قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الخامس

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الخامس

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في المشفى الحكومي
في غرفة العناية
-تقى ..!
قالها أوس بصوت ضعيف وهامس جعلها تتسمر في مكانها مصدومة ..
تسائلت بأنفاس لاهثة هل تتوهم ما سمعته تواً، هل أحلام اليقظة بدأت تراودها، فظنت أنه يخاطبها ...
-ت... تقى!

قالها مجدداً بصوت أكثر همساً .. فأدارت رأسها نحوه، وحدقت به بأعين مشدوهة .. فرأته يحرك رأسه للجانب .. ولكنه مغمض العينين ..
أسرع الطبيب نحوه، وتفقده بإهتمام، فتابعته بأنظارها المذعورة، ولم تنبس ببنت شفة، وتجمعت أفكارها حول كونه يتحدث إليها
نظرت إليها الممرضة بضجر، وأردفت قائلة بجدية:
-برا يا مدام الوقتي خليني أشوف شغلي
نظرت لها تقى بأعين لامعة، وهمست بعدم تصديق:
-هو .. هو بيتكلم! ق.. قال اسمي!

ردت عليها ببرود قاسي:
-دي هلاوس البنج، مافيش حاجة!
ثم قبضت على ذراعها، وسحبتها للخلف وهي تتابع بضيق:
-من فضلك برا ماتجبليش مصيبة!
توسلت لها بإستعطاف بائن في نبرتها:
-سبيني بس آآ...
قاطعتها بجمود وهي تتحرك بها إلى خارج الغرفة:
-لما يعدي مرحلة الخطر هتبقي تزوريه براحتك، غير كده انتي هاتقطعي عيشي
همست تقى بإرتجافة قوية:
-أنا .. آآآ.

نظرت لها بتحذير وقاطعتها بصوت حاد:
-من فضلك يا مدام، متخلنيش أندم إني عملت معاكي معروف!
ثم إصطحبتها إلى خارج غرفة العناية، وأغلقت الباب خلفها .. فوقفت تقى بمفردها وحيدة خائفة في الممر الكئيب وهي على وشك الإنهيار ..
طوقت جسدها بذراعيها لعلها تبث إلى نفسها شعورها بالآمان، ولكن ما زاد هذا إلا من رعبها.. فهي دوما وحيدة.. لا يساندها أحد إلا والدها الكهل، والذي بات عاجزا في الأشهر الأخيرة .. إستندت بظهرها على الحائط المشقق .. وتلفتت حولها بحسرة ..

نعم لا أحد معها، لا أحد يشد من أزرها ويبث في روحها السكينة ..
هي ضعيفة، قليلة الحيلة .. تجاهد للصمود، لكنها تعبت وأرهقت .. ولم تعد تتحمل ...
هوت على الأرضية لتجلس ضامة ركبتيها إلى صدرها، وأحاطتهما بذراعيها، وإنتحبت بخفوت ..

في سيارة عدي
أرسلت السكرتيرة أرقام صاحب موقع الصحافة الإخبارية - والذي نشر تلك الأخبار المغلوطة عن أوس الجندي- إلى عدي في رسالة خاصة ...
كز على أسنانه بحنق وهو ينتظر بفارغ الصبر رد صاحب الموقع عليه ..
ضرب بيده المقود، وصاح غاضباً:
-ابن ال ... مش بيرد
مطت عفاف شفتيها وهي تضيف بحذر:
-اهدي يا عدي باشا، كل حاجة بتيجي بالعقل
انفجر قائلاً بصوت حاد:
-عقل ايه السعادي!

زاغت عيني تهاني، وتسائلت بتلهف أمومي حقيقي:
-ابني .. طمني عليه، حصله ايه ؟
نفخ عدي بضيق وهو يضع الهاتف على أذنه:
-ثواني يا مدام تهاني
بعد لحظة سمع صوتاً أجشاً يأتيه من الطرف الأخر قائلاً:
-ألوو ..!
سأله عدي بنبرة محتدة وهو محدق أمامه بشراسة:
-انت وفيق ؟

رد عليه وفيق متسائلاً:
-مين معايا ؟
تابع هو قائلاً بقوة بادية في نبرته:
-أنا عدي عبد الرحمن مدير مكتب شركات الجندي للصلب، وصاحبه لو متعرفتيش
تنهد الصحفي وفيق قائلاً بإستخفاف:
-أها، تشرفنا
صاح عدي بغضب وهو مكور قبضة يده:
-ايه الكلام الغريب اللي انت نشره عن صاحب المجموعة ومراته
سأله الأخير بنبرة غير مبالية:
-قصدك مين ؟

أردف عدي قائلاً بسباب صارخ:
-ماتحورش بروح أمك، يعني مش عارف مين ؟
حذره وفيق بصوت هاديء ب:
-اتكلم عدل معايا يا أستاذ، وإلا هارفع عليك قضية سب وقذف، انت مش عارف أنا أكون مين، ولا ايه السلطة اللي في ايدي!
رد عليه عدي بنبرة تهديد غير مكترثة به:
-لأ الظاهر إنك انت متعرفنيش كويس، أنا أقدر أقفلك موقعك وجريدتك وأشردك على الأخر!
سأله الأخير بنبرة جافة:
-ليه كل ده ؟

صاح عدي بنبرة جهورية متشنجة:
-انت عارف ليييييه!
رد عليه وفيق ببرود مستفز:
-لأ مش عارف، وضحلي!
صر عدي على أسنانه بقوة وهو يجيبه:
-أوس الجندي!
-أها .. ماله!
هدر به بصوت محتقن:
-ايه التخاريف اللي بتكلم فيها عنه ؟!

أجابه وفيق بنبرة باردة:
-وهو أنا جبت حاجة من عندي!
اشتعلت عيني عدي، وزادت نظراته حدة، وتسائل بشراسة:
-قصدك ايه ؟
رد عليه وفيق بتهكم واضح:
-يعني يا مدير مكتب الباشا، يا اللي المفروض تكون عارف كل حاجة عن رئيسك، الأخبار المنشورة صحيحة
فغر عدي فمه في عدم تصديق:
-نعم!

تابع وفيق حديثه بثقة بالغة:
-ايوه، وكلها موثقة وبالصور، مافيش حاجة عندنا متفبركة
صرخ به عدي مستنكراً:
-انت كداب
أردف وفيق قائلاً بهدوء مستفز:
-عيب عليك يا حضرت تقول كده، ده حتى وحشة في حقي
صاح عدي بنبرة عدوانية مهددة:
-قسماً بالله هادمرك لو آآ...
قاطعه وفيق بجمود:
-طب ما تخطف رجلك عند مستشفى (( ... )) و هتتأكد بنفسك!

أضاف عدي قائلاً بتوعد حقيقي:
-لو طلع حرف واحد كدب من كلامك هاتتنسف، مش بس مني، لأ من أوس الجندي نفسه
رد عليه وفيق بنبرة مستفزة:
-بلاش تقول كلام مش أده، احنا صحافة محترمة، سلام يا أستاذ
ثم أنهى المكالمة على الفور، فضغط عدي على شفتيه ليسب بوقاحة:
-يا ابن ال ... يا ...
تسائلت تهاني بنبرة هلعة:
-ابني! جراله ايه
جاهد عدي ليتمالك أعصابه، وظل ينفخ بغضب .. ثم استدار برأسه للخلف، وتشدق قائلاً بتشنج:
-مدام تهاني، أنا هوصلك على بيتك في الحارة، وآآ...

قاطعته بإصرار شديد وهي تهز رأسها معترضة:
-لأ ... مش هاتنقل ولا أروح اي حتة إلا لما أشوف ابني، ده روحي يا ناس!
تسائلت عفاف بحذر وهي تنظر بتوجس إليه:
-خير يا عدي باشا
زفر عدي بصوت واضح مجيباً إياها بحنق:
-أوووف، واضح انه مش خير على الاخر
ثم ضغط على رقم هاتف شركة الحراسات الأمنية التابعة لشركات الجندي، ووضع الهاتف على أذنه، وأردف قائلاً بجمود:
-ألوو .. معاك عدي عبد الرحمن
ضيق عينيه أكثر ليكمل بقوة:
-عاوز مجموعة من الحراسة بس على أعلى مستوى تروحلي على مستشفى (( ...)) فوراً، ويسألوا عن الباشا أوس، ولو لاقوه هناك يتأمن المكان اللي هو فيه، مش عاوز مخلوق يقربله .. سامع أي حد مهما كان مين، وأي غلطة هتتحاسب فيها قصادي، فاهم!
ثم أنهى المكالمة، وأدار المحرك لينطلق بالسيارة صوب المشفى ...

في مكتب المحامي أمجد سعفان
ظل سامي يجوب غرفة المكتب ذهاباً وإياباً والغضب الممزوج بالإنفعال مسيطر عليه .. ثم توقف فجأة عن الحركة، وتحرك في إتجاه المكتب، وضرب بقبضتيه بحنق على سطحه، وصاح بغضب:
-أنا كده روحت في داهية، أوس مش هايسكت غير لما يعرف مين اللي كان ورا محاولة قتله، وينتقم منه
رد عليه أمجد بهدوء حذر:
-اهدى بس يا سامي بيه، مافيش قلق
صاح به سامي بصوت هادر وهو يلوح بذراعيه في الهواء:
-عاوزني أهدى ازاي وأنا روحي على كف عفريت، إنت مش شايف الخبر قالب الدنيا ازاي ؟!

إبتسم له أمجد مجيباً إياها بهدوء:
-لأ شايف، وعادي جداً
أردف سامي قائلاً بسخط:
-يا اخي نفسي يبقى عندي برودك
أخذ أمجد نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم تحدث بنبرة متريثة:
-شوف أنا عاوزك تعمل اللي هاقولك عليه بالنص، وأنا أضمنلك محدش هايفكر فيك
-هاه.

تابع قائلاً بخبث:
-في الأول انت تكلم اخوك مهاب وتطمن منه على أوس، وتعرف منه ايه أخر التفاصيل والأخبار اللي عنده، وخصوصاً إن الموضوع بقى فيه عشيق وخيانة، يعني زنا وكلام هيخدمنا أوي
لمعت عيني سامي ببريق شيطاني مخيف .. فحديث محاميه اللئيم أمجد قد أثاره بشدة، وجعله يهدأ نوعاً ما .. فتسائل بفضول:
-أها .. وبعدين ؟!

أراح أمجد ظهره في المقعد، وأكمل بمكر:
-بعدها بقى تفضل ملازمله وتسانده، واحنا هنشيل الليلة كلها من أولها لأخرها لحد تاني من الألاضيش!
ضيق سامي عينيه في حيرة، وقال مستفهماً:
-مش فاهمك! تقصد ايه ؟
إنتصب أمجد في جلسته، وحدق في عينيه بنظرات قاتمة، وتشدق قائلاً بخسة:
-شوف من الأخر كده هيلبس الحكاية دي كلها واحد سكة، وأنا خلاص عرفت هايكون مين
جحظت عيني سامي وهتف بصدمة:
-اوعى يكون الواد آآ...

أومأ أمجد برأسه إيجاباً وهو يرد عليه بصوت جاد:
-بالظبط .. هو اللي في بالك!
قهقه سامي عالياً، وإرتخت ملامح وجهه المتشنجة، وتابع بإعجاب مثير:
-ده انت طلعت دماغ!
أرجع أمجد ظهره للخلف مجدداً، وإلتوى فمه بإبتسامة شيطانية وهو يضيف:
-ده انا بألعب بالبيضة والحجر! هايستعصى عليا حتى جناية زي دي تتقلب لآداب وآآ.. انت فاهم بقى!
هتف سامي قائلاً بحماس:
-الله .. الله! هو ده الكلام!

في قصر عائلة الجندي
انتفض مهاب مفزوعاً من على مقعد مكتبه بعد أن ورده إتصالاً هاتفياً من كبير الأطباء بمشفاه ليبلغه فيه عن صحة خبر إصابة ابنه الوحيد بطلق ناري، ثم صاح بإهتياج:
-منشور فين الكلام ده ؟
أجابه كبير الأطباؤ بتوجس:
-على الفيس بوك ومواقع الأخبار الإلكترونية
إتسعت مقلتيه بشراسة وهو يهتف بعدم تصديق:
-ابني أنا يتقتل! طب ليه ؟ كدب، استحالة يحصل!
ثم صر على أسنانه بشدة، وتسائل بغضب:
-انت متأكد من كلام الصحفي الغبي ده ؟ ولا أي كلام بيتنشر والسلام ؟

ابتلع كبير الأطباء ريقه، وأجابه بنبرة مرتبكة:
-واضح انه مش هزار يا د. مهاب، لأن .. لأن الموضوع داخل فيه المدام تقى كمان
إشتعلت حدقتي عينيه أكثر، وصرخ بصوت مخيف:
-ميييين ؟
تردد كبير الأطباء وهو يجيبه بحذر:
-م.. مرات أوس باشا!
أطلق مهاب سبة لاذعة في حق تقى، وتابع قائلاً بصوت آمر:
-هاتلي عنوان المستشفى اللي بيقول إن ابني فيها، وجهز أكبر طقم طبي من عندنا، ويسبقوني على هناك
-أوامرك ..!
ثم خطى مهاب مسرعاً نحو الخارج وعقله مشتتاً من هول المفاجأة ...

في المشفى الحكومي
لم تدرْ تقى كم مر عليها من الوقت وهي جالسة على الأرضية شاردة في آلامها ومرتعشة من البرودة التي تسيطر على جسدها الهزيل ...
ولكن تسرب إلى آذانها صوت ضوضاء قريبة، فإرتجف قلبها بشدة، وظنت أن الأسوأ قد حدث ..
فرفعت رأسها عالياً، وأرخت ذراعيها عن ركبتيها، وإستندت بكفها على الحائط لتنهض عن الأرضية ..
بدت مذعورة وهي تحاول استشفاف ما حدث ..
إلتفتت برأسها ناحية باب غرفة العناية، وحاولت أن ترى ما يحدث بالداخل ...

كان السكون هو سيد الموقف، فإنتبهت إلى وجود تلك الهمهات من الخارج، فإستدارت بجسدها للخلف، وصارت ناحية الدرج ..
وإذ بها تتفاجيء بحالة من الهرج والمرج عليه .. أمعنت النظر في المتواجدين، فرأت العديد من الأشخاص ذوي الملابس العادية والرسمية، والكثير من كاميرات التصوير ..
جحظت بعينيها مصدومة، وتسائلت مع نفسها بخفوت:
-هو .. هو في ايه ؟

انتبه لوجودها أحد الأشخاص، فصاح بصوت جهوري:
-مراته أهي، بسرعة الحقوها
تراجعت متوجسة للخلف، وزاد خوفها من إندفاع هؤلاء الغرباء نحوها ..
وفجأة تم إحاطتها بهم، وسلطت العشرات من العدسات نحوها، وسطع وميض الفلاشات بشدة ليزعج عينيها المتورمتين ..
تسائل أحدهم بصوت جاد:
-ممكن يا مدام تقوليلنا جوزك اتصاب ازاي ؟
وأضاف أخر بصوت لاهث
-مين أعدائه ؟
وأردف أخر قائلاً بصوت مرتفع:
-كنتو فين وقت وقوع الجريمة ؟

تشدق أحدهم متسائلاً بنظرات حادة:
-اشمعنى أوس الجندي تحديداً ؟
بينما تابع أخر بفضول:
-هل في عداوات خفية مع أوس الجندي ؟
-ايه حقيقية وجود خلافات أسرية وزوجية ؟
-هل آآ...
نظرت لهم تقى بخوف، وإرتعدت بشدة من أسئلتهم ونظراتهم الجريئة، وحاولت الإحتماء منهم، ولكنها كانت محاصرة رغماً عنها بسبب عددهم المتزايد ..

وضعت يديها على أذنيها لتصمهما، وصرخت بإهتياج:
-ابعدوا عني، سيبوني في حالي!
وضع أحدهم يده على كتفها، فإنتفضت وهي تشهق برعب من لمسته المباغتة لها، ونظرت له بهلع .. وصاحت بصوت مرتعد:
-ماتلمسنيش!
رأت هي إبتسامة صفراء بغيضة تلوح على وجهه، ثم سألها بقسوة:
-هل فعلاً في عشيق سري ليكي هو اللي حاول يتخلص من جوزك، وآآ.. انتي فاهمة يعني يا مدام!
صرخت فيه بصوت محتج:
-اخرس.

لوى فمه ليضيف ببرود قاتل:
-ممم.. ده مش كلامي على فكرة، كل الأخبار بتقول كده، إنك على علاقة بواحد!
احتقن وجهها بحمرة الغضب، وبرزت عروقها، وصرخت فيه بإنفعال:
-كدب .. كدب!
تشدق أخر قائلاً بنزق:
-يعني دي جريمة مخططة ؟
بينما لاحقها ثالث بسؤال جدي قائلاً:
-ايه ردك في آآ...
تلفتت حولها بذعر، بحثت عن مخرج، لكن لا مفر .. فالطوق محكم حولها ..
أصبحت أسيرتهم رغم حريتها، مجرمة مدانة رغم براءتها .. و الأخطر ( زانية ) رغم طهرها وعفتها ...

ورغم تلك الإتهامات المجحفة التي تشيب لها الرأس إلا أن تركيزها منصباً على حماية نفسها من لمساتهم الجريئة على جسدها وكأنهم استبحوه .. وكافحت لتبعد تلك الأيادي الممتدة نحوها، وظنت لوهلة أنها محاطة بذئاب تبرز أنيابها بشراسة، وعلى إستعداد تام لإغتنام الفرصة لإفتراسها إن إتيحت لهم ...
صرخت تقى مستغيثة:
-ابعدوا عني، سيبوني، لألألألألألأ!

وفجأة صاح أحد ما من الخلف بصوت غليظ وجهوري:
-ايه الدوشة اللي هنا ؟
التفت المعظم نحو مصدره، فرأوا طبيباً كبير السن يرمقهم بنظرات حادة، فتسائلوا عن هويته فيما بينهم، بينما تابع قائلاً بإنزعاج وهو يلوح بيده:
-مين اللي سمحلكم تيجوا هنا ؟
صدرت همهمات عالية مختلطة، لم يفهم منها ذلك الطبيب المسن أي شيء ..
في نفس الوقت لكز حمدي حُسنية في كتفها قائلاً بخسة:
-دي فرصتنا يا بت عشان نستفرد بالمدام ونعرف تفاصيل منها
سألته بحيرة:
-عاوزني أعمل ايه ؟

أجابه بخبث وهو محدق في تقي:
-خشي جريها من وسط الجرمأ ( الحشد ) ده، وهاتيها معاكي على أوضة التمريض .. محدش فيها الوقتي، واحنا هنسألها هناك على استفراد، ها فهمتي ؟
-أيوه يا عصفورة
وبالفعل تحركت حسنية تجاه التجمع المحيط بتقى، ثم اخترقت صفوفهم لتتمكن من إنتشالها، ومن ثم إحتضنتها بذراعيها، وصاحت بجدية:
-تعالي معايا يا مدام ..!

إلتفتت لها تقى بأعينها اللامعة، ورمقتها بنظرات راجية لتنجيها مما هي فيه .. فإحتوتها الأخيرة، و إندفعت بجسدها بقوة لتتمكن من إخراجها من وسطهم وهي تضيف بحدة:
-وسع يا أخ انت وهنا .. اوعوا كده!
أُجبر الصحفيين على إفساح الطريق لهما، فتنفست تقى الصعداء، وتسرب إليها بريق أمل بعد تدخل إحداهن لتساعدها في محنتها تلك ..
ابتسمت لها حسنية قائلة بخفوت وهي تشير بعينيها:
-من هنا يا مدام
رمقتها تقى بنظرات ممتنة، وهمست بضعف:
-انتي آآ..

صاح حمدي بجدية ليقاطعها من بعيد وهو يشير بيده:
-هاتيها يا حُسنية، الأوضة دي فاضية!
أومأت حسنية برأسها، وظلت تضم تقى بذراعها، واتجهت بها نحو غرفة الممرضات ليحتمي ثلاثتهم بها ...

هتف الطبيب المسن بصوت غاضب بعد رحيل تلك البائسة التي استضعفوها:
-فين الأمن هنا ؟ ازاي يسمحوا بالعدد ده يدخل بدون ما يتصرف ويمنعه!
رد عليه أحدهم بنبرة جافة:
-احنا صحافة ولينا الحرية في السؤال، والجمهور يهمه يعرف التفاصيل!
-بالظبط كده، محدش يقدر يمنعنا نوصل للي احنا عاوزينه
إغتاظ الطبيب المسن من ردودهم المستفزة، وهتف بغل:
-دي العناية، يعني في مرضى وآآ..

قاطعه أخر بنبرة غير مكترثة:
-احنا بنعملك شهرة للمستشفى التعبانة بتاعتك دي
صاح فيه الطبيب بصوت محتقن ومتعنت:
-هي مش بتاعتي، دي بتاعة الدولة، ولو عندك اعتراض عليها روح اكتب عنها في جرنالك!
ابتسم له أحدهم قائلاً بسخط:
-ماتحبكهاش يا دكتور، ما كلنا عارفين اللي فيها
لوى فمه ليرمقهم بنظرات مهينة، وصاح بنبرة أكثر حدة:
-محدش هايستنى هنا لحظة، يا أمن!
وتحرك في إتجاه الدرج ليتابع بصراخ:
-انتو يا تمرجية يا اللي هنا! مشوا العالم دي كلها.

صب حمدي بعض المياه من الدورق الزجاجي في كوب بلاستيكي، ثم غمز لحسنية بطرف عينه، فأومأت الأخيرة برأسها بخفة بعد أن فهمت مقصده ..
اقترب حمدي من المقعد الخشبي، ومد يده بالكوب لتقى، وأردف قائلاً بهدوء:
-اشربي يا مدام، بلي ريقك، ناس معندهاش دم
أمسكت هي بالكوب بأصابع مرتجفة، وارتشفت بشراهة كل محتواه ..
زمت حسنية فمها لتضيف بتعاطف زائف:
-عيني عليكي يا مدام، اتكاتروا عليكي واستضعفوكي.

ثم رسمت ابتسامة مصطنعة على ثغرها وهي تضيف بثقة:
-بس ولا يهمك، طول ما حسنية هنا ماتشليش هم أيتها حاجة، ما تقولها يا عصفورة!
شعرت تقى بالدوار يصيبها، وبحالة من الغثيان تسيطر على معدتها، فهمست بصوت واهن:
-أنا .. أنا تعبانة
ردت عليها حسنية بحزن مبالغ فيه:
-اه يا حبيبتي، من كبستهم عليكي، نفسهم يخنق ويهد!
أسندت تقى يدها على مقدمة رأسها، وتأوهت قائلة:
-آآه ..

حرك حمدي رأسه، وصاح بجدية وهو يضيق عينيه:
-سيبها يا حسنية، برضوه اللي حصل معاها مش قليل!
هتفت حسنية بضجر وهي تزم تلوي ثغرها للجانبين:
-ايوه، الضاكتور بيقول جوزك – ربنا يشفيه – حالته خطيرة، ولو عدى الكام يوم دول على خير في أمل انه يعيش!
نظرت لها تقى بقلق، وابتلعت ريقها متوجسة من مخاوف تطور حالته الصحية للأسوأ ..

أضاف حمدي قائلاً بجدية:
-ربنا على الظالم والمفتري، الحكومة مش هاتسكت، ده راجل واصل ومعارفه كتير!
تنهدت بإنهاك لتقول:
-عندك حق يا عصفورة!
غمز لها حمدي ففهمت هي مقصده، ووضعت يدها على ذراع تقى، وهمست بخبث:
-ألا يا ست الهوانم هما ضربوه ليه بالنار؟ مين اللي عمل كده وعشان ايه ؟

إغتاظ حمدي من طريقتها الهوجاء في معرفة أدق التفاصيل من فريستهما السهلة، فنهرها وهو يرمقها بنظراته المشتعلة:
-ما بالراحة يا حسنية عليها، داخلة هجم بالأسئلة!
ثم أخفض من نبرة صوته ليضيف:
-سيبها تاخد نفسها وتحكيلنا بالراحة عن اللي حصل!
احتقنت عيني تقى، وتشنجت تعابير وجهها .. وهتفت بإنفعال وهي تنهض عن المقعد:
-أنا عاوزة أمشي من هنا.

أصابتها تلك الحركة المفاجئة بدوار شديد، وكاد توازنها يختل، فأسرعت حسنية بإسنادها، وهتفت بقلق زائف:
-بالراحة يا مدام، اقعدي بس
ثم أجلستها على المقعد، فإختنق صوت تقى وهي تهتف ب:
-كفاية بقى .. مش عاوزة أسمع أي حاجة، سيبوني في حالي!
ردت عليها حسنية ببرود:
-حاضر يا مدام، اهدي!

استشاط حمدي أكثر، وكز على أسنانه قائلاً بنفاذ صبر:
-تعالي يا حسنية، سيبي الهانم تريح، وخشي اعمليلي شاي
نظرت له حسنية بإستغراب، فرمقها هو بنظرات أكثر شراسة، فلوت فمها، وابتعدت عن تقى ..
فأمسكها حمدي من ذراعها، وسحبها بعيداً في الغرفة الداخلية الملحقة بها ليوبخها بصوت خافت:
-ايه يا ولية العتة اللي نزل على مخك فجأة ؟!

ردت عليه بتبرم وهي ترفع حاجبها للأعلى مستنكرة:
-في ايه يا عصفورة، مش أنا بأعمل اللي قولتلي عليه بالحرف
رمقها بنظرات إحتقارية وهو يقول بتهكم:
-ده انتي خربتيها على الأخر
ردت عليه بضجر:
-الله! يعني كنت ألف وأدور، ما أنا فهمي على أدي
بصق أمامه قائلاً بصوت هامس:
-غبية!
نظرت له بغيظ، وسألته بإقتضاب:
-بتقول ايه ؟

رد عليها بحذر وهو يفرك وجهه:
-اسكتي بقى الوقتي، وخليني أفكر هاوصل منها للي أنا عاوزه ازاي!
في نفس التوقيت استغلت تقى الفرصة لتتسلل من الغرفة دون أن تصدر أي جلبة حتى تهرب من حصار الأسئلة الذي يطاردها أينما ذهبت .. ولا حاجة لها الآن للخوض في جدال بشأن ما يخصها مع كائناً من كان ..

أمام باب المشفى
وصلت عدة سيارات دفع رباعي مليئة برجال أشداء من ذوي الملابس الرسمية أمام باب المشفى ..
نظر العاملون بالمكان بإندهاش إلى هيئتهم، وتسائلوا بتعجب عن هويتهم ..
دلف الجميع إلى الداخل، وأسرع أحدهم في خطواته ليتجه إلى الإستقبال، وتسائل بجمود مخيف:
-أوس باشا الجندي هنا ؟

نظرت له الممرضة بتعجب، وفغرت فمها قائلة:
-هاه .. مين
حدجها الحارس الشخصي بنظرات قوية، وتسائل مجدداً بصرامة:
-الباشا أوس الجندي موجود هنا ولا لأ ؟
ابتلعت ريقها، ورمشت بعينيها في رهبة منه، وردت عليه بتلعثم:
-ث...ثانية كده هاشوف قدامي، أنا اصل الشفت بتاعي بادي من شوية وآآ...
قاطعها بصوت صارم وغليظ:
-مش عاوز رغي، بسرعة شوفي الاسم قدامك!
أحاط به باقي رجال الحراسة، وتوترت الممرضة وهي تبحث عن اسمه بين كشوف المسجلين .. ثم هتفت بصوت مرتجف:
-اه .. هو هنا، وخرج من العمليات وفي العناية آآ..

قاطعها مرة أخرى متسائلاً بصوت جاف:
-مكانها فين ؟
أشارت بيدها للأمام وهي تجيبه بصوت مضطرب:
-فوق في الدور التاني، بس الأسانسير عطلان، والسلم من هناك
تحرك الجميع في إتجاه الدرج .. وتسابقوا في الصعود عليه .. وبدأ المصورون والصحفيون المتواجدون في المكان بإلتقاط الصور لهم للحصول على سبق صحفي .. ولكنهم تفاجئوا بهم يدفعونهم جبراً بعيداً عن الطابق الثاني .. فإعترض أحدهم ب:
-ماينفعش اللي بتعملوه ده.

لم يعبأ بهم رجال الحراسة، بل استمروا في إبعاد الجميع، فتذمر أخر:
-هانشتكي في النقابة عن تصرفاتكم الهمجية
إلتقط أحد المصورين صورة فوتغرافية لما يحدث، فرأه حارس منهم، فجذب الكاميرا منه عنوة، وسحب كارت الذاكرة منها .. فصاح صاحبها غاضباً:
-هات الكاميرا بتاعتي، هوديك في داهية!
رمقه الحارس بنظرات إحتقارية ولم ينبس ببنت شفة، وحطم الكارت بقبضتيه، فصرخ الأخير منفعلاً:
-لألألألأ ..!

سارت تقى في طريقها عائدة إلى غرفة العناية لعلها تتمكن من رؤية أوس مجدداً وتحتمي بها .. فهي الملاذ الوحيد والأمن لها من كل الذئاب .. ولكنها تسمرت في مكانها مشدوهة من هول المنظر .. فلم تتوقع أن يتواجد هؤلاء الرجال الضخام المشابهين لحراسة أوس بالممر .. ويبعدون بلا تردد كل من يعيق طريقهم ..
رأها أحدهم فإقترب منها وصاح بها بقوة:
-اتفضلي يا استاذة من هنا بالذوق بدل ما تتبهدلي.

إرتعش جسدها من تهديده، وإنكمشت على نفسها أكثر، و
كانت على وشك الرد والقول أنها زوجة أوس الجندي، ولكنها خافت من هيبة هذا الرجل .. ومن ملامحه القاسية .. وظنت أنه ربما ينعتها بالكاذبة ويتطاول عليها باللفظ واليد .. خاصة بعد أن لمحت بطرف عينها ما يفعله البقية مع المتواجدين .. فخشيت على نفسها منه ..
ولكن قطع تفكيرها المضطرب صوت الحارس الغليظ وهو يشير بكفه محدجاً إياها بنظرات عدائية:
-يالا يا أستاذة من هنا.

هزت رأسها موافقة بخوف، فقد إرتعدت من أن تطالها يده، ويعاملها بعنف، وهي لن تتمكن من مقاومته .. وقبل أن تنصرف حانت منها إلتفاتة أخيرة نحو باب غرفة العناية، وتنهدت بإرهاق .. ثم سارت بحذر في إتجاه الدرج ..
زادت حيرتها فهي لا تعرف إلى أين تذهب .. وليست على ما يرام، كذلك لا يوجد معها أي مبلغ نقدي تستخدمه للعودة إلى منزلها ..
استمرت في السير بخطوات متعثرة، وراقبت الحارس الذي يلاحقها كظلها بتوجس، ولكن أوقفها صوتاً مألوفاً سمعته من قبل يناديها قائلاً بنبرة عالية وقوية:
-تقى، استني...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة