قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

بإمتعاض ظاهر على قسمات وجهها ونظراتها الحادة اضطرت إيناس أن تستقل سيارة باسل..
لم تنظر نحوه، وحدقت في الطريق أمامها، وأحيانا كانت تشيح بوجهها للجانب لتنظر من النافذة الملاصقة لها..
أراد هو معاتبتها على أسلوبها الفظ في الحديث، فبحث بتروي على طريقة للاسترسال معها، لذلك استطرد قائلاً بصوت هاديء:
-إيناس!
لم تعقب عليه رغم وجود ارتباك خفيف، وتنفست بصوت مسموع..
أعاد تكرار ندائه لها قائلاً وهو ينظر نحوها:.

-إيناس، أنا بأكلمك، بصلي!
ضغطت على شفتيها على مضض، والتفتت نحوه بتثاقل، ثم أجابته بفتور:
-خير
تابع قائلاً بهدوء حذر وهو يرمقها بنظرات جادة:
-يا ريت بعد كده لو هنتكلم سوا يكون في أسلوب أحسن شوية
ارتفع حاجبها للأعلى مستنكرة عبارته هاتفة:
-افندم
أوضح لها مقصده قائلاً:.

-المفروض انتي طالبة في سياسة واقتصاد، وجو الشلت وقعدات المصطبة مايلقش على جو الدبلوماسية والكلام الراقي، أي حد لو سمعك بتكلمي بالشكل ده هيرد عليكي إما بكلام يزعلك، أو هيبصلك بصة مش حلوة، وأنا في الحالتين مرضاش بده ليكي!
اغتاظت هي من توبيخه المهذب لها، هي لم تقصد أن تكون لاذعة في سخريتها منه، لكنه دوماً يقلل من شأنها، فأرادت أن تكيل له بنفس المكيال..

ولكن كان رده عليها تلك المرة مختلفاً، فجعلها تشعر بالضيق وبكونه محقاً في عتابه، وتساءلت بين جنبات نفسها لماذا لم يكن رقيقاً هكذا حينما كانت في أمس الحاجة إلى كلمات طيبة محفزة لها، وليس إلى وقاحة شرسة محبطة ومدمرة لشخصها؟
أغمضت عيناها حزناً، واكتفت بإخراج تنهيدة عميقة من صدرها..
سألها باسل بصوت رخيم قاطعاً حبل أفكارها بعد أن طال صمتها:
-ها، اتفقنا؟
ردت بإيجاز دون أن تلتفت نحوه:
-ربنا يسهل.

راقب هو تبدل تعابير وجهها للحمرة الخفيفة، مع تحوله للعبوس والإنزعاج، فأيقن أنها تفهمت غرضه واستشعرت خطئها..
تمنى لو كان قد تعامل مسبقاً معها بنفس الأسلوب المعاتب دون تطاول أو إساءة، بالطبع لكان هذا شكل فارقاً في العلاقة بينهما الآن، فدوماً هما بين شد وجذب، بين كره وعِناد..
تنهد مطولاً، واستدار بالسيارة في اتجاه مغاير، قطبت هي جبينها مندهشة، وسألته بجدية:
-انت واخدني على فين؟
رد عليها بغموض:
-مشوار.

زادت ريبتها من كلمته المقتضبة، وسألته بقلق قليل:
-يعني فين ده؟
ابتسم قائلاً لها وهو يغمز بطرف عينه:
-والله مش خاطفك، مع إن في مقدوري، بس أنا ملتزم مع أخوكي بكلمته!
شعرت بزهو طفيف في نبرته، فهتفت متحدية إياه:
-متقدرش أصلاً تعمل ده، أنا مش هاسكتلك!
مازحها قائلاً بإبتسامة عريضة:
-عارف، ما أنا معايا بطلة العالم في النكد!
ضيقت نظراتها لتصيح مستنكرة:
-نعم!

جاهد لكتم ضحكاته بعد أن رأى احتقان نظراتها وتعابيرها، وصحح بهدوء:
-قصدي في رفع الأثقال!
-اوف
تمتمت مع نفسها بكلمات مبهمة، وأشاحت بوجهها بعيداً عنه، بينما راقبها هو بإستمتاع عجيب مكملاً قيادة السيارة نحو وجهتهما الغامضة..

في منزل سابين،
استعان مسعد بخبراء في الديكور لترتيب أثاث المنزل الجديد بعد أن أصر على شراء غرفة نوم جديدة، وأيضاً غرفة معيشة، لتتناسب مع كون المنزل ( شقة للزوجية ) بعد إجراء تلك التعديلات.
فرحت جينا كثيراً بالإضافة الطفولية لغرفتها التي زادتها براءة وجمالاً، ولم تقل سعادة سابين عنها.
رأت في أفعال مسعد نحوها –وكذلك الصغيرة - حب حقيقي نابع من قلب طيب لا يعرف البغض أو الحقد.

وتمنت أن تدوم فرحتها للأبد.
اتفقت معه على عدم دعوة عائلتها لحضور حفل الزفاف لتجنب تعرضهم للخطر حال استمرار أحدهم بمراقبتها مع إبلاغهما سراً – وبترتيبات أمنية خاصة – بمسألة زواجها الفعلي.
لاحظ مسعد شرودها، فاقترب منها، وهمس بمرح:
-الجميل سرحان في ايه؟
هزت كتفيها وهي تجيبه بإبتسامة رقيقة:
-ولا حاجة؟
غمز لها هو قائلاً بمكر:
-هانت كلها حبة أد كده ونقفل علينا الباب، وهتشوفي العجب معايا.

نظرت له بجدية متساءلة بعدم فهم من عبارته الغير واضحة:
-تقصد ايه؟
أومأ بعينيه قائلاً بعبث وقد زاد بريق عيناه:
-الحاجات دي متتقالش، دي بتتعمل يا قمر!
خجلت من كلماته المتوارية، وردت عليه بجمود محذرة إياه:
-موسأد!
همس لها بتنهيدة عاشقة وهو مسبل عيناه:
-عيون مسعد!
ردت عليه بعتاب ناعم:
-انت قليل الأدب!
هتف مازحاً وراسماً ابتسامة بلهاء على وجهه:
-عيب عليكي، أنا مش متربي يا حبيبتي!
نكست رأسها حياءاً منه، وهمست بخجل:.

-أوه
ازداد حماسة من حرجها وتورد وجهها، ثم هتف بمرح:
-هو في كده؟!
وضعت سبابتها على طرف أنفها، وتحاشت النظر إليه، وهمست برجاء:
-بليز، أنا اتكسف!
هز هو رأسه بالنفي قائلاً بثقة:
-أنا لأ!
أدركت أن أسلوبها الغير حازم معه سيجعله يتمادى في طريقته، لذا بدلت نبرتها للجدية، وتعابير وجهها للصرامة، ثم هتفت محذرة:
-موسأد، ها؟!
أومأ برأسه إيجاباً موحياً لها بخنوعه لطلبها، وردد قائلاً:
-حاضر يا حبي!

على مقربة من أحد المولات الشهيرة،
أوقف باسل سيارته في الجراج الخاص بالمول الشهير، فتلفتت إيناس حولها بإندهاش وتساءلت بجدية وعلامات الإنبهار واضحة عليها:
-هو انت جايبنا هنا ليه؟
أجابها مبتسماً:
-مانفكسيش تشوفي البطريق؟
قطبت جبينها بحيرة، ورددت باستغراب:
-بطريق؟!
أومأ برأسه بإشارة خفيفة، وأجابها بحماس قليل:
-أها، أنا سمعت انهم فتحوا هنا سكاي إيجيبت، وفيه بطاريق وحاجات عجيبة كده فقولت أخدك تشوفيه.

انفرجت شفتاها بذهول وهي تردد بحماس ظاهر في تعابير وجهها ونظراتها:
-ايه ده بجد؟
ابتسم قائلاً بود:
-طبعاً، اومال احنا جايين هنا ليه!
هللت قائلة بعدم تصديق وقد اتسعت عيناها بفرحة كبيرة:
-ياه، أنا مش مصدقة، أنا هاشوف البطاريق وهاتزحلق على الجليد، ده أنا هاغيظ أصحابي وزمايلي وهاتصور معاهم سليفي وآآ...
قاطعها قائلاً بجدية مصطنعة:
-واحدة واحدة، ندخل بس الأول ونقطع التذاكر وبعدها تعملي اللي انتي عاوزاه!

أومأت برأسها إيجاباً قائلة:
-اوكي!
حدق باسل فيها متفرساً تلك الفرحة والسعادة البارزة في تصرفاتها، وتمتم مع نفسه قائلاً:
-لو كنت أعرف ان الحاجات دي بتبسط البنات أوي كنت عملتها من زمان!
لوحت هي بيدها قائلة بجدية وهي تسرع في خطواتها:
-يالا بسرعة
-ماشي
قالها وهو يسير خلفها مستمتعاً برؤيتها في تلك الحالة..

وقف باسل أمام الموظف المسئول عن حجز تذاكر الدخول للباحة المليئة بالثلوج الاصطناعية ليقطع تذكرتين لكليهما، فصعق حينما عرف الأسعار الخاصة بذلك المكان، وصاح مدهوشاً:
-نعم، بتقول كام؟
أجابه الموظف ببرود:
-زي ما حضرتك شايف، دي أسعار الدخول والألعاب المصاحبة لكل نوع!
تساءل باسل بإمتعاض واضح على محياه وهو يرمقه بنظرات منزعجة:
-ودي فردي ولا عائلي؟
رد عليه الموظف بنفس النبرة الجافة:
-للفرد الواحد يا فندم!

هتف باسل بصوت مرتفع وقد انعقد حاجبيه باستنكار:
-ليه إن شاء الله!
أوضح له الموظف سبب غلو الأسعار قائلاً ببرود:
-يا فندم حضرتك هاتشوف كمان البطريق وتتصور معاه لمدة دقيقتين!
هتف بتأفف بعد ان اشتعلت عيناه غيظاً:
-بس!
عادت إيناس وهي تحمل في يدها قفازاً، ثم تساءلت بإهتمام:
-ها حجزت؟
نظر لها قائلاً بتأفف:
-لسه، انتي مش شايفة الأسعار عاملة إزاي، أنا مكونتش مفكر الموضوع غالي كده!
ردت عليه بجدية وهي تشير بعينيها:.

-أومال ايه؟ ده بطريق يا باسل بطريق!
همس قائلاً بغيظ:
-ده بيقبض اكتر مني!
قاطع حديثهما الموظف قائلاً بهدوء مستفز:
-يا فندم البطريق عنده ساعة واحدة في اليوم يشوف فيها الناس!
التفت باسل ناحيته، وسأله بتهكم:
-ليه يعني؟ وراه الديوان واحنا مش عارفين؟!
عبست إيناس بوجهها بعد أن رأت الجدال الدائر بينهما، وتنهدت قائلة بإستياء:
-شكلك مش فرحان؟ على فكرة إنت ممكن تكنسل الموضوع
رد عليها متمتماً بصوت خفيض:.

-هو مش شكلي، ده جيبي!
ثم زفر بصوت مسموع، وهتف قائلاً باستسلام وهو يدس يده في جيبه ليخرج حافظة نقوده:
-أمري لله، خد يا سيدي إياكش يطمر في سيادته!
تناول الموظف النقود منه، وابتسم مجاملاً بابتسامة صفراء:
-تمام، لحظة أجيب لحضراتكم البدل والأدوات!
استدار باسل ناحية حبيبته، وسألها بجدية:
-مبسوطة يا إيناس
اتسعت ابتسامتها وهي تجيبه بنبرة مرحة:
-إنت مش متخيل فرحتي، أخيراً!

حافظ هو على شكل بسمته الزائفة أمامها وهو يحدث نفسه قائلاً بغيظ:
-على الله تيجي بفايدة، مايبقاش موت وخراب ديار!

قضت إيناس وقتاً طيباً حماسياً للغاية مستمتعة فيه بكل لحظة وهي بداخل ذلك المكان الثلجي..
كانت تلهو كالأطفال تتقاذف كرات الثلج في الهواء، كما ألقت بجسدها على بعض الأكوام المتراصة لتطبع شكل جسدها عليه..
راقبها باسل بتعجب ظاهر على ملامحه..
نعم فهي كانت مختلفة تماماً عن ذي قبل، طفلة، مرحة، لا تحمل ضغينة نحوه، تضحك بعفوية وبراءة من قلبها
وفجأة هتفت بحماس مثير وهي تشير بيدها:
-البطريق أهوو.

ثم ركضت في اتجاهه، فلحق هو بها قائلاً بجدية:
-طب بالراحة وانتي ماشية!
ردت قائلة بتلهف:
-عاوزة ألحقه
ردد هو على مضض وهو يركض خلفها:
-على رأيك ده أنا صارف ومكلف، كمان مش هاشوف جنابه!
وقفت إيناي على مقربة شديدة من طائر البطريق، وهتفت بحماس وهي تخرج هاتفها المحمول لتعطيه إلى باسل:
-صورني يا باسل معاه، على أد ما تقدر مش هوصيك!

أشار لها بيده رافضاً أخذه، فتعجبت منه، وبدت على وشك الغضب، فأسرع بالتلويح بهاتفه المحمول ففهمت أنه يريد استخدامه..
هو بالفعل قرر استغلال الفرصة لالتقاط صورة تذكارية معها، ولما لا، فهو يستحق تلك المكافأة بعد مجهوده لاستمالتها.
وبمكر واضح رد عليها قائلاً:
-ماشي، بس مش قبل ما ناخد صورة سوا
هزت رأسها بالإيجاب وهي تهتف بتلهف:
-طيب بسرعة يالا!

وقف باسل إلى جوارها، ورمقها بنظرات شغوفة، ثم ابتسم قائلاً بصوت حنون بعد أن مال بكتفه ناحيتها ليكون قريباً منها:
-اضحكي!
رسمت هي بسمة عريضة على ثغرها، وهتفت بحماس وهي محدقة في انعكاس صورتها:
-ها، كده حلو
بادلها نفس الابتسامة السعيدة ونظراته لم تفارق وجهها، وردد بتنهيدة مشتاقة:
-تمام!

ثم ضغط على زر الالتقاط ليسجل هاتفه لقطات مميزة لكليهما معاً مطالعاً إياها فيهم بنظرات المتيم الغارق شوقاً في أنهر العاشقين..
ورغم التكلفة الباهظة التي تكبدها اليوم إلا أنه كان مسروراً أنها في النهاية قد أتت بثمارها مع حبيبته..
ولعل القادم أفضل له إن استمر معها على هذا المنوال..

في أحد محال ثياب الزفاف،
زفر مسعد بإرهاق واضح، فقد مضى وقتاً وسابين تجرب ثوباً تلو الأخر محاولة انتقاء الأقرب إلى تصورها..
كانت الصغيرة جينا تعبث ببراءة في أثواب الزفاف وجميع من في المحل يداعبها بلطف وود..
بعد برهة خرجت سابين من غرفة القياس وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، فهب مسعد واقفاً من مكانه، وسألها بجدية:
-ها يا صابرين، اختارتي حاجة؟
هزت رأسها بإيماءة خفيفة وهي تجيبه بصوت خفيض:
-ييس ( نعم )!

هتف وهو ينفخ عالياً:
-أخيراً، يا صبر أيوب!
شعرت هي بالحرج من طول المدة التي استغرقتها في تجربة كل ثوب على حدا، لذلك أردفت قائلة بحياء وقد توردت وجنتيها نوعاً ما:
-سوري موسأد، بس أنا بأدور على حاجة سيمبل!
سألها بفضول وهو يغمز لها بعينه:
-طب هي فين؟ وريهاني!
هزت رأسها معترضة بشدة مرددة:
-نو ( لأ )، دي bad omen ( فأل سيء )!

لم يفهم هو معنى تلك الكلمات الموجزة بوضوح واعتقد أنها تطلب منه الذهاب، فتساءل بتعجب وهو يتلفت حوله:
-أقوم أروح فين؟
ابتسمت لأسلوبه المرح، وردت عليه بنبرة ناعمة:
-نو ( لأ ) موسأد، إنت مش لازم شوف dress ( ثوب )!
في نفس اللحظة انضمت السيدة صفية إليهما لتقول بنبرة متأففة وعلامات الإنزعاج والنفور جلية على قسماتها:
-ها يا حلوة اختارتي حاجة ولا هنلف لسه على كعوب رجلينا!
ردت عليها سابين بهدوء رقيق:
-خلاص أنطي!

لوت صفية ثغرها لتقول بإقتضاب متهكم:
-أنطك! اعوجي لسانك عليا كمان!
مال مسعد على والدته، وأسند كفه على كتفها، ثم همس لها بضجر:
-يا ماما دي أجنبية، مش عاوجة بؤها ولا حاجة!
نظرت هي له شزراً، وردت بعبوس:
-دافع عنها دافع!
توسل مسعد لها قائلاً باستعطاف خفي:
-بلاش الله يكرمك شغل الحموات من دلوقتي، اديها فرصة تخش عندنا الأول وتتمرمغ معانا، وبعدها دوسي براحتك!
عنفته قائلة بعد أن رأت تلهفه الواضح نحوها:.

-يا مسعد اتقل كده، بلاش تبقى مدلوق عليها، هتسوق فيها وتتعوج عليك!
رد عليها غير مكترث:
-واتقل ليه وأنا بأحبها وهي بتحبني
زادت نظراتها حدة، واغتاظت من رده، ثم هتفت بتبرم:
-هتفضل طول عمرك كده على نياتك!
ابتسم قائلاً بسعادة:
-إنما الأعمال بالنيات، وأنا نيتي حلوة على الأخر!
أضافت صفية قائلة بتجهم:
-بكرة تلعن اليوم اللي اتجوزتها فيه، اسمع مني!
رد عليها بعدم مبالاة:
-ماشي، بس برضوه هاجرب الأول معاها!

يئست هي من محاولاتها الفاشلة في اثناءه عن زواجه منها، وردت باستياء جلي:
-مافيش فايدة منك!
وثبت الصغيرة جينا بمرح وهي تقترب من مسعد، ثم التفتت برأسها نحو صفية، ونظرت لها بتفحص، وهتفت ببراءة وهي تشير بسبابتها نحوها:
-نانا!
نظرت لها صفية بضيق، ولكزت ابنها في كتفه وهي تقول بضجر:
-حوش ياخويا
جذبت الصغيرة جينا مسعد من بنطاله، وتابعت الهتاف المرح:
-دادي، نانا!

وزع هو نظراته بين والدته وبين الصغيرة، ورسم ابتسامة بلهاء على فمه وهو يردد بحذر:
-اه، هي ستك صفية!
هتفت صفية بنبرة قاتمة وهي تضرب كفها بالأخر مستنكرة الأمر برمته:
-أل كنت ناقصة دلاديل!
ضغط مسعد على شفتيه قائلاً بتذمر:
-خفي يا ماما، البنت واقفة!
ردت هي عليه بحدة:
-طب انجز بقى، أنا تعبت من اللف والدوران!
هتف مستنكراً تعجلها الغير مبرر:
-هو احنا لحقنا!
ردت عليه بنفاذ صبر وهي تشير بيدها:.

-بأقولك ايه، الشمس طول النهار عندي في البيت وضاربة في دماغي!
مازحها مسعد قائلاً بسخرية:
-ليه هو البيت من غير سقف؟
ردت عليه بسخط محذرة إياه من التمادي معها بتلك الطريقة:
-بطل هزارك الرخم!
حرك رأسه بحركة خفيفة وهو يردد:
-ماشي يا ست الكل، هي عامة خلصت وهانروح كلنا!
هتفت وهي تزفر بنفور:
-أوف، الحمدلله!

لاحقاً في سيارة باسل،
انهت إيناس جولتها في المول الشهير بعد لعبها المرح في الباحة الثلجية، ثم عاودت الجلوس في السيارة، وانطلق بها باسل في طريق العودة للمنزل..
تنهدت بسعادة مرددة:
-انت مش متخيل أنا اتبسطت أد ايه النهاردة!
استدار برأسه قليلاً نحوها، ورد عليها بثقة مغترة:
-عشان تعرفي
أضافت هي قائلة بإعجاب:
-لأ، أبهرتني بصراحة!
هز رأسه قائلاً بتفاخر:
-طب الحمدلله
ثم ساد الصمت بينهما..

لم تلتفت هي نحوه مجدداً، وظلت محدقة في الطريق أمامها
اختلس هو النظرت إليها، وتطلع لها بتمعن بين الحين والأخر..
تردد في سؤالها عن إحساسها نحوه، لكن لا طاقة به للصبر وتخمين شعورها، لذلك حسم أمره، وهتف بصوت ثقيل:
-إيناس!
التفتت برأسها نصف التفاتة، ونظرت نحوه بحذر قائلة:
-ايوه
حدق فيها بنظرات ثابتة، ثم سألها بهدوء مريب:
-انتي لسه شايلة مني؟
اضطربت قليلاً من سؤاله، وردت بإيجاز:
-معرفش!

هي لم تكن تعرف حقاً شعورها الحالي نحوه، لكنه لم يعد ذلك النفور التام أو حتى البغض الكلي، فشعورها الحانق منه تناقص تدريجياً إلى حد ما..
أخرجها هو من حيرتها المؤقتة قائلاً بجدية:
-أنا مش عاوزك تكرهيني، اديني فرصة آآ...
لم ترد إيناس اظهار ارتباك تفكيرها أمامه، فقاطعته قائلة بجمود:
-معلش أنا تعبانة ومش قادرة أتكلم!
استشعر هو رغبتها في عدم الحديث، فهز رأسه بتفهم، وأخفض نبرة صوته قائلاً:.

-براحتك، أنا مش هاضغط عليكي
ظهر شبح ابتسامة على ثغرها من أسلوبه اللطيف في الحوار والتعامل معها..
لم يعد باسل القديم – ذو الطبائع الحادة والعصبية – من يتواجد معها حالياً، وإنما شخصية مهذبة تدفعك لاحترامها بطريقتها..
لوهلة شردت تفكر فيه وتقارن بين حالة بين الماضي والحاضر، ولكنها انتبهت لصوته وهو يردد بسعادة:
-بس تعرفي أنا مبسوط إنك مقولتيش أبيه النهاردة.

اكتسى وجهها بحمرة سريعة وهي تنظر نحوه، وازدردت ريقها بتوتر قليل، ثم أشاحت بوجهها بعيداً محاولة اخفاء اضطرابها الحسي..
تابع هو قائلاً بإعجاب:
-ده انجاز في حد ذاته!
توجس هو خيفة من أن يكون قد أزعجها بكلماته المتوارية، فسألها بخوف:
-اوعى تكوني مضايقة مني
هزت كتفيها قائلة بعدم اهتمام:
-عادي، مافيش حاجة
تنفس بعمق، ثم أخرج زفيراً مطولاً مردداً بإصرار:
-تمام يا نوسة، أنا راضي بالقليل بتاعك.

ثم رمقها بنظراته المتأملة لها، وتابع في نفسه قائلاً بتمني:
-وعقبال يا رب ما تفتحي قلبك ليا وتحني عليا...!

في منزل باسل سليم،
أوصل باسل إيناس إلى منزلها، ثم عاد هو إلى بيته ليلج إلى غرفته، ويلقي بثقل جسده على الفراش..
أغمض عيناه تعباً، وزفر نفساً عميقاً من صدره، ثم ابتسم لنفسه بسعادة..
ولما لا فقد قضى يوماً مميزاً مع من يحب، وتذكر هو تلك الصور الفوتغرافية التي التقطها بهاتفه، فاعتدل في نومته، وأخرجه من جيبه، ثم تأملهم بنظرات ممعنة ودقيقة..
كانت ابتسامة إيناس واضحة خالية من الزيف والاصطناع..

بالطبع كانت انعكاساً ظاهراً عن سعادة حقيقية، وكأن ما بينهما من خلافات قد تبخرت لتحل محلها فرحة من نوع مختلف.
لم يدرِ كم مر عليه من الوقت وهو محدق بصورتها، ممتعاً عيناه بالنظر إليها وكأنه يخاطبها في صمت.
تنهد بحرارة وردد بشتياق:
-والله العظيم بأحبك، نفسي تحسي بده!

ليلاً في منزل مسعد غراب،
حدقت إيناس في سقفية الغرفة وهي تتلاعب بخصلات شعرها شاردة فيما حدث خلال يومها المثير والغير متوقع مع باسل.
فكرت هي فيما فعله معها بطريقة مختلفة كلياً عما مضى، وعقدت تلك المقارنة مرة أخرى بين تصرفاته السابقة وأفعاله الحالية..
فكانت في صالحه هذه المرة..
شعرت بالاضطراب والتخبط نتيجة اهتزاز وتخلخل الحواجز الوهمية التي وضعتها لنفسها لتحكم علاقتها به.

وبررت لنفسها موقفها المتغير نحوه قائلة بتردد:
-يمكن مش وحش زي ما أنا مفكرة، بس، بس ده آآ...
ثم أسرعت مستنكرة خنوعها وتراجعها عن رأيها العنيد قائلة:
-لالالا، أنا مش لازم أفكر فيه، خليني أركز في مذاكرتي أحسن
ثم استدارت بجسدها لتنام على جانبها، حاولت إجبار عقلها على عدم التفكير فيه والنوم جبراً، لكن تكررت مشاهد اليوم بصورة أكثر تركيزاً وعمقاً، فاستسلمت لها، وغفت وهي تبتسم لنفسها بإرتياح..

في منزل باسل سليم،
اقترح خالد على أخيه أن يذهب هو بنفسه لمقابلة إيناس في كليتها في محاولة جادة منه للحديث معها وإزالة الأثار السيئة التي تركها في نفسها سابقاً، واقناعها بإعطاء أخيه فرصة للتقرب منها..
لم يصدق باسل أذنيه، وهتف بحماس عجيب:
-هاتعمل ده عشاني؟
رد عليه أخيه بهدوء جاد:
-انت أخويا، ومقدرش أشوفك كده متبهدل!
تهدجت أنفاسه بسعادة وهو يردد:
-أنا مش عارف أقولك ايه!
رد قائلاً بجدية:.

-ادعيلي أتوفق معاها
ربت باسل على كتف أخيه، وهتف بثقة:
-انت أدها وأدود يا سعادت السفير!
رفع خالد حاجبيه للعائلة قائلاً بإندهاش مصطنع:
-سفير مرة واحدة!
رد عليه باسل بمرح:
-طبعاً، سفير ورئيس الأمم المتحدة كمان، بس اظبطني مع مرات أخوك!
أومأ خالد برأسه قائلاً:
-حاضر، هاعمل اللي أقدر عليه، وهأشوفها بكرة في الكلية!

عقد باسل كفيه خلف رأسه، وتطلع أمامه بنظرات متفائلة وهو يتمدد بإسترخاء على الأريكة، فالبدايات كلها مبشرة بالخير..

في منزل مسعد غراب،
وصلت إسراء إلى منزل العائلة لتشارك أخيها فرحته، وبعد تناولها الطعام مع أفراد أسرتها تركت ابنيها يلهوان أسفل البناية لتتمكن من الحديث مع مسعد على انفراد..
رأت هي في أعين أخيها نظرات الفرحة وبريق الحب، فأيقنت أنه لم يخطيء الإختيار، وسألته مؤكدة لكي يطمئن قلبها:
-أهم حاجة إنك تكون فرحان معاها
أجابها بثقة مفرطة:
-إسراء، دي حبي الأول والأخير!
حركت رأسها قائلة بإعجاب:.

-ده انت بقيت شاعر، سيدي يا سيدي على الحب!
تابع هو قائلاً بجدية:
-المهم عندي تميلي دماغ أمك من ناحيتها لأحسن مدياها الوش الجبس وهاتخش موسوعة جينس في الإحباط!
ردت عليه بإمتعاض قليل:
-ما انت عارف ماما، طالما الحاجة مش عجباها ب آآ...
قاطعها مسعد قائلاً:
-يا بنتي انتي عندك قدرات خارقة، وهتعرفي تدخليلها من ثغراتها، اعملي فيا معروف واخدميني!
مطت فمها لتفكر ملياً فيما قاله، فأكمل بتوسل:
-عشان خاطر أخوكي، ماشي!

ردت عليه بإختصار:
-طيب!
ثم حذرها قائلاً بتوجس وقد عبس وجهه:
-وبلاش جوز المعيز يكونوا أعدين معاكي، دول بيفسدوا أي حاجة!
ضاقت نظراتها وأصبحت أكثر حدة، وعاتبته قائلة بتجهم:
-بقى عيالي جوز معيز يا مسعد!
ابتسم ببلاهة وهو يقول:
-بأهزر يا حبيبتي، ماتبقيش كشرية كده!
-طيب!
ثم تابع بجدية أكثر وهو يشير بحاجبيه:
-اتكلموا بس لوحدكم أهم حاجة
وافقته الرأي قائلة:
-حاضر
زادت ابتسامته اتساعاً وهو يشكرها ممتناً:.

-حبيبتي يا إسراء! تسلمي يا رب.

وبالفعل امتثلت إسراء لطلب أخيها، وتوجهت للحديث مع والدتها لتقنعها بإستخدام أسلوب الرفق واللين مع سابين..
اعترضت الأخيرة على تدخل ابنتها في الأمر، ونفخت بغيظ..
وضعت إسراء يدها على كتف والدتها، ثم انحنت لتقبلها من جبينها، وأردفت قائلة:
-ده مسعد حبيبك، بلاش كده معاه!
ردت عليها بسخط:
-كل ما أشوفها قصادي بأضايق، كان نفسي أفرحله بجد!
دافعت إسراء عن أخيها قائلة بجدية:.

-ماهو مبسوط يا ماما، انتي مش شايفاه بعينك!
ردت عليها والدتها بتبرم:
-الناس هايكلوا وشنا، وهو عاوز يقصر رقبتي ويخليها أد السمسمة قصادهم!
تنهدت إسراء بإرهاق من تفكير والدتها العقيم، وتابعت بهدوء جاد:
-محدش بيريح حاله، خلينا نعمل اللي عاوزينه وخلاص!
نظرت صفية إلى ابنتها بنظرات منزعجة، وعاتبتها قائلة:
-بقيتي بتكلمي زي اخوكي!
ابتسمت هي لها بود، وبررت موقفها:.

-ما هو صعبان عليا، عاوز يرضيكي وفي نفس الوقت مش عاوز يحرم نفسه من حب حياته!
هتفت صفية محتجة:
-وهو أنا معترضة، بس غصب عني، قلبي مش مرتاح، فرحتي بيه ناقصة!
أضافت إسراء قائلة بابتسامة مطمئنة:
-ابعدي وساوس الشياطين عن دماغك وإن شاء الله خير!
ردت عليها بإقتضاب وهي قاطبة لجبينها:
-ربنا يسهل
قبلت إسراء والدتها مجدداً من رأسها، ومسحت على ظهرها برفق، وردت بصوت متفائل:
-هيسهل إن شاء الله بس انتي انوي!

في صباح اليوم التالي،
في كافيتريا الكلية،
جلست إيناس مع خالد على إحدى الطاولات الشاغرة – وبعيداً عن الزحام – بعد أن رأته منتظراً إياها على باب قاعتها الدراسية..
تعجبت من حضوره المفاجيء، لكنها رضخت لطلبه الحديث معها.
استطرد هو حديثه قائلاً بنبرة دبلوماسية معتادة:
-أنا طلبت أتكلم معاكي، وأتمنى مكونش معطلك عن حاجة!
ردت عليه بهدوء:
-لأ أنا عندي وقت فاضي، لسه ساعة على المحاضرة التانية.

ابتسم بتصنع وهو يتابع:
-كويس، وأنا مش هاخد من وقتك كتير!
سألته بفضول وهي محدقة فيه:
-خير يا أستاذ خالد!
صمت للحظة قبل أن يجيبها بغموض:
-باسل!
انعقد ما بين حاجبيها، وسألته بنبرة مرتابة:
-ماله؟
أجابها بهدوء عجيب:
-بيحبك!
ارتبكت من رده الصريح، واشتعلت وجنتيها بتلك السخونية الغير متوقعة..
جاهدت لتحافظ على ثباتها الانفعالي، لكن تعابير وجهها المرتبكة تفضح أمرها..
تلعثمت وهي تجيبه:
-أنا مش عاوزة آآ...

قاطعها قائلاً بجدية:
-اسمعيني للأخر من فضلك يا إيناس!
ازدردت ريقها قائلة بتوتر:
-اتفضل!
أخذ هو نفساً عميقاً، ثم زفره على مهل، واستأنف حديثه الجدي:
-باسل بيحبك من زمان، وكان بيكابر، بس احساسه ناحيتك واضح من أول لحظة اتعلق فيها بيكي!
شعرت بالحرج لكون أخيه الأكبر يتحدث عن تلك المسألة الحساسة بأريحية تامة، وكأنه على دراية بكل ما يدور، فارتبكت أكثر، وحاولت الحديث، فخرج صوتها متقطعاً:
-انا آآ...

تابع مقاطعاً إياها بنبرة متريثة لكنها صارمة:
-بلاش تقاطعي من فضلك!
هزت رأسها مستسلمة:
-طيب!
أكمل خالد حديثه الجدي قائلاً بهدوء:
-هو كان غبي لما اتصرف بطريقته دي معاكي زمان، بس يمكن كان عنده مبرراته تخليه آآ...
انفعلت إيناس من تحويل مسألة إهانتها والتطاول عليها باللفظ والفعل إلى مجرد تصرفات هوجاء طائشة، فهتفت بحنق وقد تحولت نظراتها للحدة:
-ده أهاني ومد ايده عليا، وحسسني أد ايه كنت حقيرة، وآآ...

رد عليها بصوت هاديء مقاطعاً إياها:
-هو ندم انه عمل كده! صدقيني ندم بجد مش مجرد كلام
وكأن حديثه الرزين قد امتص نوبة غضبها قبل أن تثور في وجهه، فتنفس بإرتياح لنجاحه في هذا، وتابع بهدوء:
-أنا مش عارف أوصفلك بالظبط هو بيحاول يعمل ايه عشان يصلح غلطته دي ويثبتلك انه بيحبك أوي!
نكست رأسها للأسفل، وتحاشت النظر نحو خالد، وظلت تفرك في أصابع يدها المسنودة على حرجها بتوتر كبير..

تفرس خالد في ردود فعلها الطبيعي، وأدرك أن حديثه يُحدث تأثيراً بها، فتوسم خيراً أن يأتي بنتائج مبشرة..
لذلك أضاف بنبرة رخيمة:
-هو نفسه يعرف مشاعرك ناحيته دلوقتي!
ظلت هي مبعدة لعينيها عن أخيه، وردت بصوت شبه متحشرج ومختنق نسبياً:
-آآ، أنا متلخبطة، أوقات كتير بأحس إني عاوزة أخنقه لما بأفتكر اسلوبه معايا، بأكرهه جايز، ببقى مضايقة منه، نفسي أخليه يدوق شوية من إحساسي بالقهر وآآ..
قاطعها قائلاً بجدية:.

-بس هل انتي بتحبيه؟
رفعت رأسها لتنظر نحوه بعد سؤاله المباغت، فأوضح معللاً الغرض من سؤاله:
-أقصد في مشاعر جواكي ناحيته؟!
ردت بحذر وهي تبتلع ريقها:
-مش عارفة!
ابتسم لارتباكها، وسألها بفضول:
-طيب لو حذفنا اللي حصل زمان، وكلامه البايخ، هل في فرصة إنكم يعني، آآ، نقول مثلاً تنسوا اللي فات، وتدوا نفسكم فرصة تتعرفوا على بعض من أول وجديد
صمتت إيناس ولم تجبه، وأخذت تفكر بعقلانية في حديثه الأخير..

مال خالد نحوها بجسده للأمام، واستأنف حديثه:
-فكري بقلبك، واسمحيله ياخد فرصة معاكي، مش هاتخسري حاجة!
ردت بفتور:
-هاشوف!
حصل خالد على مراده من حديثه مع إيناس، ولم يكن لديه المزيد ليضيفه لذلك نهض واقفاً من مكانه، وتشدق قائلاً:
-طيب، هاسيبك تشوفي اللي وراكي، وهاروح أشوف شغلي أنا كمان!
هبت هي الأخرى واقفة، وردت عليه باستغراب:
-لسه بدري!
ابتسم قائلاً بتهذيب:
-يدوب ألحق وقتي، وأتمنى أسمع أخبار حلوة قريب!

ابتسمت قائلة برقة:
-إن شاء الله
ثم مد يده ليصافحها وهو يقول:
-عن اذنك
صافحته بحذر قائلة:
-اتفضل يا أستاذ خالد!
ألقت هي بجسدها على المقعد بعد انصراف خالد، وتمتمت مع نفسها قائلة:
-عاملي زي عفريت العلبة يا باسل، بتطلعلي في كل حتة!

في الوحدة التدريبية،
أعد مسعد حقيبته واضعاً فيها ما يحتاج إليه من متعلقاته الخاصة، وعاونه باسل في ترتيب حاجاته، ثم مازحه قائلاً:
-ايوه يا عم مين أدك، أجازة جواز وهتهيص!
نظر له رفيقه بإنزعاج، وردد بضيق:
-الله أكبر، ومن شر حاسد إذا حسد!
رد عليه باسل مبتسماً بمرح:
-متخافش أنا مش بأحسدك!
هتف مسعد قائلاً بسخرية وهو يشير بحاجبيه:
-ايوه، انت عينك صفرا بس
رد عليه باسل بجدية:.

-لا صفرا ولا ألوان، المهم، مافيش أخبار عن رأي إيناس؟!
أجابه مسعد بفتور:
-لا أخبار ولا أهرام، أنا رأيي تكبر دماغك منها، وتشوفلك واحدة تانية!
انزعج هو من رده الجاف، فهو يختزل مشاعره في كونها شيء عابر، ودافع عن رغبته بها قائلاً بحدة:
-يا سيدي أنا بأحبها، وآآ، وهي أكيد بتحبني!
التوى ثغر مسعد ليرد بتهكم:
-واضح فعلاً، ده حتى أنتو من شهداء الغرام!
زفر باسل قائلاً باستياء:.

-بلاش تريقة علينا، هي بس اللي بتكابر معايا!
لم يقتنع مسعد بما يقوله، وهتف بإصرار:
-ده أنا شايفها وعارفها بنفسي، انت واقف في زورها، خد مني واشتري!
نفخ باسل بصوت مسموع، ورد بنبرة محبطة وقد تهدل كتفيه:
-هي لو تفكر كويس وتنسى اللي فات!
انتبه مسعد لجملته الأخيرة والتي بدت غامضة للغاية، لذا سأله مستفهماً:
-تنسى ايه بالظبط؟

ارتبك باسل من سؤاله المباغت، وفكر سريعاً في رد موجز ومقنع ليقوله له، فطرأ بباله أن يتفوه بحذر:
-آآ، أقصد يعني، ماتعتبرنيش زي أخوها
حرك مسعد رأسه بإيماءة خفيفة قائلاً:
-اها، فهمتك!
ربت باسل على ظهره، وألح قائلاً برجاء خفي:
-طب ما تخدم أخوك وتقول كلمتين طيبين في حقي
رد عليه مسعد بتبرم:
-هو أنا فاضيلك! ماتخلي عندك دم!
ابتسم له باسل بتصنع، وتابع بنبرة متعشمة:
-معلش، ده أنا حبيبك، وبكرة تحتاجني في وقت زنقة!

رد عليه مسعد بقلق وهو يغلق سحاب حقيبته:
-كفاية الزنقة اللي أنا فيها!
أصر باسل على طلبه قائلاً بود:
-يا عم هاخدمك، واحدة بواحدة!
استسلم مسعد لإلحاح رفيقه المستمر، ورد بنبرة منهكة:
-ماشي، هاجرب!
تهللت أسارير باسل، وهتف بحماس جلي:
-ايوه بقى يا مسعد! عاوز أحصلك وأتجوز!
وقف مسعد قبالته، ثم وضع يده على كتفه، وحدق فيه بنظرات مباشرة وثابتة، وأردف قائلاً بجدية:
-يا باسل خدها مني نصيحة!

تعجب هو من حالة التبدل السريع التي سيطرت عليه، وسأله بتوجس:
-نصيحة ايه دي؟
أجابه بابتسامة مراوغة:
-الراجل مننا قبل الجواز هيموت ويتجوز ويقضي يومين عسل!
هز باسل رأسه مقتنعاً، فتابع الأخير حديثه ولكن بعبوس وضجر:
-إنما بعد الجواز هايكون عاوز ايه غير انه لما يرجع من الشغل يلاقي مراته ماتت!
ارتفع حاجبي باسل للأعلى مستنكراً عبارته:
-يا ساتر يا رب، ده انت نظرتك سودة للحياة!

ضرب كتفه بقبضته، ورد عليه بنبرة يشوبها اللامبالاة:
-ده الواقع يا حبيبي، شر ولابد منه!
أمال باسل رأسه للجانب وحركها بإيماءة ظاهرة ليضيف بمكر:
-طب ما تيالا مع أخوك! وأهوو يجرب زيك!
-حاضر، أما أشوف أخرتها ايه معاك ومعاها
قالها مسعد وهو يعلق حقيبته على كتفه لينصرف بعدها إلى الخارج، في حين تبعه صديقه وهو مستمر في الحديث عن رغبته في الاستقرار والارتباط بإيناس حتى مل هو من ثرثرته الزائدة...

في منزل مسعد غراب،
لم يتوقف مسعد عن محاولة إقناع أخته الصغرى بالعدول عن رأيها بشأن مسألة خطبتها لباسل، ولاحقها حتى في غرفتها ليكمل محاولته الأخيرة وهتف بإندفاع:
-يا نوسة الواد باسل هايموت عليكي! اديله فرصة!
ردت هي عليه بضجر وهي تكتف ساعديها:
-بأقولك أنا مش بأحبه
مازحها قائلاً بسخرية:
-ومين بيحبه أصلاً!
أرخت ذراعيها، ونظرت نحوه هاتفة بنزق:
-اهوو انت بنفسك بتقول آآ...

قاطعها سريعاً قبل أن تتمادى في ظنها الخاطيء به:
-بس والله طيب وأخلاق وابن حلال!
تنهدت بإحباط، ومطت شفتيها للأمام ولم تعقب..
اقترب مسعد من أخته، وطوق كتفيها بذراعه، وأضاف بمرح:
-يا بنتي ده مسمينوه أيقونة الجدعنة، رمز الشهامة!
أدارت رأسها للجانب لتنظر إليه باستغراب مرددة:
-بسلة؟!
رد عليها مبتسماً ببلاهة:
-تخيلي! بسلة!

أشاحت بوجهها بعيداً، وأطلقت تنهيدة عميقة من صدرها، وتحركت عدة خطوات للأمام ليسود الصمت بينهما للحظات..
لا يعرف أحد ما الذي يجول في عقلها من صراعات كبيرة..
هي تحاول تجاوز المسألة والتفكير بذهن صافٍ في كونه شخص يصلح للزواج، ولكن تقف ذكريات قسوته حائلاً بين موافقتها عليه..
لا تنكر تغيره وتحسنه للأفضل في أسلوب تعامله معها، لكنها في ذات الوقت تخشى أن يكون مجرد قناع للإيقاع بها..

لاحظ مسعد صمتها الذي طال، فقطعه مجدداً قائلاً بإنبهار:
-انتي لو تشوفيه يا نوسة وهو ماسك الآلي وبيحارب، مش هاتسيبه أبدا ً، ده كمان عليه بوكسات إنما ايه يتعمل عليها قصايد
التوى فمها بإبتسامة متهكمة وهي تغمغم بخفوت بعد أن تذكرت لكماته القاسية:
-أها، مجرباها، إنت هتقولي!
سألها مسعد بلؤم:
-ها موافقة عليه؟
ردت عليه بجدية:
-بلاش تزن عليا!

لم يرغب هو في الضغط عليها أكثر من هذا حتى لا يقابل طلبه بالرفض القاطع، وتشدق قائلاً بحذر:
-طيب مش هازن، بس فكري، وعندك وقتك!
-ربنا ييسر
سألها هو بفضول وهو يحك فروة رأسه:
-سيبك انتي بقى وقوليلي رأيك في البدلة؟
أجابته بإعجاب وقد تشكلت بسمة صغيرة على محياها:
-شياكة الصراحة!
هتف قائلاً بتلهف:
-يا مسهل يا رب، مش مصدق إن بكرة الدخلة، نفسي أفرح بقى وأخش دنيا!
ردت عليه بسعادة:.

-إن شاء الله يا مسعد، إنت طيب وتستاهل كل خير!
اقتحمت والدتهما الغرفة متساءلة بفضول وهي تتفرس وجهيهما:
-بترغوا في ايه من بدري؟!
ردت إيناس باقتضاب:
-مافيش يا ماما!
تساءلت هي بنبرة أكثر فضولية وقد التمعت عيناها بشدة:
-اومال ايه حكاية باسل؟
رد عليها مسعد ساخراً:
-هو انتي بتلمعي أوكر ( مقابض ) يا حاجة
أجابته بجمود متصنع وهي تتعمد العبوس بوجهها:
-ده بالصدفة وداني لقطت اسمه!
هتف ساخراً من ردها الساذج:.

-دي قرون استشعار مش ودان!
تجاهلته عمداً، واتجهت نحو ابنتها، ثم هتفت قائلة بإلحاح:
-ما تدي للواد فرصة يا نوسة!
ردت عليها إيناس بعصبية قليلة وهي تلوح بكفيها بضيق:
-يا ماما هو مافيش سيرة غير باسل بتاعكم ده!
أضافت والدتها بجدية:
-اه، بصراحة أنا عيني هاتطلع عليه، انسان محترم ومركز ومجتهد ومحبوب، وألف مين تتمناه!
لوت شفتيها لترد عليها بتأفف:
-ده على اعتبار إنه العريس الوحيد في البلد!

عنفتها والدتها بحدة وهي ترمقها بنظرات ساخطة:
-افضلي كده اتأمري عليه لحد ما تيجي واحدة نص لبة تخطفه منك زي البت السودة إياها، وبعدها تيجيلي تعيطي وتقولي يا ريت اللي جرى ما كان!
لم تعبأ بدفاعها المستميت عنه، وردت بنبرة غير مبالية:
-إن شاء الله مش هايحصل!
مصمصت صفية شفتيها، وأضافت بتهكم ساخط:
-وأل على رأي المثل الحلوة بختها مال، والمعفنة بتدلع يمين وشمال!

شهق مسعد مصدوماً من أمثال والدته المأثورة، وهتف غير مصدق:
-يالهوي يا حاجة صفية، إنتي رهيبة! أنا بأخاف تبهتي عليا بأمثالك!
عاتبته قائلة بتجهم:
-اتلم يا مسعد، وركز انت في اللي عاوجة بؤها علينا
أشار بكفه أمام وجهها، ورد عليها بجدية:
-أه، لأ شكل الدفة قلبت ناحيتي، أحسن حاجة أخلع وانتوا اصطفلوا مع بعض
ثم أولاهما ظهره، واتجه ناحية باب الغرفة فهتفت إيناس متساءلة بتلهف:
-استنى يا مسعد، رايح فين؟

التفت برأسه نصف التفاتة، وأجابها مبتسماً بسعادة:
-عريس بقى ومحتاج اجهز، سلام يا حلوين!
كور هو قبضة يده في الهواء، وأضاف لنفسه مدندناً بحماس بائن في نبرته و كذلك في تصرفاته بعد أن ارتفعت نسبة الأدرينالين في دمائه لتزيد من شوقه:
-وأخيراً هاتجوز، هاتجوز...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة