قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثالث

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثالث

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في المشفى الحكومي
ارتشفت تقى بضعة قطرات من كوب المياه البلاستيكي و الذي كانت تمسكه بيديها المرتجفتين، ثم أسندته إلى جوارها، وأطرقت رأسها بحزن للأسفل ..
راقب المقدم طارق إنفعالاتها بترقب شديد، وتنحنح قائلاً بخشونة لتنتبه له:
-احم .. عاوزك تهدي يا مدام تقى وتحكيلنا عن اللي حصل بالراحة
رفعت رأسها قليلاً لتنظر نحوه، وأجابته بوهن:
-أنا .. أنا مش فاكرة اللي حصل بالظبط.

ضيق عينيه ليسألها بجدية:
-ازاي يا مدام تقى، مش إنتي كنت معاه ؟
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تجيبه:
-ايوه .. بس .. بس كل حاجة حصلت بسرعة
مط فمه للأمام، ثم إنتصب في جلسته، وأخذ نفساً عميقاً، وزفره على مهل .. وهتف قائلاً بلهجة رسمية:
-طيب .. أنا هاصيغ سؤالي بشكل تاني، مين ضرب على جوزك النار ؟

ارتبكت أكثر وهي تتذكر ما حدث نصب عينيها من دفاع أوس المستميت عنها.. من تضحيته بحياته ليفديها هي، فلمعت مقلتيها بشدة.. وتسارعت أنفاسها .. ثم دفنت وجهها بين راحتيها، وصرخت بصوت مكتوم:
-م.. مش عارفة
ثم بدأت تنتحب بأنين خافت .. وانسابت منها العبرات بأسف شديد ..
صر المقدم طارق على أسنانه متسائلاً بنفاذ صبر:
-طيب شوفتي شكل اللي ضربه ؟

اخترقت كلماته الأخيرة آذانها، وأغمضت عينيها لتستعيد تلك اللحظات الحرجة، ثم أبعدت يديها عن وجهها بعد أن مسحت العبرات العالقة بأهدابها، واعتدلت قليلاً في جلستها .. وتنهدت بعمق قائلة:
-اه شوفته
نفخ المقدم طارق بإرتياح، فأخيراً قد اضافت شيئاً مضيفاً بعد دقائق مطولة من التحقيق معها .. لذا سألها بجدية وهو محدق بها:
-حد تعرفيه قبل كده ؟
هزت رأسها نافية، وأجابته بإرتباك يشوب كلماتها:
-لأ .. أنا .. أنا أصلاً م.. آآ..

ضاقت عينيه وزاد تفرسه لملامحها متسائلاً بجمود:
-انتي ايه ؟
ضغط عليها بأسئلته وحاصرها، وحاولت هي قدر الإمكان أن تجيبه بصراحة وصدق .. ولكنها كانت في حالة شبه مصدومة، تحاول ربط خيوط ما حدث معاً .. والبحث عن الكلمات المناسبة لتوضيح الحقيقة والوصول إلى الجناة ..

مر الوقت بطيئاً، وبدى الإعياء واضحاً على وجهها، وشعرت بحالة من الدوار تصيبها فما مرت به إلى الآن ليس بالهين .. فوضعت يدها على جبينها، وأمسكت بمقدمة رأسها، وإرتخى كتفيها، وأرجعت جسدها للخلف، وأغمضت عينيها .. فهتف المقدم طارق متسائلاً بقلق:
-مدام تقى مالك ؟

أجابته بصوت ضعيف:
-ت.. تعبانة ..
إلتفت المقدم طارق برأسه للجانب، وصاح بصوت آمر:
-يا عسكري، ناديلي دكتور بسرعة هنا
أشارت له بكفها قائلة بخفوت:
-مافيش داعي، أنا .. أنا شوية وهابقى كويسة
أردف الطبيب قائلاً بجدية وقف هب واقفاً على قدميه:
-طيب يا مدام، أنا مش عاوز أضغط عليكي أكتر من كده، بس اكيد هنكمل كلامنا بعد ما تطمني على جوزك وعلى نفسك كمان!
هزت رأسها موافقة .. ولم تعلق .. فهي في حالة شبه واعية ..

انتفض حمدي مصدوماً من مكانه بعدما سمع من الممرضة حُسنية اسم الحالة المصابة بالعيار الناري .. ونهرها قائلاً بنبرة حادة:
-يخرب عقلك يا ولية، بقى عارفة المعلومة دي وساكتة!
نظرت هي له بإستغراب، وسألته بفتور:
-ليه ياخويا، هو انت تعرفه ؟
لوى فمه قائلاً بإزدراء:
-هو في حد مايعرفش أوس الجندي!
ردت عليه بسخرية بائنة:
-أنا يا إدلعدي.

زم فمه ليقول بنزق وهو يرمقها بإشمئزاز:
-ما انتي وش فقر هاتعرفي الأشكال النضيفة منين!
مطت ثغرها للجانب، وردت عليه بسخرية:
-حوش حوش إنت اللي متربي على إيد الأكابر، ما الحال من بعضه ..
ثم غمغمت مع نفسها بخفوت:
-لا تعايرني ولا أعايرك، ده الهم طايلني وطايلك.

فرك طرف ذقنه ليكمل بسخط:
-لأ ياختي لا متربي على ايدهم، ولا غيره، بس أنا يا بت مثأف ( مثقف )، وليا لي في العالم الأهبة دول، تكونيش مفكراني ماستفدتش من شغلانتي مع سي الأستاذ، بس انتي مابتفهميش، لأن فهمك على أدك!
حركت فمها للجانبين لتسخر منه ب:
-وماله يا أبو العريف، سيبالك المفهومية كلها.

ثم أخفضت صوتها لتسخر منه:
-ده انت حياله ناقل للأخبار، تسمع من هنا كلمة، هوب تنقلها هناك .. يعني عصفورة زي ما سموك
أشار بكف يده وهو يتحرك للأمام هاتفاً بحزم:
-أنا هاتصل بالأستاذ وفيق الصحفي أعرفه!
-طيب
ثم ابتسم مع نفسه بسعادة، وتمتم قائلاً:
-ده المعلوم الدور ده هايكون على أبوه.

رفعت حسنية بصرها للسماء وكذلك كفيها قائلاً برجاء:
-روح يا شيخ ربنا يفتحها في وشك
وبالفعل أخرج هاتفه المحمول – ماركة نوكيا – وهاتف الصحفي وفيق قائلاً بتصنع:
-عم الإعلام والصحافة كلها
سمع صوته يأتيه بتنهيدة ضجرة:
-خير يا حمدي عصفورة، عندك ايه تقوله!

ارتسم على ثغره ابتسامة شيطانية وهو يقول:
-خبر إنما ايه، هايعمل أحلى شغل معاك
رد عليه بعدم اكتراث ب:
-كل مرة بتقول كده يا عصفورة، وبيطلع هوا
ضيق عينيه بقوة، وأردف قائلاً بثقة:
-لأ المرادي غير يا ريس
صاح به بنفاذ صبر:
-اخلص يا عصفورة، عندك ايه.

أخبره حمدي بما عرفه من معلومات تخص وجود رجل الأعمال أوس الجندي في المشفى الحكومي مصاباً بعيارٍ ناري .. فصُدم الصحفي وفيق مما قاله، وأمره بجدية:
-عاوزك تعرفلي يا حمدي تفاصيل التفاصيل عن اللي حصله، ده خبر الموسم!
هر رأسه موافقاً وهو يطلب منه بلؤم:
-ماشي يا باشا، بس تشوفني ؟!
-هاحليلك بؤك على الأخر!
-أوامرك يا ريس!

انهى معه المكالمة وعاد إلى الممرضة حُسنية وسحبها من ذراعها قائلاً بخفوت:
-عاوزك شوية
ثم توقف كلاهما بعيداً عن أعين المتواجدين
فرمقته بنظرات مندهشة وهي تسأله بتذمر:
-خير يا جدع، ساحبني وراك كده ليه ؟!
غمز لها قائلاً بنبرة خافتة:
-المصلحة طلعت من العيار التقيل زي ما قولتلك، وهنتروق على الأخر بس عاوزين شوية نصاحة
ضيقت عينيها أكثر، وسألته بإهتمام:
-ايه المطلوب ؟

تحدث إليها بنبرة أقرب إلى فحيح الأفعى:
-شمشمي على أد ما تقدري وهاتيلنا أخبار
لوت فمها قائلة بحيرة:
-ما انت شايف الدنيا مقفلة ازاي
دقق النظر إليها، وتشدق بهمس:
-هو في حاجة صعبة عليكي، ده انتي حُسنية، الحتة اللي في الشمال
-الوقتي بقيت حبيبة القلب!
-طول عمرك، بس يالا انجزي!
هزت رأسها موافقة وهي تبتعد عنه
-طيب .. استناني هنا!

خرجت إحدى الممرضات من غرفة الطواريء ومعها متعلقات أوس الشخصية، وبحثت بعينيها عن أي من أقاربه، فلم تجد أي أحد بالخارج، ولكنها رأت الشرطة متواجدة بالمكان، فإتجهت إلى أقرب ضابط، وسألته بهدوء:
-حضرتك متعرفش فين أقرايب الحالة اللي في الطواريء
نظر لها الضابط بتفحص وهو يسألها بصرامة:
-بتسألي ليه ؟

مدت يديها بالمقتنيات للأمام وهي تجيبه:
-عاوزة أسلم الحاجات دي لأهله
نظر لها بتفحص، ورد عليها بجمود:
-ثواني .. هابلغ المقدم طارق
-ماشي
انتظرت الممرضة في مكانها، وتنهدت بإنهاك .. فجاءت إليها حسنية، وسألتها بخبث:
-ايه أخبار الحالة ؟

قطبت الممرضة جبينها متسائلة بتعجب:
-حالة ايه ؟
أومأت حسنية برأسها هاتفة ب:
-الراجل اللي جه مضروب بالنار
حركت الممرضة رأسها إيجاباً، وأجابتها بفتور:
-اها، لسه الدكاترة معاه جوا
سألتها مجدداً بخبث وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-وده مين اللي عمل فيه كده ؟

هزت كتفيها في عدم مبالاة مجيبة إياها:
-لسه مش عارفين!
سلطت حُسنية أنظارها على المتعلقات الشخصية المتواجدة في يدي زميلتها، وسألتها بخبث:
-هي دي حاجته ؟
-أها ..
صمتت للحظة وتابعت سؤالها بفضول:
-انتي ناوية تعملي بيهم ايه ؟

أجابتها الأخيرة بفتور:
-هاديها لحد من قرايبه
هزت حسنية حاجبيها متسائلة بمكر:
-هو في حد جه هنا معاه ؟ اللي اعرفه انه جاي لوحده!
ردت عليها الممرضة بتنهيدة:
-أديني قولت للظابط، وهو يتصرف
-ايوه، ماهي أمانة برضوه
بعد لحظات حضر إليهما الضابط، وقال بجدية شديدة:
-سلميني الحاجة، وأنا هاديها لمراته!

إستدارت حسنية برأسها في إتجاهه، وسألته بإهتمام وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:
-هي مراته معاه ؟
رمقها الضابط بنظرات مهينة وهو يسألها بصوت صارم:
-وانتي مين ؟
ردت عليه بإرتباك بعد أن أخافتها نظراته:
-أنا .. حسنية الممرضة، شغالة هنا في ال آآ...

لوح بيده أمام وجهها، وصاح بها بصوت قاتم:
-روحي شوفي شغلك، وماتسأليش في اللي ما يخصكيش!
أطرقت رأسها ممتثلة له وهي تقول:
-احم.. طيب يا باشا
ثم انسحبت بحرج من أمامه، وغمغمت مع نفسها بحنق يحمل التهكم:
-أنا عارفة بيشخط وينطر على ايه، ده حياله واحد واتنيل انضرب بالنار، تقولش وزير الداخلية ياخي، ولا من بقية أهله!

في منزل تقى عوض الله
تنهدت فردوس بعمق وهي تهز رأسها في حزن، فربتت على كتفها جارتها إجلال، ورمقتها بنظرات إشفاق، ثم تشدقت قائلة بصوت أسف:
-معلش يا فردوس، بكرة تتعدل إن شاء الله
نظرت لها بحزن دفين وهي تهتف بحسرة:
-هتتعدل إزاي، والحال زي ما هو، ده يمكن بقى أوحش من الأول!
ابتسمت لها إجلال في محاولة يائسة منها لتخفيف حدة الأمر، وتشدقت قائلة بغصة:
-ده امتحان من ربنا، والمؤمن مبتلى، هو أنا برضوه اللي هاقولك!

زمت فردوس ثغرها لتقول بإعتراض:
-أكتر من كده
أضافت إجلال قائلة بثقة:
-ارضي بقضاء الله، وصدقيني هتلاقي الفرج جاي قريب
-ربنا يفرجها من عنده
ضيقت إجلال عينيها، وتسائلت بإهتمام:
-هاتعملي ايه مع سي عوض جوزك ؟
تنهدت بإنهاك لتجيبها بقلة حيلة:
-ولاد الحلال شاروا عليا بضاكتور كويس بس في المنصورة.

-ياه .. المنصورة
-ايوه .. بيقولوا هو شاطر وبيفهم في الحالات اللي زيه
سألتها مجدداً بإهتمام أكبر ب:
-طيب وناوية تروحيله امتى ؟
ردت عليها فردوس بيأس وهي مستندة بوجهها على راحة يدها:
-أما ربنا يفرجها وأحوش قرشين كده لزوم السفر والعلاج
مالت عليها إجلال وهمست بتفاؤل وهي تضع يدها على كف الأخيرة:
-طب ايه رأيك أدخلك في جمعية تقبضيها الرابع ؟
رفعت فردوس حاجبها للأعلى ورددت:
-الرابع ؟!
-ايوه، جمعية انا اللي مسكاها، بدأت من شهر، وأنا هدخلك مكاني، وأهوم قرشين تفكي بيهم أزمة
-بس آآ...

قاطعتها إجلال بإصرار:
-من غير بس ولا حاجة، انتي هاتدخلي فيها بأمر الله
نفخت فردوس قائلة بضجر وهي تهز رأسها معترضة:
-يا ست إجلال انتي مش فاهمة، أنا مش معايا أدفع اللي فات عشان آآ..
قاطعتها مجدداً بصوت حنون:
-ماتشليش هم، أنا موجودة، ورقبتي سدادة
ردت عليها بإمتنان ب:
-كتر خيرك، إنتي بردك عندك ظروفك وآآ...

أضافت إجلال بنبرة هادئة:
-الجيران لبعضيها، وابقي ادفعي على مهلك، المهم الوقتي صحة جوزك، ربنا يقومهولك بالسلامة
-يا رب .. والله اللي زيك اليومين دول بقوا قليلين! ربنا يجازيكي خير يا ست إجلال
-يا رب يكرمنا جميعاً
تنهدت فردوس بإرتياح لوجود حل ما لضائقتها المالية، وحمدت الله في نفسها أن لديها جارة طيبة تقف إلى جوارها في تلك الأزمة الطاحنة ...

في المشفى الحكومي
عادت حسنية إلى خطيبها حمدي عصفورة، وأبلغته بما عرفته .. فدون بعض الملحوظات في ورقة صغيرة، والتوى فمه قائلاً بسعادة:
-اهوو كده اطلع بمصلحة من الأستاذ
رمقته بنظرات قوية وهي تحذره مشيرة بإصبعيها:
-نطلع احنا الاتنين، مش تطلع لوحدك يا حمدي، سامعني.

تقوس فمه بضيق، ونظر لها شزراً، ثم ردد قائلاً:
-اه يا حسنية! وماله، بس تظبط معانا الأول، خليكي انتي هنا، وأنا هاروح أكلم الأستاذ وآآ... لأ ده أنا هاروحله مخصوص عشان يأبجني وش .. ولو في جديد عرفيني!
هزت رأسها وهي تؤكد عليه ب:
-ماشي، بس طمني أما تقبض
زفر بنفاذ صبر مشيراً بكفيه:
-يا مسهل، متؤريش بس!
-طيب
لوح لها بذراعه وهو يوليها ظهره قائلاً بصوت شبه مرتفع:
-سلام يا حسنية
-مع السلامة يا حمدي

حضر الضابط إلى المقدم طارق، وأعطاه مقتنيات أوس الجندي، فإستلمها الأخير منه، وتفقدها بتفحص، فقد كانت عبارة عن ساعة فضية ثمينة، وهاتفه المحمول، وحافظة نقوده .. ثم هتف قائلاً بصوت جامد:
-تمام، ارجع لمكانك تاني
-حاضر يا فندم.

اقترب هو من تقى الجالسة على المقعد المعدني، والتي كانت مغمضة العينين، ومتكأة برأسها على مرفقها، وكانت على وشك أن تغفو قليلاً .. فمد يده بالأشياء نحوها قائلاً بهدوء:
-اتفضلي يا مدام، دي حاجة جوزك
انتبهت هي إلى صوته، وفتحت عينيها المرهقتين فجأة، وإعتدلت في جلستها، وتسائلت بإندهاش::
-هاه، حاجته ؟!
أومأ برأسه قائلاً بنفس الثبات:
-ايوه، الممرضة سلمت الحاجات دي لزميلي من شوية، وأنا بأديهالك.

خفق قلبها بتوتر رهيب، وسألته بتلهف وهي جاحظة العينين:
-هو .. هو خرج من جوا ؟
حرك رأسه نافياً:
-لأ .. لسه، اتفضلي
أمسكت بيديها المرتعشتين أشيائه، وارتبكت بشدة .. اعتلى صدرها وهبط من مجرد التفكير في كونه ربما يكون قد فارق الحياة للأبد ..
جف حلقها، وزادت مرارته، وانقبض قلبها أكثر .. ولمعت عينيها بعبرات حارقة ...

و تردد في أذنيها صدى كلماته الأخيرة، وإعترافه بحبه الصادق لها ..
فهو حقاً أحبها بالرغم من كل شيء .. وجاهد ليعوضها عما اقترفه في حقها، ولكنها نبذته .. ورفضت ما قدمه لها خوفاً من تكرار تلك التجربة التي دمرت انسانيتها ..
بدأت عبراتها تنساب عفوياً مغرقة وجنتيها .. وصدر منها أنيناً خافتاً ..
لم تقاوم رغبتها في البكاء من أجله .. فهي لم تمهله الفرصة لإصلاح ما مضى .. وإنما كانت أكثر قسوة منه ..

راقبها المقدم بنظرات مشفقة، ونفخ بعمق .. ثم أردف قائلاً بجدية:
-اهدي يا مدام تقى، الدكاترة أكيد عارفين شغلهم كويس
لم تصغْ إلى ما يقول .. فتفكيرها منصب الآن على لحظاتها الأخيرة معه ..
فقد كانت أعظم مطالبه منها هي أن تغفر له .. أن تصفح عن جريمته معها .. فتسكن روحه المعذبة وتهدأ ..

أجهشت بالبكاء وهي تظن الأسوأ، وتركت أشيائه تسقط في حجرها، ثم دفنت وجهها في راحتيها .. فشعر المقدم طارق بالضيق لحالتها تلك، ومرر أصابع يده في رأسه، وتلتفت حوله بحيرة، وهتف قائلاً في محاولة منه لتهدئتها:
-اللي بتعمليه ده مش هايفيده بحاجة، ادعيله!
هزت رأسها دون أن تنطق .. ومسحت بأناملها عبراتها، فتابع قائلاً بجدية:
-انتي ست مؤمنة، وعارفة أكيد ان ده قضاء وقدر.

ثم أضاف بصوت جاد:
-كمان باين عليكي التعب يا مدام تقى، فحاولي تبلغي حد من قرايبك أو العيلة عشان يتواجدوا معاكي في الظروف دي، يعني صعب تفضلي لوحدك من غير ما حد يساندك وآآ.. ويكون معاكي
أومأت برأسها مجيبة إياه بنشيج حزين:
-هه .. ح..حاضر
لمح هو ممرضة ما تسير على مقربة منهما، فصاح عالياً:
-لو سمحتي يا .. يا آآآ...

انتبهت له الممرضة، وتحركت نحوه قائلة:
-أيوه
-خليكي مع المدام وآآ...
قاطعته تقى بحزم:
-أنا كويسة، مافيش حاجة
مالت عليها الممرضة، وسألتها بإهتمام زائف:
-خير يا مدام ؟ حاسة بإيه ؟
ردت عليها تقى بإقتضاب:
-مافيش حاجة فيا
اعتدلت الممرضة في وقفتها، ونظرت للجانب وهي تقول بإمتعاض:
-عموماً أنا نبطشيتي خلصت، بس هاشوف حد فاضي من الدكاترة يجي يبص عليكي يا مدام.

رفعت تقى رأسها ناحيتها، وهمست بصوت مختنق:
-شكراً، ماتتعبيش نفسك!
حضر ضابط أخر، ومال على المقدم، وهمس في أذنه بكلمات مبهمة، فهز الأخير رأسه، وأشار له بعينيه قائلاً:
-اسبقني وهاحصلك
ثم تنحنح بصوت خشن، وتابع بجدية:
-مدام تقى زي ما فهمت حضرتك، هنكمل باقي التحقيقات تاني
أجابته بصوت واهن:
-حاضر
ربت هو على كتف زميله قائلاً بصوت صارم:
-يالا يا حضرت الظابط نشوق شغلنا!

ثم تركها الإثنين وانصرفا مبتعدين عنها، وظلت هي بمفردها ترتجف من فرط التوتر والقلق، فقد دبت برودة مفاجئة في أوصالها زادت من إرتعاشتها وهي تتخيل عودة الممرضة إليها بأخبار مؤسفة عنه ...
إحتضنت نفسها بذراعيها، وأغمضت عينيها، وضغطت على شفتيها قائلة برجاء:
-ماتسمعنيش حاجة وحشة يا رب

راقبتها حسنية من مسافة قريبة، وإلتوى فمها بإبتسامة شيطانية وهي تسأل حمدي – الواقف إلى جوارها - بخبث:
-يعني هو قالك صورها ؟
أجابها بصوت هامس وهو يلتقط بكاميرا هاتفه المحمول عدة صور فوتغرافية لها:
-أيوه، وهايبعت واد مصوراتي ياخدلها كام لقطة
سألتها بإستفهام وهي تعقد ما بين حاجبيها:
-طيب وده مع الحساب ولا لوحده ؟

ابتسم مجيباً إياها بتفاخر:
-معاه طبعاً، ودي تفوتني
لكزته في جانبه قائلة بتحذير:
-طب اخلص أوام بدل ما تاخد بالها مننا، وتعملنا فضيحة
صر على أسنانه وهو يتابع بخفوت:
-طيب .. داري عليا إنتي بس!
دست تقى متعلقات أوس في جيب سترتها، وتنهدت بعمق، وحدقت بشرود أمامها .. فالقادم أصعب بكثير مما مضى ..

في مكتب الصحفي وفيق
وضع الصحفي وفيق - والمعروف في الوسائط الإعلامية بأخباره الحصرية - اللمسات الأخيرة على الخبر الصادم الذي ظن أنه سيهز أركان الطبقة المخملية في مجتمع الأثرياء حيث تعمد كتابة عناوين مثيرة ليضمن الولوج إلى موقعه، وشراء جريدته لاحقاً لمعرفة التفاصيل، ومن ثَمَ تحقيق ربح مادي هائل على حساب الأخرين، حتى وإن كانت ..

(( إصابة رجل أعمال ثري بطلق ناري في ظروف غامضة ))
(( من مصادر موثوقة، رجل الأعمال المصاب هو من رواد صناعة الصلب في مصر ))
(( وريث شركات الجندي للصلب في حالة حرجة ))
(( إنهيار زوجة رجل الأعمال أوس الجندي عقب محاولة اغتياله ))
(( الشكوك تحوم حول الزوجة كونها الشاهد الوحيد في الجريمة )).

أخذ وفيق نفساً عميقاً، وزفره على مهل قائلاً:
-عاوز العناوين دي تنزل بالتتابع على الصفحة، واحد ورا واحد
رد عليه زميله بكر بلؤم:
-تمام، بس لو في صور حصرية هاتزود نسبة المتابعة
برزت أسنان الصحفي وفيق مضيفاً بثقة:
-ما أنا بعت للواد عصفورة مصور هيظبطنا في شوية فيديوهات وصور هتخدمنا، وهو كمان هيصورلنا كام صورة كده على الماشي وهديله فيهم حسنته
سأله بكر بإستفسار وهو يحك أذنه:
-بتراضيه يا ريس ؟

مط فمه ليجيبه بفتور:
-حاجة زي كده
-ماشي
ضغط وفيق على كتف بكر بأصابعه قائلاً بحماس:
-مش هوصيك، شعلل الدنيا
رد عليه الأخير بنبرة جادة:
-أنا مش هاسيب website إلا لما أنشر عليه!
وصمت للحظة قبل أن يسأله متوجساً:
-بس يا ريس انت متأكد من الكلام ده كله، ولا في حاجة متفبركة ؟

أشار وفيق بإصبعه قائلاً بجمود:
-يعني من ده على ده، ماهو طالما الحكاية فيها ست، يبقى بديهي كده خيانة وعشيق وحركات من دي
عبس بكر قليلاً، واعترض قائلاً بتوتر:
-بس افرض إن الموضوع آآ...
قاطعه وفيق بعدم إكتراث وهو يعيد رأسه للخلف:
-حيلني عقبال ما حد يدور ورا كلامنا، الناس بتموت في النوعية دي من الفضايح، ودي فرصة نعوض الخسارة اللي بقالنا شهور فيها
ابتلع بكر ريقه بخوف وهو يضيف مستسلماً:
-اللي تشوفه يا ريس، بس أنا خايف من أوس الجندي، بيقولوا نابه حامي، ومش بيسيب تاره من أي حد.

رد عليه وفيق بعدم مبالاة وهو يشير بعينيه:
-مش يمكن يموت وتشعلل أكتر، محدش ضامن عمره، ولا إيه!
-تمام يا ريس
إعتدل وفيق في وقفته، وحدق أمامه بنظرات شيطانية، وأردف قائلاً بشراسة:
-وكل ما تزيد المتابعة تتملى جيوبنا، و.. ونتنغنغ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة