قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل العشرون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل العشرون

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في منزل أوس الجديد
وقف أوس أمام خزانة الملابس، وسحب من الضلفة الخاصة بثيابه ( تيشيرتاً ) رمادياً بدون رقبة، وبنطالاً قماشياً من نفس اللون ..
ثم إستدار بجسده ناحية تقى، وأردف قائلاً بهدوء:
-خدي شاور، وغيري هدومك، حاجتك زي ما هي في الدولاب، وأنا هاطلع أقعد برا!
أومأت برأسها بخفة .. ولم تعلق عليه ..

بينما تحرك بحذر نحو الخارج تاركاً إياها تفعل ما تريد دون الشعور بالحرج منه ..
راقبته بعينيها الزرقاوتين حتى انصرف من الغرفة، فنهضت من على الفراش، وإتجهت لخزانة الملابس لتبحث عما يناسبها لتبدل ثيابها فيه بعد أن ظلت مرتدية إياها على مدار يومين ..
اتجهت بعدها للمرحاض لتستحم، وتنفض عن جسدها أثار الارهاق والتعب ..

بمجهود ليس بالقليل تمكن أوس من إرتداء ملابسه، ثم أراح جسده على الأريكة بالخارج ..
تأوه بخفوت حتى لا يزعج تقى وهو يرفع ساقيه عليها، وتحسس بحذر صدره ..
أخذ نفساً عميقاً، وزفره مرة واحدة .. ثم تمطع بكتفيه، وأغمض عينيه ليستريح قليلاً .. ولكنه سمع صوت دقات ثابة على باب منزله، ففتح عينيه، واعتدل بحذر على الأريكة .. ونهض من مكانه ليتجه نحوه ..
فتح أوي الباب فوجد شخصاً يرتدي ملابساً تحمل الشعار الخاص بأحد محلات الطعام الشهيرة، ويحمل في يديه عدة حقائب بلاستيكية ..
قطب أوس جبينه، وسأله بجمود:
-خير!

جاب الرجل بعينيه باب المنزل، وتسائل بنبرة رسمية:
-ده منزل أوس باشا الجندي ؟
رد عليه أوس متسائلاً بإقتضاب:
-أها، عاوزه ليه ؟
أجابه الرجل بهدوء:
-معايا أوردر أكل مبعوت ليه من الأستاذ عدي عبد الرحمن
مط أوس شفتيه قليلاً، ومد ذراعه ليلتقطه منه وهو يتابع بجدية:
-تمام، هاته، حسابك كام ؟

أجابه الرجل بهدوء:
-كله مدفوع يا فندم بالبقشيش!
رفع أوس حاجبه للأعلى مندهشاً، وهتف قائلاً بإستغراب:
-نعم!
برر الرجل قائلاً بنبرة عادية:
-الحساب اتدفع في المحل، الأستاذ عدي دفعه كله!
ثم لوح بذراعه ليضيف وهو يستدير نحو المصعد:
-سلام عليكم!
-مممم ..

إعتلى ثغر أوس ابتسامة هادئة بعد تلك اللفتة الطيبة من رفيقه الذي تكفل بكل شيء حتى الطعام .. ثم التفت عائداً للصالة بعد أن أغلق باب المنزل، وأسند الطعام الجاهز على الطاولة، وعاود الجلوس على الأريكة وسلط أنظاره على الرواق المؤدي إلى غرفة النوم ..
تنهد قائلاً لنفسه بضجر:
-هو لسه قدامها كتير ولا ايه!
فرك وجهه بكفه، وتمدد على الأريكة ..

تأملت تقى إنعكاس هيئتها أمام المرآة بعدما انتهت من أخذ حماماً سريعاً ودافئاً لتنعش جسدها قليلاً .. وارتسم على محياها ابتسامة راضية .. فقد كانت تحتاج إليه كثيراً ..
لفت حول شعرها المنشفة القطنية، وأكملت إرتداء المنامة الحريرية ذات اللون الفيروزي .. وحدثت نفسها قائلة:
-متفكريش في حاجة يا تقى، مافيش حاجة هاتحصل هو وعدك بده، انتي زي ما انتي!
عضت على شفتها السفلى، وأزاحت تلك القطرات المبتلة من على جبينها، وتابعت بقلق:
-بس .. هو .. هو ممكن آآ...

دار بخلد تقى بعض الهواجس حول احتمالية إستغلال أوس الفرصة والتقرب منها بصورة حميمية ..
ضمت ساعديها إلى صدرها، و انكمشت على نفسها، وهزت رأسها نافية:
-لالالا .. مش هايعمل كده، مش هاسمحله!
إزدردت ريقها، وأخذت نفساً عميقاً، ورفعت رأسها للأعلى، وفردت كتفيها، وأنزلت ذراعيها وهمست لنفسها بتشجيع:
-اجمدي .. انتي قدرتي تقفي قصاده، وهو.. وهو آآ..

شعرت بتخبط في تفكيرها، فحاولت إقناع نفسها ب:
-انتي وجودك معاه هنا عشان تساعديه وبس!
أطرقت رأسها للأسفل لتنظر إلى بطنها، ووضعت كفيها عليه لتتحسه، وتسائلت بخوف:
-طب .. طب وابني ؟
رفعت رأسها مجدداً لتنظر لنفسها بالمرآة، وتمتمت بتردد:
-هو وعدني هيحميه ويحمينا، مش هايسبنا! هو قال بيحبني .. بس .. بس أنا آآ..

دفنت وجهها في راحتي يدها، وظل صامتة تحاول ترتيب أفكارها المضطربة والتي أصابتها بالحيرة ..
تنهدت بإنهاك وأضافت لنفسها:
-مش وقت أي تفكير، أنا محتاجة أرتاح، وبعد كده هاشوف هاعمل ايه!
خرجت من المرحاض، وتلفتت حولها بتوتر باحثة عنه في الغرفة فلم تجده ..

تنهدت بإرتياح، واعتلى ثغرها ابتسامة عريضة .. وهمست قائلة بسعادة وهي تصفق بيديها بخفوت:
-كويس انه برا، كده أقدر أنام براحتي
-لأ مش هايحصل يا حبيبتي!
قالها أوس بثقة وهو يستند على عتبة باب الغرفة، وعاقداً لساعديه أمام صدره ..
ثم أكمل بهدوء جاد:
-مش قبل ما تاكلي!

إستدارت بجسدها بحركة دائرية مفاجئة نحو مصدر صوته، فأصابها دوار خفيف، ولكنها تمالك نفسها ..
إعتدل أوس في وقفته، ورمقها بنظرات جادة، وهتف محذراً:
-بالراحة يا تقى!
أشارت له بكفها ليظل باقياً في مكانه، وهتفت بتلهف:
-أنا كويسة، ماتجييش هنا!
عقد ما بين حاجبيه، وعبس بوجهه، وتسائل بنبرة معاتبة وهو يتحرك نحوها:
-انتي لسه خايفة مني ؟

توترت كثيراً، وارتبكت من حضوره الطاغي عليها .. وتوردت وجنتيها بحمرة باهتة تزيد درجتها تدريجياً بإنفعالها الداخلي ..
حاولت أن تبرر له موقفها، ولكنها فشلت في إيجاد الحجة المقنعة، فتلعثمت قائلة:
-آآآ... أنا
اقترب منها بخطوات بطيئة، وهمس بجدية وهو يرمقها بنظرات مطولة:
-أنا وعدتك مش هاعملك حاجة!
حاولت تقى ألا تتحرك من مكانها، ولكن جسدها كان يرتجف يحاول الفرار ..

كم تعددت المواجهات بينهما، وظفرت هي بأغلبهم، لأنها اعتادت تحميله ذنب جريمته معها، ولكن اليوم هي تقف لا حول لها ولا قوة، في حالة تخبط، واضطراب ..
تريد أن تواجهه، ولكن يعجز لسانها عن النطق ..
الكلمات تتزاحم في رأسها، ولكن ترفض أياً منها الخروج على شفتيها ..
أفاقت تقى من شرودها على تنهيدات أوس الحارة أمام وجنتها وهو يهمس لها بعذوبة:
-وبعدين .. أنا .. أنا آآ...
مد كفه ليلتقط كفها براحته، ورفعه إلى فمه ليقبله، وتابع بخفوت آسر:
-بأحبك!

ثم أسند كفها المعقود في كفه على صدره، وأكمل بهمس:
-ونفسي تحسي بده أوي!
لم ترمش بعينيها، بل ظلت تطالعه بنظرات غريبة ..
أسند إصبعيه على طرف ذقنها ليرفعه ناحيته، ومال برأسه عليها أكثر ليسألها بنبرة رخيمة:
-مش هناكل مع بعض ؟
هزت رأسها عفوياً لتخرج من تأثيره القوي، فتراجع بهدوء للخلف، وابتسم لها مضيفاً بتساؤل:
-هناكل هنا ولا برا ؟
توترت وهي تجيبه بصوت متقطع:
-ب... برا!

أشار لها بإبهامه، وهو يتجه نحو باب الغرفة:
-تمام، يالا!
وقبل أن يخرج تماماً، إستدار بجسده نصف إستدارة ليقول بمزاح:
-بس شيلي الفوطة دي من على دماغك، مخلياكي شبه الهنود!
ضيقت عينيها، ورفعت يديها عفوياً لتتلمس المنشفة، فأكمل بإبتسامة عريضة:
-أيوه هي دي!
ثم تركها وانصرف إلى الخارج وهو لا يقاوم الابتسام بسعادة ..

في منزل تقى عوض الله
إستندت تهاني برأسها على كفها وهي جالسة على الأريكة محاولة التفكير بتعمق في ناريمان ورغبتها في الحديث معها ..
عصرت تفكيرها محاولة تخمين السبب الخفي وراء تلك الزيارة ..
تمتمت مع نفسها بإنزعاج:
-ناريمان مش بتعمل حاجة ببلاش، لازم هاتستفيد من وراها، بس هي هاتكون عاوزاني في ايه يا ترى ؟
دلفت فردوس إلى الغرفة، ورمقت أختها بنظرات حادة، وسألتها بفضول:
-ها قوليلي بقى، كانت عاوزاكي الولية دي في ايه ؟

لوت تهاني فمها لتجيبها بإمتعاض:
-مافيش
هتفت فردوس محتجة وهي تلوح بذراعها:
-ازاي مافيش وهي من ساعة ما جت ومشت وانتي أعدة على حالك ده
نفخت تهاني قائلة بنفاذ صبر:
-يووه يا فردوس، كانت جاية تسأل عليا، إرتاحي بقى
وقفت فردوس قبالة أختها، ووضعت يدها في منتصف خصرها، وهتفت بصوت محتد وهي تلوح بذراعها الأخر:
-لأ بصى يا تهاني، شغل الملاوعة والكلام الحلامانتشي ده أنا مافهمش فيه!

ثم صمتت للحظة لتضيف بمكر:
-وبعدين أنا سمعت طراطيش كلام عن آآآ...
قاطعتها تهاني بنبرة مصدومة وهي ترمقها بنظرات إستنكار:
-انتي بتتجسسي عليا ؟
ردت عليها فردوس ببرود وهي تحرك جسدها بطريقة مستفزة:
-لأ ياختي، أنا بأشوف وضعي ايه في البيت ده، ماهو في الأخر البهدلة كلها بتحصل عندي هنا!
كزت تهاني على أسنانها لتصيح بحنق:
-بجد .. انتي آآآ..

قاطعتها فردوس بإصرار مزعج:
-ماتلفيش وتدوري عليا، كانت جيالك ليه ؟ وزيارة ايه اللي ه آآ...
لكزتها تهاني من كتفها وهي تتجه نحو الخارج قائلة بصوت متشنج:
-حاسبي يا فردوس، انتي ماينفعش يتقعد معاكي، أنا داخلة الحمام
أمسكت بها فردوس من ذراعها، وهتفت محتجة:
-ماتهربيش مني.

أزاحت تهاني كفها بعيداً عن ذراعها، وصاحت بتذمر وهي تلج للخارج:
-روحي شوفي جوزك عوض، بينده عليكي
رمقتها فردوس بنظرات ساخطة، وهتفت بإحتجاج:
-بقى كده يا تهاني، طيب!
ثم ضيقت عينيها أكثر، وأضافت بنبرة عنيدة:
-بس برضك مش هاكون طيشة في البيت ده، وهاعرف كل حاجة!

في منزل أوس الجديد
انتهى الاثنين من تناول بضعة لقيمات من الطعام الذي رصه أوس على الطاولة ..
لم يكن لدى تقى أي شهية لإبتلاع المزيد .. فقد اكتفت بما سد جوعها .. وغمغمت بخفوت وهي تنفض كفيها:
-الحمدلله
رمقها أوس بنظرات قوية، وتسائل بهدوء حذر:
-كده بس ؟
هزت رأسها بخفة وهي تجيبه بتوتر:
-اها .. أنا..آآ.. شبعت!
رفع حاجبه للأعلى مستنكراً، وهتف بجدية:
-بجد ؟! ازاي يعني ؟

أجابته بحذر وهي تتحاشى النظر إليه:
-كده، ماليش نفس!
تابع قائلاً بمزاح وهو يسند طرف ذقنه على مرفقه:
-هو حد قالك إني عاوز ابني مسلوع ؟
إنفرجت شفتيها لتردد بإندهاش:
-هاه!
تابع أوس قائلاً بجدية وهو يغمز لها:
-لازم يطلع زي أبوه!
نظرت له مدهوشة، وتقطع صوتها وهي تردد:
-ز.. زيك ؟!

هز رأسه ليجيبها بثقة تامة وهو ينتصب بصدره:
-طبعاً في الشكل والقوة وآآ.. آآآه
تأوه بخفوت بعد تلك الحركة، وابتسم ليضيف بسخربة:
-يعني وأنا بصحتي!
حركت تقى رأسها معترضة، وهتفت بإحتجاج:
-بس .. أنا مش عاوزاه زيك!

تجمدت تعابير وجهه، وكذلك نظراته، عقب عبارتها الأخيرة .. في حين أطرقت رأسها للأسفل، وعبثت بطرف صحنها وهي تتابع بصوت شبه مختنق:
-أنا عاوزاه يكون حنين، عنده قلب، مايفتريش على الضعيف، يكون .. يكون زي بابا في طيبته، وروحه الحلوة، وصبره، مايجيش على الغلبان وآآ...
أغمض أوس عينيه خزياً، وكور قبضة يده معتصراً أصابه، فقد أحدثت كلماتها وجعاً في قلبه ..

رفعت تقى عينيها بحذر نحوه لتتأمل ردة فعله، فوجدته على تلك الحالة، فتوجس قلبها خيفة أن يكون أصابه مكروه، فسألته بتلهف وهي تمد يدها نحو كفه:
-حاسس بحاجة ؟
فتح أوس عينيه على إثر لمستها التي أصابت كفه برعشة رهيبة، ونظر لها بأعين شبه دامعة .. ورسم ابتسامة باهتة على وجهه وهو يقول:
-أنا تمام!

ابتلع غصة مريرة في حلقه، وتنفس بصوت مسموع وهو يضيف بتريث:
-تعالي نرتاح جوا
اتسعت حدقتيها بصدمة جلية، وسألته بهلع:
-ه.. هنام ؟
رد عليها بنبرة عادية:
-ايوه، مش هانفضل صاحيين!
ارتجفت قليلاً وهي تهمس بإرتباك:
-بس آآ..

أسند أوس كفه على يدها، وإحتضن أصابعها بأصابعه، وأردف قائلاً بهدوء:
-تقى، احنا هنام عادي، اهدي!
صمت لعدة ثوانٍ، ثم ابتسم لها بنعومة وهو يضيف:
-ماتحطيش في بالك أي حاجة، اوكي ؟
ابتلعت ريقها بتوتر، وأومأت برأسها موافقة ..

نهض أوس عن مقعده أولاً، ولم يحرر كفها من قبضته، وأجبرها على النهوض معه، ثم سحبها خلفه بخطوات متمهلة نحو غرفة النوم ...
تعالت دقات قلبها من فرط التوتر وهي تسير مستسلمة ورائه ..
تكرر المشهد أمام عينيها، مع إختلاف الوضع والظروف ..

في السابق كانت تُحمل جبراً معه إلى مكان مماثل حيث اغتال برائتها، واليوم تسير بإرادتها معه لتختبر شجاعتها في مواجهة مخاوفها منه ..
نعم هي لم تعد تهابه كما كان حالها من قبل، ولكنها مازلت تخشى تكرار تلك التجربة المؤلمة بكل ما فيها من جديد ..
-تحبي تنامي هنا ولا هنا ؟
سألها أوس وهو يتطلع إليها بشغف واضح ..
صمتت ولم تجبه، فتعجب منها، ولوح بكفه أمام وجهها وهو يتسائل بجدية:
-انتي معايا ؟

أفاقت تقى من أفكارها المتضاربة، وردت عليه ببلاهة:
-انت كنت بتقول حاجة ؟
ضغط على شفتيه وهو يحك رأسه، وهتف قائلاً بتعب:
-انتي مش معايا خالص!
أشار بعينيه نحو الجانب الأيمن من الفراش، وإستأنف حديثه بإنهاك:
-عموما، أنا مش قادر أفتح عيني، فهنام هنا!

أرخى أصابعه عن قبضتها .. واتجه إلى الفراش ليلقي بجسده عليه ..
ثم أولاها ظهره حتى يطمئنها بأنه لا يفكر في شيء مما يدور في بالها ..
راقبته لعدة دقائق وهي متسمرة في مكانها حتى تأكدت من سكونه .. فسارت ببطء نحو الفراش ..
وبحذر شديد تمددت إلى جواره، وأولته ظهرها .. ثم أغمضت عينيها مستسلمة للنوم ..

فتح أوس عينيه، وإلتوى ثغره بإبتسامة ماكرة، ثم أدار جسده ناحيتها، ومد ذراعه ليلفه حول خصرها ..
شهقت مذعورة من لمسته، وفتحت عينيها مصدومة، ثم وضعت يدها على ذراعه محاولة إزاحته عنها، ولكنه كان كالحجر الثقيل المرابط عليها، فعجزت عن إبعاده عنها ..
تنهدت يائسة بصوت مسموع، وأبعدت يدها عنه لتغطي به وجهها .. وهي تتمتم بكلمات مبهمة ...
دقائق لاحقة واستسلمت تقى للنوم، وشعر أوس بإنتظام تنفسها، فإقترب أكثر منها ليضمها إلى أحضانه، واستنشق عبير شعرها المبتل بإنتشاء قبل أن يغفو هو الأخر..

فتحت تقى عينيها لتتلفت حولها بذعر كبير بعد أن استشعر قلبها إحساساً بعدم الأمان ...
تلاحقت أنفاسها بشدة، وإرتجفت كل ذرة في كيانها ..
حاولت أن تحرك جسدها، ولكنها شعرت بعجزها، فخفق قلبها أكثر ..
ثم رفعت بصرها للأعلى لتجد ذراعيها مقيدين في حافة الفراش بحبل غليظ ...
إتسعت مقلتيها بهلع، وشهقت بخوف، وحاولت الصراخ، ولكن صوتها كان مبحوحاً متحشرجاً، عالقاً في حلقها ...
أخفضت عينيها فوجدت ساقيها منفرجتين، كل منها على حدا، ومقيدة بطرفي الفراش .. فزاد هذا من رعبها ..
تلوت بجسدها محاولة تحريره ..

ولكن مع كل حركة مقاومة تصدرها، كانت القيود تزداد إحكاماً عليها فتعتصر رسغيها وقدميها ...
برودة قارصة سيطرت على المكان، وإضاءة خافتة تهتز بصورة مخيفة أكملت هذا المشهد المفزع ..
أدارت رأسها للجانب، فرأته يقف على مقربة منها ممسكاً بمشرطه الحاد، ومرتدياً لمعطفه الطبي الأبيض .. ولكن هناك بقعاً حمراء كثيفة تفسده ..
دققت النظر في ملامحه، فرأت عينيه القاسيتين تبرزان بشراسة، ومحدقة بها .. وإبتسامة خبيثة تبرز من بين أنيابه الحادة ..

لقد عرفته على الفور، وجهه القاتم، ونظراته المرعبة كفيلة بقتلها ذعراً .. إنه والده ( مهاب الجندي )
كادت عينيها تخرجان من مقلتيهما من فرط الخوف ..
سمعت صوته المرعب يرج أركان الغرفة قائلاً بتهديد صريح:
-متحاوليش! إنتي تحت رحمتي!
أدارت رأسها للجانب الأخر لتصرخ مستغيثة بمن ينجدها، فرأت أوس ممدداً على فراش أخر مقارب لها ..

ولكن الدماء تنزف بغزارة من صدره، ووجهه يزداد شحوباً .. وعينيه الباكيتين معلقتين بها .. وكأنه يتوسلها .. أو يحذرها .. لم تفهم نظراته الغامضة نحوها ..
مد أوس ذراعه محاولاً الوصول إليها، ولكن تباعدت الآسرة، فزدادت المسافات بينهما، وعجز عن إمساكها ..
صرخ بإسمها وهو يحذرها بصوت متحشرج:
-حاسبي يا تقى، اهربي منه! ده شيطان، شيطان!
إلتفتت برأسها مذعورة إلى حيث أشار، فرأته مقبلاً عليها، وفجأة أطبق على فمها بكفه ليكممها ويحبس أنفاسها ..

اختنقت بشدة، ولمحت ذراعه الأخر الممسك بالمشرط من طرف عينها يرتفع في الهواء ..
حدقت فيه بنظرات مرتعدة، وجاهدت لتتنفس بالرغم من الآلم الموجع الذي يقتلع صدرها ..
إلتوى فم مهاب بإبتسامة شيطانية، وأشار بعينيه القاتلتين نحو بطنها، وهتف قائلاً بنبرة مميتة وبريق أسنانه الحادة يلمع في عينيها:
-ماتتحركيش كتير، أنا بس هاخده منك!
هزت رأسها بصورة هيسترية، وتلوت بجسدها وهي تنتفض بشراسة محاولة إنقاذ جنينها من براثنه، و...

أصدرت تقى صرخة عنيفة وهي غافلة في نومتها، فهب أوس مذعوراً من نومه على إثر صراخها المخيف، وتوجس قلبه رهبةً عليها، ونظر إليها بقلق بالغ، فوجدها ترتعش بشدة، والعرق يتصبب بغزارة من جبينها .. فإحتضن وجهها بكفيه، وحاول تهدئتها قائلاً بهلع:
-تقى، فوقي، ده كابوس، مش حقيقة، تقى، اصحي!
فتحت عينيها لتحدق بالسقف، ورددت بنبرة مرتعدة:
-هايقتله، هايخده مني، ابعدوه عني، هو مالوش ذنب.

لم يفهم أوس كلماتها المقتضبة، وأسرع في تهدئتها قائلاً بتوتر:
-شششش.. تقى، مافيش حاجة من دي حقيقية، انتي معايا!
رفعت يديها لتمسك به من كتفيه، ونظرت له بتوسل من عينيها الدامعتين، و إستعطفته بشدة:
-هايموته، ده ابنك، حفيده! احميه، احميه!
استطاع أوس أن يستشف من حديثها من تقصد، ومن رأته في أحلامها فجعلها في تلك الحالة المذعورة ...
تنهد بإنزعاج، وانحنى على جبينها ليقبله، وهمس لها بحذر:
-متخافيش، مش هايلمسه!

ثم ضمها إلى صدره، وربت على ظهرها، وضيق عينيه لتصبحا حادتين، وتابع بوعيد:
-مش هاسمح لحد يقرب منه! ولا منك، انتو الاتنين ليا وبس!
باغته تقى بدفعه من صدره بكفيها، فتأوه من الآلم، وأرخى ذراعيه عنها، وتراجع للخلف، فزحفت مبتعدة عنه، ونهضت عن الفراش لتهتف بصوت متشنج:
-مش عاوزة أنام هنا
فرك صدره بكفه ليخفف من وخزات الآلم، ونظر لها بإشفاق وهو يسألها بإستغراب:
-اهدي بس، ماله السرير ؟

هزت رأسها معترضة، وهتفت بعصبية:
-لألألأ .. مش هنام على سراير تاني، مش هنام خالص!
سألها بهدوء وهو ينهض من على الفراش:
-اومال هتفضلي صاحية ؟
صاحت بتشنج وهي تضم قبضتيها المتكورتين إلى صدرها
-مش عاوزة أنام، مش هنام!

أشار لها بكفيه وهو يضيف بحذر:
-خلاص .. خلاص .. هاعمل اللي يريحك!
حاول أوس أن يفكر في حل سريع للتعامل مع تلك النوبة العصبية المسيطرة عليها، وهداه تفكيره لحل مؤقت ..
لذا مد يديه، و أمسك بهما بقبضتيها، وابتسم لها قائلاً بنعومة:
-ايه رأيك نقعد برا ؟
نظرت له بعدم فهم وهي فاغرة شفتيها:
-هاه.

زادت ابتسامته المطمئنة وهو يفسر لها قائلاً:
-بصي مافيش حاجة برا في الصالة، هي لسه زي ما هي، احنا سايبنها على وضعها، هنقعد فيها، ها قولتي ايه ؟
بدى حله مقنعاً لها، فأومأت برأسها موافقة وهي تردد بإستسلام:
-ماشي!
رفع كفيها إلى فمه ليقبلهما، ثم اصطحبها إلى خارج الغرفة ..

تمددت تقى على الأريكة العريضة، وضمت ساقيها معاً، وإنكمشت بكتفيها إلى حد ما .. وقاومت بشدة رغبتها في النوم وجاهدت لتفتح عينيها الناعستين وهي تشاهد أحد الأفلام بالتلفاز ..
جلس أوس على الأريكة المجاورة لها، وظل يهز ساقه بعصبية، ويزفر في ضيق، وأدار رأسه في الصالة ليتأمل الأثاث بها وهو يضغط على شفتيه بإمتعاض ..
أسند وجهه على كفه، ولوى فمه قليلاً ..

كان بين الحين والأخر يتابعها بنظرات مختلسة إلى لاحظ ثقل رأسها، وبدء إستسلامها للنوم .. فإنتبهت حواسه، وسلط أنظاره عليها ..
عدة دقائق بعدها، وكانت تقى تغط في سبات عميق ..
تنهد أوس بإرتياح، وهمس بسعادة:
-أخيراً ..!

نهض عن الأريكة، وتوجه نحوها، ثم مال بجذعه عليها، وأمسك بحذر برأسها ليعدل من وضعيتها حتى لا تؤلمها نتيجة النوم بشكل خاطيء ..
تفاجيء بها تمسك بكفه، وتهمس له بصوت ثقيل وناعس:
-ماتسبنيش!
حدق بها مندهشاً، وتأملها بدقة فوجدها غافية ..
فرك رأسه بحيرة، ومن ثم وجهه، وتلفت حوله بتعجب ..

ثم عاود النظر إلى كفها المتعلق بأصابعه، فأطبق عليه بخفة، وتنهد بإنهاك .. ثم جلس على الأرضية اللامعة بحذر ..
ثنى أوس ركبته قليلاً، ومط فمه ليهمس بتهكم ساخر:
-بقى دي أخرتها، أوس الجندي بهيلمانه كله ينام على البلاط!
اقترب برأسه من وجهها، وتأملها بعشق حقيقي .. ثم تابع بتنهيدة حارة على وجنتها:
-وكله عشان خاطرك انتي و بس..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة