
ضيقت عينيها وهي تردد بإندهاش:
-خالتي !
نظر إليها من خلف نظارته متفرساً ملامحها قبل أن ينظر أمامه ليقول:
-أها
ردت عليه بخفوت وهي تنظر من نافذتها الجانبية:
-اه بأحبها
سألها بإيجاز، وهو يرفع نظارته للأعلى:
-ليه ؟
هزت كتفيها بعفوية، وأجابته بفتور:
-عادي
دقق النظر بها وهو يزيد من سرعة سيارته متسائلاً بصوت متصلب:
-إيه السبب اللي يخليكي تحبيها وهي معملتش أصلاً حاجة ليكي ؟

لوت شفتيها لتجيبه بجفاء دون أن تنظر نحوه:
-أنا مش محتاجة سبب معين عشان أحبها !
تقوس فمه ساخراً ب:
-يا سلام !
إلتفتت برأسها نحوه،ورمقته بنظرات جافة وهي تجيبه بقوة:
-أيوه، الحب مش بيطلب، هو بيتحس من اللي حواليك !
سألها مستفهماً وهو محدق بعينيها:
-تقدري تسامحيها لو غلطت فيكي ؟
أجابته دون تردد وبثقة:
-أيوه.

سلط أنظاره على الطريق، وتنهد بحزن وهو يتابع قائلاً:
-اشمعنى أنا مش قادر أسامحها
نظرت له مذهولة وهي تغمغم ب:
-هاه
رمقها بنظرات حزينة وهو يتابع بضيق:
-عارفة ليه يا تقى مش عارف أسامحها ؟

إرتبكت من تلك النظرات الغريبة التي لم تعتادها منه.. وخشيت من أن يهاجمها ذلك الشعور الذي يجعلها تتآلم أكثر..
فحاولت أن تبدو غير مهتمة بما يقول، وإستدارت للجانب قليلاً وعقدت ساعديها أمام صدرها، وهتفت ببرود:
-مش عاوزة أعرف !
تنهد بعمق قائلاً بمرارة:
-زي ما إنتي نفسك مش قادرة تسامحيني، فأنا مش قادر أسامحها أو حتى.. أو حتى أحبها !
أغمضت عينيها جبراً، وصاحت بقوة:
-أنا مش عاوزة أتكلم
رد عليها بإصرار واضح في جميع تعبيراته:
-بس أنا عاوز!
نفخت من الضيق وظلت محدقة بالنافذة..

في نفس التوقيت كانت هناك سيارتي دفع رباعي تنطلقان بسرعة رهيبة في نفس إتجاه سيارته ومتواجد بهما أشخاص من ذوي الأجسام الضخمة.. ويتبادلون الإشارات اليدوية والحديث الجاد بينهم وعبر الهواتف المحمولة..

عودة لداخل السيارة
أخذ أوس نفساً عميقاً، وزفره على مهل ليردف قائلاً بصعوبة وهو يرمش بجفنيه:
-أنا مكونتش كده، بس هي السبب، ايوه هي اللي سابتني لوحدي مع أقذر بني آدم ممكن يتعاشر يعمل فيا ما بداله، ومقدرتش تحميني منه !
ظلت على حالتها الرافضة، وصاحت بقسوة:
-مايهمنيش اعرف !
توتر صوته وهو يضيف قائلاً:
-تفتكري إيه أسوأ كابوس ممكن يعيشه طفل ويطلع منه سليم ؟

إعتقدت تقى أنه يحاول التلاعب بأعصابها، وتشويش مشاعرها.. وترقيق قلبها نحوه، وتبرير أفعاله المشينة، فإستدارت نحوه، وهتفت بغضب وهي تشير بإصبعها:
-إنت عاوز تحملها الذنب وخلاص ؟ تبقى غلطان، عقلها كان تعبان، وحالها يصعب على الكافر
إلتوى فمه بسخرية مريرة وهو يقول:
-هه، بجد ؟
تابعت قائلة بصوت محتد وهي ترمقه بنظرات إستهجان:
-ايوه، انت متعرفش حاجة عنها، دي كانت بتموت كل يوم وقلبها حزين ومحروق على ولادها اللي راحوا منها ! وللأسف إنت طلعت واحد منهم !
إبتسم لها قائلاً بتهكم:
-حقيقي اتأثرت.

إغتاظت من رده عليه، فصاحت بحدة:
-اللي زيك مش هايعرف هايحس بغيره أبداً ! لأنك معندكش قلب
أغضبته كلماتها الأخيرة، فضغط على عجلة القيادة بأصابعه ليكبح إنفعالاته، وإستدار برأسه نحوها ليرمقها بأعينه المشتعلة قائلاً بشراسة:
-ومسألتيش نفسك ليه معنديش قلب ؟ بأتعامل مع الناس بالأسلوب ده ؟
رمقته بنظرات إحتقار وهي تجيبه بنبرة ضائقة:
-مش عاوزة أسأل ! كفاية اللي شوفته منك !

نفخ بغضب، وأخذ نفساً عميقاً ليزفره بصعوبة وهو يقول:
-أنا اتعذبت كتير يا تقى
لوت فمها قائلة بقسوة وهي تشيح بوجهها بعيداً عنه:
-كلام !
إستشاط أوس غضباً من ردودها الجافة، ومن تجاهلها لمشاعره، فمد يده نحوها، وقبض على رسغها، فإنتفضت مذعورة، وإضطرب صدرها بقوة.. ونظرت له بإستنكار، فهتف قائلاً بإنفعال:
-لأ مش كلام !

تلوت برسغها محاولة تخليصه، وصرت على أسنانها قائلة بعصبية:
-انت عاوز توصل لإيه ؟ إني أسامحك ؟
حدقت به بشراسة، وهتفت بعِناد:
-مش هايحصل أبداً، مقدرش أسامح حد دبحني ومرحمنيش !
نظر لها بندم، وأرخى قبضته عنها، وصاح بإستعطاف:
-دي كانت لحظة يا تقى، لحظة !
صرخت فيه بجنون:
-بس دمرت حياتي كلها، قضت على أحلامي !

دافع عن نفسه قائلاً بحدة:
-بس أنا كنت جوزك، ايوه بأعترف إني كنت مجرم معاكي، بس على الأقل آآآ..
قاطعته بصوت هادر وهي ترمقه بنظراتها النارية:
-عاوز تبرر جريمتك والسلام ؟ عاوز ضميرك يرتاح ؟ صدقني مش هاتعرف، مافيش حاجة تغفر لراجل يغتصب واحدة غصب عنها !
إختنق صوته وهو يسترضيها قائلاً:
-يا تقى كفاية تعذيب فيا !
ثم صمت للحظة ليتابع بحرقة:
-أنا كل يوم بأعيش نفس اللحظة اللي عيشتها من 20 سنة بسببك
نظرت له بجمود متسائلة ب:
-بسببي ؟

أخفض نبرة صوته قائلاً بمرارة:
-أنا مارتحتش ليوم واحد، مانمتش يوم بدون ما شبحه يطاردني
تعذر على تقى فهم ما يقوله.. وتصارعت مشاعرها، فهزت رأسها بحيرة، وسألته بضيق:
-إنت بتقول ايه ؟!
تشنج صوته وبدى مبحوحاً وهو يضيف:
-جربتي احساس طفل يتدبح كل يوم ومش قادر ينطق
نظرت له بخوف قائلة:
-هاه
أكمل قائلاً بنشيج وقد لمعت عينيه الداكنتين بشدة:
-طب عيشتي مليون لحظة خوف وانتي بيتقفل عليكي باب واحد معاه وهو بيقتلك بنظراته بس ؟!

-ايه الكلام ده
أغمض عينيه، وتنهد بعمق ليتابع بصعوبة:
-الست اللي بتدافعي عنها وبتقولي عنها مظلومة هي.. هي اللي سابتني ليه ! خليته يعمل فيا زي ما عملت فيكي وأوسخ كمان، بس الفرق بينا، أنا كنت عاجز وطفل، مقدرتش حتى أصرخ ولا أقول آآه، مقدرتش أفتح بؤي وأتكلم.. !
فغرت شفتيها مصدومة، وجحظت بعينها في عدم تصديق..
إختنق صوته وهو يضيف بنبرة منكسرة:
-دبحني وهي وقفت تتفرج، اديته السكينة بإيدها عشان يعمل ده، وبعدت في أكتر وقت كنت عاوزها فيه، سابتني لوحدي أموت !

وضعت يدها على فمها في ذهول عجيب، وظلت على حالتها المصدومة وهي تستمع لحديثه المؤسف ب:
-غابت عني ورميتني في جحيمه !
أغمضت تقى عينيها وهي تتخيل ما يقوله، وشعرت بالإشمئزاز من ذلك الوصف المفجع، وهزت رأسها مستنكرة بتقزز بادي على تعابير وجهها، وصاحت بإنفعال:
-كدب، إنت بتقول ده بس عشان تصعب عليا وآآ...
قاطعها بصوت هادر يحمل الآسى:
-أيوه داست عليا وهربت لحضنه، وأنا.. وأنا لوحدي شيلت ده كله !
قاومت رغبتها في البكاء تأثراً، وهتفت بصوت مختنق:
-فكرك هاصدق اللي بتقوله، وأسامحك ؟!

تنهد بحرارة شديدة وهو يكمل بشجن:
-خوفت أتكلم.. خوفت أصرخ وجبرت نفسي أكون واحد تاني، دفنت اللي حصل، وبقيت أسوأ منهم كلهم، شيطان عشان أخبي ضعفي، بس مانستش للحظة اللي اتعمل فيا
وضعت يديها على أذنيها لتمنع نفسها من تصديقه صارخة ب:
-مش قاردة أصدقك !
ترك لعبراته العالقة في مقلتيه العنان لتنهمر وهو يكمل بصوت متقطع:
-النهاردة بس سمعت صوتها تاني.. وساعتها.. آآ.. ساعتها حسيت أوي بيكي.

نظرت له مصدومة، هل أوس الجندي ذو القلب القاسي الذي لا يعرف الحب يبكي أمامها ؟ رمشت بعينيها اللامعة لتتأكد من أنها لا تحلم وتسائلت مع نفسها هل هي تتوهم هذا أم أن هذه هي عبراته الحقيقية تعبر عما يجيش به صدره ؟
نظرت لها دون خجل وهو يبكي قائلاً بأسف:
-عرفت أد ايه صعب عليكي تسامحيني، تغفرلي ذنبي، ما أنا مقدرتش أسامحها، ولا حتى بالكدب أقولها مسامحك !
فغرت شفتيها لتسأله بتردد وهي محدقة بعبراته:
-آآ..إنت آآ..

قاطعها بصوته الباكي قائلاً:
-حتى دموعها مأثرتش فيا !
أطلق تنهيدة حارقة من صدره وهو يتابع ب:
-آآآآآه يا تقى، صعب الواحد يغفر ! بس إنتي غيرها، إنتي.. إنتي الوحيدة اللي حبيتها وماكونتش حاسس، إنتي كنتي روحي اللي ضايعة مني، ويوم ما لاقيتها..آآ.. أذيتها !
عجزت عن الرد عليه، الموقف برمته أكبر من قدرتها على الإستيعاب..

إنه يبكي كشخص طبيعي أمامها.. يبكي كما كانت تسمع صوته في أحلامها القريبة.. يبكي بندم حقيقي غير مصطنع..
نظر لها بعمق مضيفاً بصوته الباكي:
-أنا معرفتش يعني ايه حب وندم حقيقي إلا معاكي
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يكمل:
-حتى لو ماسمحتنيش فأنا آآ..
جحظت تقى بعينيها حينما رأت سيارة الدفع الرباعي تميل على سيارتهما، فصرخت بخوف:
-حاسب
نظر أوس إلى حيث تنظر هي، وإنحرف بالسيارة بإحترافية ليتفادى الإصطدام المحتوم بها..
توترت تقى بشدة، وإرتفع صدرها وهبط في خوف، وسألته بنبرة لاهثة ومذعورة:
-ف..في ايه ؟

تجمدت تعابير وجهه، وتصلبت عروقه، وأجابها بثقة:
-اهدي !
إبتلعت ريقها وسألتها بنبرة مرتجفة:
-هما.. آآ.. هما عاوزين ايه ؟
ارتطم قائد سيارة الدفع الرباعي بسيارة أوس الذي سبه بغضب:
-يا بن ال **** !
إنتفضت تقى في مقعدها، ومدت يدها لتمسك عفوياً بكتف أوس محاولة التشبث به، وصرخت برعب:
-لألألألأ
نظر لها أوس بخوف واضح في عينيه عليها، وإزداد عصبية لمحاولة تجنيبها أي خطر..

صاح أحد الأشخاص الجالسين بالسيارة الأخرى بصوت آمر وهو يشير بيده:
-وقف العربية !
هدر أوس به بصوت حاد ومتوعد وهو يكز على أسنانه:
-ورحمة أمك لأفرمك !
صرخت تقى بهلع:
-لألأ
نظر لها بعينين حادتين، وأردف قائلاً بهدوء مصطنع:
-شششش ! اهدي ! محدش هايعملك حاجة !
صرخت بذعر حينما أرتطمت بهما السيارة مجدداً، وأجبرتهما على الإنحراف عن الطريق الرئيسي:
-آآآآه، هانموت
حدق أوس في مرآة السيارة الجانبية، وهتف بغل:
-فين أم الحراسة اللي معايا ؟!

حاصرت السيارة الأخرى سيارتي الحراسة التابعين لأوس، وسدت عليهما الطريق فحالت دون وصولهما إلى سيارته..

استمرت سيارة الدفع الرباعي في جبر سيارة أوس على السير بداخل الرمال حتى اختفى الطريق الرئيسي عن أنظار الجميع..
وبرع هو في تفادي الإرتطام بها، وحاول الفرار من هؤلاء المعتدين فقط لأجلها.. لأجل إنقاذ من نبض لقلبها.. لأجل تقى..
ولكن غاصت السيارة في كثبان الرمال وتعذر عليه قيادتها، فإستغل قائد السيارة الأخرى الفرصة ليصطدم بقوة به.. وأجبره على التوقف..
ترجل أربعة أشخاص من السيارة، وإندفعوا نحو سيارة أوس الذي هتف بصوت صارم وبنظرات صدق:
-مش هاسيبهم يؤذوكي يا تقى، على جثتي لو حد قربلك !

جذب مفتاح السيارة من موضعها، وترجل منها بغضب جلي، وأغلقها بالقفل الإلكتروني ليحبس زوجته بداخلها، ثم إندفع كالثور الهائج نحوهم ليفتك بهم..
تابعته تقى من داخل السيارة وقلبها إنقبض بشدة خوفاً عليه، فلم يخطر ببالها أن يفني حياته من أجلها هي.. أن يحميها دون أن يترك لنفسه المجال للتفكير في خياراته..
لقد كانت دوماً منذ أن عرفها، وإرتبط بها الخيار الأول في حياته، واليوم يثبت لها هذا...

مد أول شخص ذراعه ليلكم أوس، ولكن تفاداه أوس بمهارة، وسدد له لكمة عنيفة في صدغه، ثم تكالب عليه إثنين أخرين ليقيدا حركته.. ولكنه ركل أحدهما في معدته بقسوة، وضرب الأخر في فكه..
هجم عليه إثنين أخرين، وطرحاه أرضاً، وتسابقا في ركله بشراسة في أنحاء جسده، فصرخ متأوهاً.. وهو يحاول تغطية وجهه .
ثم هتف أحدهم بحدة:
-البيه قال يتروق قبل ما نقتله، عاوزه يموت بالبطيء !

رد عليه زميله وهو يركل أوس بعنف أسفل معدته ب:
-وماله !
صرخ أوس بغضب:
-آآآآه، مش هاسيبكم !
أردف الشخص الثالث قائلاً بخسة:
-احنا نحرق قلبه على البت اللي معاه
-ايوه
صرخ بصوت هادر وقد إشتعلت عينيه غضباً:
-لألأ، مش هاسيبكم تقربوا من مراتي، هادفنكوا هنا !

ضربه الشخص الثالث بعنف أشد وهو يقول بصوت محتد:
-اخرس، ده انت اللي هاتدفن، خد !
أشار الشخص الأول لزميله بيده آمراً ب:
-هاتها من هناك
زحف أوس بجسده محاولاً الإفلات من الثلاثة الذين يبرحوه ضرباً لمنع ذلك الأخير الضخم من الوصول إلى حبيبته..

إنكمشت تقى مذعورة في مقعدها حينما وجدت ذلك الشخص ذو الوجه المتجهم والجسد الضخم يقترب من السيارة
ورمشت بعينيها بهلع جلي..
وضع الرجل كفيه على زجاج السيارة الأمامي، وضربه بعنف، فشهقت بصراخ وقد إتسعت مقلتيها بدرجة كبيرة:
-لألألأ

مد أوس ذراعه في الهواء وهو يهتف جلي مذعور و غاضب:
-تقى !
ثم إستجمع قوته المحتقنة والغاضبة بالكامل لينهض عن الرمال ويقف على ساقيه، ورغم ترنح جسده والآلم الموجع المسيطر عليه، إلا أنه هاج بعصبية زائدة مطيحاً فيمن حوله بضربات هائمة..
ولكنهم أحاطوه مرة أخرى، وتكاثروا عليه، وكالوا له من اللكمات ما جعل الدماء تنزف بغزارة من فكه وأنفه..
ثم نجحوا في إيقاعه على الرمال..

ثنى الرجل الضخم ساعده ليضرب بكوعه الزجاج الأمامي بقوة ليحطمه.. فصرخت تقى بخوف أشد، وإنتفضت من مكانها، وقفزت على مقعد أوس.. وأمسكت بأصابع مرتجفة الباب لتفتحه، ولكنه كان موصداً من الداخل.. فشهقت بصراخ جلي:
-أوس !

سمع صوتها يصدح بإسمه لأول مرة دون ألقاب، فخفق قلبه بشدة من نبرتها المرتعدة وهدر صارخاً:
-تقى !
ثم ناضل ليقف على قدميه ويقاتلهم حتى الرمق الأخير من حياته ليفديها..

إنتزع الرجل الضخم من سترته مسدساً كان مثبتاً في حزام جلدي داخلي، ثم صوبه نحوها..
فجحظت عينيها في رعب.. وتلاحقت أنفاسها..
لقد إقتربت النهاية.. وأصبح الموت على بعد لحظات منها..

نجح أوس في الوقوف على قدميه، وركض مسرعاً وهو يصرخ بصوت لاهث:
-تقى ! تقى !
إنتبه الرجل الضخم لصوته القريب، وأدار جسده في إتجاهه، فوجده مقبلاً عليه، وشرارات الغضب تبعث من عينيه، فصوب مسدسه ناحيته، وحدق به بجمود قاتل..
رأت تقى المشهد بعينيها، وتسارعت ضربات قلبها حتى صمت أذنيها، فهبت مذعورة لتصرخ ب:
-أوس، لألألألألألأ !

ثم ضغط الرجل الضخم على الزناد لتنطلق منه رصاصة تعرف طريقها جيداً.. حيث مستقرها في صدر أوس
ساد صمت رهيب في المكان، وتبادل الجميع نظرات مرتعدة.. وأشار أحدهم للأخر قائلاً بصوت جاد وآمر:
-يالا، بسرعة من هنا، قبل ما الحرس بتاعه يجي !
سأله زميله بقلق بالغ:
-والبت اللي معاه ؟
أجابه بتوتر وهو يلكزه في ذراعه:
-مالناش فيها، احنا تمينا المهمة !
-يالا

تسمر أوس في مكانه بثبات عجيب، وظلت عينيه مسلطة فقط على تقى التي كانت تبكي بخوف حقيقي عليه..
لأول مرة يرى في عينيها تلك النظرات التي إشتاق إليها كثيراً، وإخترقت روحه المعذبة لتريحه..
لأول مرة يشعر بوجود مشاعر تخصه، ومنها هي.. هي التي أحبها وأجبرها على أن تكون جزءاً منه رغماً عنهما..
إلتفتت برأسها محاولة البحث عن وسيلة لفتح باب السيارة، فلمحت ذلك الزر العلوي الخاص بإلغاء القفل، فضغطت عليه، وترجلت من السيارة وهي تهتف بصوت مبحوح:
-أوس !

إبتسم لها برضا وهو يراها مقبلة عليه مرددة إسمه الذي متع أذنيه لأنه فقط بصوتها..
تهاوى جسده، ولم يعد يقوْ على التحمل، فأسرعت بإمساكه بذراعيه وهي تصيح ببكاء:
-ماتموتش ! إحنا لسه آآ..
قاطعتها بصوت لاهث وهو يمد أصابعه ليتلمس وجنتها:
-شششش..
ثم نظر إلى عينيها برومانسية واضحة قائلاً بخفوت:
- سيبني أبص ليكي، ياه، أد ايه كنت مستني اللحظة دي !
هتفت بنشيج جلي وعبراتها تبلل وجهها:
-أوس..أنا..آآآ..

قاطعها مرة أخرى قائلاً بصوت ضعيف:
-قوليلي إنك سامحتيني عشان أرتاح
هتفت دون تردد وهي تمسح على جبينه:
-مسمحاك !
إبتسم لها إبتسامة باهتة وهو يسألها:
-من قلبك ؟ ولا بس بتقوليها كده آآ..
قاطعته بنبرة آسى:
-لأ مسمحاك من قلبي، أنا كنت عاوزاك تحس بغلطك، تندم على اللي عملته معايا، بس مش تموت !

ثم هزت جسده الذي ثتاقل عليها وصرخت بصوت مختنق: -ماتسبنيش، سامعني ماتسبنيش لوحدي !
أجابها بصوت ضعيف وهو يُملي عينيه منها بنظرات أخيرة:
-غصب عني المرادي، بس.. بس حاجة أخيرة هاقولها قبل.. قبل ما آآ...!
وضعت إصبعها على فمه، وقاطعته ببكاء:
-ششش ماتقولش حاجة !
تلاحقت أنفاسه بشدة، وبدأ يتنفس بصعوبة أشد، وجاهد ليلتقط أنفاسه ليتابع بصدق وبصوت متقطع:
-أنا.. أنا ب.. بآآآ.. بأحبك
ثم تلوى فمه بإبتسامة صغيرة، وأغمض عينيه لتسكن روحه في أحضانه، فهزته برعب وهي تصرخ فيه:
-أوس.. رد عليا، أوس، ماتموتش وتسيبني ! أوس !

ضربت على صدره بكفها وهي تضيف بصوت هادر:
-انت وعدتني ماتسبنيش ! ليه بتخلف وعدك، قوم.. كلمني يا أوس..!
ثم رفعت رأسها للأعلى وأغمضت عينيها لتصرخ بتنهيدة حارقة جثت على صدرها، وأطبقت على روحها، وقضت على أخر ما تبقى من حياتها المعذبة تاركة إياها تعاني مرارة الفقد والحرمان:
-لألألأ.. ماتموتش يا أوس...!

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة