قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الأربعون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الأربعون

في صباح اليوم التالي
في قصر عائلة الجندي
لم يغمض لناريمان أي جفن طوال الليل، وظلت تفكر فيطريقة تمكنها من الوصول إلى تهاني..
فأسلم الطرق للحفاظ على حياتها الآن هي بالتخلص منها.. هكذا أهداها تفكيرها..
ومع أول ساعات النهار، إتصلت هي بهياتم - والتي لم تجيبها في البداية - لمعرفة أي تفاصيل تخصها..

وبعد عدة مرات ردت عليها هياتم قائلة بتوجس:
-صباح الخير يا مدام ناريمان، سوري كنت بأخد شاور وآآ..
قاطعتها ناريمان بصوت جاد ومحتد ب:
-مش عاوزة أعرف تفاصيل يا هياتم، أنا عاوزاكي في حاجة مهمة
ابتلعت هياتم ريقها بتوتر، وهتفت قائلة بجدية:
-اتفضلي.

سألتها ناريمان بصوت شبه محتقن ب:
-انتي كنتي المسئولةعن تنظيم الحفلة، صح ؟
-أيوه
تابعت أسئلتها المستفسرة بصوت شبه هاديء ب:
-يعني عارفة كل اللي فيها ؟
ردت عليها هياتم بثقة:
-أكيد.

وفجأة إزدادت نبرة صوتها حدة وهي تصرخ فيها قائلة:
-مين الست اللي دخلت النادي دي واشتبكت معايا ؟ وإزاي أصلاً تدخل بدون عضوية أو دعوة خاصة
تعجبت هياتم من حالة العصبية التي إنتابتها، وردت عليها بإستغراب ب:
-دي تهاني الحالة الإنسانية اللي كنت كلمت حضرتك عنها
جحظت ناريمان بمقلتيها في صدمة فاغرة شفتيها وهي تقول:
-نعم!

أضافت هياتم متسائلة بهدوء:
-حضرتك مش فاكرة ولا إيه ؟
قطبت ناريمان جبينها، وعبس وجهها أكثر وهي تقول بنزق:
-حالة ايه ؟ انتي مش قولتيلي حاجة زي كده!
حافظت هياتم على حالة الهدوء وهي تتابع قائلة:
-أكيد حضرتك ناسية، الموضوع ده كان من فترة!
سألتها ناريمان بإنفعال وهي تدور حول نفسها في الغرفة:
-امتى يعني ؟

أجابتها هياتم بحذر ب:
-أنا كنت قولت لحضرتك عن اني لاقيت حالة انسانية صعبة أوي في الشارع وفكرت إننا لو ساعدناها وقدمنا العلاج المناسب ليها هتبقى أفضل، وفاتحت حضرتك في الموضوع وانتي بنفسك وافقتي على ده!
هزت ناريمان رأسها غير مصدقة ما سمعته للتو، وإتسعت حدقتيها في ذهول.. وهتفت قائلة بصدمة:
-مش ممكن.

ثم حدثت نفسها بإندهاش وهي تلوم نفسها بشدة ب:
-يعني.. يعني أنا بفلوسي وافقت على علاج تهاني دي، مش معقول!
أطلقت سبة خافتة، وكزت على أسنانها بغيظ وهي تسألها ب:
-انتي عارفة مكانها فين يا هياتم ؟
-أها
صاحت فيها متسائلة بقوة ب:
-فين ؟ قولي ؟
أجابتها بنبرتها الهادئة وهي تتنهد بخفوت:
-دي مقيمة في دار المسنين التابعة لجمعيتنا.

وكأن الصدمات تتوالى على رأسها تباعاً، إذن فتهاني كانت تقيم منذ فترة في الدار، وهي بنفسها من خطت على عقد إيداعها بها دون وعي منها.. واليوم تتلقى الصفعات منها لتهدم حياتها..
أفاقت من شرودها المؤقت وهي تأمرها بصوت جاد:
-هاتلي عنوان الدار دي بسرعة!
-حاضر يا مدام ناريمان
أصغت ناريمان بإنتباه تام لهياتم، وحفظت عن ظهر قلب عنوان دار الرعاية الخاصة بالمسنين.. ففيها تمكث عدوتها، وهناك ستجد الوسيلة للتخلص منها..
ما عليها إلا الذهاب فقط إلى هناك..!

في منزل تقى عوض الله
إنتهت تهاني من إطعام تقى بنفسها، ومدت يدها لتمسح بقايا الطعام عن فمها، وهي تبتسم لها قائلة بحنو:
-إن شاء الله يا بنتي هتخفي وهاتبقي أحسن بكتير
بادلتها تقى ابتسامة باهتة ولم تعقب..
بينما تابعت تهاني حديثها الدافيء قائلة بنبرة أمومية حانية:
-أنا مانستش اللي عملتيه عشاني يا بنتي وأنا تعبانة ومش في حالتي، صحيح كان عقلي مش فيا، بس كنت حاسة بكل اللي بيحصل حواليا، وإن شاء الله ربنا يقدرني وأقدر أعمل ده معاكي وترجعي تقى بتاعة زمان.

تنهدت تقى بعمق، ونظرت لها بأعينها الحزينة اللامعة.. فوضعت تهاني يدها على وجنتها وفركتها برفق قائلة بهدوء:
-سبيها على الله وماتفكريش إلا في الحلو وبس
في تلك اللحظة ولجت فردوس إلى الداخل، وحدقت في كلتاهما بنظرات متفحصة، ثم أردفت قائلة بجدية:
-أنا نازلة أشتري خضار من السوق، مش هتأخر يا تهاني، خلي بالك من البت
أمسكت تهاني بكف يد تقى، وضغطت عليه بأصابعها المجعدة قائلة بنعومة:
-دي نور عيني، متقلقيش عليها.

ردت عليها فردوس بجمود وهي تشير بيدها:
-ماشي، وعوض نايم جوا في الأوضة، هو خد الدوا بتاعه ومش محتاج حاجة
أومأت برأسها إيماءة خفيفة وهي تضيف قائلة:
-بالشفا يا رب
تنهدت فردوس في حسرة وهي ترمق إبنتها بنظرات مخزية، ثم أولتهما ظهرها، وإنصرفت من الغرفة
إنهمرت عبرات تقى عفوياً وهي ترى تلك النظرات دوماً في عيني والدتها لتزيد من عذابها وآلمها النفسي، وتقهر روحها أكثر..

شعرت تهاني بغصة في حلقها وهي ترى حالة الحزن تعود من جديد لتسيطر عليها، فوضعت صحن الطعام جانباً، وفتحت ذراعيها، وضمتها إلى صدرها بقوة، وربتت على ظهرها قائلة بنبرة أسفة:
-بس يا بنتي متعيطيش، دموعك بتقطع قلبي، والله كل حاجة هاتعدي..
صاحت تقى بصوت متشنج وهي تهز رأسها المطرقة للأسفل بعصبية بعد أن أغمضت عينيها:
-مافيش حاجة هاتعدي، أنا ماغلطتش، ماغلطتش!

هتفت تهاني بتوسل قائلة وهي تقاوم عبراتها:
-شششش.. أنا عارفة ومتأكدة من ده، طب أقولك على حاجة!
رفعت تقى وجهها لتنظر نحوها بفضول، فأكملت تهاني قائلة بصوت شبه باكي:
-عارفة أنا لو كان ربنا كتب لبناتي النجاة كان زمانهم بقوا أدك كده في السن
هتفت تقى بصوت متعجب وموجز وهي تمسح عبراتها:
-بناتك.

هزت تهاني رأسها بخفة وهي تجيبها بخفوت:
-اها.. ما أنا كنت متجوزة بس ربنا أراد يسترد أمانته عنده
سألتها تقى بإستغراب وهي عابسة الوجه:
-هما ماتوا ؟
تنهدت بعمق وهي تجيبها بمرارة:
-الحمدلله على كل حال، دي مشيئة الله في الأول وفي الأخر!
وبالفعل نجحت تهاني بطريقة لبقة في إخراج ابنة اختها من حالتها للحديث في أمور تخصها هي لعلها تلهيها مؤقتاً عن التفكير في ذكرياتها الموجعة..

في دار رعاية المسنين
إنتفضت مديرة الدار من على مقعدها لتهرول خارج المكتب حينما تم إبلاغها بوصول السيدة ناريمان شوقي في الخارج..
تهللت أساريرها، وعمت الفرحة نفسها وهي تحدث نفسها قائلة:
-ناريمان هانم بنفسها هنا، كده اتفتحت طاقة القدر لينا
لمحتها هي من على بعد وهي تترجل من سيارتها، فهتفت قائلة بنبرة عالية ومتحمسة:
-أهلاً بيكي ناريمان هانم، نورتي الدار!
رمقتها ناريمان بنظراتها المتفحصة، ورغم حالة النفور البادية على وجهها، إلا أنها رسمت إبتسامة مجاملة زائفة على ثغرها وهي ترد بإيجاز:
-هاي.

أشارت لها مديرة الدار بيدها وهي تتابع قائلة بنبرة أكثر حماسة:
-اتفضلي حضرتك شرفيني في المكتب نتكلم هناك
نظرت له ناريمان شزراً، وأجابتها بتكبر قائلة:
-لأ.. ميرسي، كده أفضل
هتفت مديرة الدار بإصرار وهي تنظر لها بسعادة:
-مايصحش يا هانم والله!
نفخت هي بضيق وهي تتابع قائلة بإنزعاج:
-أووف، بليز.. أنا جاية أسأل عن حد هنا
أشارت الأخيرة بيدها وهي تضيف بصوت متلهف:
-اتفضلي، المكان كله تحت أمرك
جابت ناريمان بعينيها المكان متفحصة إياه وهي تتسائل بصوت جاد
-فين اللي اسمها تهاني ؟
-تهاني!

أومأت برأسها إيماءة خفيفة وهي تكمل بإدعاء زائف أنها غي مكترثة من خلال نبرة صوتها رغم حالة الفضول المسيطرة عليها:
-أها.. الحالة اللي جت من فترة هنا وكانت شكلها ياي مقرف وعندها مشاكل في الذاكرة وآآ..
قاطعتها مديرة الدار بصوت جاد قائلة:
-ايوه ايوه يا هانم أنا افتكرتها.. بس هي مشيت من هنا
فغرت ناريمان ثغرها في صدمة وهي تهتف ب:
-مشيت
هزت مديرة الدار رأسها بهدوء وهي تجيبها بثقة دون أن تطرف عينيها:
-أيوه، من ساعة الحفلة، كان أخر يوم ليها هنا!
إرتفع حاجبي ناريمان للأعلى في صدمة أكبر، وهتفت قائلة بنبرة مدهوشة:
-إييييييه!

تابعت مديرة الدار حديثها بأريحية ب:
-هي كانت عاوزة تمشي من فترة، واستنت بس لحد الحفلة ومشيت بعدها
سألتها ناريمان بإهتمام وهي عاقدة ما بين حاجبيها:
-راحت فين ؟
هزت مديرة الدار كتفيها في عدم معرفة قائلة بهدوء:
-معرفش والله أي تفاصيل عنها
صاحت ناريمان بصوت شبه محتد وهي تشير بإصبعها وترمقها بنظراتها الساخطة:
-وإزاي الناس تدخل وتمشي من غير ما يكون في متابعة ؟!

تعجبت مديرة الدار من إنفعال ناريمان الغير مبرر، وردت عليها بنبرة جادة ووجهها جامد التعبيرات:
-يا هانم احنا دار قايمة على التبرعات والجهود الذاتية، ولو في حد حب يمشي مش هانمنعه، طالما دي رغبته الشخصية!
لم تعقب ناريمان عليها، بل حدثت نفسها بصوت مصدوم قائلة بخوف:
-دي كارثة، أعمل ايه الوقتي ؟ وهوصلها بس إزاي ؟

لاحظت مديرة الدار شرود ناريمان، وتبدل قسمات وجهها للإحتقان والضيق، فحاولت أن تخفف من حدة توترها، فأردفت قائلة بإبتسامة مجاملة:
-اتفضلي يا هانم ارتاحي جوا شوية
رمقتها ناريمان بنظرات مغتاظة قبل أن تجيبها بصوت قاتم:
-لأ.. مش عاوزة، أنا ماشية
قطبت مديرة الدار جبينها، وهتفت بإستغراب:
-بدري كده، ده حتى احنا ملحقناش نقوم مع حضرتك بالواجب وآآ...

قاطعتها ناريمان وهي تشير بإصبعها وبنبرة متأففة:
-شششش.. خلاص، وقت تاني.. باي
ثم ركبت سيارتها، وصفقت الباب بعنف خلفها، وظلت تغمغم مع نفسها بكلمات مبهمة.. وأشارت للسائق بعينيها لينصرف قبل أن تخفيهما خلف نظارتها القاتمة..
تابعتها مديرة الدار بإندهاش عجيب متسائلة مع نفسها بصوت مسموع ب:
-مالها دي ؟ جت في ايه ومشيت في ايه ؟!

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
ولجت السكرتيرة إلى داخل مكتب أوس الجندي، وبحثت عنه بعينيها فوجدته يقف بشموخ أمام الحائط الزجاجي المطل على الواجهة الخارجية للشركة ويضع كلتا يديه في جيبي بنطاله..
فإبتلعت ريقها بخفوت، وسارت بحذر نحوه..
وقفت خلفه، وتنحنحت بخفوت قائلة بصوت هاديء:
-أوس باشا، كل حاجة جاهزة
إستدار برأسه قليلاً ليرمقها بنظراته القوية قبل أن يسألها بصوت جامد:
-ومنعم المحامي ؟

ردت عليه بنبرة شبه خائفة وهي ترمش بعينيها:
-موجود يا باشا تحت في عربية سيادتك!
تابع قائلاً بصوت آمر وقد عاود التحديق أمامه:
-تمام، امشي انتي
هزت رأسها إمتثالاً لأوامره وهي تتراجع للخلف قائلة بهدوء:
-حاضر
أخرج أوس يديه من جيبي بنطاله، وإستدار بجسده كليةً للخلف، وإلتوى فمه بإبتسامة واثقة وهو يحدث نفسه قائلاً:
-و ده وقت رجوعك ليا يا تقى!
ثم إلتقط بخفة مفاتيح سيارته وهاتفه المحمول، وتوجه نحو باب غرفة مكتبه لينطلق بخطوات ثابتة نحو الخارج..

في منزل تقى عوض الله
أكملت تهاني إرتداء ملابسها بعد أن تأكدت من إنتهاء تقى من وضع ثيابها عليها.. ثم اقتربت منها، ولفت الحجاب حول رأسها، وقبلتها من وجنتيها قائلة بحنان واضح في نبرتها:
-زي القمر يا بنتي.. ربنا يزيح عنك كل حاجة وحشة
وقفت فردوس على عتبة الغرفة، ورمقت كلتاهما بنظرات مراقبة وهي عاقدة لساعديها أمام صدرها، ثم قالت بنزق:
-برضوه هاتخديها وتروحي
إلتفت تهاني برأسها للخلف، وقالت بضيق:
-مش احنا اتكلمنا في الموضوع ده امبارح!

أرخت فردوس ساعديها، وسارت نحوهما، ثم سلطت أنظارها على ابنتها متأملة حالة الذبول والشحوب البادية على وجهها، وأردفت قائلة بإحباط:
-ايوه، بس أنا خايفة تطلب منك فلوس أد كده، وإحنا على أد حالنا، وأديكي شايفة العين بصيرة والإيد قصيرة
صاحت فيها تهاني بجدية وهي ترمقها بنظراتها المحتدة:
-قولتلك ماتشليش هم، أنا هاتصرف.

مطت فمها بإمتعاض وهي تضيف قائلة:
-ماشي.. متتأخروش برا!
تنهدت تهاني بضيق وهي تجيبها بصوت شبه منزعج
-هانخلص ونرجع على طول
-طيب
ثم ربتت تهاني على ظهر تقى وقالت بصوت دافيء:
-يالا يا بنتي..
ثم سارت الإثنتين نحو باب المنزل، وتبعتهما فردوس، وأغلقت الباب خلفهما بعد أن توجهتا للخارج..

في منزل عبد الحق بالزقاق الشعبي
خشيت إحسان أن تبلغ ابنها عبد الحق الذي وصل لتوه من الخارج بعد غيابه ليومين في سَفرةٍ قصيرة من أجل العمل بما حدث مع بطة..
واكتفت بالجلوس صامتة على الأريكة القديمة ومسلطة أنظارها على شاشة التلفاز..
خرج عبد الحق من غرفة نومه متسائلاً بحيرة ب:
-أومال بطة فين يامه
لم تنظر نحوه وردت عليه بفتور وهي تتناول اللب الأسمر ط
-عند أمها
جلس إلى جوارها وسألها بقلق:
-ليه ؟

لوت فمها في تأفف، وردت عليه بجمود:
-اسألها
إنزعج وجهه، وهتف قائلاً بضيق وهو محدق بها:
-آآآخ.. عملت فيها ايه يامه، قولي!
نظرت له من طرف عينها بسخط، ثم أجابته ببرود مستفز:
-ولا جيت جمبها، هي اللي حاطة نقرها من نقري
احتقن وجهه قليلاً وهو يتشدق ب:
-هي برضك يامه!

تركت هي اللب من يدها، ورمقته بنظرات حادة وهي تنهره قائلة:
-جرى ايه ياض، انت هاتقف في صفها، وتجي على أمك
نهض من جوارها، وأشار بيديه وهو يقول بتذمر:
-لا صفها ولا صفك، بس أنا عارفك، ما بتصدقي
لوت فمها وهي تسأله بإستخفاف:
-مش عارفة إنت إيه اللي عاجبك فيها بنت ال *** دي ؟
رد عليها بصوت شبه محتد ب:
-بأحبها يامه وهي أم عيالي.

ابتلعت ريقها بتوتر وحاولت أن تبدو هادئة وهي ترد عليه بجمود بعد كلمته الأخيرة:
-طلقها يا بني وريحني منها، دي ماتنفعكش!
فغر فمه قائلاً بصوت مصدوم:
-أطلقها، بأقولك يامه دي حبلى في ابني، أقوم أطلقها!
رمقته بنظرات ساخطة، ثم اكتفت بلوي فمها في إزدراء، في حين هتف هو قائلاً بنبرة حاسمة:
-أنا هاروح أجبها هنا تاني
ثم إتجه نحو باب المنزل، فصاحت هي بصوت مرتفع قائلة بتهكم صريح:
-خليك كده دلدول لحد ما تجيبك ورا!
صفق عبد الحق الباب بعنف خلفه، وتمتم مع نفسه قائلاً بنبرة قاتمة:
-والله يامه إنتي اللي جيباني معاها ورا..!

في إحدى العيادات النفسية
صعدت تهاني وهي متأبطة في ذراع تقى على الدرج حيث تتواجد عيادة الطبيبة رجاء النفسية في الطابق الثاني..
قرأت تهاني اسم اللافتة بصوت مسموع، ثم إلتفتت برأسها ناحية تقى وقالت بهدوء:
-يالا يا بنتي، دي العيادة
سارت معها تقى بإستسلام رهيب، وولجت إلى الداخل دون أن تنبس بكلمة..

جابت تهاني بعينيها المكان متفحصة معالمه على عجالة، ثم أشارت لإبنة أختها لتجلس على مقعد معدني شاغر قائلة بجدية:
-استنيني هنا يا بنتي
ثم إتجهت هي نحو مكتب موظفة الإستقبال، ومالت عليها سائلة إياها بصوت جاد:
-هي الدكتورة رجاء موجودة
أومات الموظفة برأسها وهي تجيبها بإيجاز:
-أيوه
إبتسمت لها تهاني بهدوء وهي تتابع قائلة:
-طيب ممكن تقوليها إن الحاجة تهاني هنا
سألتها الموظفة بصوت جاد وهي تتفحص هيئتها بنظرات ثاقبة:
-في حجز سابق ؟

هزت رأسها بخفة وهي تقول بنبرة واثقة:
-ايوه، هي عارفة بده
نظرت الموظفة في الورقة الموضوعة أمامها، وقالت بصوت شبه منزعج وهي تنظر لها بإحتقار:
-بس اسمك مش مكتوب عندي
أخذت تهاني نفساً عميقاً، وزفرته على مهل وهي تتابع قائلة بحذر:
-يا استاذة هي عارفة إن أنا جايلها النهاردة، بلغيها بس بده، مش هاتخسري حاجة
مطت الموظفة شفتيها بضيق، ثم نهضت بتثاقل عن مقعدها، وأشارت لها بعينيها المنزعجتين، وقالت بجدية:
-ثواني!

ثم غابت للحظات في الداخل، في حين ظلت تهاني واقفة في مكانها، وتتابع عن كثب تفاصيل المكان..
كانت العيادة شبه خالية من المرضى، فعادة لا يستعين أي أحد هنا بالطبيب النفسي - وكما يحدث بالخارج - إلا في حالات قصوى..
ورغم هذا كان المكان راقياً في تصميمه وطلائه الهاديء الذي يبعث الهدوء والإستقرار على النفس..
سمعت صوتاً أنثوياً تألفه يأتيها من الداخل قائلاً بحماس:
-حاجة تهاني
دارت هي برأسها نحو مصدر الصوت، وتهللت أساريرها بسعادة حينما رأت الطبيبة رجاء تقترب منها وهي فاتحة لذراعيها..

احتضنتها تهاني ونظرت لها بإمتنان قائلة:
-دكتورة رجاء، أنا.. أنا مش عارفة أقولك ايه
بادلتها الطبيبة رجاء الإبتسامة الرقيقة قائلة:
-متقوليش حاجة، تعالي نتكلم جوا أحسن
هزت رأسها موافقة، ثم أشارت بكف يدها وهي تتابع قائلة:
-ماشي، وأنا جبت معايا بنت اختي!
سلطت رجاء أنظارها نحو الخلف، وتسائلت بهدوء:
-هي اللي أعدة هناك دي ؟
-أها
اعتلى ثغرها ابتسامة عذبة وهي تضيف قائلة بصوت ناعم:
-ماشاء الله دي ملامحها جميلة ورقيقة.

تنهدت تهاني بحزن وهي ترد عليها بإحباط ونظراتها منكسرة:
-بس يا عيني متبهدلة وآآ..
قاطعتها رجاء قائلة بجدية:
-نتكلم جوا أفضل
ردت عليها تهاني بإستسلام:
-اللي تشوفيه يا دكتورة
ثم سارت كلتاهما في إتجاه تقى التي كانت شاردة مع نفسها في عالم أخر..

وقفت أمامها رجاء وتأملتها بنظرات إشفاق، فقد كانت صغيرة السن، وملامح وجهها ذابلة، وحزينة للغاية بالإضافة إلى شحوبها..
تسائلت مع نفسها بفضول عن سبب إنطفاء نضارة شبابها، وجعلها بتلك الصورة المؤسفة..
ثم مدت يدها نحو كتف تقى، وقالت بخفوت:
-مساء الخير
إنتبهت لها تقى، ورفعت رأسها في إتجاهها، ونظرت لها بأعينها الزرقاء اللامعة قائلة بصوت مبحوح:
-مساء النور.

ابتسمت لها بخفة وهي تقدم نفسها بصوت دافيء:
-أنا الدكتورة رجاء، إنتي بقى مين؟
أجابتها تهاني بصوت متلهف وهي توزع نظراتها بينهما:
-دي تقى بنت أختي
أشارت لها رجاء بعينيها محذرة إياها، وقالت بإنزعاج رغم خفوت نبرة صوتها:
-أنا بسألها هي يا حاجة تهاني
أطرقت تهاني رأسها قليلاً في حرج، وردت عليها بصوت منخفض:
-أها.. معلش.

لاحظت رجاء حالة التوتر البادية على تقى، وفركها لأصابع يديها بإرتباك.. كذلك إهتزاز ساقيها بحركة ثابتة.. فزمت فمها للأمام، ثم أخذت نفساً عميقاً وزفرته وهي تقول بهدوء:
-بيتهيألي نتكلم جوا أفضل
أومأت تهاني برأسها موافقة، ثم أجبرت تقى على النهوض وهي تقول بنبرة شبه آمرة:
-ماشي، يالا يا تقى
وبالفعل اتجه ثلاثتهن للداخل حيث غرفة الطبيبة رجاء المتواجدة على يسار الرواق الصغير الذي يفصل ما بين الإستقبال ومكتبها..

جلست تهاني على المقعد المقابل لمكتب رجاء، وفي مواجهتها جلست تقى التي ظلت تنظر للأسفل نحو قدميها المتشابكتين معاً..
وساد الصمت لبعض الوقت..
سلطت رجاء أنظارها على تقى محاولة اكتشاف طريقة آمنة تمكنها من فتح الحديث معها..
قطعت تهاني هذا الصمت قائلة بصوت شبه مختنق:
-أنا عارفة إننا بنتقل عليكي يا دكتورة رجاء، بس معنديش حد بعد ربنا غيرك يساعد الغلبانة دي في اللي حصلها
ابتسمت رجاء لها بهدوء وهي تجيبها ب:
-متقوليش كده يا حاجة تهاني.

ابتلع تهاني تلك الغصة المريرة في حلقها وهي تتابع بحزن في نبرة صوتها ونظراتها:
-تقى دي ماتستهلش اللي جرى معاها، بس كل يوم حالتها بتسوء من بعد ما اغتصبوها ولاد الهرمة
إتسعت مقلتي رجاء في صدمة، ونظرت سريعاً إلى تقى وهي تهتف قائلة بذهول:
-اييييه، اغتصاب!
انتفضت تقى بجسدها مذعورة، وإرتجف جسدها بشدة، فقد لامست الكلمة وتراً حساساً لديها..

لقد ذكرتها بكل بساطة بأبشع جريمة يمكن أن تحدث لأنثى.. وأجبرتها على خوض تلك التجربة مرة أخرى لتتعالى شهقاتها المرتعدة
نظرت تهاني بتوجس إلى تقى، وهتفت قائلة بخوف بعد رؤيتها لتبدل حالها ب:
-وأنا عاجزة عن اني أساعدها وآآآ..
خشيت الطبيبة رجاء من تطور الوضع للأسوأ مع مريضتها الجديدة، فقاطعتها بجدية شديدة وهي تشير بيدها:
-طب هستأذنك يا حاجة تهاني تطلعي تستنينا برا، وأنا هتعامل معاها
تعجبت تهاني من قرارها المفاجيء، وضيقت عينيها مندهشة وهي تقول بإعتراض
-بس آآ..

صرت الطبيبة رجاء على أسنانها قائلة بحذر:
-ده أفضل صدقيني
نهضت تهاني عن مقعدها، ونظرت إلى تقى بإشفاق وحزن، وأردفت بإستسلام:
-طيب
ثم إتجهت بخطوات متهادية خارج الغرفة، في حين نهضت رجاء عن مقعدها، وجذبت مقعداً أخراً، وأسندته إلى جوار تقى، ومدت يدها لتمسك بكفها، وإحتضنته براحتيها، وهمست قائلة بحذر شديد:
-مش عاوزاكي تخافي، أنا موجودة هنا عشانك وبس.

سحبت تقى كفها على الفور، وإنكمشت في مقعدها مذعورة، وصرخت بخوف:
-مش عاوزة حد يلمسني، مش عاوزة حد يقرب مني
أشارت لها رجاء بكفها، وتراجعت للخلف قليلاً بجسدها، وردت عليها بهدوء:
-أنا مش هأذيكي صدقيني!
صرخت تقى بهياج عصبي وقد تركت العنان لعبراتها بالإنهمار:
-أنا بأقرف من نفسي، وبأكره كل حاجة بتفكرني بيه، أنا معملتش حاجة عشان يدبحني كده، آآآآه.. محدش حاسس بيا، أنا بأموت في اليوم ألف مرة مع كل لحظة بتعدي عليا وصورته قصادي!

سألتها رجاء بحذر وهي تتابع حالتها الإنفعالية بترقب شديد:
-هو مين ده ؟
ردت عليها بنشيج وهي ترتجف أكثر:
-اللي أخدني غصب، واتجوزني عشان يدبحني
صدمت رجاء من عبارتها الأخيرة، وهتفت قائلة بجدية:
-اتجوزك!
أكملت تقى صراخها الهيستري قائلة بحرقة وهي تشير بيديها:
-أنا.. أنا كنت بأحمي أمي من الموت، وهو موتي مليون مرة.. آآآه.. مصعبتش عليه للحظة.. دبحني وأنا معرفتش ادافع عن نفسي، يا ريتني أموت وأرتاح من النار اللي فيا!

مدت رجاء يدها لتربت على فخذها قائلة بخفوت:
-شششش.. اهدي هو مش هايعملك حاجة
تعالى صدرها وهبط بشهقاتها المختنقة وهي تتابع قائلة بصوتها الباكي و المختنق:
-أنا بأكره جسمي، وبأكره نفسي،، وبأكره ايده اللي بتلمسني، ونفسه اللي بيخنقني!
ثم رفعت يديها عالياً لتضعهما على أذنيها وهي تكمل بصوتها المتشنج:
وبأكره صوته اللي بأسمعه في وداني، مش عاوزة أسمعه تاني، كفاية بقى، كفاية!
أشارت لها رجاء برأسها وهي تهتف قائلة بخوف:
-حاضر

جلست تهاني في الخارج وقلبها ينبض بسرعة من فرط التوتر على ابنة اختها البريئة..
كم كانت تود أن تساعدها في تجاوز تلك الأزمة الفاصلة في حياتها، وتريحها من عذابها النفسي الذي أضناها..
فقد عانت تلك الصغيرة منذ نعومة أظافرها، ولم تعرف طعم الراحة مطلقاً..
بعد قليل خرجت الطبيبة رجاء وهي تحاوط تقى تحت ذراعها، فهب تهاني من مكانها واقفة وركضت نحوهما..
أشارت رجاء للممرضة قائلة بجدية:
-خدي مدام تقى للتويلت تغسل وشها.

تعجبت تهاني من تلك الكلمة، وحدثت نفسها قائلة بإندهاش:
-مدام
وبالفعل اصطحبت الممرضة تقى إلى زاوية غرفة الإستقبال حيث يتواجد المرحاض، في حين تابعت رجاء حديثها الجاد قائلة:
-انتي مش عارفة إنها متجوزة ؟
شهقت مصدومة وهي تضع يدها على فمها قائلة:
-اييه ؟ متجوزة
هزت رأسها بهدوء، ثم تابعت بصوت رزين:
-ايوه، هي قالت ده جوا، إن اللي عمل فيها كده جوزها
اتسعت مقليتها في صدمة، وهتفت قائلة بإستنكار جلي:
-مش ممكن.

تنهدت رجاء بأسف وهي تكمل ب:
-هو اعتدى عليها بصورة وحشية، يمكن هي مقالتش ده صراحة، بس باين من تصرفاتها وعصبيتها إن الموضوع مش سهل خالص، وصعب يتنسي!
-هه
ثم أضافت بصوت جاد وهي تشير بإصبعها:
-هي محتاجة لعلاج نفسي مكثف، وبيئة نفسية هادية عشان أقدر أخليها تتخطى المرحلة دي
نظرت لها تهاني بنوع من الأمل وهي تهتف قائلة بعشم:
-يا ريت يا دكتورة.

مدت رجاء يدها بورقة صغيرة مطوية وهي تكمل بصوت جاد:
-عامة أنا هاجهز كل حاجة مناسبة لحالتها، وهبدأ معاها على طول، وإنتي هاتيهالي في المواعيد دي
-حاضر
-وبأكد عليكي تاني، ماتشليش هم تكاليف!
ردت عليها تهاني بتلعثم حرج قائلة:
-بس.. بس كده كتير!
ابتسمت لها بعذوبة وهي تضيف بنبرة متفائلة:
-لا كتير ولا حاجة، وربنا يقدم اللي فيه الخير!
نظرت لها تهاني بإمتنان كبير قائلة بنبرة سعيدة:
-ربنا يباركلك يا دكتورة.

وصل إلى مدخل الحارة الشعبية سيارتي دفع رباعي من الطراز الحديث، ومن خلفهما سيارة سوداء فارهة.. فنجحوا في لفت أنظار الجميع..
ترجل من إحدى السيارتين بعض الرجال ذوي الملابس الرسمية السوداء، والأجسام الضخمة والعريضة.. وجابوا بأنظار ثاقبة وحادة أرجاء المكان..
فظن قاطنيه أن مسئولاً حكومياً قد حضر لزيارة الحارة بصورة مفاجئة.. نعم.. لقد كان المشهد مريباً ومهيباً في آن واحد.

فإختفى البلطجية ومعتادي الإجرام عن المشهد خوفاً على حياتهم، وتوارى بعض المنحرفين عن الأنظار حتى لا يتم إلقاء القبض عليهم..
بعد أقل من دقيقة، ترجل أوس الجندي من سيارته - وكذلك فعل المحامي منعم الجالس إلى جواره – وسلط أنظاره على تلك البناية القديمة..
نزع نظارته القاتمة عن وجهه، لتظهر عينيه القاتمتين وهما محدقتان بمدخل البناية و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة