قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

في منزل سابين،
توجهت سابين ناحية باب منزلها لتفتحه بعد أن سمعت دقات خافتة عليه..
كانت تحاول تجاوز الصغيرة جينا لكنها ركضت مسرعة لتسبقها – كعادتها – لتفتح قبلها الباب..
أمسكت بالمقبض وأدارته ببطء لتتفاجيء بوجوده عند عتبتها..
هتفت الصغيرة بسعادة جلية وهي تقفز في مكانها:
-دادي!
وضع مسعد يده على رأس الصغيرة، وفرك فروة رأسها دون أن يبعد عيناه عن حبيبته..

بينما تسمرت هي في مكانها مصدومة و تعابير وجهها الرقيق تكسوه الدهشة..
ظلت كالصنم لبضعة دقائق تطالعه بنظرات متأملة ومطولة..
لم يتوقف هو عن التحديق بها، فقد اشتاق الوجود بقربها، ولما لا فهي حبيبته التي حافظ على حبها نابضاً في فؤاده لسنوات؟
قطع هو الصمت المليء بالأحاسيس قائلاً بنبرة مرحة:
-مش هاتقوليلي اتفضل ولا آآ...
هتفت مقاطعة بتوتر ملحوظ:
-اوه، تعالى موسأد!
ثم أفسحت المجال له ليمر..

ولكنه توقف لينحني بجسده للأمام ليحمل الصغيرة جينا بين ذراعيه..
عبثت الطفلة بوجهه بأناملها الصغيرة، فمال بفمه ليقبلهم بحنو أبوي..
راقبت سابين تصرفاته بغرابة شديدة..
لم تستطع انكار شعورها بالريبة مما يفعله، فهو يتصرف كأبيها بالفطرة، ناهيك عن الفضول الذي يكاد يقتلها لمعرفة سبب زيارته تلك..
أوصدت الباب وتحركت خلفه، ثم تبعته إلى الصالة..

أنزل مسعد الصغيرة، وداعبها قليلاً، ثم انتبه لصوت سابين وهي تتساءل بجمود:
-خير موسأد، إنت إمل ايه هنا؟
التفت برأسه نحوها ليتأملها..
لاتزال جميلة حينما تغضب وتعبس بوجهها..
ظهر شبح ابتسامة خفيفة على محياه وهو يتسلى برؤيتها حائرة شبه متلهفة لمعرفة أخر المستجدات، وسرعان ما أخفى بسمته ليستعيد ثابته، وأجابها بهدوء:
-كل خير يا صابرين!
لم تبدُ مقتنعة، وزاد انعقاد ما بين حاجبيها، فضيق نظراتها، وتابع بغموض:.

-مستغربة وجودي ليه، مش إنتي المفروض مراتي والمحروسة بنتي؟
ابتلعت ريقها بتوتر، وردت بهمس متلعثم:
-اوكي، بس آآ...
هتفت الصغيرة جينا مقاطعة حديثهما قائلة:
-مين ملحوسة!
رد عليها مسعد بضيق زائف:
-محروسة يا بنتي، انطقي صح!
ثم أخفض جسده وجثى على ركبته أمامها لينظر إليها عن قرب، وأكمل بجدية:
-انتي محتاجة تقعدي معايا أكتر من كده عشان أظبط المخارج والمداخل بتاعتك!

صاحت سابين بعصبية قليلة فقد نفذ صبرها من تخمين سبب زيارته:
-موسأد، بليز ركز معايا أنا، وسيب جينا الآن!
هز رأسه متفهماً وهو يردد:
-ماشي!
نهض عن الأرضية، واعتدل في وقفته، ثم كتف ذراعيه أمام صدره، ونظر لها بتفرس..
بدا هادئاً للغاية مما أثار أعصابها بشدة، فهتفت بنزق:
-انت جيت هنا ليه؟
أجابها بثبات واثق:
-وأنا جاوبت على سؤالك!

ثم أرخى ذراعيه وتحرك نحوها ليقف قبالتها وعلى بعد خطوتين منها، وحدق في عينيها مباشرة..
ارتبكت من نظراته التي تعرفها جيداً، وتوردت وجنتيها خجلاً منه..
أهذا هو تأثير الحب على عاشقيه؟
هكذا رددت في نفسها وهي تطالعه بنظرات ناعمة وساحرة..
تحرك خطوة أخرى ليقلص المسافة أكثر، فهي دوماً تجذبه إليها بطريقتها..
تراجعت عفوياً للخلف، وازدردت ريقها وهي تهمس بصوت خافت:
-أخر مرة إنت آآ...

مد يده فجأة ليمسك بها من كفيها، فقطمت عبارتها، وانتفض جسدها كلياً من لمساته، كما دبت فيها إرتعاشة قوية وهو يحرك ابهاميه على كفيها..
التوى فمه بابتسامة متحمسة لم يستطع مقاومة ظهورها فهو يشعر بها..
تتراقص دقات قلبه لأجلها..
همس لها بنبرة رومانسية وهو يرمقها بنظراته المتيمة:
-صابرين، العيلة وافقت إننا نتجوز!
انفرجت شفتاها بصدمة غير مصدقة ما قال، وارتفع حاجبيها للأعلى..
وهمست بصعوبة:
-هاه!

تابع هو قائلاً بحماسة مفرطة، والسعادة تبرز بوضوح من مقلتيه:
-يعني يدوب بس نشوف المطلوب ايه ونعلن الجواز قصاد الدنيا كلها!
ثم غمز لها ليضيف بمكر:
-ونعمر بقى الكون ونحسن السلالة بتاعتنا، مش انتي معايا في ده؟ خدي بالك ده مطلب جماهيري عريض!
قفز قلبها طرباً لجملته، هي ستجتمع أخيراً بمن أحبت تحت سقف واحد..
تحركت رأسها بإيماءات متتابعة تعبيراً عن صدمتها متساءلة بنبرة مضطربة:
-انت اتكلم جد؟

أجابها بثقة وهو يهز رأسه إيجاباً:
-هو في هزار في الحاجات دي!
تلاحقت أنفاسها، وزادت حمرة وجهها، وتساءلت مجدداً بتنهيدة متقطعة:
-يعني إنت وآآ، وأنا هنبقى couple ( زوجين )
لم يفهم مقصدها من كلمة ( زوجين ) التي لفظتها أمامه، وردد بحيرة بائنة:
-هو أنا مش فاهم انتي عاوزة كوباية ليه، بس اشطا هاجيبلك كل اللي نفسك فيه ونحطع في النيش!

تشكل على ثغرها ابتسامة راضية، وأخرجت تنهيدة تعبر عن فرحتها العامرة، كما تسارعت دقات قلبها، وتهدجت أنفاسها مما يحدث..
لقد انتهى الآلم..
انتهت لحظات الفراق والمعاناة والبقاء بداخل الذكريات الموجعة..
وآن الآوان لتمضي قدماً في حياتها...
لاحظ هو تلك الحالة الفريدة المسيطرة عليها، فقربها إليه بحذر، ومال برأسه على أذنها ليهمس لها بهمس العاشقين:
-بحبك يا مدوخاني! بحبك يا صابرين!

أغمضت عيناها لتستمتع بتلك الكلمات العذبة التي اخترقت آذانها، واقشعر بدنها لأنفاسه الحارة التي لفحت وجنتها وتعبر عن لهيب إشتياقه لها..
كما نهج صدرها توتراً من احساسه المرهف والصادق حينما تابع بعذوبة:
-محدش قدر يشقلب حالي كده غيرك، حبيتك بلسانك المعوج، بطريقتك العجيبة، حبيبتك زي ما انتي كده! حبيبتك وانتي سابين، حبيتك وانتي حتى صابرين!

أرادت أن تدوم حالة الهيام الباقية بها للأبج، فاستسلمت لخدر صوته، وتراخى جسدها منذراً بدخولها في حالة إغماء..
انتفض هو مذعوراً حينما رأها على وشك فقدان الوعي، وصاح بهلع:
-انتي هتموتي ولا ايه!
تمسك بها جيداً بذراعيه، وأبقاها بداخل أحضانه، فاستندت هي برأسها على صدره لتستمع إلى دقات قلبه الناطقة بحبه لتكتمل معزوفة الغرام الخاصة بها..
هتف مسعد بخوف وهو يحاول تحريكها:
-سابين سمعاني!

أومأت برأسها بحركة ملحوظة بصعوبة، فتنفس الصعداء لأنها مازالت في وعيها، وهتف بتلهف مرتعد:
-صابرين انتي كويسة؟
همست بصوت خفيض لتطمئنه:
-اها..
زفر بقوة وهو يردد بتبرم:
-بركاتك يا حاجة صفية! ملحقتش أقول كلمتين على بعض والبت هتروح مني!
توجست الصغيرة خيفة مما أصاب سابين، وهتفت بقلق وهي تضع كفيها الضئيلين على شفتيها:
-مامي
التفت مسعد برأسه نحوها، وابتسم قائلاً بمزاح:
-الظاهر أمك بتحب تشم بصل كتير!

سألته جينا بعدم فهم لحديثه:
-مامي sleep، دادي بلاي ( يلعب )
تذكر هو تكرار المشهد من قبل حينما فقدت سابين وعيها، وفهم ما تقصده الصغيرة، فرد عليها بمرح:
-اه هنلعب بالبصل تاني! روحي هاتي عروستك!
لف هو ذراعه حول خصر سابين، وانحنى قليلاً ليضع الأخر أسفل ركبتيها، ومن ثم حملها وضمها إليه، فطوقت هي عنقه بذراعيها، وغفت برأسها على كتفه..

أدركت الصغيرة أنهما يعيدان الكَرَة ويمارسان اللعبة التي لعبتها بدميتها من قبل، فصاحت بحماس وهي تصفق بيديها:
-ياي!
تمتم مسعد من بين أسنانه بسخرية وهو ينظر نحو سابين المتعلقة بعنقه:
-هبلة زي صابرين!

في الصالة الرياضية بالمركز الرياضي،
ولج باسل إلى الاستقبال الخارجي الملحق بالمركز، فانتبهت معظم المتواجدات لحضوره هو وأقرانه من ذوي الملابس العسكرية..
وبخطوات واثقة وجادة توجه ناحية مكتب الموظفة، ثم نزع نظارته الشمسية، وأردف قائلاً بصوت ثابت ورخيم:
-احنا عندنا موعد خاص بفوتو سيشن ( جلسة تصوير )
ارتبكت الموظفة من حضوره المثير، وردت بتعلثم وهي تعبث بالأوراق أمامها:
-آآ، أه يا فندم، أنا عندي خبر بده.

أضاق هو قائلاً بصلابة:
-المفروض جلسة التصوير خاصة، والشباب مستعدين، فيا ريت مانضيعش وقت!
هزت رأسها بإيماءة قوية وهي تقول:
-أها، أكيد!
تابع محذراً بضيق زائف ليزيد من إرباكها:
-مافيش وقت قدامنا!
أشارت بإصبعيها وهي تتحرك مبتعدة عن مكتبها:
-حضرتك اديني بس 5 دقايق هافضي بس الصالة لأن ده ميعاد تدريب السيدات!
-طيب.

كان باسل قد رتب مسبقاً مع مالكة المركز الرياضي موعداً لعقد جلسة تصوير فوتغرافية خاصة بخطبة عروسين وعلى قدر من الخصوصية وبعيدة عن الأضواء، وسيستعين فيها برفاقه في وحدته العسكرية ليضعوا اللمسات المميزة الخاصة بهم بناءاً على طلب المصور المحترف، وبالتالي كان يحتاج للصالة الواسعة لتنعقد فيها جلسة التصوير..

لاقي عرضه استحساناً من مالكته، ودعمت الفكرة كثيراً لأنه سيحمل دعاية لمركزها مستقبلاً، وكذلك لأن العروس من رواد هذا المكان..
اشترط هو عليها ألا يتم ابلاغ العروس حتى لا تفسد مفاجئته لها..
ونفذت هي طلبه برحابة صدر، فقد كانت من النوع المحب لتلك المناسبات السارة..

بدأت السيدات والفتيات يخرجن من الصالة التدريبية واحدة تلو الأخرى وعلامات الإعجاب مسيطرة على أوجههن بسبب هذا الكم من الأدرينالين الذكوري المتواجد بالمكان، ولما لا، فالأجواء حماسية وشيقة للغاية خاصة حينما تعمد الضباط إبراز عدد من مهاراتهم اليدوية القتالية ليتمكنوا من إلهائهن..
في نفس التوقيت كانت إيناس مشغولة بتدريب ذراعيها على رفع الأثقال..

تمددت متأهبة على المقعد الجلدي الطويل، ثم رفعت ذراعيها للأعلى لتمسك بالمقبض المعدني لحاملة الأثقال..
لم تعبأ بإنسحاب من حولها ظناً منها أنهن يتوجهن لتدريب اليوجا، واستمرت في التدريب على رفع الأوزان الجديدة..
ولج باسل إلى داخل الصالة، وبحث بعينين شغوفتين عن حبيبته، فرأها في إحدى الزوايا..
ولأنها صعبة المراس وحادة الطباع فتوجس خيفة أن تفسد خطته..

لذا بحرص شديد أوصد الباب على كلاهما بعد أن طلب من رجاله الاستمرار في مهمة الإلهاء..
جاب بعينيه المكان بنظرات شمولية، والتوى ثغره بمكر حينما وقعت أنظاره على المشغل الموسيقي، فهو أراد رفع صوت الموسيقى الحماسية المنبعثة منه كخلفية محفزة للمتدربين ا ليضمن تغطية صوت شجارهما إن نشب..

استشعرت إيناس بقلبها وجود شيء مريب، وكأن حدسها الأنثوي ينذرها بوجوده حولها، فتوقفت عما تفعل، وأغمضت عيناها لتتجسد صورته في مخيلتها..
عطره المميز داعب أنفها فزاد من تأثيره عليها..
تشنجت قسمات وجهها وفتحت عيناها مسرعة، وبدت أقل تركيزاً..
حاولت أن تصرف عن ذهنها تلك الفكرة الطائشة، وعاتبت نفسها لتفكيرها فيه، ثم عادوت ممارسة التمرين..
تحرك هو بخفة نحوها، ودقق النظر في هيئتها الغير مهندمة..

ورغم حالة التعرق والإنهاك المسيطرة عليها إلا أن توقه إليها لم ينتقص من قدره شيئاً، فقد كان متيماً برؤيتها على طبيعتها..
هي دوماً كما عهدها بشعرها الثائر مستقلة الشخصية، قوية، صبيانية، تميل للرياضات الذكورية العنيفة، لا تتجمل لأجل غيرها، هي كما هي منذ نعومة أظافرها..
أشرقت ابتسامته، ولمعت نظراته حينما وقف خلفها..
احنى رأسه نحوها واستطرد حديثه قائلاً بهدوء:
-وحشتيني!

شهقت مصعوقة لسماع صوته، وحدقت في وجهه المقلوب بنظرات مصدومة..
لم تتخيل مطلقاً أن يأتي إليها هنا..
كادت تفلت المقبض المعدني وهي ترفعه بسبب وجوده المباغت، ولكنه كان الأسرع في الإمساك به..
اتسعت مقلتيها معلنة عن غضب محتد، وبالطبع صرخت بصوت هادر:
-انت اتجننت، ازاي تيجي هنا؟
حافظ على هدوء نبرته وهو يجيبها:
-جيت عشان أشوفك!

كزت على أسنانها بشراسة، وتحولت نظراتها للقتامة، وحلت قبضتيها عن حاملة الأثقال لتعتدل في جلستها، وتبدأ معركتها الكلامية معه، فهو قد ارتكب خطئاً شنيعاً بمجيئه إليها..
اعتقد هو أنها تنتوي تركه، فلم يرغب في هروبها منه، لذا تعمد تثبيت جسدها بثقل الأوزان الحديدية بعد أن أسند الحاملة عليها..
صاحت بعصبية مستنكرة حركته وهي تتلوى بجسدها بتشنج:
-شيل الزفتة دي من عليا.

هز رأسه نافياً وهو يتحرك نحوها ليقف قبالتها مردداً بعناد:
-لأ، مش قبل ما تسمعيني للأخر!
اغتاظت من تصرفه الفظ معها، وهددته قائلة:
-قسماً بالله أصوت وأعملك فضيحة وآآ...
قاطعها بثقة واضحة استثارت عصبيتها أكثر:
-محدش هيسمعك أصلاً في الدوشة دي!
ثم غمز لها قائلاً بغرور:
-ده غير إني قايلهم إني خطيبك!
احتدت نظراتها من تصريحه، واشتعل جسدها حنقاً منه..

راقبها بإهتمام شغوف، وكتف ساعديه أمام صدره وهو يقف مزهواً بنفسه..
جاهدت لتحافظ على ثباتها رغم حالة الفوران التي تعتريها، وصاحت بنبرة شبه متآلمة:
-شيل القرف ده من عليا، درعاتي وجعوني!
حدق في رافعة الأثقال، وتوجس خيفة من احتمالية تآلمها منها، فحل ساعديه، وأشار لها قائلاً بتحذير:
-هيشلهم بس بشرط!
صاحت بصوت متشنج:
-قول وخلصني
مال عليها بجسده لتلتقي أعينهما معاً، وابتسم لها قائلاً بخفوت:.

-تسمعي اللي هاقولهولك للأخر! اتفقنا؟
ضيقت نظراتها لتصبح أكثر شراسة، وبادلته ابتسامة غير مريحة وهي تجيبه بصوت خفيض يحمل الريبة:
-ماشي!
لكنها تعهدت في داخل نفسها وهي مسلطة أنظارها عليه ألا تتركه اليوم إلا بعد أن تلقنه درساً قاسياً لا ينساه أبداً كمحصلة لجميع تصرفاته الوقحة والفظة معها...!

في منزل سابين،
أفاقت سابين من إغماءتها المؤقتة دون مساعدة أحد..
وضعت يدها على جبينها تتحسسه برفق وهي تتأوه بصوت خفيض.
شعرت بثقل قليل في رأسها، ودوار شبه محدود وهي تحاول الاعتدال في جلستها على الأريكة.
انقبض قلبها نوعاً ما حينما لم تجد الصغيرة جينا أو مسعد بالقرب منها.
تلفتت حولها بذعر وهي جاحظة لمقلتيها، ثم هبت منتفضة من مكانها..

ترنحت للحظة وهي تتحرك في أرجاء المنزل باحثة عنهما لكنها استعادت اتزانها وأكملت خطاها...
تنفست الصعداء، وعاد لون بشرة وجهها إلى طبيعته حينما وقفت على عتبة غرفة الصغيرة لتجد مسعد يلاعبها الغميضة وهو معصوب العينين.
كانت الطفلة جينا مستمتعة للغاية وضحكاتها المرحة تعلو عنان السماء
تشكلت بسمة سعيدة على محياها، وتنهدت بإرتياح لكون الاثنين اندمجا سوياً..
نزع مسعد العصابة عن عينيه هاتفاً بإحتجاج طفولي:.

-لأ انتي كده بتخمي، مين علمك ألاعيب الحاوي دي؟
رددت الصغيرة جينا ببراءة وهي شبه عابسة بوجهها:
-هاوي؟!
-موسأد
التفت كلاهما نحو سابين التي هتفت باسمه.
ركضت جينا نحوها، واحتضنت ساقيها بذراعيها وهي تصرخ بحماس:
-مامي!
ربتت سابين على رأسها بحنو، وظلت أنظارها معلقة بمسعد الذي كان يطالعها بنظراته العميقة.
تقدم خطوة نحوها، وسألها بإهتمام:
-عاملة ايه دلوقتي؟
أجابته بصوت خفيض:
-فاين ( بخير ).

قطب مسعد جبينه، ورد عليها وهو يهز كتفيه نافياً:
-مش معايا!
لم تفهم مقصده، وتساءلت بغرابة:
-ايه؟
أوضح لها قائلاً:
-انتي مش عاوزة مناديل؟!
أومأت برأسها بحركة خفيفة، وضحكت بخجل وهي تعاتبه برقة:
-أوه موسأد، إنت دايماً كده حب هزر!
أسبل عيناه نحوها، وهمس لها بتنهيدة حارة:
-قوليها تاني!
سألته بدلال:
-هي ايه؟
قلد هو لكنتها الغريبة قائلاً:
-موسأد!
همست بحياء وقد زاد تورد وجنتيها بصورة مغرية:
-بليز!

وضه هو يده أعلى رأسه، وفركها عدة مرات وهو يردد بعبث:
-آآآخ، مش ناوية تزودي عدد السكان بقى؟
نظرت له بإندهاش، فأكمل مازحاً:
-هانت، نظبط كل حاجة، ونخش بعدها على زيادة المواليد!

في الصالة الرياضية،
أزاح باسل رافعة الأثقال عن إيناس لتتمكن الأخيرة من الحركة بحرية تامة، اعتدلت على المقعد، ورمقته بنظرات ساخطة، وظلت مكفهرة الملامح..
ابتسم هو لها بتسلية، فزاد هذا من حنقها..
قامت بفرك رسغيها لتخفيف حدة الآلم بهما جراء الضغط بالأوزان عليهما.
استطرد باسل حديثه قائلاً بهدوء:
-نقدر دلوقتي نتكلم من غير ما آآ..

لم يكمل جملته للنهاية حيث استغلت هي الفرصة وسحبت أحد الأوزان، وقذفته في وجهه بقوة فأصاب أعلى حاجبه بإصابة مباشرة لم تخطئه، وصرخ متأوهاً:
-ايه الغباء ده!
ردت عليه بتشفي وهي تكز على أسنانها:
-أحسن! تستاهل، عشان تعرف انت وجعتني أد ايه
تحسس شق حاجبه الذي بدأ خيط الدماء يتسرب منه، وعنفها قائلاً:
-انتي بهدلتيني، ارتحتي كده؟!
تمتمت من بين أسنانها بسعادة ولكن بصوت خافت:
-شوية من اللي بتعمله فيا!

نفخ بغيظ ناظراً نحوها بحنق، وأخرج منشفة ورقية ليكتم بها دمائه، بينما عقدت هي ساعديها أمام صدرها متأملة إياه بإستعلاء.
لم يرغب هو في الرد بقسوة عليها، ففي النهاية كلاهما سيخسران لغة الحوار المنطقي.
هي لديها عذرها في التعامل معه بعنف، ورد الصاع صاعين، وهو مضطر لاثبات أنه كان مخطيء في تصرفه معها بوضاعة.
-بيتهيألي كده هديتي؟

سألها باسل بصعوبة وهو يحاول السيطرة على انفعالاته، فأجابته بتنهيدة إرتياح وهي تحرك جسدها بإهتزازة خفيفة:
-يعني!
نظر لها بحدة، وسألها مجدداً بتهكم:
-لو تحبي تحدفي الباقي معنديش مانع، يالا طلعي الشحنة اللي جواكي!
اتسعت عيناها في تحمس، وأرخت ذراعيها فوراً، وهتفت بإبتسامة عريضة:
-بجد!
أشار بكفه الأخر أمام وجهها قائلاً بصرامة بعد أن رأى في عينيها حماسة رهيبة للفتك به:
-خلاص بقى يا إيناس، عاوزين نتكلم جد!

عبست تعابير وجهها، وردت بإقتضاب:
-خير
تصنع الابتسام وهو يقول:
-كل خير إن شاء الله
ثم دنا منها بخطوة، فنظرت له شزراً، وتراجعت مبتعدة للخلف، فسألها بهدوء:
-انتي خايفة مني؟
ردت عليه بإرتباك قليل والوجوم يكسو قسماتها:
-أنا هاخاف منك؟ ليه يعني؟
ثم ازدردت ريقها لتتابع بقوة زائفة وهي تشير بيدها للأجهزة الرياضية:
-انت مش شايف أنا بأعمل ايه أصلاً!
تلفت حوله بنظرات سريعة شاملة، وردد مازحاً:.

-اه شايف، ناقص بس تعملي كمال أجسام وتبقي خدتي الفورما
لوت ثغرها لترد عليه بسخط:
-هه هه خفة!
تحرك مجدداً خطوة نحوها، فعفوياً تراجعت مبتعدة، فنظر لها بتمعن، وسألها متسلياً:
-اتحركتي ليه دلوقتي؟
عضت على شفتها السفلى، وهزت كتفها في عدم اكتراث، ثم أجابته بضيق:
-كده، مزاجي!
رفع حاجبه للأعلى قائلاً باستغراب متعجب:
-مممم، مزاجك؟!
أجابته بلا تردد:
-أه!
ثم نفخت بضيق واضح وهي تسأله:
-جاي ليه؟

صمت للحظة ليجيبها باحساسه الصادق:
-عشانك
نظرت له من طرف عينها مرددة بعدم اقتناع:
-عشاني؟!
أومأ برأسه بإيماءة خفيفة، وأجابها بتنهيدة عميقة:
-ايوه، أنا بأحبك يا إيناس!
حدقت فيه بنظرات متهكمة، ففهم نظراتها المعبرة عن حالها، وتابع قائلاً:
-وعارف إني كنت غبي معاكي زمان وآآ..
قاطعته قائلة بصوت ساخط:
-كويس إنك عارف!
ضغط على شفتيه، وأخفض نظراته، ثم استأنف حديثه قائلاً بندم:
-ومكانش ينفع أمد ايدي عليكي وآآآ...

هتفت مقاطعة إياه بحدة ومحاولة تجاوز تلك الذكرى العصيبة من عقلها:
-انا نسيت الموضوع ده، مافيش داعي نفتحه من جديد!
تفهم موقفها، وابتسم قائلاً بإيجاز:
-ماشي!
دنا أكثر منها حتى بات على بعد خطوتين منها، وأردف قائلاً بنبرة رومانسية:
-أنا بأحبك وآآآ...
قاطعته ساخرة من مشاعره وهي تشير بيدها:
-بأقولك ايه، اسلوب السهوكة ده مش لايق عليك!
تشنجت قسمات وجهه، وأظلمت عيناه قليلاً، وردد بصدمة:
-سهوكة!

هزت رأسها قائلة بقسوة متعمدة التشديد على كلماتها:
-ايوه، انت مش بتعرف بس غير تضرب، تشتم، تعور تموت، لكن الطريقة دي مش راكبة خالص معاك!
انزعج من اتهاماتها الحادة، وصاح بها محذراً:
-ايناس، أنا مش بأهزر معاكي، أنا بأعبرلك عن اللي جوايا!
هتفت فيه بإنفعال وقد برزت عروقها من الغضب:
-وأنا مش بأطيقك! إنت أكتر حد جرحني وعرفني أد ايه كنت حقيرة مع إني معملتش حاجة، وكنت مظلومة!

أخفض رأسه ندماً، ورد عليها بنبرة أسفة:
-كان غرضي أحميكي!
صاحت فيه بتشنج:
-بالضرب، بقلة الأدب، بالإهانة؟ اوعى تفهمني إن دي حماية عندك!
أدرك باسل أنها مصيبة في غضبها المبرر منه، فهو استخدم الأسلوب الأقسى في التعامل مع مراهقة مثلها في أصعب أوقاتها، ولم يكن ليناً في عقابها، أو حتى متفهماً لدفاعها عن نفسها.

نظرت هي إليه مطولاً، ورأت ردة فعله النادمة نحوها فاستعادت كبريائها المهزوم، ورفعت رأسها في شموخ جديد.
نكس رأسه قليلاً، وهمس معتذراً:
-أنا أسف
ردت عليه بجمود:
-معدتش ينفع!
رفع بصره نحوها، وهتف مستعطفاً:
-إيناس اديني فرصة أوضحلك إن آآ...
هتفت مقاطعة بصلابة:
-مش هاينفع!
تساءل بنفاذ صبر:
-ليه؟
صمتت للحظات تفكر في إجابة تعذبه بها، فطرأ ببالها إكمال اللعبة، وبابتسامة مغترة وغير عابئة ردت عليه:
-لأني مخطوبة لغيرك!

صاح مصدوماً بصوت جهوري، وقد اشتعلت عيناه فجأة:
-نعم!
تعمدت ترقيق نبرة صوتها، وتغنجت بجسدها قائلة بتصنع:
-ايه ده، هو مسعد مقالكش إني اتخطبت لوائل؟
كور باسل قبضة يده، وكز على أسنانه قائلاً بشراسة:
-ابن ال آآآ...
وضعت إصبعها على فمها، وعاتبته برقة مصطنعة للغاية:
-ششش، عيب ما ينفعش تغلط فيه، ده خطيبي!
هدر بها منفعلاً وهو يلوح بذراعه مهدداً:
-بت انتي! متقوليش كلام يخليني أتجنن!

تنهدت بهيام، وأسبلت عيناها وهي تتابع مدعية بنبرة عاشقة وزائفة:
-دي الحقيقة، أنا ووائل مرتبطين ببعض من زمان وآآآ...
صرخ مقاطعاً إياها بنبرة عدائية بعد أن تحولت نظراته للقتامة:
-إيناس!
عادت لطبيعتها مجدداً، وردت عليه بجمود:
-انت مش عاوز تسمع ليه!
أجابها بلا تردد:
-لأنه كدب، وأنا عارفك كويس!
أولته ظهرها، ولوت شفتيها غير مكترثة به..
وقف خلفها وتابع بهدوء عصيب:.

-انتي مش كده يا إيناس، وتربيتك كويسة، وعمرك ماهترضي تعملي حاجة تزعل أهلك!
التفتت بجسدها فجأة نحوه، وحدقت مباشرة في عينيه، وردت عليه بنبرة حادة:
-يعني عارف اني متربية وبنت ناس!
تشنج وجهها أكثر، ولمعت عيناها، واختنق صوتها وهي تتابع قائلة:
-طب ليه افتكرني وحشة؟ ليه كسرتني؟ وخلتني احتقر نفسي!
أجابها بأسف واضح:
-كنت غبي ومتخلف ومش بأفهم!
نظر لها معمقاً نظراته، واستأنف جملته بجدية:
-بس صدقيني ليا لي أسبابي!

سألته بحدة وهي تلوح بيدها:
-ايه هي؟
أجابها بهدوء محاولاً امتصاص غضبها:
-مكنش ينفع وقتها أعاملك بشكل مختلف، ومايصحش أبداً!
نظرت له بسخط، وردت عليه متساءلة بتهكم:
-ودلوقتي الوضع اتغير؟
حافظ على ثباته الانفعالي، وأجابها بابتسامة صغيرة وهو ينظر إليها بشغف:
-يعني، في فرصة إننا نقرب من بعض وآآ..
ردت عليه مقاطعة بجمود:
-مفتكرش، ونصيحتي ليك ترجع لخطيبتك ناتالي!
ثم ابتسمت بتهكم لتضيف قائلة ومتعمدة اغاظته:.

-دي حتى كيوت ولايقة عليك أوي!
زفر بصوت مسموع مردداً:
-اللهم طولك يا روح!
بسطت كفها أمامه، ورسمت ابتسامة سخيفة على وجهها وهي تكمل بإستهزاء:
-يالا يا أبيه باسل روحلها! هي تستاهل واحد زيك!
نظرت لها بحدة، ورد عليها بصوت شبه محتد:
-ماشي، خلصتي الشويتين بتوعك!
هزت رأسها بعدم مبالاة وهي تجيبه:
-أها!

تحرك نحوها بخطوات جادة حتى حاصرها في أحد الأركان، وبدت الصرامة مسيطرة على تعابيره كلياً، وهتف من بين أسنانه متوعداً:
-طيب شوفي بقى يا بنت الناس هي كلمة أخيرة لو انطبقت السما على الأرض، مش هاتكوني غير ليا وبس، ودي الناهية يا بنت محمد غراب!
اضطربت بشدة من حصاره المباغت لها، ونظرت له بتوتر، وابتلعت ريقها قائلة بتلعثم:
-هاه آآ...
تابع هو مهدداً وغير مكترث بعواقب تهديده الخطير:.

-ولو حكمت هاجيب الكتيبة كلها وأخطفك من وسط أهلك ونكتب الكتاب!
انفرجت شفتاها مدهوشة من حديثه، واتسعت عيناها في ذهول..
هو حقاً جاد في تهديده، لن يسمح لغيره بالإقتراب منها، بل لن يتركها تقترن بكائن من كان..
ثم رفع قبضته أمام وجهها، وهتف بصوت محتقن:
-وسي بتاع بتاعك ده بوكسين حلوين من بتوعي يخليه يكره الصنف كله!
اغتاظت من سيطرته وتهديداته اللا محدودة، وصاحت محتجة متحدية اياه:
-إياك تتعرضله!

رد عليها بعدم اهتمام:
-هو ميفرقش معايا!
رفعت سبابتها أمام وجهه صارخة فيه بغضب:
-عارف لو فكرت تقرب منه!
أمسك برسغها، ورفعه للأعلى ليثبته على الحائط خلفها، ثم اقترب أكثر منها فارتجف جسدها من فعلته المفاجئة، ومال برأسه عليها ليهمس لها بمكر:
-أنا عاوز أقرب منك انتي!
توترت أكثر من اقترابه الخطير، وصاحت بصوت متلعثم مرتعش محاولة تحري قبضتها من حصاره:
-ابعد!

ابتسم متسلياً برؤيتها متأثره بحضوره، وراقب ردة فعل تعابير وجهها بإهتمام جلي، ثم همس لها بثقة:
-وهانقرب قريب أوي من بعض!
صاحت فيه بإرتباك ملحوظ محاولة اخافته وهي تتلوى برسغها:
-اوعى!
أرخى قبضته عنها، وأشار بعينيه قائلاً بهدوء:
-اوكي يا نوسة!
فركت رسغها بيدها الأخرى، وصرخت فيه بعصبية:
-متقوليش نوسة!
ابتسم ممازحاً إياها:
-خلاص نسناسة
ردت عليه بحنق من بين شفتيها:
-إنت آآ، بسلة!

تعجب مما قالته، وسألها مجدداً بفضول وهو يحاصرها في الزاوية:
-أنا ايه؟ سمعيني كده!
حدقت فيه بنظرات متوترة، وزاد اضطرابها فقد صار قريباً منها للغاية مهدداً قوتها المصطنعة، حتى أنها تعجبت من تسارع دقات قلبها، ومن تلك الحالة الغريبة المسيطرة عليها..
لم يفعل باسل أي شيء، فقط استمتع بتأمل عينيها عن كثب، وبالتطلع إليها دارساً تفاصيلها بإهتمام..

في نفس التوقيت ولجت مالكة المركز الرياضي للصالة، فتفاجئت بتلك الوضعية، فهتفت بحماس وهي تصفق بيديها:
-أوه، So cute ( ظريف للغاية )
تراجع باسل بجسده للخلف، وتنحنح بحرج زائف:
-احم..!
رمشت المالكة بعينيها، وتابعت بدلال:
-سوري إن كنت قطعت كلامكم، بس الظباط برا عاملين آآ..
قاطعها قائلاً بجدية:
-شكراً يا مدام على كرم أخلاقك، أنا اتفقت مع خطيبتي اننا نعمل الفوتوسيشن وقت تاني لأحسن هي مش حابة تطلع مبهدلة كده!

عبست إيناس بوجهها بشدة عقب جملته الأخيرة، بينما بادلها هو نظرات سعيدة..
هزت المالكة رأسها متفهمة، وحافظت على ابتسامتها السمجة وهي تقول:
-صح، عندك حق، شكلها مش هايكون ظريف!
وزعت إيناس أنظارها المشتعلة بينهما، وغمغمت بحنق:
-والله!
همس لها ساخراً:
-اه جو عرق وتلزيق، انتي عارفة بقى!
كزت على أسنانها هامسة بغيظ:
-غلس!

أمسك هو كف يدها عنوة، فحاولت سحبه منه، لكنه جذبه إلى فمه ليقبله في حركة رومانسية منه، ورفع أنظاره نحوها قائلاً بتنهيدة:
-تشاو يا روحي، هاشوفك تاني!
سحبت يدها بعنف من قبضته، فانتصب في وقفته، وتابع قائلاً بمرح:
-اه وخدي شاور لأحسن شعرك منكوش وعاوز يتسرح
وضعت يدها عفوياً على خصلات شعرها، ونظرت له بحنق، ورددت بضيق بائن:
-رخم!

خرج هو من الصالة معتداً بنفسه متفاخراً من نجاح أول معاركه، وأشار إلى رفاقه قائلاً بجدية:
-يالا يا رجالة، مهمتنا هنا خلصت...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة