قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس

ضغطت إيناس على شفتيها بقوة محاولة التحكم في النيران المستعرة بداخلها عقب إهانة باسل لها..
رمقته بطرف عينها بنظرات شرسة، وبدى الوجوم واضحاً على تعابير وجهها، فمهما كانت تصرفاتها لا يحق له الإساءة إليها..
لم تستطع إيقاف تلك الأفكار العنيفة التي اجتاحت عقلها لتأديبه..
ودت لو تعلقت بعنقه، وقبضت عليه بكفيها وخنقته بقوة حتى يشعر بآلمها من كلماته، فبعض الكلمات وإن كانت موجزة قد تصيب في مقتل..

التفت باسل برأسه فجأة نحوها، فوجدها محدقة به بنظرات غير مريحة، فسألها بإستغراب:
-مالك؟ بتبصيلي كده ليه؟
ضاقت نظراتها الغاضبة نحوه، وأجابته بإقتضاب:
-مافيش
لم يعر باسل للأمر أي اهتمام، ولم يهتم حتى بسؤالها عن سبب عبوسها المفاجيء، فزاد حنقها منه..
حدق أمامه، وأشار لها بيده وهو يقول بجمود:
-احنا وصلنا، اطلعي يالا
كزت على أسنانها وتوعدته في نفسها:
-ماشي يا بسلة، هاوريك!

تحركت بخطى سريعة نحو مدخل البناية، بينما استدار هو عائداً للمقهى..
وقعت عيني إيناس على حجر صغير مُلقى عند بوابة البناية، فطرأ ببالها فكرة طائشة..
لم تتردد في فعلها، بل أسرعت بالإنحناء، ومدت يدها لتلتقط الحجر، ثم التفتت عائدة في إثر باسل..
وقفت في مكانها، وركزت أنظارها عليه، ثم أرجعت ذراعها للخلف، وألقته بكل ما أوتيت من قوة عليه..
ارتطم الحجر بظهر باسل، فقبضت ذراعها وهي تهتف لنفسها بتشفي:
-احسن.

شعر باسل بآلم مفاجيء في ظهره، فإلتفت للخلف ليرى ما الذي حدث وقد تحول وجهه للعبوس الشديد..
في تلك الأثناء ركضت إيناس عائدة للداخل كي لا يراها..
لمح باسل طيف شخص ما يركض، فتحرك بخطوات أقرب للركض، فرأها وهي تصعد على الدرج، فحك مؤخرة رأسه وهو يقول بضجر:
-هبلة دي!
لف هو ذراعه للخلف ليفرك موضع الآلم، وتساءل مندهشاً:
-عملت كده ليه؟!

ركضت إيناس على الدرج، ولم تتوقف لإلتقاط أنفاسها اللاهثة، فقد خشيت من ردة فعل باسل..
ولكن مازال ذلك الشعور بالسخط والضيق مسيطراً عليها..
خاصة وأنها كانت كلمات جارحة بما تكفي لإشعارها بالنقص...
في نفس التوقيت رأت هدير رفيقتها إيناس وهي تسير إلى جوار ذلك الشاب الوسيم أثناء عبورها للجانب الأخر من الطريق، وانفرج فمها بصدمة جلية على تعابيرها..

فهي لم تتوقع أن تراها بصحبة أي أحد، وأثار فضولها أن تعرف المزيد عن علاقتهما سوياً...
عبثت بشعرها المصفوف بعناية، وطرحته للخلف بدلال وهي تغمغم مع نفسها:
-مش ممكن، المز ده ماشي معاها، أكيد في بينهم حاجة، لازم أطأس منها وأعرف!
عقدت هي النية على كشف غموض تلك العلاقة الغير منطقية من وجهة نظرها خلال المساء عندما تنتهي من فسحتها الحالية...

في منزل عائلة مسعد غراب،
فتحت إيناس باب منزلها بالمفتاح الذي يخصها، ثم سارت نحو غرفتها، وصفقت الباب خلفها بعصبية، وألقت بحقيبتها دون إكتراث على الأرضية، ثم وقفت أمام المرآة لتتأمل هيئتها بدقة..
ظلت محدقة لنفسها لفترة من الزمن..
أمسكت بخصلات شعرها المجعد وهي ترتجف، ودققت النظر في حاجبيها الكثيفين والغير منمقين..
تحسست بأناملها بشرتها، وأدارت وجهها للجانبين لتتفحصه أيضاً..

وأدركت أنها بالفعل لا تمتلك مواصفات الجمال القياسية..
هي فتاة عادية، بسيطة الملامح، بشرتها غير بيضاء لتلفت الانتباه، ولا تمتلك أعين ملونة، أو حتى تضع عدسات لاصقة كغيرها، بل هي على العكس مشاكسة، حادة الطباع، تتصرف بطريقة صبيانية للغاية..
تأملت ملابسها أيضاً، لم يكن بها أي لمحة أنثوية على الإطلاق..
ترقرقت العبرات في عينيها بعد أن رأت بوضوح أنها بالفعل تشبه الرجال في أغلب صفاتهم..

وتردد في أذنيها صدى كلمات باسل المهينة، فنكست رأسها خزياً، وسدت أذنيها بكفيها بقوة..
ولجت والدتها إلى غرفتها، ونظرت لها متعجبة، وسألتها بإستغراب:
-مالك يا نوسة؟ في حاجة حصلت؟
رفعت هي رأسها للأعلى، ونظرت إلى والدتها بأعينها الدامعة، تحركت شفتيها بحركة عصبية، وقاومت رغبتها في البكاء، لكنها لم تتحمل نظرات والدتها نحوها...
شهقت صفية بقلق حينما رأت ابنتها على تلك الحالة، وأسرعت نحوها وهي تسألها بخوف:.

-حصلك ايه يا نوسة؟ اتكلمي!
أجهشت إيناس بالبكاء وهي تمتم قائلة:
-هو، هو أنا وحشة يا ماما
احتضنتها والدتها، وضمتها إلى صدرها، ثم مسدت على شعرها وهي تقول بحزم:
-وحشة، قطع لسان اللي يقول عنك كده
أرجعت إيناس رأسها للخلف، وحدقت في عيني والدتها وهي تسألها بجدية مفرطة:
-هو أنا شبه الولاد؟
قطبت صفية جبينها بتعجب، وعبس وجهها وهي ترد عليها بتساءل:
-الله! مين قالك كده؟!

ابتلعت تلك المرارة العالقة بجوفها وهي تتابع بصعوبة:
-طب، طب أنا ليه مش زي بقية البنات عندي شعر حلو وعينين ملونة؟!
ردت عليها والدتها بإستنكار:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، في ايه يا إيناس، اقعدي كده واهدي وفهميني بالظبط اللي حصل!
سردت إيناس لوالدتها ما حدث مع رفيقاتها بعد أن جلست كلتاهما على طرف الفراش، وتعمدت هي حذف الجزء الخاص بباسل حتى لا تتعرض للتوبيخ..

أشفقت صفية على حال ابنتها، ومسحت على وجنتها برفق، ثم أردفت قائلة بنبرة أمومية حانية:
-دول بنات تافهين وهبل، انتي زي القمر وحلوة
اعترضت إيناس قائلة بتبرم:
-بس، بس أنا اتقالي استحالة تكوني بنت!
كانت تقصد بعبارتها الأخيرة ( باسل ) الذي أساء إلى شخصها..
هدرت والدتها بنبرة شبه منفعلة:
-دول اتعمى في عينهم، وغيرانين منك
التوى ثغرها بتهكم وهي تقول:
-هايغيروا مني ليه؟!
ردت عليها والدتها بثقة:.

-عشان انتي أشطر منهم ومتفوقة، هما عاوزين يحبطوكي وآآ...
لم تقتنع إيناس بما تقوله والدتها، ولم تنتبه إلى باقي حديثها فقد وجدت أنها مبررات واهية وغير كافية لإخماد النيران المستعرة بداخلها..
ربتت صفية على ظهر ابنتها، وتابعت قائلة بهدوء جدي:
-مش عاوزاكي تحطي في بالك الكلام الفارغ ده، وركزي في مذاكرتك، إنتي داخلة على امتحانات، ومحتاجة كل ثانية عشان تنجحي وتجيبي مجموع وتحققي اللي نفسك فيه.

كفكفت إيناس عبراتها بكم قميصها، وردت بإقتضاب:
-ربنا يسهل
ابتسمت لها والدتها إبتسامة دافئة وهي تقول:
-ربنا يهديكي يا بنتي، ويبعد عنك ولاد الحرام!
هزت إيناس رأسها بهدوء ولم تضفْ كلمة، ولكن عقلها لم يتوقف عن التفكير فيما حدث لها..

في مكتب ما بجهة سيادية،
أغلق الفريق ضياء الملف الذي كان بحوزته، وحدث قائده قائلاً بجدية:
-ده يا فندم تقرير أولي باللي حصل
تناوله القائد منه، وتفحصه بنظرات سريعة وهو يوميء برأسه متفهماً، ثم رد عليه بنبرة رسمية:
-عظيم، أنا محتاج أكون على اطلاع أول بأول بالمستجدات، الموضوع حساس جداً
تقوس فم الفريق ضياء بإبتسامة محدودة وهو يقول:
-اطمن يا فندم، أنا بنفسي بأشرف على العملية دي.

أشار له القائد بإصبعه وهو يقول بنبرة محذرة للغاية:
-أنا متأكد من اهتمامك، بس لازم تأكد على رجالتك عدم التعرض ليها، ماتنساش إنها لوحدها معاهم، واحنا عارفين الشباب ودماغهم!
استنكر الفريق ضياء ما يقوله، واعترض قائلاً:
-أنا رجالتي بعاد كل البعد عن النوع ده من الأفكار
رمقه القائد بنظرات جادة وهو يؤكد عليه:
-الحرص واجب برضوه
هز الفريق ضياء رأسه متفهماً، وأردف قائلاً بهدوء:
-حاضر يا فندم، أنا هانبه على الكل.

-تمام..

في سيارة مسعد،
دندن مسعد مع نفسه بلحن مرح وهو يضرب بأصابعه على المقود، بينما تهدل كتفي سابين في إنهاك واضح عليها..
التفتت نحوه برأسها، وسألته بنبرة خافتة ورقيقة ولكن باللغة العربية الفصحى:
-متى سنصل ( الفندق )؟
أدار مسعد رأسه ناحيتها، وعقد ما بين حاجبيه بإستغراب وهو يردد بعدم فهم:
-بندق، انتي جعانة؟
عضت على شفتها السفلى وهي ترمقه بنظرات حادة، بينما تابع هو قائلاً بإندهاش:.

-أنا مش معايا بندق، والحاجات دي مش بنشوفها إلا في ياميش رمضان، يا إما على وش التورتة لما تكون محترمة ومتوصي عليها!
تنهدت بتعب من ثرثرته المبالغة، ثم ابتسمت له بتصنع وهي تقول بإنهاك:
-بليز، أنا آوز ( عاوزة ) أنام
هز رأسه بحركة خفيفة، وهتف متحمساً:
-أها فهمتك، احنا قربنا نوصل خلاص
سألته جدياً وهي عابسة الوجه:
-أنا هاذهب إلى أين؟
أشار لها بكفه وهو يقوس فمه بضيق:.

-بلاش وحياة أهلك جو الدبلجة السوري ده، كلميني عربي
استغربت منه، واعترضت قائلة:
-هذا آربيك ( عربي )
أخفض نبرة صوته وهو يردد بخفوت:
-هذا وهذه وجو الإعراب ده أنا واقع أصلاً فيه
أدار رأسه في إتجاهها مرة أخرى، وأكمل قائلاً بجدية:
-احنا محتاجين كورسات تواصل سوا يا صابرين، لأحسن الدنيا هتكلكع معانا، وهانلوص!
ردت عليه بضجر وهي تحرك رأسها بيأس:
-بليز ممكن إنت اكلم بالراهة ( بالراحة )
غمز لها قائلاً بمرح:.

-حاضر، عيوني، بالراحة بالراحة، بشويش بشويش!

بعد برهة، وصل مسعد بسيارته إلى مركز التدريب الخاص بتشكيله العسكري..
اعتدلت سابين في جلستها على المقعد، وتأملت المكان بنظرات دقيقة ومتفحصة..
كانت تتوقع أن يتجه بها إلى الفندق، ولكنها تفاجئت به يصطحبها إلى مكان أخر مليء بمن يشبهه من ذوي الثياب العسكرية، وأصحاب الأجساد القوية...
لاحظ مسعد حالة الشرود البادية على وجهها، فاستطرد حديثه قائلاً بتحمس:
-أهلا بيكي في معقل الرجال، هنا هتشوفي العجب كله.

ابتلعت ريقها بتوتر فقد كان المشهد مربكاً، فهي أنثى بمفردها وسط هذا المجتمع الذكوري..
رسمت ابتسامة هادئة على ثغرها، ولم تعقب بشيء..
ركن مسعد السيارة في المكان المخصص لها بالجراج..
بينما جابت سابين بنظراتها المترقبة المكان من حولها..
ترجل هو من سيارته، ودار حولها ليفتح الباب لسابين..
ابتسمت له ممتنة، ثم ترجلت هي الأخرى منها..
أشار لها بيده وهو يقول بجدية:
-تعالي، احنا هانروح المبنى الرئيسي من هنا.

أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول بإيجاز:
-اوكي
فتح مسعد صندوق السيارة، وسحب حقيبة سابين للخارج، ثم أغلقه، وتحرك للأمام، ولحقت هي به..
استمعت سابين إلى صوت صافرات إعجاب تأتي من نواحي متفرقة، وبعض العبارات المتغزلة بها دون أي خجل، فتوردت وجنتيها حرجاً مما يحدث..
صاح أحدهم بنبرة عالية:
-منور يا مسعد
بينما أضاف أخر:
-نورك غطا على الكهربا
وهتف ثالث متغزلاً:
-جميل و أبيض
-حوش اللي وقع منك يا مسعد.

-حلاوتك زايدة النهاردة ومغطية
-مش هتاخدنا بالحضن يا مسعد، ده حتى وحشة في حقك
تنحنح مسعد بخفوت، فقد أزعجه ما يحدث من تجاوزات غير مقبولة، وأدار رأسه في اتجاهها، ورسم ابتسامة بلهاء على ثغره وهو يقول:
-معلش، احنا آآ، شعب عاطفي بطبعه
ضيقت نظراتها وسألته بإيجاز:
-بجد؟
تنحنح بصوت مسموع، وتابع قائلاً بحرج:.

-احم، مش مقتنعة صح، بصي هما الشباب مأفور حبتين، بعيد عنك عندهم جفاف عاطفي، حرمان من الحنان، بس طبعاً ده بيحصل في حدود الأدب!
رفعت حاجبها مستنكرة وهي تقول لنفسها بسخط:
-لأ باين!
وصل مسعد عند البوابة الرئيسية للمبنى العسكري، فأسند حقيبتها على الأرضية، وإستدار نحوها، وأشار لها بيده قائلاً بحزم:
-استنيني هنا ثواني
-اوكي
ولج هو للداخل، بينما وقفت هي بمفردها تتلفت حولها بحذر..

وقعت أنظارها على أعين الرجال المحدقين بها، فدب في أوصالها رعشة خفيفة..
أشاحت بوجهها بعيداً، وتمتمت مع نفسها بقلق:
-شكل الأيام الجاية هاتكون صعبة، يا ريت أمشي من هنا بسرعة!
غاب مسعد لفترة فشعرت سابين بالقلق من غيابه الذي طال..
وبالطبع لم تسلم من التعليقات السخيفة والمبالغة من الشباب المتحمس لوجود أنثى وسطهم..
لمحته وهو يسير بخطوات سريعة نحوها وهاتفاً بجدية:.

-معلش اتأخرت عليكي، بس كان في مشكلة كده وبأحلها
نظرت له بحيرة وهي تحاول فهم ما يقول، لكنه سريعاً ما أضاف بعدم اكتراث:
-بس متقلقيش، مسعد الجن، بيظبط كل حاجة
ابتسمت له وهي تردد على مضض:
-اوكي
لمح هو الشباب المتجمع على مقربة منها، فلوح لهم بذراعه وهو يهتف بحماس:
-منورين يا رجالة
رد عليه أحدهم بمكر وهو يغمز له:
-ايه يا مسعد مش تعرفنا
أجابه بحذر وقد إرتسم على قسمات وجهه ملامح جادة:.

-خبراء أجانب، أمريكان، ها، أمريكان، ماشي، يعني مارينز، وحركات، فخدوا بالكم، ومتوصي عليها من فوق!
هتف أخر بنبرة عالية رغم عدم اقتناعه:
-تمام يا باشا، احنا موجودين في الخدمة لو عوزت حاجة
لوح لهم بكفه وهو يرد:
-شكراً
تساءلت سابين بإرهاق وهي محدقة بمسعد:
-موسأد، هو أنا هأنام فين؟
رد عليها بإبتسامته العريضة:
-هنا يا صابرين
ارتفع حاجبيها للأعلى في تعجب واضح، وهتفت مصدومة:
-ايه What) )؟

رفع لها إبهامه بعلامة الإنتصار وهو يرد بثقة:
-أنا خدتلك أوضة مخصوص، زي ما بيقولوا وصاية، احنا بنعتبرها فايف ستارز
سألته بنزق وهي تنفض خصلات شعرها:
-في فندق هنا؟
تجهم وجهه وهو يرد بجمود:
-لأ طبعاً، في أوض للظباط!
أشارت له بإصبعها وهي تسأله بفضول:
-إنت نام هنا؟
رد عليها بجدية
-ايوه، أومال يعني بأبات في الطل، الكل بيبات هنا
هزت رأسها متفهمة وهي تقول بخفوت:
-أها، I got it ( فهمتك ).

انحنى مسعد بجذعه للأمام ليمسك بحقيبتها، ثم أشار لها برأسه وهو يتحرك قائلاً:
-تعالي هاوريكي هتقعدي فين!
ثم رمقها بنظرات ذات مغزى، وأكمل سيره نحو غرف الضباط الملحقة بالمبنى السكني المتواجد في زاوية المركز..
تبعته سابين بخطوات حذرة، وازدردت ريقها بتوجس وهي تحدث نفسها:
-مش مرتحالك، شكلك ناوي على حاجة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة