قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والأربعون

في منزل مسعد غراب،
حاول مسعد إقناع والدته بإقامة حفل زفاف كبير يدعو فيه المقربين والأحباب ليكمل فرحته، لكنها احتجت على طلبه معللة:
-عاوزني أعزم الناس تتفرج على فضيحتنا، وأديهم فرصة يلسنوا علينا!
ثم ربتت على فخذها متابعة بنبرة مستاءة:
-دي خيبة الأمل راكبة جمل
انزعج مسعد من حديثها الغير مجدي، وهتف معترضاً بتذمر:
-ياني يا ماما، بأقولك فرح وطبلة وزفة، وانتي تقولي جمل وأمل، ما بلاش الكلام ده!

لوحت بيدها في الهواء قائلة بعناد:
-لأ، هي أعدة في دار القرآن وخلاص!
صاح محتجاً بسخط:
-هو عزا يا حاجة صفية، انتي رايحة تشربي قهوة على روحي ولا ايه
عبست بوجهها قائلة بإمتعاض:
-بعد الشر عنك، بس انت مش عارف نأرزة الناس، ولسانهم المدلل!
حافظ مسعد على هدوئه بعد ذلك الكم الهائل من اختلاق المبررات والحجج لإثناءه عن إقامة الحفل، ورد عليها بابتسامة مصطنعة:.

-معلش يا ماما، مالناش دعوة بيهم، هما مش هيريحوا نفسهم، فخلينا احنا بقى نكتب الكتاب ونعلي الجواب ونشهيص كده!
تجهمت تعابير وجهها، وردت بإقتضاب:
-ياباي عليك يا مسعد لما تبقى زنان، أنا مش موافقة، مش عاوزة حد يعيب علينا! وأنا مش هاخسر قرايبنا!
وضع هو يده على طرف ذقنه، وحكها بغيظ، فأمه لا تزال متشبثة برأيها، وتمتم مع نفسه بخفوت:
-طب أقنعها ازاي؟
اتسعت عيناه قليلاً وهو يكمل حديث نفسه:.

-ايوه، أنا أخش عليها بنغمة اللي باعنا خسر دلعنا! ولا أخليها نغمة الحرمان أحسن، يمكن تجيب نتيجة معاها!
حدقت فيه صفية بغرابة، فقد بدا عجيباً وهو يتمتم بكلمات مبهمة، فهتفت بصوت مرتفع مخرجة إياه من حالة الشرود المؤقتة:
-انت بتكلم نفسك؟
رد عليها بإحباط:
-هاعمل ايه بس!
ثم مال على كتفها، وقبلها منه، وألح قائلاً:
-وافقي بقى يا ماما، أمانة عليك ترضي، وحياة آآ، سيادة اللوا آآ...

لم يكمل عبارته، وبرر هذا قائلاً بتوجس:
-آآ، لأ بلاش لأحسن يطلع الحلفان باطل وتبوظ الليلة، وأنا مش ناقص
ابتسم مجدداً، وأمطرها بوابل من القبلات المزعجة على رأسها وكتفها، ويدها مضيفاً بإصرار:
-ها يا ماما، بالله عليكي توافقي، يا ست الكل يا غالية!
تنهدت بإنهاك من إلحاحه المستمر، واستسلمت قائلة:
-لو مكنش بس قلبي ضعيف
هتف بحماس يتناقض مع حالة الوجوم السابقة:
-هو ده الكلام! أحبك يا أم الدنيا!

لكزته في جانبه قائلة بضجر:
-يا واد بطل بكش
رد عليها بسعادة:
-حاضر
ثم نهض من جوارها، وتابع قائلاً بنبرة متحمسة:
-هاقوم أكلم أخواتي وأعزمهم على الفرح وآآ...
قاطعته قائلة بغموض:
-باقولك!
تجمدت تعابيره لوهلة وهو يسأله بقلق:
-في ايه؟
أجابته بعبوس بائن في وجهها:
-أختك أسماء مش هتعرف تنزل أجازة قبل شهرين، جوزها قالها كده!
هز رأسه متفهماً وهو يوضح قائلاً:
-اها، قصدك الكفيل بقى وقرفه
حركت رأسها بالإيجاب مرددة:
-ايوه!

ابتسم قائلاً بنبرة عادية:
-مش مشكلة، هنبقى نبعتلها فيديو الفرح بلوتوث!
حاولت صفية لفظ ما قاله، فبدا صعباً عليها، ورددت بتلعثم:
-بلو بؤ، آآ، بؤ ايه ده يا مسعد؟
زادت ابتسامته اتساعاً وهو يجيبها مازحاً:
-بلو بؤ! هو انتي هتاخدي غطس في الصالة؟ الله يحظك يا حاجة!
قطبت جبينها مستفهمة بعصبية قليلة:
-تقصد ايه يعني؟
أشار لها بيده وهو يتابع بمرح:
-أقصد هاذيع الفرح مباشر من قلب الحدث! مرضية كده؟

نظرت له بضيق، فهو دائم المزاح في الأمور الجادة، ولم يرد هو افساد فرحته، فأضاف بجدية:
-هاروح أشوف ناقصني ايه وانجزه، سلام يا مزة!
وبخته قائلة بحدة:
-يا واد عيب، اتلم!
رد عليها مبتسماً بسعادة:
-ماشي يا مؤدب...!

بداخل غرفة إيناس،
عاتبت إيناس نفسها بحدة لتراخيها في أسلوب الشدة مع باسل، واستطاعته استمالة عقلها للين معه بالإضافة إلى ارتباكها الغير مفهوم في حضوره..
جابت غرفتها ذهاباً وإياباً وهي تضرب كفها بالأخر مرددة بضيق:
-كان مخي فين؟ إزاي مش اديته بوكس في وشه وكنت ضعيفة وزي الهبلة قصاده!
رفعت كفيها على رأسها، ودفنتهما في خصلات شعرها، وتابعت حديث نفسها بغيظ:.

-أووف منك يا بسلة، مش هاخليك تفتكر إنك كسبتني! لسه المعارك بينا كتير!
لم تلاحظ هي تفكيرها المستمر فيه حتى وإن كان بصورة غاضبة، ولكن في الآونة الأخيرة استحوذ على حيز كبير من عقلها.
انتبهت إلى صوت والدتها التي كانت تصيح بإنزعاج:
-ايه يا بنتي، ساعة عشان تردي عليا
نظرت نحوها، وردت بجمود:
-في ايه يا ماما؟
أجابتها صفية بجدية:
-اختك وعيالها جايين أخر الاسبوع!
-اسراء؟!
ردت عليها وهي تهز رأسها:.

-ايوه، وأسماء كلمتني من شوية، وباركت لأخوكي!
سألتها إيناس مستفهمة، فقد كان بادياً أنها غفت عن بعض المستجدات الأخيرة بشأن موضوع زواج أخيها:
-هو انتي قولتليهم؟
ردت عليها بإمتعاض وهي قاطبة لجبينها:
-اومال يعني هانخبي الخبر، لازم أخواتك وإجوازتهم والناس كلها تعرف إن أخوكي هيتجوز!
تساءلت بفضول أكبر وهي محدقة بها:
-طب وموضوع بنت صاحبة سابين، قصدي جينا وآآ...
قاطعتها والدتها قائلة بحنق:.

-بلاش تفكريني الله يكرمك، أنا ملصمة نفسي بالعافية!
لم ترغب إيناس في استفزاز والدتها في تلك المسألة تحديداً، فاقتضبت ردها:
-طيب!
أضافت صفية قائللة بجدية:
-شوفي انتي هاتعملي ايه، لأن أخوكي هيجيب التصاريح والحاجة وعلى أخر الإسبوع هيعقد ويخش!
ارتفع حاجبي إيناس للأعلى في اندهاش، وهتفت متعجبة:
-ايه ده! بسرعة كده!
ردت عليها صفية على مضض:
-أبوكي وأخوكي الله يسامحهم مسربعني، وهو هايقعد مع المحروسة في شقتها!

ابتسمت إيناس لوالدتها لتمتص ضيقها، ثم قالت:
-ربنا يفرحه يا ماما، هو صبر كتير واستحمل، وطالما ده هيسعده فبراحته
ردت صفية بسخط:
-ايوه، يصوم يصوم ويفطر على بصلة!
استنكرت إيناس ما قالته والدتها، وهتفت معترضة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! هو اختار الانسانة اللي بيحبها!
أرادت صفية أن تستغل الفرصة وتعيد مفاتحة ابنتها في مسألة خطبتها لباسل، لذلك تعمدت الحديث بنبرة حزينة:
-طب وانتي مش ناوية تفرحيني بجد؟!

فهمت إيناس مقصدها على الفور، واشتدت تعابير وجهها، وردت عليها بصلابة:
-لأ انسيني خالص!
ألحت عليها أمها قائلة بجدية وهي تشير بكفها محذرة إياها:
-يا نوسة ده باسل عريس كويس وابن ناس وشاريكي، مش أحسن مانسيبه للبومة السودة تاخده تاني ولا أي واحدة تانية تخطفه منك!
ردت عليها إيناس بنبرة عنيدة وقد ضاقت نظراتها:
-إن شاء الله يتجوز بعبع، أنا مش عاوزاه!

ضربت صفية كفها على فخذها تعبيراً عن استياءها من اضاعة ابنتها لتلك الفرصة، وهتفت قائلة:
-ربنا يهديكي ويلين مخك الحجر ده
زادت صلابة وجمود نظراتها، وردت عليها بجدية مفرطة:
-مش هايحصل، أبداً!

في منزل باسل سليم،
سرد باسل على أخيه الأكبر خالد خطته التي نفذها لإرباك إيناس واستثارة مشاعرها نحوه من خلال الاستعانة برفاقه في وحدته العسكرية في يوم إجازتهم والتخطيط لمفاجئتها في المركز الرياضي مدعياً أنه خطيبها ليضعها في موقف حرج وليؤكد أيضاً على وجود علاقة رسمية شبه معلنة للجميع حتى يمنع أي شخص من التفكير في الإرتباط بها..
نظر له خالد باستخفاف، وردد مستهزئاً:.

-طب بذمتك دي طريقة تتعامل بيها معاها؟
أجابه باسل بفتور:
-والله ده اللي جه في بالي يا خالد!
تابع خالد قائلاً بتوبيخ خفي:
-فين الدبلوماسية والكلام الرومانسي وآآ...
قاطعه باسل قائلاً بنبرة شبه حادة:
-أنا مش واخد على ده، أنا بتاع اقتحامات وهجوم مباغت!
استنكر خالد تفكير أخيه العنيف، وحذره قائلاً:
-الاسلوب ده مش هايجي معاها، هي محتاجة تحس إنك فعلاً اتغيرت، وإنك شخص عاطفي ورومانسي مش مجرد تجسيد للعنف والضرب!

رد عليه باسل بنفاذ صبر:
-ماهو انا قولتلها أسف وكان ناقص أوطي وأبوس دماغها!
هتف خالد ساخراً من رده:
-أه ده بعد ما تفتحهالها!
اغتاظ هو من برود أخيه وردوده المزعجة، فصاح بحدة:
-في ايه يا خالد، انت هتعمل شغل السفراء عليا؟
أجابه خالد بنبرة رزينة:
-أنا بأنصحك، البنات بيحبوا الراجل اللي يقدرهم، مش اللي يهينهم أو آآ...
قاطعه باسل قائلاً بثقة:
-أنا عارف هتعامل معاها ازاي!
رد عليه أخيه بتوجس:.

-مش مطمنلك، عندي يقين إنكم هتجوزوا في الانعاش، ده إذا ماخلصش واحد فيكم على التاني!
ابتسم باسل له، وغمز له قائلاً بثقة:
-اطمن، أنا جاهز للمعارك معاها، دي متعتي!
أشار له خالد بعينيه نحو جرحه البارز أعلى حاجبه، وأردف قائلاً بجدية:
-طيب قوم ادهن حاجبك، بدل ما هي معلمة عليك!

تذكر باسل ما فعلته إيناس معه من قذيفتها المباغتة، والتي أصابته في مقتل، وكانت موضوعاً للسخرية لبعض الوقت من رفاقه بعد خروجه من الصالة الرياضية، فضغط على شفتيه بقوة، وردد مستنكراً:
-اها، خدتني على خوانة!
جاهد خالد ليكتم ضحكاته قبل أن ينفجر فيه أخيه غضباً، وهمس ساخراً:
-واضح فعلاً!

في منزل سابين،
اعترضت سابين على إقامة حفل زفاف لهما مثلما خطط مسعد، ولكن أصر الأخير على المضي قدماً فيه من أجل سعادتهما، ورغم ما قاله من مبررات كثيرة إلا أنها رفضت قائلة:
-نو موسأد!
رد عليها بضيق بعد أن ضاق خلقه:
-يا صابرين انتي تعباني معاكي، أنا مش فاهم انتي مش عاوزة ايه بالظبط؟
أجابته بجدية:
-أنا مش إلبس wedding dress ( ثوب زفاف )
رد عليها مستنكراً بعد أن تجهم وجهه:.

-ليه إن شاء الله؟ هتحضري بالعباية مثلاً؟!
هزت رأسها نافية وهي تجيبه:
-نو ( لأ )، بس أنا أحب حاجة سيمبل ( بسيطة )!
لاحظ هو حالة الخوف الممزوجة بالتردد والمسيطرة عليها، فمازحها قائلاً كمحاولة منه لتخفيف حدة الضغوط:
-سومبل مين ده اللي بتحبيه؟ انطقي!
زفرت قائلة باستياء:
-بليز نتكلم جد!
مد هو يده ليمسك بكفيها، ثم فركهما بإبهاميه، واستطرد حديثه بمرح بعد أن سلط أنظاره العاشقة عليها:.

-يا صابرين دي ليلة العمر، وأنا بصراحة منمر على الزفة الميري، ولقطة التورتة أم شوكة واحدة، مش معقول يعني أضيع كل ده عليا، فكي بقى كده وافرحي زيي!

بدت تائهة نوعاً ما، فالموقف غريب عليها، هي هنا بمفردها بعيدة كلياً عن أحبائها وعائلتها، اعتادت البقاء في الخفاء وعدم الظهور في العلن لفترة ليست بقليلة، وفجأة تتحول إلى محط أنظار الجميع في ليلة يتم الاعتاد لها مسبقاً بفترة طويلة، ناهيك عن مسألة ابنة رفيقتها جينا، فهي ستعطي الناس فرصة للقيل والقال، وهي لا ترغب في هذا..
لذلك الأسلم أن تتنازل عن كل شيء، وتكتفي بأقل الأمور ضرراً..

ولهذا رفضت أن توضع في موقف حرج، أو تتعرض للسخرية، وهتفت مصرة:
-موسأد، أنا هاف ( أخاف ) من ناس، هما اتكلموا عليا، و specially ( خصوصا ) لما شوفوا جينا، ممكن آآ...
قاطعها قائلاً بنبرة معاندة:
-سيبك من عواجيز الفرح، وركزي معايا بس!
حاولت هي اللجوء إلى عذر أخر، فهتفت بنبرة بائسة:
-مامتك موسأد هتبقى حزين
سألها مندهشاً من حجتها الجديدة:
-حزينة ليه؟
أبعدت نظراتها عنه، وأجابته بضيق:
-مش ده فرح تحبه ليك.

وضع يده أسفل ذقنها، ورفع وجهه إليه، ثم أجابها مبتسماً:
-هي أمي مش هايعجبها العجب ولا الصيام في رجب، فكبري ومشي أمورك!
عقدت ما بين حاجبيها، وسألته بغموض:
-موسأد انت اكلم غريب!
رد عليها بإبتسامة بلهاء:
-ما غريب إلا الشيطان!
ثم قرب رأسه منها، وسلط أنظاره على شفتيها، وهمس لها بخبث:
-ماتيجي بقى آآ...
وضعت سابين إصبعيها على فمه، وحذرته بنعومة:
-موسأد!

قبلهما قبلة خاطفة، وتراجع للخلف بعد أن رمقته بنظرات محذرة من التمادي، ورد عليها بعبوس قليل:
-خلاص هتلم وأقعد بأدبي، واهوو كلها كام يوم ونصرف الشيطان ونكمل مسيرة انتاجنا القومي!

بعد مرور يومين،
في إحدى قاعات الدراسة بكلية السياسة والعلوم الإقتصادية،
مالت أماني على رفيقتها إيناس لتهمس لها بصوت خفيض وهي تراقب نظرات الأستاذ المحاضر بحذر:
-من ساعتها مجاش الكلية، وقافل تليفونه
نفخت إيناس بخفوت وهي ترد عليها:
-أنا مش عاوزة أعرف أخباره!
تساءلت أماني بإلحاح عجيب:
-يعني مش قلقانة عليه؟
ردت عليها إيناس بجدية وهي تتحاشى افتضاح أمر حديثها الجانبي:
-وائل أصلاً مش في دماغي!

استندت أماني بوجهها على راحة يدها، ورددت بضجر:
-بجد مافيش طريقة نوصله خالص!
حدجت إيناس رفيقتها بنظرات غامضة، فقد كانت دائمة الحديث عن وائل، بل تهتم بكل صغيرة وكبيرة تخصه فبات مزعجاً لها، لذلك سألتها قائلة:
-أماني مش ملاحظة انك مهتمة أوي بوائل
انتبهت الأخيرة لحديثها، واعتدلت في جلستها، ونظرت لها بتوتر وهي تردد بإرتباك:
-هه، أنا؟
أضافت ايناس قائلة بجدية:
-انتي بتكلمي عنه 24 ساعة في اليوم!

وضعت أماني يدها على فمها مصدومة من تصريح صديقتها، واستنكرت تصرفها المبالغ فيه قائلة بعدم تصديق:
-ايه ده بجد، جايز أنا أفورت حبتين!
هزت إيناس رأسها نافية:
-لأ أفورتي جامد، على فكرة ممكن يكون ده اهتمام منك بيه!
حركت أماني كتفيها في عدم مبالاة، ومطت فمها قائلة:
-لأ مش عارفة!
انتبهت كلتاهما إلى صوت الأستاذ المحاضر حينما صاح بصوت مرتفع:
-ركزوا يا شباب، الجزئية اللي جاية دي مهمة!

وقبل أن يكمل حديثه، فتح باب القاعة على مصراعيه فجأة، وولج منه باسل مرتدياً ثيابه العسكرية، وواضعاً لنظارته القاتمة على عينيه، وأردف قائلاً بصرامة:
-بعد اذنك يا دكتور
اتسعت حدقتي إيناس بصدمة كبيرة، وشهقت مدهوشة حينما رأته متواجداً بالقاعة، بل وانفرجت شفتاها في ذهول مرددة بعدم تصديق:
-يالهوي، ايه اللي جابه ده!
صاح فيه الأستاذ الجامعي بغضب بسبب تجاوزه آداب الاستئذان:.

-انت مين؟ وازاي تقتحم علينا القاعة بالشكل ده؟!
نزع باسل نظارته، ورمقه بنظرات قوية، ثم أجابه بنبرة واثقة:
-أنا الرائد باسل سليم، ومعايا أمر باصطحاب الآنسة إيناس محمد غراب!
وضعت إيناس كفيها على فمها لتكتم شهقة صادرة منها، ونهج صدرها من فرط التوتر الذي أصابها، فما يفعله الآن يتخطى حدود المنطق، وغمغمت بقلق كبير مما قد يبدر منه:
-ده مجنون رسمي، مختل عقلياً!
تساءلت أماني بفضول وهي تراقب ردة فعل رفيقتها:.

-مين ده يا نوسة؟
أجابتها الأخيرة بضيق:
-الزفت باسل!
همست أماني بإعجاب بعد أن ارتفع حاجبيها بإنبهار بائن من هيئته المثيرة:
-أوبا هو ده، ليكي حق مش تفكري في وائل خالص
نهرتها إيناس قائلة بحدة:
-اسكتي دلوقتي!
تساءل الأستاذ الجامعي بجدية وهو يتفرسه بنظرات شمولية:
-عاوزها ليه؟
أجابه باسل بغموض واثق بعد أن التفت برأسه بعيداً عنه ليبحث بعينيه عن حبيبته المختبأة بين جموع الطلبة:
-دواعي أمنية يا دكتور.

نظر له الأستاذ الجامعي قائلاً بإستغراب:
-نعم؟
تابع باسل قائلاً بتأكيد وقد التقطت عيناه مكانها:
-( دواعي أمنية، مشددة )، ومقدرش أقول أكتر من كده!
صدرت همهمات عالية بين الطلبة، ونظر الجميع إلى بعضهم البعض بحيرة، فمن تلك المحظوظة التي يأتي ضابطاً وسيماً من أجلها
بالطبع غبطتها، بل حسدتها غالبية الفتيات المتواجدات بالقاعة..
هتف باسل بصوت جهوري صارم:
-ممكن تتفضلي معايا يا آنسة!

انقبض قلب إيناس بشدة، فقد خشيت من تهوره الأهوج إن رفضت الإنصات له، وهمست متوجسة:
-ده ناوي يفضحني!
ردت عليها أماني مشجعة إياها على الذهاب معه والاستمتاع بمغامرة لن تتكرر أبداً في الجامعة ومادحة إياه:
-روحي معاه، ده شكله جان وكيوت وجذاب على الأخر!
عنفتها إيناس بخفوت:
-اسكتي، انتي مش عارفة حاجة
صاح باسل قائلاً بنبرة ذات مغزى:
-يالا يا آنسة!
بينما أضاف الأستاذ الجامعي بجدية محفزاً إياها:.

-روحي يا آنسة إيناس مع حضرت الظابط، وربنا يسترها علينا!
نفخت بحنق، فلم يكن أمامها بداً من الإعتراض، لقد أحكم خطته تلك المرة، وحاصرها مرة أخرى، فعجزت عن الفرار منه..
لملمت أشيائها، وعلقت حقيبتها على كتفها، واخترقت جموع الطلبة الجالسين إلى جوارها لتتمكن من ترك المدرج، ثم نزلت على الدرج بخطوات شبه متعثرة، ونظراتها المستشاطة غضباً مسلطة عليه..

ابتسم لها بمكر، وغمز لها قبل أن يعيد وضع نظارته، ثم أشار بكفه لتتبعه إلى خارج القاعة..
وما إن تأكدت هي من ابتعادها عن أعين المحيطين بهما حتى هتفت فيه بنبرة محتدة:
-انت اتجننت عشان تيجي لحد كليتي وتعمل الفيلم ده!
أجابها بإبتسامة مغترة وهو يدس يديه في جيبيه:
-وأكتر من كده كمان!
هتفت مستنكرة تفكيره الأهوج قائلة باستهزاء:
-بجد انت هربت منك!
رد عليها ببرود محاولاً استفزازها:
-ماهو حبك جنني يا نوسة.

نظرت له شزراً من طرف عينها، وتابعت بتهكم:
-باين كده، مخك لسع، وعلى رأي ماما اللي يشوفه يفتكره فارس في ساحته، ومايعرفش إنه حتى الشراب شاحته!
اغتاظ من أسلوبها الفج في الحديث، وعنفها بحذر:
-ألفاظك رهيبة فحت! فلمي لسانك!
ردت عليه بوقاحة:
-بأنزل لمستواك اللي تستاهله!
تهكم من طريقتها الغير لائقة قائلاً بسخط:
-لا بجد! ده مستوى الشِلت! فعيب على طالبة سياسة تكلم كده!

احتقن وجهها من رده القاسي عليها، واستشعرت أنها تجاوزت أدب الحوار، وربما بهذا أعطته فرصة لإهانتها والتطاول عليها بسبب زلة لسانها، فهتفت بضيق:
-مالكش دعوة
أكملا سيرهما سوياً في صمت حتى وصلا إلى خارج المبني، فاستطرد باسل حديثه قائلاً بهدوء:
-تعرفي، عاجبني فيكي إننا بنكمل بعض!
ردت عليه ساخرة:
-احنا هنموت بعض في الأخر عشان ترتاح!

ضحك من ردها، فاستفزها أكثر، وضيقت أعينها لتنظر له بنظرات حادة، فبادلها هو بنظرات حانية، وتشدق مبرراً سبب ضحكه:
-نفس الكلام اللي قاله خالد بالظبط! بس مع فرق المصطلحات!
سألته بغرابة وقد زاد تجهم تعابيرها:
-خالد مين ده؟
أجابها بإيجاز:
-أخويا الكبير!
أرادت استفزازه، فتعمدت رسم ابتسامة غريبة على محياها، وهمست بنعومة:
-اها الكيوت الجان ال، آآ...
قاطعها مهدداً بنبرة عدائية:.

-زودي حرف كمان وهتروحي زيارة لمستشفى أبو الريش!
عادت إلى طبيعتها، ونفخت قائلة:
-اوف بجد منك!
تلفتت هي حولها حينما رأته يتجه بها نحو مرآب السيارات، وسألته بتوجس قليل:
-احنا رايحين فين كده؟
أجابها بغموض وهو يغمز لها:
-دواعي أمنية!
ردت عليه بحدة وهي تركل الأرضية بقدمها بعصبية:
-بلاش الكلمة دي، مستفزة!
رد عليها مبتسماً بهدوء:
-ماشي!

ضغط على زر القفل الالكتروني الخاص بسيارته، ثم أشار لها بيده لتستقلها وتجلس في المقعد الأمامي، فخشيت أن تركبها، وتسمرت في مكانها، ثم التفتت نحوه، وسألته بجمود:
-اخدني على فين؟
أجابها بنبرة متريثة:
-مش هاخطفك، متقلقيش!
رفعت أعينها نحوه وهي تسأله بإقتضاب:
-اومال؟
رد عليها بأريحية:
-أنا استأذنت أخوكي أخدك مشوار!
استنكرت رده الغريب قائلة بتهكم:
-ومسعد بقى open mind ( متفتح العقل ) ووافق عادي!

فهم المغزى من عبارتها الأخيرة، والتي تحمل معناً ضمنياً مسيئاً إليه، ودافع عنه قائلاً:
-اه، هو واثق فيا، وأنا مش هاخذل صاحبي!
ردت بسخط قليل:
-ونعم الصحوبية!
صحح لها كلمتها قائلاً بنبرة متعمدة:
-دي أخوية يا حبيبتي!
اكتشفت حيلته المنطوية على استخدام كلمات متوارية للتغزل بها، وعنفته قائلة بغلظة:
-أنا مش حبيبتك، أنا إيناس أخت صاحبك! افتكر ده كويس!
ضغط على شفتيه بقوة مردداً بإستياء:
-خليكي كده احبطيني!

ردت عليه بعدم اكتراث:
-هو ده اللي عندي وإن كان عاجبك!
دنا منها فتوترت، وأردف قائلاً بصوت رخيم:
-اي حاجة منك حلوة!
ثم أخفض نبرته ليتغزل بها:
-ماهو كلك على بعضك حلو!
اضطربت نبضاتها، وتوردت وجنتيها خجلاً منه طريقته الغير معتادة معها، واستشعرت تلك السخونية التي تتسرب إلى وجهها، فحاولت أن تبدو طبيعية أمامه، ورددت بإمتعاض هامس:
-غتت.

راقب باسل تأثير كلماته الناعمة عليها – حتى وإن كانت موجزة – لكنها أتت بثمارها، ورأى بوضوح ارتباكها المثير لمشاعره، فردد بين جنبات نفسه بسعادة متأججة:
-الظاهر إن عندك حق يا خالد، كله بالحنية بيفك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة