قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الخمسون والأخير

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الخمسون والأخير

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في العيادة النسائية
أوصل أوس زوجته إلى عيادة الطبيبة بارسينيا، حيث تم الإتفاق على أن تلد رضيعتها هناك .. وبالفعل وضعها على الناقلة الطبية، وهتف بصياح:
-بسرعة نادوا على د. بارسينيا، أنا بأطلبها من بدري ومش بترد، تقى بتولد!
أجابته الممرضة بهدوء حذر:
-للأسف د. بارسينيا سافرت لمؤتمر آآ...

قاطعها أوس بإنفعال واضح:
-إزاي تسافر، احنا متفقين معاها ؟!
-آآآه، مش قادرة
قالتها تقى بصوت متشنج وهي تحاول كتم آهاتها ...
انفعل أوس بغضب أشرس قائلاً:
-هو ده ينفع، هي معندهاش تقدير للمسؤلية!
ردت عليه الممرضة بنبرة هادئة وهي تشير بإصبعها:
-يا فندم الموضوع جه مفاجيء، بس اطمن هي مرتبة مع الدكتور مارجريتا هي دكتورة أجنبية بس ممتازة، وهتتولى كل حاجة هنا
صاح بها بصوت هادر وقد إحتقنت نظراته:
-طب هي فين دي كمان ؟

-موجودة يا فندم
قالتها الممرضة بجدية بالغة، ثم دفعت الناقلة بمعاونة زميلاتها إلى داخل غرفة ما جانبية لتجهيز تقى إلى العمليات ..
تعذر على الطبيبة مارجريتا إيلاد الرضيعة بصورة طبيعية لتعسرها، فلجأت إلى استخدام عملية الولادة القيصرية ... ورفضت طلب أوس بالحضور ومشاركة زوجته لحظة ميلاد طفلته ..

وقف مترقباً بالخارج، ولكن علق قلبه وعقله وروحه بالداخل ..
مرت عليه الدقائق وكأنها أدهر ..
وصل إلى العيادة عدي ومعه ليان، وركضت الأخيرة في إتجاه شقيقته وهي تسأله بتلهف:
-ايه الأخبار يا أوس ؟ تقى ولدت ؟
رد عليها بنبرة قلقة وأنظاره مسلطة على باب غرفة العمليات:
-مش عارف لسه، هي موجودة جوا
همست لها ليان وهي تضغط على كتفه بقبضتها:
-ربنا معاها.

مازحه عدي قائلاً بهدوء:
-اجمد يا باشا! هي مش أول واحدة بتولد، شعب مصر كله جرب الحكاية دي
لوى أوس فمه بضيق، ونفخ بصوت مسموع .. فأدرك عدي أن رفيقه ليس في حالة مزاجية جيدة تسمح بالمزاح ...
ظل أوس يجوب الرواق ذهاباً وإياباً وهو يدعو الله في نفسه أن تنجو زوجته وطفلته ..
بعد لحظات إنضمت إليهم تهاني وبصحبتها عوض وهو ممسك بزوجته فردوس ..

أجلست تهاني فردوس على المقعد القريب، ثم اتجهت ناحية ابنها، وسألته بإهتمام كبير:
-طمني يا بني على تقى!
أجابها بنبرة شبه خائفة:
-معرفش أي حاجة، بس مش مرتاح
ربتت على ظهره، وضغطت على شفتيها قائلة بحذر:
-اهدى يا بني، وإن شاء الله خير.

أسند أوس كفه على الحائط الملاصق للباب، وضرب بيده عليه عدة مرات .. لم ينتبه هو إلى أي أحاديث جانبية، ولم يشارك التعليق في أي شيء يُسئل عنه ..
وفجأة إنتبهت كافة حواسه إلى تلك الصرخة الصغيرة التي إختطفت قلبه قبل عقله .. فأدار رأسه ناحية الباب، وأحس بإضطراب جلي يسيطر على كافة أعضائه ..وإستشعر بقلبه تلك النبضات التي أعلنت رسمياً عن ميلاد أحب الأشخاص إليه ..

تعجبت تهاني مما حدث لإبنها، وسأله بإستغراب:
-خير يا بني في ايه ؟
رد عليها بصوت لاهث:
-سمعتها يا ماما، تقى ولدت!
هزت والدته كتفيها وهي تجيبه بفتور:
-بس إحنا مسمعناش حاجة، تلاقيك بس آآ...

قاطعها بإصرار جلي وهو يهز رأسه معترضاً:
-أنا متأكد من اللي بأقوله، بنتي جت على الدنيا!
وما هي إلا دقائق أخرى حتى خرجت الطبيبة مارجريتا من غرفة العمليات لتطمئن الجميع وعلى ثغرها إبتسامة ودودة، فسألها أوس بتلهف:
-تقى ولدت ؟
هزت رأسها بعدم فهم، فسألها مجدداً باللغة الإنجليزية، فأجابته بنبرة هادئة:
-Yes, and you can see her after while ( نعم، ويمكن أن تراها بعد لحظات ).

سألها بصوت متقطع وهو يرمقها بنظرات شبه متوترة:
- And what about my baby ?( طب .. وآآ.. وبنتي )
ردت عليه بنبرة مطمئنة وهي ترسم تلك الإبتسامة اللطيفة على ثغرها:
-She's fine .. you can see her too ( بخير، لحظات وهاتكون معاها )!
أحتضنت تهاني ابنها بعد أن أبلغ من حوله بميلاد رضيعته، وهنأته قائلة:
-مبرووووك يا بني، تتربى في عزك إن شاء الله
اقترب منه عدي وصافحه وهو يقول بحماس:
-مبروك يا أوس!

هتفت ليان بصياح وهي تقفز في مكانها:
-واو، بقيت أنطي!
اقترب عوض هو الأخر من أوس، وأردف قائلاً بصوت خافت:
-حمدلله على سلامتها، ربنا يحفظهوملك يا رب
رد هو على الجميع بكلمات مقتضبة .. فعقله وقلبه مشغولان بزوجته وطفلته الرضيعة ..
حضرت ممرضة ما إليه، وأشارت له بيدها وهي تقول بهدوء:
-حضرتك تقدر تشوف المولودة الوقتي.

وبالفعل سار أوس بخطى سريعة خلفها، ونبضاته تتسارع مع أنفاسه تلهفاً لرؤية ثمرة حبه والتي جمعت بينهما بعد وقت طويل من المعاناة والشقاء ...
تملكه القلق الممزوج بالخوف وهو يدلف إلى داخل تلك الغرفة الصغيرة ذات اللون الوردي، وإستمع إلى أنين ضعيف ينبعث من فراش صغير يتوسط الغرفة ..
إزدرد ريقه بإرتباك كبير، وبحذر شديد دنا من الفراش ..

حبس أنفاسه وهو يسلط أنظاره على ذلك الملاك الغافل ..
إنها لحظة لا توصف بالنسبة له، إحساس رهيب بالسعادة الغامرة سيطر عليه كلياً .. وإنسابت عبراته عفوياً حينما وقعت عينيه عليها .. وأمعن النظر فيها مطولاً قبل أن يمد يده المرتجفة لحملها ..
هي تملك سمات والدتها الخارجية .. لون البشرة والشعر .. نفس الشفاه .. ولكن لم يرْ عينيها بعد ..

فلديها بشرة بيضاء فاتحة
وبحذر شديد مرر ذراعيه أسفل منها ليتمكن من حملها ..
إنها قارورته الغالية، جوهرته الثمينة التي يخشى إيذائها ..
تنهد بحرارة وهو يقرب وجهها منه لطبع قبلة أبوية حانية على بشرتها الرقيقة ..
تململت الرضيعة بين ذراعيه، فإرتجف قلبه خوفاً عليها ..
ظن أنه يؤلمها بقبضته، ولكنها كانت تتثاءب، فضحك باكياً ..

قرب رأسها منه، وقبلها مجدداً، ثم همس في أذنها:
-تبارك الله، إنتي .. إنتي ملاكي الجميل، روحي، إنتي حياتي كلها
حركت الرضيعة وجهها قليلاً، وتأوهت بصوت آسر، فزادت إبتسامته سعادة
دلفت الطبيبة مارجريتا إلى داخل الغرفة لتفحص الرضيعة، لكن لم ينتبه لها أوس، فتابعتهما بنظرات مترقبة، وإندهشت من حديثه معها، وتفاعل الرضيعة معه وكأنها مستمتعة بما يقصه عليها ..
أمال أوس رأس الصغيرة للأعلى، ثم قرب فمه من أذنها ليؤذن فيها بصوت خفيض ولكنه ساحر، أعجبت به الطبيبة وإبتسمت .. ثم تركتهما معاً دون أن تصدر جلبة ..

أفاقت تقى بعد برهة، وتلفتت حولها لتدقق النظر فيمن متواجد معها ..
إستمعت إلى مزيج من أصوات أبيها وأمها، وكذلك خالتها وليان، وسألت بصوت واهن:
-ف.. فين ب.. بنتي ؟
ردت عليها ليان بنبرة مطمئنة:
-الحمدلله بخير، هي مع أوس
هتفت تهاني بسعادة:
-حمدلله على سلامتك يا بنتي، تتربى في عزك وفي عز أبوها.

بينما أضاف عوض قائلاً بهدوء:
-الحمدلله يا بنتي، ربنا معاكي ويحفظهالك، وتكون زيك صالحة وتقية
هتفت فردوس هى الأخرى بصوت شبه مرتفع:
-مبروك يا حبيبتي، ربنا يباركلك فيها وتكون ونعم البنت البارة بأمها!
أردف عدي قائلاً من بعيد:
-حمدلله على سلامتك يا مدام تقى، ومبروك المولودة!
ولجت الطبيبة مارجريتا إلى داخل الغرفة لتفحص مريضتها، وجاءت بصحبتها ممرضة ما ..
فسألتها تقى بصوت متقطع:
-ب.. بنتي كويسة ؟

ترجمت لها الممرضة سؤالها، فأجابتها الطبيبة قائلة بإبتسامة مرحة:
-She's with her father , and he's singing to her ( هي مع أبيها، وهو يغني لها بسعادة )
بعد لحظات ولج أوس للداخل وهو يحمل بين ذراعيه برفق شديد كنزه الثمين ..
ركضت ليان نحوه، وأصرت على حمل الرضيعة لكنه رفض، فإمتعض وجهها، وهتفت بعبوس:
-أوكي يا أوس، مش هنسهالك
ابتسم أوس وهو يقول بجدية:
-ممكن تسيبوني مع مراتي وبنتي شوية
هز عدي رأسه وهو يرد عليه:
-خد راحتك يا باشا، احنا هنستناك برا.

وبالفعل أخرج رفيقه الجميع من داخل الغرفة ليظل أوس مع زوجته وابنته ...
دنا هو من الفراش، وبحرص بالغ أسند الرضيعة إلى جوار والدتها، ثم احنى جذعه عليهما ليقبلهما سوياً ..
إرتسم على ثغر تقى إبتسامة باهتة، وسألته بصوت ضعبف:
-ها .. حلوة ؟

رد عليها بخفوت وهو يمسح على جبينها:
-دي حتة منك! بس لسه مش عارف لون عينيها
أضافت بصوت هامس:
-بعدين هيبان! فكرت هاتسميها ايه ؟
أجابها بعد تنهيدة مطولة:
-ايوه
-ايه هو ؟
سألته تقى بفضول وهي تطالعه بنظراتها
إبتسم لها قائلاً بعذوبة:
-هاسميها (( حياة ))!
قطبت جبينها مندهشة، ورمقته بنظرات إستغراب وهي تردد:
-حياة ؟

هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يجيبها بهدوء:
-أيوه .. لأنها حياتي كلها، ودنيتي الجديدة اللي ماتمناش غير إني أعيش فيها معاكي ومعاها ..!
إبتسمت له إبتسامة رقيقة وهي تضيف:
-وأنا موافقاك، هي حياة لينا كلنا، بداية أحسن وأفضل للي جاي!

تعلق أوس بالرضيعة حياة تعلقاً شديداً حتى باتت هوسه الكبير، والمصدر الرئيسي لسعادته الحقيقية .. وخاصة أنها كانت تحمل لون عيني والدتها، فباتت نسخة ملائكية مصغرة منها ..
لم يفارقها إلا للحظات محددة، وكثيراً ما كان يصطحبها معه لمقر شركته الرئيسي حتى أنه خصص لها في غرفة مكتبه ركناً خاصاً باللعب حتى تكون تحت أنظاره حينما يكون مشغولاً عنها .. ولم يهتم برأي العملاء ولا الموظفين.. فهو في النهاية صاحب تلك المجموعة ويحق لها التصرف كيفما يشاء ...

وذات يوم، وبينما كان هو مندمجاً في التحضير لأحد إجتماعاته الهامة .. أخبرته السكرتيرة بميعاد إجتماع مؤجل مع بعض الوكلاء التابعين لشركة أجنبية والذي تقارب وقته مع إجتماعه الأخر، فإضطر على مضض أن يخصص لهم بعض الدقائق للإلتقاء بهم على عجالة، ومن ثم تحديد ميعاد أخر لتناول كافة الأمور بالتفصيل ..
فولج إلى داخل مكتبه هؤلاء العملاء الجدد، وتجاهل أحدهم التنبيه اللاذع الخاص بعدم التدخين .. فأشعل ذلك الوكيل ( الغليون ) الخاص به، وألقى بعود الثقاب على الأرضية اللامعة دون إكتراث ..

أحضر الساعي صينية مليئة بالمشروبات الباردة، وإنزعج من رؤية ذلك الوكيل يدخن، فحذره قائلاً:
-ممنوع التدخين هنا يا فندم ؟
رمقه الوكيل بنظرات إحتقارية وهو يسأله بتهكم:
-ليه، هو مكتوب هنا مستشفى ؟
رد عليه الساعي بهدوء:
-لأ يا فندم، بس دي تعليمات أوس باشا، واللي بيخالفها بيبقى في إجراء معاه
لوى الوكيل فمه إستهزائاً، ثم أطفأ غليونه على مضض ..

ولج أوس وهو يحمل رضيعته على ذراعه، فرمقه الوكلاء بنظرات متعجبة، ولكنه لم يكترث بهم .. وأسندها في الزاوية الخاصة بها ..
ثم عاد إليهم، وأردف قائلاً بخشونة وهو يشير بيده لهم لكي يجلسوا:
-اتفضلوا، أنا هاحدد ميعاد تاني معاكو، بس الأول عاوز اخد فكرة صغيرة عن طبيعة عمل الشركة على أرض الواقع مش الكلام المكتوب في الورق!
-أكيد طبعاً
قالها أحد الوكلاء بنبرة جادة، ثم إستعرض بإختصار أهم إنجازات الشركة في مجالها ..

في تلك الأثناء كانت الرضيعة حياة قد تعلمت الحبو، وبدأت تزحف على قدميها وساقيها، فتحركت في اتجاه أبيها بحماس، واللعاب يسيل من فمها الصغير ..
لفت أنظارها عود الثقاب المُلقى على الأرضية، فإلتقطته بإصبعيها الضئيلين، وحدقت فيه بفضول كبير ..
لاحظ أوس تعلق أنظار أحد الوكلاء بشيء ما خلفه، وشروده عن المحادثة، فإستدار برأسه للخلف ليجد (( حياته )) ممسكة بعود الثقاب وتقربه من فمها لتبتلعه، فصاح بصوت هادر:
-حياة!

فُزعت على أثره الرضيعة، وبكت بخوف، فأسرع نحوها وحملها بين ذراعيه، وقبلها بحنو أبوي، ثم جذب من أيدها ذلك العود .. وهدأها بحركات بسيطة، ولكن إستشاطت نظراته غضباً وهو يعاود النظر إلى الوكلاء ..
سألهم بصوت قاتم يحمل الشراسة:
-مين فيكم كان بيدخن هنا ؟
ساد الإرتباك والقلق بينهم، وأجابه أحدهم بتلعثم:
-م.. محدش، إحنا.

قاطعه أوس بصوت هادر ومخيف وقد تحولت نظراته للعدائية:
-أنا هاشوف في كاميرات المراقبة مين فيكم عمل كده وهيتحاسب عن ده، ومش هارحمه!
ابتلع المخطيء ريقه، ورد عليه بنبرة مرتجفة:
-يا باشا أنا مقصدش، ده كان سوء فهم مني وآآ...
قاطعه أوس بنبرة عنيفة:
-اعتبروا أي اتفاق لاغي، حياة بنتي أغلى من أي اتفاق أو صفقة، واللي يكسر قانون أوس الجندي مالوش مكان عندي ..!

ثم رمقهم بنظرات إحتقارية، وتابع بجمود أشرس:
-برا!
إنصرف الوكلاء من مكتبه وهو يلعنون حظهم العثر ..
حدق أوس في صغيرته بنظرات حنونة للغاية، وداعب طرف ذقنها بإصبعه، ولكنها خدشته بكفها، فتأوه من الآلم، وعاتبها قائلاً بخفوت:
-آآي .. ينفع كده، شكلك زي مامتك، مش بتسكني عن حقك
ردت عليه الرضيعة بحرف واضح:
-ب..ا... با .. با .. ب.. آآ...

خفق قلب أوس بقوة، وسألها بتلهف وهو يطالعها بنظرات عاشقة:
-انتي بتقولي ايه يا حياة
استمرت الصغيرة في ترديد:
-ب..آآ.. با .. ب.. آآ.. با
هتف أوس مجدداً بعدم تصديق وهو يمطرها بوابل من القبلات:
-إنتي بتقولي بابا، حبيبة قلبي وروحي وحياتي كلها يا حياة!

بعد مرور 3 سنين
انتهت ليان من دراستها الجامعية بالجامعة الأمريكية، وتخرجت منها لتلتحق بالعمل في المقر الرئيسي لشركات الجندي ...
لم يخفْ عدي سعادته بزوجته التي أثبتت براعتها، وتفوقها بالإضافة إلى نضوجها كأنثى عاقلة ...

كذلك تابعت تقى مع خالتها تهاني العمل في دار التقى لرعاية المسنين، وعاونهما عوض وزوجته فردوس في تجهيز كرتونات الطعام للمحتاجين وتوزيعها عليهم، ورغم مرض فردوس والذي تضاعف بدرجة كبيرة حتى باتت غير قادرة على الحركة إلا أنها أصرت على المشاركة بما في وسعها لتكفر عن ذنبها في أيامها الأخيرة ...

أصر أوس على الإنتقال لقصر جديد قام بتأسيسه ليتناسب مع حجم عائلته والذي زاد بإنضمام عضو أخر إليه إكتسب الكثير من سماته الجادة والقوية ونظراته الثابتة ..
أسماه (( ريان ))، وأحبه حباً جماً، ولم يفرق في المعاملة بينه وبين أخته الكبرى .. ولكن إحتفظت حياة بمكانة خاصة في قلبه ...

أغلقت تقى حاسبوها المحمول بعدما إنتهت من كتابة الفصل الأخير من روايتها الأولى والتي عكفت على كتابتها في وقت فراغها، لتكون هي باكورة إنطلاق أعمالها الأدبية ..
، ثم نزعت نظارتها الطبية عن أنفها، وفركت عينيها بإرهاق ..
إستمعت إلى صوت صغيرتها وهي تهتف ببراءة وهي ممسكة ببالون صغير في يدها:
-مامي، آعبي ( العبي معايا )!
ركضت تقى في إتجاه صغيرتها لتلهو معها قليلاً، ولكن تركتها الصغيرة لتركض في إتجاه والدها حينما رأته وهي تهتف بسعادة واضحة:
-بابي .. بابي!

-روح قلب وحياة بابي!
قالها أوس وهو يحمل حياته، وقبلها بشغف، ثم داعب وجنتها بإصبعه، ودغدغها في جسدها، فتعالت قهقهاتها الطفولية الآسرة ..
اقتربت تقى وهي تجر عربة الصغير ريان، وهتفت متذمرة:
-واحنا مالناش في الحب ده ؟!
دنا أوس منهما، واحنى رأسه ليقبل حبيبته، وهو يردد بهدوء:
-ده انتي الحب الأول والأخير ..
ثم أعطاها الصغيرة لتحملها، وانحنى أكثر ليحمل ابنه ريان من عربته، فأمسك الرضيع بأذنه، وظل يتفحصها ويتلمسها وكأنها إكتشافه الهام و الكبير ..
طوق أوس بذراعه زوجته وطفلته، وضمهما إلى صدره، وهمس بتنهيدة إرتياح:
-ربنا يخليكوا ليا!

بعد مرور عشرون عاماً
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
وقف أوس أمام ذلك الحائط الزجاجي بجسده الشامخ، وهيبته التي لا تليق إلا به، ثم عقد كفيه خلف ظهره، وتأمل المشهد الخارجي لحركة السيارات بنظرات شبه شاردة ..
فقد عاد بذاكرته إلى لحظات مميزة قضاها مع حبيبته الأولى والأخيرة ..
فإلتوى ثغره بإبتسامة ناعمة وهو يتذكر ذكريات حمل تقى المرحة معه ..

فلم ينس دقاتها المتواصلة على باب المرحاض أثناء اغتساله، فيضطر أسفاً للخروج دون أن ينعم بإستحمام هانيء، وتدفعه هي بعنف للخارج لتدخل وتصفق الباب خلفها لتقضي حاجتها ...
كما أدهشه شراهتها لتناول ثمار الخوخ في أوقات مختلفة من اليوم، وبحثه ليلاً عنها في محال البقالة الشهيرة حتى في أوقات عدم وجودها، وطلبه إستيرادها من الخارج خصيصاً لها، ثم نفورها المفاجيء منها، وتحول حبها للزيتون ..
قهقه بصوت خافت وهو يتذكر تخبئتها لبرطمان المخللات أسفل الفراش، وشمه لتلك الرائحة النفاذة التي أرقت منامه، وإنكارها لهذا، ثم إكتشافه له أثناء بحثه عن حذائه ..

تذكر أيضاً بكائها الغير مبرر وهي تصر على مشاهدة تلك الأفلام القديمة ذات الطابع الحزين .. فكان يناولها المناشف الورقية واحدة تلو الأخرى لتجفف عبراتها وتمسح أنفها، ثم يحتضنها بعاطفة قوية ليواسيها رغم عدم إقتناعه بما يراه ..
ولم يغبْ عن ذاكرته عجزها عن غلق سحاب بنطالها بسبب إنتفاخ بطنها، وإستعانتها بأحد بناطيله الجديدة لترتديها كبديل عنه .. واضطراره لإرتداء شيء أخر لا يليق من أجلها فقط ..

ذكريات تليها ذكريات تسابقت في عقله، ليسرح فيها أكثر ..
من دخول طفلته حياة للمدرسة، وتعلقها بعنقه، وتشبثها به، وبكائها المتواصل لتركه إياها، وإضطراره للبقاء أمام باب مدرستها طوال اليوم للإطمئنان عليها ..
لحظة حصول ابنه ريان على أول ميدالية في السباحة، وفخره به .. وركضه عليه ليريه إياها ..
نجاح العمل الأدبي الأول لزوجته، وتحويله إلى فيلم سينمائي وتكريمها ..
سعادة حقيقية تذوقها مع عائلته وهو يعيش وسطهم أجواء الأسرة الهادئة المستقرة التي لم يحظ بها في حياته السابقة ...

عاد أوس إلى واقعه الحالي، وطالع بنظرات دقيقة ذلك الشاب الفتي الذي يحمل الكثير من صفاته الجسمانية وملامح وجهه وهو يدلف لداخل مؤسسته العريقة ...
والتوى فمه بابتسامة مغرية وهو يعبث بأصابعه بالشيب الذي يكسو شعره .. وتلك العلامة البارزة، والمحفورة في جبينه ..
وهمس لنفسه بمزاح وهو يتذكر وصفها له:
-شيخ الشباب!

إستدار بجسده نحو مكتبه، ليحدق في صور زوجته الموضوعة في برواز ذو إطار فضي مميز ..
تلمسه بأصابعه، ثم رفعه لينظر إليه عن كثب ..
سحب مقعده بيده الأخرى، وجلس عليه ليطالعها بنظرات شغوفة لم ينتقص قدرها بمرور السنون ...
أعاد وضع البرواز على سطح مكتبه، وأمسك بقلمه ليكتب عبارة تعني له الكثير على بطاقة صغيرة إعتاد إرسالها في مثل هذا اليوم من كل عام مع باقة ورد حمراء ..
فهو اليوم الذي أعلنت فيه عن حبها له، وقبلت أن تكمل حياتها معه وأسلمت له قلبها قبل جسدها .. فحظى بعشقها، وبات أسعد الرجال ...

خط أوس بقلمه بلغة منمقة:
(( وﻷجلكِ فقط .. انحنت أقوى وأعتى الذئاب ))

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة