قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

في قصر عائلة الجندي
عادت ناريمان إلى القصر، وإندفعت نحو الدرج وجسدها يرتجف بشدة بعد رؤيتها لتهاني..
هاتفت مهاب لتخبره بأمرها، ولكنه تجاهل إتصالاتها، فإزداد توترها، وبدت عصبية عن ذي قبل..
اقتربت منها عفاف وسألتها بصوتها الدافيء ب:
-أجهز العشا يا مدام
صرخت فيها ناريمان بإنفعال وهي تدفعها بيدها:
-لأ، سبيني لوحدي، مش عاوزة أشوف حد خالص!

نظرت لها عفاف بعتاب، ثم أطرقت رأسها للأسفل، وتراجعت بظهرها للخلف قائلة بضيق:
-حاضر يا هانم، اللي تشوفيه!
ثم أكملت ناريمان صعودها على الدرج وهي تعض على أناملها من الخوف..
ولجت إلى داخل غرفتها، وصفقت الباب بقوة خلفها، وألقت بحقيبتها الصغيرة على الفراش، ثم ضغطت على زر الإتصال بممدوح، ووضعت الهاتف على أذنها، وظلت تدور حول نفسها منتظرة رده عليها.. وحدثت نفسها قائلة بتوتر جلي:
-رد عليا إنت كمان، رد!

نظرت إلى هاتفها بعد أن أبعدته عن أذنها بحنق، ووجدت إتصالاً يردها من هياتم، فزفرت في ضيق وهي تقول:
-مش وقتك خالص!
ثم اضطرت أن تجيب عليها حينما لم تتوقف إتصالاتها المتتالية..
فقالت متذمرة:
-ايوه يا هياتم، أنا مش آآ...
قاطعتها هياتم بصوت متلهف قائلة:
-مدام ناريمان، اسمعيني بس!
رمشت ناريمان بعينيها متوترة، وسألتها بقلق:
-في ايه ؟

ردت عليها هياتم بصوت منزعج ب:
-السوشيال ميديا مقلوبة على حضرتك
فغرت هي ثغرها في صدمة قائلة:
-ايييه ؟
سألتها هياتم بإستغراب ب:
-حضرتك مش متابعة ولا ايه ؟
صاحت بها ناريمان بإنفعال وهي مقطبة الجبين:
-في ايه ما تقولي ؟
تنحنحت هي قبل أن تجيبها بصوت جاد:
-الكل بيحكي عن ضربك لواحدة من المسنات!
صرخت ناريمان بإهتياج:
-نعم!

ثم أعادت تبديل وضعية الهاتف من على أذنها بعد أن نزعت عنه القرط، ووضعته على أذنها الأخرى قائلة بإستنكار:
- ده كدب محصلش!
ردت عليها هياتم بهدوء حذر ب:
-مش عارفة أقول لحضرتك ايه، بس التفاصيل كلها بالصور على الفيس بوك وتويتر
صاحت ناريمان بقوة وهي تشير بيدها:
-أكيد في حد مفبرك الصور دي
أجابتها الأخيرة بحزم واضح في نبرة صوتها:
-لأ يا مدام ناريمان، دي صور الحفلة، يعني النهاردة.

إتسعت حدقتيها في رعب جلي وهي تهتف بتلعثم:
-هاه، ده.. ده معناه إنها كارثة!
تابعت هياتم حديثها بصوت جاد ب:
-أنا بلغت حضرتك عشان تحاولي تتصرفي وتردي، وإلا هايحصل مشاكل كتير والدنيا هاتتقلب علينا
إزداد عبوس وجه ناريمان، وشعرت بالحرارة العالية تبعث من رأسها، فهتفت قائلة بإقتضاب:
-اوكي.. سلام.

ثم ألقت بالهاتف على الفراش، ووضعت كلتا يديها على رأسها، وضغطت عليها وهي تنفخ بغضب قائلة:
-أووف.. مش بيجي من ورا مكالمتك يا هياتم إلا المصايب وبس!
ثم جلست على طرف الفراش، وتنهدت في إنهاك، وحدثت نفسها بقلق ب:
-المفروض أحل المشاكل دي كلها لوحدي إزاي ؟!

في أحد الملاهي الليلية
تمايلت الراقصة التي تعتلي المسرح بخلاعة وبجسدها المتعري أمام رواد هذا المكان لتثير شهواتهم وتدفعهم لإغراقها بالأموال..
وبالفعل نهض أحدهم، وسار بتثاقل وجسده يترنح بشدة ليلقي في وجهها بنقود طائلة، فتزيد هي من رقصتها المغرية له..
بينما في أحد زوايا ذلك الملهى، وتحديداً عند البار المخصص لتناول المشروبات الكحلية، رفعت لوزة الكأس عالياً لتقذف ما به من خمر في فمها في رشفة واحدة، ثم أسندته بعنف على سطحه الرخامي وهي تعيد رأسها للأمام قائلة بصوت حاد وهي عابسة الوجه:
-واحد تاني يالا!

رد عليها العامل المرابط أمام البار وهو ينظف أحد الكؤوس قائلاً بجدية:
-ده الليلة في أولها يا لوزة، بلاش تسكري أوي
انفعلت عليه بحدة، وألقت بالكأس الزجاجي في وجهه، قائلة بغضب:
-وإنت مالك، هو أنت بتدفعلي حاجة من جيبك، إنت تجيب اللي أقولك عليه وإنت ساكت!
نظر لها العامل متوجساً، وتراجع للخلف متجنباً الدوس على الزجاج المتناثر على الأرضية اللامعة أمامه، وهتف بتوجس:
-أنا بس آآآ..

قاطعته بنبرة محتدة وهي تلوح بيدها:
-يوووه، انت هتلكلك كتير معايا، هات آآآ..
-انت يا بني آدم، مش المدام أمرت، يبقى انت تنفذ فورا
قالها أوس بصوته الصارم وهو يحدجه بنظرات نارية..
إلتفتت لوزة برأسها ناحية صاحب الصوت الذي تألفه جيداً، فرأته أمامها بهيبته المعهودة، وشموخه الذي تعشقه متأنقاً في حلته الرمادية الداكنة وقميصه الأسود، فإنتفضت في مقعدها، ونظرت له بذهول، وهتفت قائلة بصوت متحمس:
-هاه.. آآ.. أوس!

نظر لها مطولاً وهو يجيبها بهدوء عجيب:
-أيوه يا لوزة!
تبدل حال وجهها للإشراق، ولمعت عينيها ببريق مريب وهي تهتف قائلة بعدم تصديق:
-أنا أكيد بأحلم، معقول انت هنا قصادي، ولا أنا بايني سكرت!
إلتوى فمه بإبتسامة خفيفة، ورد عليها بصوت جاد:
-لأ مش بتحلمي!

ثم أمسكها من كف يدها، وجذبها عنوة من على مقعدها، وأردف قائلاً بصوت آمر وهو يسحبها خلفه:
-تعالي معايا
لم تقاومه لوزة بل استسلمت لقوته التي تثيرها، وتلهب قلبها.. وهتفت متسائلة بفضول:
-هاه.. و..آآ.. واخدني على فين!
إستدار برأسه قليلاً نحوها ليجيبها بغرور:
-هاقعد في مكاني المعتاد، مش معقول أوس الجندي يقعد على البار!

إنفرجت شفتيها بإبتسامة عاشقة، وحدقت فيه بنظراتها المشتاقة، ثم ردت عليه بتنهيدة حارة:
-والله وحشتني أيامك أوي
هز رأسه بخفة دون أن ينظر لها قائلاً بخفوت:
-أها
خرج الإثنين من الملهى، وإتجه أوس نحو سيارته التي أحضرها له عامل ما، فتناول منه المفتاح، وفتح باب المقعد الأمامي للوزة لتركب السيارة، ثم صفقه برفق، ودار حولها ليجلس في مقعده..

ظلت لوزة تتابعه بشغف جلي، فقد اشتاقت كثيراً لحضنه القاسي، ولرغباته الجامحة التي تشعل من لهيب مشاعرها..
فقد عانت لفترة من فتور عاطفي، ولم تستطع أن تنجذب لرجل أخر غيره.. فقد كان هو دائِها الذي أدمنته..
أدار أوس محرك السيارة دون أن ينبس بكلمة.. في حين ظلت أنظار لوزة متعلقة به، وأسندت كفها على كتفه لينتبه هو لها، ومن ثم سألته بفضول وهي تتفرس ملامح وجهه الخالية من التعبيرات ب:
-بس قولي البت اللي كانت معاك آآ..

احتقن وجهه بدماء شبه منفعلة، وبرقت عينيه بشرر مخيف، وقاطعها بصوت قاطع ومحذر ب:
-ماتجبيش سيرتها
نظرت له بخوف وهي تهمس ب:
-هاه
أخذ أوس نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم ابتسم له إبتسامة قاسية وهو يجيبها بصوت متصلب:
-أقصد.. دي خلاص انتهت من حياتي!

تنهدت لوزة في إرتياح، ووضعت يدها على رأسه لتعبث بخصلات شعره وهي تهمس له بصوتها الأنثوي المغري:
-أنا كنت واثقة إنك هترجعلي، ده أنا الوحيدة اللي فهماك وبأشوف كيفك كويس!
نظر لها بإستخفاف، ثم أشاح بوجهه لينظر أمامه، وأجابها بإقتضاب ب:
-فعلاً!
مررت إصبعها على جبينه، ثم مالت بجسدها نحوه، وسألته بنبرة هامسة:
-طب هانروح فين ؟ على شقتك ؟
-تؤ
تراجعت للخلف بظهرها، وتوقفت عما تفعل، وضيقت عينيها وهي تسأله بحيرة:
-ليه ؟

نظر في إتجاهها، وأجابها بصوته الأجش:
-المكان معدتش ينفع، الكلام بقى كتير عليه!
أومأت برأسها موافقة إياه، وإبتسمت له بسعادة وهي تقول:
-اه عندك حق، التجديد حلو برضوه
-أها
ثم سألته بفضول وهي تنظر له بعشق:
-أومال هتوديني فين ؟

رد عليها بجمود دون أن ينظر نحوها:
-في مكان جديد عدي قالي عليه
هتفت بحماس وهي تهز كتفيها:
-الله، عدي بيه! والله وهاترجع أيام زمان تاني
تقوس فمه بإبتسامة شيطانية وهو يرد يإيجاز ك
-طبعاً
وضعت لوزة يدها على فخذ أوس في مباغتة منها لتزيد من جو الإثارة لديه، وتلمسته بنعومة وهي تغمز له قائلة بمكر:
-عاوزني أعملك ايه ؟

إنتفض هو في مقعد سيارته على إثر لمستها، ونظر لها شزراً، ثم قبض على كفها بقبضته الغليظة، و ضغط عليها وهو يبعدها عنه..
فنظرت هي له بإستغراب يشوبه القلق، بينما عاود هو النظر أمامه دون أن يحل قبضته عنها، وهتف قائلاً بصرامة:
-هاتعملي كل اللي أنا عاوزه وزيادة، بس اصبري..!

في منزل تقى عوض الله
سردت فردوس لأختها بإيجاز ما حدث مع ابنتها منذ لحظة ظنها السوء بوجود علاقة ما مع شاب ثري، ثم طعنها إياها، وإنتقالها للمخفر ومن ثم حبسها..
صعقت تهاني مما قالته، وظنت أنها تتوهم ماسمعته، أيعقل أن تتعرض تلك الصغيرة الطيبة الساذجة ذات العود الغض لكل هذا بمفردها..
صرخت هي فيها بمعاتبة واضحة ب:
-ازاي يا فردوس تعملي كده في بنتك ؟

أخفضت فردوس نظرها، وأجابت بصوت نادم:
-الشيطان كان عميني
لوحت تهاني بيدها أمام وجهها، وباليد الأخرى ضمت تقى إليها، وعاتبتها قائلة بلوم:
-حرام عليكي، انتي ايه ؟
مطت فردوس شفتيها وهي تتنهد بأسف قائلة:
-مش وقت ملامة!
هزت أختها رأسها مستنكرة ما تقول، وتابعت قائلة بضيق:
-أومال وقت إيه بس، وايه تاني حصل ؟

أكملت فردوس سرد بقية الأحداث من الإفراج عنها، وما تلاها من اختفاء ابنتها لبرهة، ثم إيجادها في مشفى خاص بالأثرياء بعد تعرضها للإغتصاب..
جحظت تهاني بعينيها برعب واضح، وضمت تقى إلى حضنها وهتفت قائلة بصدمة:
-ايه اللي بتقوليه ده ؟ اغتصاب!
أخذت فردوس نفساً عميقاً وزفرته ببطء وهي تتحسر حال إبنتها مضيفة:
-أه يا تهاني.. وقت ما ربنا عترني فيها، لاقيتها زي ما انتي شايفة! معدتش تنفع بحاجة بعد ما خدوا الحاجة الوحيدة اللي حيلتنا كلنا.. واتحطت راسنا في الطين!

إشتعلت حدقتي تهاني بنظرات غاضبة، وهتفت فيها بصوت محتج على تعبيراتها الغير مسئولة:
-انتي سامعة نفسك ؟
حركت هي شفتيها في أسف، وردت عليها بضيق وهي تشير بعينيها:
-آآآآه.. قلبي محروق ياختي، مش عارفة مين هيرضى بيها بعد اللي حصل!

وكأن كلمات فردوس كانت كعيدان الثقاب التي أشعلت ذاكرة تقى بنيران ذكرياتها المهينة مع من أذلها، وقتل فيها إنسانيتها..
لقد تجسد أمام عينيها لحظات إغتيال أوس لبرائتها، والنيل منها وهي عاجزة مقيدة في الفراش لا تقدر حتى على الصراخ..
شعرت بآلام مبرحة تضرب أسفل معدتها، وكأنها تتعمد تذكيرها هي الأخرى بتلك اللحظات الموجعة.. لمساته المقززة لجسدها، أنفاسه التي تبغضها وهي تلفح وجهها ليظل عبقها محفوراً في ذاكرتها.. معاشرتها غصباً وقسراً ليقتل ما تبقى من روحها الضعيفة..
أغمضت عينيها في مهانة، وحبست أنفاسها لتكتم شهقاتها الذليلة التي تحرق صدرها أكثر..

استمرت فردوس في حديثها الغير مكترث بمشاعر ابنتها قائلة بفتور:
-يعني فكرك حد في الحارة هايستجرى يبصلها ولا يفكر يتقدملها، أهي هاتفضل كده طول عمرها!
صاحت فيها تهاني بصوت صارم وهي تحدجها بنظرات محتقنة:
-اسكتي بقى، ارحمي نفسك!
تابعت فردوس حديثها المقيت قائلة بصوت منكسر:
-ما هي دي الحقيقة، هاسكت ليه بقى!

وضعت تقى يديها على أذنيها لتمنع صوت والدتها المتحسر في إختراقهما..
فعقلها – وكذلك جسدها – لم يعدْ يقوى على الصمود أمام أوجاع اغتيال عذريتها..
نظرت لها تهاني بإشفاق حقيقي، فقلبها ملتاع بشدة على ما تعرضت له.. لذا سألتها بتوجس وهي تنحني عليها بجسدها المرهق:
-مالك يا تقى ؟ ردي عليا يا بنتي ؟!

صرخت تقى بصوت حاد ومتشنج وهي تهز رأسها بعصبية:
-كفاية بقى، كفاية، مش عاوزة اسمع حاجة، أنا بأموت كل لحظة ومحدش حاسس بيا، أنا مغلطش، أنا ادبحت.. وماكنش ليا ذنب.. مش عاوزة أعيش، يا ريتني أموت عشان ترتاحوا، يا ريتني!
أبعدت تهاني يديها عن أذنيها، وأنزلتهما للأسفل، وضمتهما إلى صدر تقى، وضغطت عليهما بحنو، وألصقت صدرها بظهر ابنة اختها، وقالت لها بصوت شبه باكي وهي مدمعة العينين:
-اهدي يا بنتي!

شهقت تقى بصوت مختنق وهي تتابع بمرارة، وتاركة لعبراتها العنان لتغرق وجهها بالكامل بدموع الحسرة والذل:
-هو دبحني، وانا الغلطانة، هو بريء وأنا المجرمة، ليييه أنا شايلة الذنب في كل حاجة وأنا كنت في حالي بدافع عن أمي ؟
تنهدت تهاني بحرقة وهي تضمها أكثر، وقبلتها من أعلى رأسها وهي تهتف بتوسل:
-حبيبتي!
أضافت تقى بصعوبة و بنشيج وهي تحاول إلتقاط أنفاسها:
-أنا راحت مني كل حاجة، أحلامي، حياتي، حتى أبسط حقوقي في اني اتجوز الانسان اللي اختاره..!

ثم صمتت لثانية لتأخذ نفساً عميقاً لتكمل حديثها الموجع قائلة بنحيب جلي:
-كله كان بالغصب، بالغصب، و أنا ماستهلش ده كله، ماستهلش!
همست لها تهاني قائلة برجاء وهي تكبح دموعها:
-بس يا تقى!
إزداد أنينها المصاحب لصوتها المنتحب وهي تصرخ بجنون:
-لييييه أنا ؟ أنا عملت ايييه ؟ نفسي أعرف فين غلطتي ؟

زاد رجاء خالتها لها وهي تردف قائلة بصوتها الدافيء:
-شششش.. كله هايتعوض يا بنتي
هزت رأسها نافية بقوة وهي تصرخ بإهتياج:
-مافيش حاجة بتتعوض، ده كدب، كدب، أنا زي أمي ما بتقول عار، مصيبة، فضيحة لازم أدارى يا أموت عشان الكل ينساني!
مسحت تهاني عبراتها عنها، ووضعت يدها على رأس تقى محاولة تثبيتها، وهتفت قائلة بيأس:
-متقوليش كده، انتي ست البنات!

أصدرت تقى صرخة حقيقة تعبر عن آلامها الدفينة قائلة:
-آآآآآآه.. يا رب خدني عشان ترتاحوا كلكم، يا رب خدني!
في نفس الوقت دلف عوض بخطواته المتعرجة إلى داخل الغرفة ليتسمع إلى حديث ابنته المؤلم.. فخفق قلبه لها، وقال عفوياً بعاطفة حقيقية بادية على ملامح وجهه المجعدة، وفي نظراته الأبوية الحانية:
-تقى.. بنتي!

رفعت تقى رأسها للأعلى، وإستدارت بها ناحيته، وهتفت بصراخ موجع:
-بابا.. آآآآآآه
ثم نهضت عن المقعد، وأزاحت يدي خالتها عنها، وركضت نحوه لترتمي في أحضانه، فيضمها إلى صدره، ويربت على ظهرها، فتنطق بصوت مختنق وهي مغمضة العينين:
-يا ريتني فضلت في حضنك ومحدش لمسني غيرك، آآآآه!

لم يخلو وجه تهاني من التعبيرات المعاتبة لأختها عما حدث..
ونظرت بإندهاش لزوجها، فقد بدى كمن كبر عشرات السنين في وقت قصير..
هي تتذكره رغم حالتها النفسية الغير متزنة.. ولكن تبدل حاله للعجز والإرهاق..
أثرت أن تظل صامتة لتترك لإبنة اختها الفرصة لتبوح عما يخنقها مع من تثق به... ثم انسحبت بهدوء من الغرفة، وأشارت لفردوس لتتبعها إلى الخارج..

أمسكت تهاني بذراع أختها وسألتها بقلق وهي تتجه نحو المطبخ:
-ماله جوزك ؟
-ماهو ده التاني جراله اللي ما جرى!
ثم سردت لها بإختصار ما حدث له من تعرضه لحادث سير أثناء بحثه عنها، وفقدانه للذاكرة، وكسر ساقه، وتكلفة العلاج التي تحملها الأتقياء أمثال الشيخ أحمد..
أطرقت تهاني رأسها في حزن وهي تقول بأسف على حاله:
-يا ساتر يارب!

هزت فردوس أصابع يديها بحركة مستنكرة وهي تجيبها بآسى:
-مش بأقولك غلب من كله!
تنهد تهاني في إحباط وهي تضيف قائلة:
-ومين في البيت ده حاله فضل زي ما هو!
ردت عليها بإيجاز ووجهها ممتعض:
-مافيش
أضافت تهاني قائلة بصوت حاد وهي تشير بإصبعها:
-بس إنتي غلطانة يا فردوس تقولي الكلام ده قدام بنتك!

زفرت فردوس بإنزعاج وهي تجيبها ب:
-يوووه، من قرفي وتعبي!
ثم جذبت مقدمة قميصها المنزلي للأمام لتشير إلى قيلة حيلتها، وتابعت قائلة بصوت محتد:
-ما هو أنا اللي بأشيل الهم كله لوحدي!
نهرتها تهاني قائلة بنظراتها المعاتبة ب:
-يا شيخة حرام عليكي، انتي مش شايفة حالتها!

زمت فردوس شفتيها وهي تجيبها ببرود:
-هأعملها ايه بس، ما أنا واخدة بالي منها وبأكلها وبأشربها والجيران جابولها ضاكتور من الوحدة يديها دوا وآآآ..
قاطعتها تهاني بصوت جاد وهي تشير بيدها:
-دي محتاجة دكتور نفسي مش دكتور عادي
ضيقت فردوس عينيها في إستغراب، ورفعت حاجبها للأعلى في عدم فهم، ورددت قائلة:
-نفسي!

أومأت تهاني برأسها وهي تتابع بنبرة مهتمة:
-ايوه، دي اغتصبوها يا فردوس، وحالتها بتسوء كل يوم لو سبيناها كده!
وضعت فردوس إصبعيها على طرف ذقنها، وشهقت متسائلة برعب:
-يعني البت اتجننت ؟
نفخت تهاني من الغيظ، فأختها تفسر الأمور بطريقة تثير الإنفعال، فحاولت أن تبدو هادئة وهي تجيبها بحذر:
-يا فردوس بأقولك دكتور نفساني يتكلم معاها وتحكيله ويحاول يشوف العلاج المناسب ليها، وإنتي تقوليلي اتجننت!

وضعت فردوس يديها على رأسها لتلطم بحسرة وهي تغمغم بمرارة:
-بقى دي أخرتها، البت تروح السرايا الصفرا
صاحت فيها تهاني بصوت محتقن ب:
-افهمي يا ستي، هي محتاجة الدكتور ده عشان تتعالج وترجع زي الأول!
أنزلت فردوس يديها، ونظرت لها بحيرة وهي تقول:
-أنا مش فاهمة حاجة!

تنهدت تهاني في تعب، فقد يأست من أن تتفهم أختها طبيعة مرض إبنتها.. فهي تظن أن الشكوى تنحسر في كونها عضوية، وتتغاضى تماماً عن أن المشكلة نفسية بحتة تحتاج لمتخصص لكي يضع يده على مواضع الآلم ويعالجها بالأساليب النفسية السليمة..
لذا هتفت بجدية وهي تشير بكفها:
-مش مهم تفهمي يا فردوس، بصي من الأخر سبيلي الموضوع ده، أنا أعرف دكتورة كويسة ساعدتني كتير، وهاكلمها عشان تقى
مطت فردوس شفتيها وهي تجيبها بإستنكار:
-هايفيد بإيه ؟ ماهي هاتفضل زي ما هي، لا تنفع بكده ولا آآآ...

قاطعتها تهاني بصوت صارم وهي تزفر في ضيق:
-يوووه، والله وجود تقى معاكي هيدمرها مش هايفيدها
إنفعلت عليها أختها وهي ترد قائلة:
-جرى ايه يا تهاني، قلبي محروق عليها ياختي!
نظرت لها بإزدراء وهي تجيبها وفمها ملتوي بإمتعاض:
-ماهو باين!
أضافت فردوس قائلة بصوت شبه حزين:
-هو أنا يعني أكره إن بنتي تبقى كويسة، بس ببص لقدام ولكلام الناس!
نظرت له تهاني بجدية، وأردفت قائلة بقوة:
-سيبك من الناس، محدش بينفع حد، إحنا يهمنا تقى وبس، وأنا بإذن الله مش هاسيبها كده، وهافضل جمبها زي ما كانت هي جمبي زمان!
-وماله، اعملي اللي في الصالح
-إن شاء الله

في سيارة أوس الجندي
راقبت لوزة الطريق من نافذة السيارة المجاورة لها، واستغربت كثيراً منه.. فهو كان معتماً في غالبيته، ومهجوراً إلى حد ما.. ويخلو من السيارات أو المارة..
لذا إستدارت برأسها ناحية أوس وسألته بتوجس:
-هو احنا رايحين فين ؟
نظر لها أوس بصرامة من طرف عينه دون أن يحرك رأسه، ولم يجبها..
إزداد قلقها من صمته المريب هذا، فسألته مرة أخرى بنبرة مضطربة:
-هو احنا مش.. مش هانروح على بيت عدي بيه
رد عليها بإيجاز وهو مسلط أنظاره على الطريق أمامه:
-لأ.

شعرت بالقشعريرة تهاجم جسدها، فعضت على شفتها من الخوف، وسألتها بإرتباك وهي تتلفت حولها:
-طب.. طب انت واخدني على فين ؟
رد أوس على سؤالها بسؤال أخر قائلاً بهدوء مخيف:
-بتسألي ليه ؟
أجابته بصوت متقطع وهي تحاول أن تبدو ثابتة أمامه:
-آآآ.. يعني.. آآ.. أنا.. أنا عاوزة أطمن
إلتفت أوس برأسه فجأة ليحدجها بنظرات قاتمة ومخيفة تسربت إليها لتزيد من خوفها وهو يسألها بنبرة أقرب للهمس:
-هو انتي خايفة مني ؟

إبتسمت له ابتسامة باهتة وهي تجيبه بتوتر:
-لأ . بس.. بس أنا مش عارفة احنا فين كده!
إلتوى فمه قليلاً بإبتسامة شيطانية وهو يجيبها بمكر:
-متقلقيش، أنا واخدك على مكان هايعجبك أوي!
نظرت حولها بريبة، وأشارت بيدها في إستنكار قائلة:
-هنا! في الهِوْ ( مكان خالي ) ده!
نظر لها بحدة وهو يسألها بصوته المتصلب:
-ايه ؟ مش حابة تجربي الخلا ؟

حاولت ألا تجعل إبتسامتها المصطنعة تتلاشى من على شفتيها.. فقد كانت تشعر بالريبة والغموض مما يحدث.. وخشيت أن يسيطر قلقها عليها، فيغضب من تعشقه، لذا تنهدت بحرارة وأجابته بصوتٍ أنثوي مغري:
-يعني.. أنا.. أنامش متعودة معاك إلا.. إلا على حاجات معينة
حرك أوس رأسه قليلاً ناحيتها، ثم وضع كفه البارد على فخذها وضغط عليه قليلاً ليثيرها، قائلاً بتهور لم تتوقعه:
-التجديد مطلوب برضوه، ولا إيه رأيك يا لوزة
ابتلعت ريقها بخوف وهي تجيبه بخفوت:
-أها
ثم نظرت بفرح إلى يده الموضوعة عليها، وأسندت قبضتها عليه لتزيد من ضغطته وإتسعت إبتسامتها الراضية..

بعد برهة وصلت السيارة على مقربة من مخزن الصلب القديم، فأوقفها أوس فجأة مما جعل جسد لوزة يرتد للأمام، ثم نظر إليها بنظراته النارية قائلاً بصرامة:
-انزلي
نظرت حولها برعب وهي تجيبه بنبرة مرتجفة بعد حركته المفاجأة تلك:
-هنا ؟
إزدادت نظراته حدة، وأمرها بصوت غليظ ب:
-يالا!
ابتلعت ريقها وأومأت برأسها موافقة وهي تجيبه بتلعثم:
-ح.. حاضر.

ثم ترجلت من السيارة، وتأملت المكان المظلم حولها برهبة بادية على قسمات وجهها، ولم تنكر أن إرتجافة قوية دبت في جسدها، وجعلتها ترتعش من الخوف..
فالمكان شبه مهجور إلا من مخزن قديم مصنوعة أبوابه من الصاج.. والإضاءة حولها باهتة ماعدا أضواء السيارة الأمامية..
حاولت أن تبتسم لأوس لتخفي خوفها أمامه فهي لم ترغب في إفساد ليلتها معه، وهي التي تتوق للإرتماء في أحضانه، وإرتشاف مذاق الحب منه..
لذت سارت بحذر نحو مقدمة السيارة متسائلة بثبات زائف:
-هانعمل ايه بقى ؟

عبس أوس بوجهه كثيراً، وتجهمت نظراته حتى بدت أكثر قسوة عن ذي قبل، ثم رفع يده ليهوي بها فجأة على وجنتها ليصفعها بقوة باغتها وهو يقول بصوت محتقن للغاية
-هاتعرفي الوقتي.. يا.. يا بنت ال ***...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة