قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثاني والأربعون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثاني والأربعون

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في منزل تقى عوض الله
إستندت فردوس على إحدى جارتها لتتمكن من الصعود على الدرج، وتحملت كل الأوجاع التي تفتك برأسها من أجل الوصول إلى منزلها لتحصل على الشيك النقدي فتتمكن من علاج نفسها ...
طرقت الباب بدقات عنيفة بعد أن تعذر عليها فتحه، وهتفت بصياح:
-افتحوا الباب!

بعد لحظات أزاح عوض قفل المزلاج، ووقف على عتبة الباب ليرمقها بنظرات ساخطة ..
دفعته بيديها لتلج للداخل وبدت كالمجنونة وهي تسرع في خطواتها لتبحث عن ذلك الشيك
أوصد عوض الباب، وتحرك خلفها بخطوات متمهلة ..
ألقت فردوس بمعظم محتويات الكومود على الأرضية، وقذفت بالبقية على الفراش، وأخذت تلهث وهي تتسائل بفزع:
-راح فين الشيك ؟ هو فين
راقبها عوض بنظرات إحتقارية، ثم تسائل بنزق:
-بتدوري على ايه يا فردوس ؟

ردت عليه بصوت محتد وهي تقذف بالأشياء دون إكتراث:
-ملكش دعوة يا عوض، سيبني في الهم اللي انا فيه
تابع عوض قائلاً بجمود واضح:
-اللي بتدوري عليه معايا!
انتبهت هي إلى حديثه الجاد، ورفعت رأسها في إتجاهه، وانفرجت شفتيها بصدمة جلية ..
لوح عوض بتلك الورقة المطوية التي بحوزته، وحدجها بنظرات جافة وهو يتابع بصوت شبه غاضب:
-هو ده التمن اللي بعتي بنتك بيه ؟

ازدردت ريقها بصعوبة، وسألته بصوت لاهث:
-انت .. انت خدت الشيك ؟
أمسك عوض الشيك النقدي بكفيه، فجحظت فردوس بعينيها، .. ورغم الآلم الذي يُلهب نظراتها إلا أنه لا يقارن بهلعها من إحتمالية تمزيق زوجها له ..
فهتفت متوسلة وهي تشير بكفها:
-هاته يا عوض، أنا .. أنا محتاجاه أوي، نظري هايروح لو آآ...

لم يصغِ زوجها إليها، بل قام بتمزيق الشيك إلى نصفين غير عابئاً بنظراتها المشتعلة، ولا بتوسلاتها المتواصلة، ومن ثم مزق النصفين إلى أجزاء صغيرة، ثم ألقاها في وجهها وهو يضيف بنزق:
-شوفي حاجة تانية تجبي منها فلوس غير روح بنتك!
شهقت فردوس بصراخ غير مصدقة ما فعله تواً، ولطمت على صدغيها قائلة وهي تتحسر حالها:
-حرام عليك يا عوض، أنا ضعت خلاص، واتعميت، حرام .. لييييه كده ؟!
لم تتحمل قدماها الوقوف، فجثت على ركبتيها، وأخذت تضرب صدرها ووجهها بصورة هيسترية مثيرة للشفقة ..
ومع هذا حدجها زوجها بنظرات قاسية جافة .. وأردف قائلاً ببرود:
-يعوض عليكي ربنا يا .. يا مرات عم عوض!

في مشرحة بورسعيد
تحرك أوس بخطى ثقيلة نحو ذلك الممر الطويل البارد حتى يصل إلى تلك الغرفة شبه المظلمة ليتعرف على ما تبقى من جثمان والده بعد أن جمع أشلائه رجال المعمل الجنائي .. ومن ثم يقوم بإستلامها ..
ظل طوال الطريق إلى تلك المحافظة صامتاً لا ينبس بكلمة ..
وجهه متجمداً، نظراته قاسية ..
ورغم هذا كان يشتعل من الداخل .. ولكن لم تكن لديه أي رغبة في البكاء حزناً عليه ..

إجتاح عقله سيل هائل من الذكريات المريرة معه .. نعم فأكثر ما يذكره عنه هو جفائه المستمر، قسوته في التعامل، عنجهيته، تسلطه، نزواته الماجنة، ولياليه العابثة ..
مر بباله ذكرى ما فعله حينما كان طفلاً صغيراً - لا حول له ولا قوة - وأسلمه إلى رفيقه ممدوح ليفعل به ما يشاء على طريقته الفاجرة ..
طفولة بائسة قضاها في كنفه، وتبعتها مراهقة عصبية، ثم سنوات تالية لا يذكر فيها لحظة حنو أبوي واحدة معه ..

توقف عن السير حينما أشار له رجل ما يرتدي معطفاً أبيض اللون ليدخل إلى تلك الغرفة التي دون عليها ( المشرحة )
ابتلع ريقه، وأحس ببرودة رهيبة تجتاح أوصاله ..
رعشة قوية هزت جسده القوي المتصلب .. ولكن رغم هذا استمر في التحرك ..
دلف إلى الداخل وهو يتوقع الأسوأ ..
حبس أنفاسه، وحرك رأسه ببطء باحثاً عن ضالته ..

تعلقت أنظاره بذلك الفراش الذي تدلت منه لوحة كرتونية صغيرة كتب عليها اسم ( مهاب الجندي ) ..
خفق قلبه بشدة، ووضع يده على فمه ليمنع أي شهقة تصدر رغماً عنه .. ثم بحركات شبه عاجزة حاول أن يدنو أكثر منه ..
إرتد شبه مذعوراً للخلف من هول المنظر، وخارت قواه فوراً، ولم يستطع الوقوف على قدميه حينما إلتقطت عينيه جزءاً صغيراً من بقايا وجه أبيه .. فأشاح بوجهه للجانب، وأغمض عينيه بقوة ..

توقع أن يكون أكثر تحملاً وصلابة .. أن يكون أكثر قسوة وشجاعة، ويستقبل جثمانه بجمود قاسي .. ولكنها كانت مجرد حصون واهية .. إنهارت فوراً مع رؤيته لهذا المشهد المفزع ..
بكى رغماً عنه حزناً على حاله .. وغطا بكفه وجهه، وشعر بالغثيان الشديد، وصعوبة في التنفس ..
فركض مسرعاً للخارج ليلتقط أنفاسه ..
أسنده أحد الأطباء، وأشفق عليه المتواجدين بالممر ..

تبادلوا الأحاديث فيما بينهم، ولكنه لم يكن مصغياً ولا منتبهاً إلى أي كلمة تقال ..
هتف أحد محاميه قائلاً بجدية:
-البقاء لله يا أوس باشا! احنا هانخلص لحضرتك الإجراءات عشان تصريح الدفن وآآ...
لم ينتبه له أيضاً، بل دفعه بقبضته، وخطى بخطوات سريعة أقرب للركض لينطلق مبتعداً عن الجميع وهو يحاول السيطرة على حاله .. فالفاجعة أكبر من قدرته على التحمل ...

في منزل أوس الجديد
سردت تهاني لتقى ما فعله أوس معها، وتعمدت أن تحذف الجزء المتعلق بوالدتها فردوس حتى لا تشعرها بإهانته إياها حتى وإن كانت مذنبة .. فقد أرادت أن تكون العلاقات بينهما ودية ولا تتضمن أي مشاحنات أو ضغائن بسبب أفعال غيرها المشينة ...
أنصت تقى إليها بإهتمام كبير، وبدت راضية للغاية وهي تستشعر مشاعر خالتها المتحمسة وهي تتحدث عن صفح ابنها لها ومناداتها إياه ب ( ماما ) ..
لمعت عينيها عفوياً، وتجمعت العبرات في طرفيها ..

فهي تكاد لا تصدق ذلك التغيير الكبير والتحول الهائل في حياة أشد الرجال قسوة وأكثرهم جبروتاً .. بينما أكملت تهاني بصوت مختنق:
-سنين وأنا مستنية أسمع الكلمة دي بوداني قبل ما أموت، سبحان الله ربنا نولهاني، ورضاني بإبني! اللهم لك الحمد والشكر ..!
نظرت لها تقى وتلك الإبتسامة الرقيقة مرتسمة على ثغرها .. ومسحت بأناملها عبراتها ..
تابعت تهاني قائلة برجاء:
-انا عاوزاكي يا بنتي تديله فرصة!

ضيقت تقى عينيها، ونظرت لها بإهتمام، فتابعت خالتها بنبرة خافتة:
-صدقيني هو اتغير فعلاً ومش عشاني، لأ .. عشانك انتي ..!
قرأت تهاني في عيني ابنة أختها الإستغراب، فهزت رأسها وهي تتابع بثقة:
-ايوه، انتي الوحيدة اللي خليتي أوس الجندي يبقى عنده قلب ويرجع يحس ويحب من جديد!
توردت وجنتي تقى وهي تصغي إلى تلك العبارات التي تمسها ..

حدقت تهاني فيها بنظرات عميقة، وأضافت بنبرة عذبة وهي تحتضن كف تقى براحتيها:
-أوس بيحبك أكتر من روحه، إنتي .. انتي لو تشوفيه وهو بيتكلم عنك ازاي، هاتحسي بأد ايه هو بيعشقك، بيتمنى يشوفك بس راضية عنه ومبسوطة معاه!
إزدردت تقى ريقها بتوتر، وشردت مخيلتها في ومضات سريعة من لحظاته الحنونة معها ..
ضغطت تهاني على شفتيها لتقول بحذر وقد تحولت نظراتها للجدية:
-أنا عارفة إنها تجربة مش سهلة عليكم، واللي مريتوا بيه مش هين!

بدى الإرتباك والتوتر واضحاً على تعابير وجه ابنة أختها، فأكملت بإحتراز:
-بس .. بس إديله فرصة يقرب منك بجد!
ضغطت على كفها بأصابعها، ونظرت له برجاء، وهمست متوسلة:
-سامحيه يا تقى عشان ترتاحي!
ثم وضعت إصبعها بالقرب من صدرها، وأضافت بنبرة إستعطاف:
-سامحيه بقلبك الطيب ده! وإنسي اللي حصل وكملي حياتك معاه، إنتو .. إنتو اتخلقتوا لبعض!

أسبلت تقى عينيها الدامعتين للأسفل .. ووضعت إصبعها على طرف أنفها، وحاولت أن تمنع نفسها من البكاء .. وهمست بصوت مختنق للغاية:
-يا ريت أقدر أعمل ده!
لفت تهاني ذراعها حول ظهرها، واحتضنتها وهي تقول بإصرار:
-هاتقدري يا بنتي، جربي ومش هاتندمي، لو فضلتي واقفة عند الماضي كتير عمرك ما هاتتخطي اللي حصل، إكسري الحاجز اللي واقف بينكم، وعيشي حياتك .. وسامحي، ده ربنا بيغفر، إحنا يا عباده مش هانغفر ؟!

هزت رأسها وهي تردد بإستسلام:
-ه.. هحاول
ثم إنتبهت كلتاهما إلى صوت قرع الجرس، فنهضت تقى عن الأريكة، وأشارت لخالتها قائلة:
-أنا .. أنا داخلة جوا
هتفت المدبرة عفاف بجدية وهي تتجه نحو الباب:
-أنا هاشوف مين، خليكوا مرتاحين
ردت عليها تهاني بإمتنان:
-طيب .. ربنا يكرمك!

فتحت عفاف الباب، وابتسمت لعدي وهو يدلف للداخل، وأردفت قائلة بترحيب:
-اتفضل يا عدي باشا
تحركت تهاني نحوه وعلى ثغرها إبتسامة عريضة، وهتفت بحماس:
-ازيك يا بني، تعالى، البيت منور بوجودك فيه
لاحظت تعابير الحزن المكتسية على جميع قسمات وجهه، ونظراته القاتمة، وعبثه بسلسلة مفاتيحه بطريقة عصبية، فسألته بتوجس:
-مالك ؟ هو .. هو في حاجة حصلت ؟

رد عليها بنبرة منزعجة للغاية وهو ينظر لها بجمود:
-م.. مهاب الجندي مات!
برزت عيني تهاني بصدمة كبيرة، وشهقت بذهول:
-إييييه م.. مات!
تابع قائلاً بنفس النبرة المنزعجة:
-أوس طلب مني ما أبلغش حد بالخبر ده، بس هو اتعرف، واتنشر على معظم المواقع!
تنفست بصعوبة وهي تردد بلا وعي:
-م.. مات من .. من غير ما يتحاسب على اللي عمله، من غير ما آآ...

قاطعها عدي قائلاً بجدية:
-أنا عاوز أبلغ ليان بالخبر، وحضرتك بلغي تقى!
جلست تهاني على الأريكة، فهي لم تستوعب الصدمة بعد، وغمغمت مع نفسها:
-طب .. طب إزاي ؟ يعني مات كده فجأة، حكمتك يا رب، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله!
تحرك عدي في إتجاه غرفة ليان، وطرق على الباب بخفة، ولكنه لم يستمع إلى أي صوت، ففتحه بحذر، وولج إلى الداخل ليجدها نائمة في سبات عميق، فآلمه أن يوقظها ويبلغها بهذا الخبر المؤسف، هو يعلم أن فراقه ربما لن يؤثر معها، ولكن الفاجعة في حد ذاتها محزنة بالتأكيد ..

لذا أغلق الباب بهدوء .. وعاد إلى تهاني ليجد تقى جالسة إلى جوارها وفي حالة صدمة هي الأخرى ..
أشار بإصبعه للخلف وهو يقول بصوت آجش:
-ليان نايمة، وأنا مش حابب أصحيها على خبر زي ده!
رفعت تهاني بصرها ناحيته، وسألته بتلهف:
-طب وأوس فين دلوقتي ؟
أجابها بتنهيدة عميقة:
-راح يستلم جثته من المشرحة في بورسعيد!

وضعت تقى يدها على فمها مصدومة مما تسمعه، بينما شهقت تهاني بفزع، وتسائلت بإندهاش:
-ايييه ؟! وإيه اللي وداه هناك كده ؟
تهدل كتفيه مجيباً إياها بقلق:
-مش عارف لسه، بس أنا بأطلبه وهو مش بيرد عليا!
ضربت تهاني صدرها بكفها، وهمست بحزن:
-قلبي معاك يا بني!
أضاف عدي قائلاً وهو يزفر بضيق:
-عامة أنا موجود ولو عوزتوا أي حاجة كلموني، بس يا ريت تبلغوا ليان الخبر بهدوء، مش عاوزين انفعال!

أومأت برأسها إيجاباً وهي تردد:
-حاضر يا بني، ربنا معانا كلنا!
-عن اذنكم
قالها عدي وهو يتجه نحو باب المنزل ..
ضمت تقى قبضتي يدها معاً وأسندتهما على فمها، وظلت تهز جسدها بتوتر كبير ..
ولكن نوعاً ما أحست بالإرتياح لإنتهاء ذلك الكابوس الذي أرق منامها لليالٍ طوال وهدد حياة جنينها بالقتل ..

مضت عدة ساعات والجميع في منزل أوس ينتظر قدومه للإطمئنان عليه وتعزيته .. ولكنه لم يظهر بعد، ولم يجبْ على اتصالات أي شخص ..
توجست تهاني أن يكون قد أصابه مكروه ما، وانقبض قلبها من الخوف عليه ..
بكت ليان في صمت دون أن تصدر أي جلبة بعد تلقيها خبر وفاة أبيها الزائف مهاب .. وظلت قابعة في غرفتها رافضة للخروج أو الجلوس مع أي أحد ..
لم تتخيل أنه قد رحل بالفعل، وهي التي واجهته قبل عدة ساعات وتحدته بشراسة لم تكن عليها ..
حزنت على فراقه رغم حنقها منه ..

دلف عدي إلى داخل غرفتها لمواساتها، فوجدها ضامة ركبتيها إلى صدرها، وعاقدة لكفيها معاً أمام ركبتيها .. وفي حالة بكاء شديد ..
أشفق عليها، وإعتصر قلبه آلماً على حالتها ..
اقترب من فراشها، وجلس على طرفه قبالتها، وطالعها بنظرات حانية ..
لم تنظر هي نحوه، وظلت محدقة أمامها بنظرات خاوية ..
ضغط على شفتيه، وبحث عن كلمات معزية ليبدأ الحديث معها، ولكنه تفاجيء بها تردد بأسى:
-كان بيحبني مع إنه مش بابي! بس .. بس كان بيحبني!
مد عدي كفه ليتحسس يديها المعقودتين، وهمس بحذر:
-كلنا بنحبك يا ليان!

أغمضت عينيها لتنهمر العبرات بغزارة على وجنتيها، فدنا أكثر منها، ولف ذراعيه حولها ليحاوطها، وضمها إلى صدره، وتابع بصوت خفيض:
-عيطي يا حبيبتي، وطلعي اللي جواكي، أنا جمبك
أسندت رأسها على كتفه، وبكت بحرقة .. فربت هو على ظهرها برفق، وقبلها في جبينها قبلة عميقة تعاطفاً معها .. وبقي معها إلى أن إستكان جسدها وغفت على صدره، فقام بإراحة جسدها على الفراش، وتغطيتها، ثم مسح العبرات الباقية من على وجنتيها .. ورمقها بنظرات أخيرة حزينة قبل أن يتركها وينصرف ...

مرت ساعات أخرى ولم يحضر أوس بعد لمنزله ..
ولجت تهاني إلى غرفة ليان لتكون إلى جوارها، وفضلت تقى أن تظل مستيقظة لتنتظره ..
قاومت سلطان النوم قدر إستطاعتها، وتحركت كثيراً على الأريكة ليظل جسدها منتبهاً ..
وحينما أوشك جفناها على الإستسلام له، إنتبهت إلى صوت فتح الباب، ففتحت عينيها سريعاً، وإعتدلت في نومتها، وإشرأبت بعنقها لترى القادم فكان هو ..
كان أوس في حالة بائسة للغاية .. به حزن عميق رغم جمود تعابير وجهه ..
نهضت بهدوء من على الأريكة، واقتربت منه وهي تضغط على شفتيها بتوتر، ثم سألته بصوت هامس رقيق:
-إنت كويس ؟

طالعها بنظرات غريبة .. وتحرك مبتعداً عنها ليجلس على الأريكة ..
ثم نكس رأسه للأسفل، وأخفض نظراته ليحدق في قدميه ..
شعرت تقى بغصة عالقة في حلقها، فإبتلعتها بصعوبة، وسارت بخطى متريثة نحوه .. ثم جلست إلى جواره .. وراقبته بدقة ..
لم ينبس أوس ببنت شفة، وظل على تلك الوضعية لعدة لحظات .. ولكنها إستمعت إلى صوت تنهيداته العميقة والمطولة، فأحست بما يعانيه رغم عدم بوحه به ..
هداها عقلها إلى صرف تفكيره عن تلك الفاجعة بوضع فردتي حذاء الرضيع أمامه على الطاولة الصغيرة التي تقابل الأريكة ..
وبالفعل رفع أوس بصره ليحدق مطولاً بهما ..

همست له بتلعثم مواسية إياه:
-البقاء لله، كلنا هنموت في الأخر، ف آآ.. م.. ماتزعلش من اللي حصله! وإدعيله بالرحمة!
إلتفت برأسه نحوها، ورمقها بنظرات دامعة، واستطرد حديثه قائلاً بصوت مختنق:
-إنتي عارفة هو مات إزاي يا تقى ؟
هزت رأسها قائلة بإعتراض:
-مش عاوزة أعرف، بس .. بس مايجوزش عليه إلا الرحمة الوقتي! فإدعيله إن ربنا يغفرله ويرحمه!
إلتوى فمه ليقول بتهكم صارخ:
-أدعيله ؟ ده كان عاوز آآ...

قاطعته بوضع إصبعها على فمه، وأضافت بصوت حنون وهي ترمقه بنظرات رقيقة:
-شششش، ماتقولش، الكلام مش هايفرق الوقتي، هو بين إيدين ربنا!
أمسك أوس بكفها وقبل راحته بحرارة كبيرة، وإستند بصدغه عليه، وهمس لها بنبرة مليئة بالشجن:
-إنتي .. إنتي طيبة أوي، وماتستهليش اللي حصلك مني أو من غيري!
توقف للحظة قبل أن يتابع بنبرة باكية وهو يطلعها بعينين حمراوتين:
-إحنا .. اللي زينا معروف نهايته، وماينفعش نكون آآ...

طوقت تقى ظهره بذراعها، وقاطعته بجدية:
-شششش .. ماتقولش الكلام ده
لف أوس ذراعيه حولها واحتضنها بشدة، وأسند رقبته على كتفها، وتوسلها برجاء شديد:
-ماتسبنيش يا تقى، ماتبعديش عني، مش عاوز أخسرك في يوم من الأيام!
إحتضنته هي الأخرى بعاطفة قوية إستشعرها بجسده، وبقلبه، وبروحه، وبكل ذرة في كيانه .. وهمست له بصدق:
-أنا .. أنا هنا جمبك!
أخفض نبرة صوته وهو يقول بصوته المنتحب:
-بأحبك يا تقى، إنتي أحسن حاجة حصلتلي في حياتي! متتخليش عني وأنا محتاجك!

زادت نبرته إختناقاً وهو يتابع:
-أنا .. أنا ممكن أستحمل أي حاجة، بس خسارتك، أو خسارة حتة منك ممكن تخليني .. آآ.. أموت!
أخذ نفساً عميقاً، وبللت عبراته كتفها، وهمس لها بعاطفة جياشة:
-بأحبك يا تقى، وماحبتش حد قبلك ولا عاوز أحب حد بعدك!
إرتعش جسدها على إثر كلماته الصادقة، وإمتزجت مشاعره المتأججة مع روحها النقية التي إحتوته .. فأغمضت عينيها بقوة، وأخذت نفساً عميقاً حبسته في صدرها للحظات قبل أن تطلقه، ثم نطقت بإحساس صادق، ونابع من أعماق قلبها قبل روحها:
-و.. وأنا .. وأنا كمان ب.. بأحبك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة