قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

في منزل مسعد غراب،
اتسعت حدقتي إيناس في صدمة واضحة، وارتفع حاجبيها للأعلى في ذهول بائن حينما رأت باسل يجلس قبالتها..
وسريعاً تحولت تعابير الاندهاش إلى تعابير غاضبة ومحتدة..
حافظ هو على برود أعصابه، وتفوس فمه بإبتسامة مغترة وهو يطالعها بنظراته الثابتة الواثقة، ثم استرخى في جلسته بأريحية تامة، ووضع ساقاً فوق اﻷخرى ليثير استفزازها أكثر
، وأردف قائلا ببرود وكأنه لم يرتكب شيئاً بحقها:.

-أخبارك ايه دلوقتي؟
اشتعلت عيناها، وكزت على أسنانها بحدة وهي تجيبه بإنفعال خافت:
-انت لسه قاعد، لأ وكمان بتسأل عاملة ايه؟!
رمقته بنظراتها المحتدة، وتابعت بنبرة شبه مهينة:
-بجد انت آآ...
وقبل أن تكمل جملتها قاطعها قائلاً بنبرة محذرة وهو يشير بعينيه:
-لو هتغلطي فيا، يبقى أحسنلك تلمي لسانك!

احتقن وجهها بحمرة غاضبة، هو تعمد إيذائها، وها هو يملي شروطه المهددة عليها، وهتفت من بين أسنانها بغيظ وهي تقبض على مسند الأريكة بقبضتها:
-انت مش شايف عملت فيا ايه؟!
ابتسم لها ببرود هاديء، فتعصبت أكثر، وأكملت بتهكم ساخط:
-وكل ده عشان كنت لابسة فستان وعاوزة أحضر عيد ميلاد أخويا!

لم يجبها، بل جمد تعابير وجهه، وأبعد نظراته عنها كي لا ترى فيهما اهتمامه الواضح بها، فلا يصح مطلقاً في هذا التوقيت أن يبوح لها بما يكنه من مشاعر نحوها..
هو عاهد نفسه على أن يظل ملازماً لها حتى تنضج أكثر، فيتمكن وقتها من الإفصاح عن إحساسه تجاهها..
أغاظها أسلوبه المتحكم بها، هي لا تخصه في شيء، وهو يقف لها بالمرصاد على ما تفعله حتى وإن كان عادياً..

حضرت إسراء وهي تحمل في يدها كيساً مليئاً بمكعبات الثلج وصاحت بجدية:
-خدي يا نوسة، حطي ده على دقنك عشان الورم يخف شوية!
لم تحد إيناس بعينيها عن باسل وهي تتناول الكيس من أختها الكبرى، لكن من يتأملها بنظرات دقيقة سيرى تعابير الغضب المنذرة بإنفجار وشيك..
وجهت إسراء حديثها لباسل قائلة بمرح:
-والله انت مأنسنا ومشرفنا يا باسل، نتعبلك ان شاء الله يوم فرحك!
ابتسم لها مجاملاً وهو يرد بهدوء:
-ان شاء الله.

سألته إسراء بفضول وهي تهز حاجبها قليلاً:
-على كده مافيش حاجة كده ولا كده يا باسل؟!
ثم تلوى ثغرها بإبتسامة فضولية وهي تحاول معرففة بعض التفاصيل الشخصية عنه..
فهذا هو طبعها المعروف لدى الجميع، تقصي أخبار الغير ممن لهم صلة قرابة أو معرفة وطيدة بالعائلة..
عبس باسل بوجهه وضيق نظراته قليلاً، ثم أجابها بجمود موجز:
-لسه!
أضافت إسراء قائلة بتحفز وهي تلوح بيدها:
-لسه! طب ليه كده!
رد عليها بفتور:
-عادي.

تابعت إسراء قائلة بإستنكار:
-البنات اتعموا عنك فين، ده انت ماشاء الله ابن ناس وحاجة!
لوت إيناس فمها في تهكم واضح وهي ترمقه بنظرات إزدراء عقب جملة أختها اﻷخيرة، ووضعت كيس الثلج على فكها لتسكن الوخزات التي تصيبها من آن لأخر بسبب آلم ذقنها المتورم..
رد باسل عليها بإقتضاب:
-لسه بدري!
عاتبته إسراء قائلة بجدية:
-انت هتعمل زي صاحبك مسعد، برضوه مش حاطط الجواز في دماغه؟!

هتفت إيناس قائلة بسخرية وهي ترمق باسل بنظرات مستهزأة:
-ماهو اللي زيهم يا إسراء أخرهم يدوا بوكسات وبس، لكن حب وجواز وحركات حلوة مالهومش فيها!
احتقنت عيني باسل نوعاً ما بسبب إهانتها المتعمدة له، وضاقت نظراته المسلطة عليها بقوة..
التفتت إسراء برأسها في اتجاه أختها وسألتها مهتمة:
-ايه معنى اللي بتقوليه ده؟
كانت على وشك الرد عليها حينما سمعت صوت والدتها يهتف بصياح:
-بت يا نوسة خدي دي قبل ما أنسى!

استدارت إيناس برأسها للخلف، وتساءلت بعدم فهم وهي قاطبة لجبينها:
-حاجة ايه دي يا ماما؟!
أجابتها والدتها بنبرة عادية وهي تناولها علبة القلم الذهبي الفاخر:
-ده المستر بتاعك جايبك دي عشان نجاحك
أشرقت عيناها بلمعان غريب، وهتفت بحماس:
-مستر كريم!
استرعى اﻷمر انتباه باسل بشدة، وتأهبت حواسه بالكامل للقتال والفتك بمن حوله وهو يستمع إلى ما يدور، خاصة أن للأمر علاقة بصغيرته التي يحبها ويكابر...

ردت عليها والدتها موضحة:
-اه يا حبيبتي، أعد يدور عليكي عشان يديهالك بس ملاقاكيش!
شعر بالدماء تشتعل بداخله، وبحالة عجيبة من الانفعال المهدد باﻹنفجار في أي لحظة إن لم يسيطر على نفسه ويتحكم بها ببراعة..
ابتسمت إيناس بسعادة وهي تعبث بالعلبة اﻷنيقة بأناملها، وردت بمرح على أمها:
-بجد مافيش زي مستر كريم، انسان ذوق وشيك ومحترم، حاجة كده مش موجودة دلوقتي خالص!

في تلك اللحظة تحولت عيني باسل إلى جمرتين من النيران المتقدة عقب ذكر اسم هذا الرجل المستفز، وحدق في إيناس بنظرات مطولة وقوية، وأنزل ساقه على الأرضية،
وتأهب في جلسته كالفهد المستعد للإنقضاض على فريسته في أي لحظة..
وافقتها والدتها صفية في الرأي، وأكدت قائلة:
-الصراحة أه!
تساءلت إسراء بفضول:
-على كده هو متجوز؟
هزت إيناس كتفيها في عدم معرفة، وأجابتها بهدوء:
-مش عارفة، بس هو مش بيلبس دبلة في ايده!

أوضحت السيدة صفية قائلة بسجيتها:
-ممكن يكون متجوز بس مش بيلبس دبل، زي أبوكي كده!
أضافت إسراء قائلة بجدية:
-صح يا ماما، في رجالة كتير كده، بس هو جنتل
ابتسمت إيناس ببسمة عريضة وهي تجيبها:
-جدا يا إسراء، كل اصحابي في الدرس بيقدروه ويحترموه!

ما كان من حديثهن المجامل للمعلم كريم إلا بنزيناً يسكب بغزارة على النيران المستعرة بداخل باسل ليزيد من تأججها واشتعالها بشراسة، قاوم قدر المستطاع ثورته الداخلية كي لا تنفجر في أوجهن، وخاصة إيناس...

بداخل الشرفة الواسعة،
إستند مسعد على حافة الشرفة، وأخذ نفساً عميقاً حبسه للحظات في صدره، ثم زفره دفعة واحدة، وأردف قائلاً بإبتسامة لطيفة:
-الجو حلو، صح؟
ردت عليه سابين ببسمة مهذبة:
-ييس ( نعم )!
أشار بيده وهو يتابع بصوت هاديء:
-المنظر من هنا جميل، أنا دايماً باحبك أقعد هنا، الهوا بحري ويرد الروح!
هزت رأسها بإيماءة صغيرة وهي تردد:
-شور ( طبعاً )!
هتف قائلاً بإرتياح وهو ينتصب في وقفته:.

-الحمدلله إن مافيش جيران ساكنين قصادنا، كان زمانهم أعدين معانا هنا زي ما بأشوف في الأبراج الجديدة
قطبت سابين جبينها في استغراب مما قاله، وسألته مندهشة:
-ليه؟
أجابها بإمتعاض واضح على تعابير وجهه وهو ينظر نحوها:
-إنتي مش بتبقي عارفة الدنيا بتبقى عاملة ازاي، دول بيبقوا كأنهم جوا البيت وكاشفينا وحاجة قرف بصراحة!
-أها..
تابع قائلاً بإبتسامة متفائلة:
-يالا ربنا ما يجعلي جار وله عينين في شقتي الجديدة!

عقدت ما بين حاجبيها بإهتمام واضح عقب عبارته الأخيرة التي لم تفهم مغزاها، وسألته بفضول:
-ده معناه إيه موسأد؟
أجابها بإبتسامة مصطنعة:
-ده عشان الحسد يا سابين!
رددت بإندهاش:
-هسد ( حسد )!
لوى فمه وهو يقول لها على مضض:
-مسيرك تعرفيه وتجربيه!
أومأت برأسها إيجاباً، ورفعت عينيها لتنظر أمامها بشرود..
جلس مسعد على المقعد البلاستيكي الموضوع بالشرفة، وحركه قليلاً ليكون في مواجهة سابين..

كانت هي مسبلة لعينيها وهي ترمقه بنظرات مرتبكة بين الحين والأخر..
حل الصمت بينهما للحظات، فهو يحاول التمهيد لموضوعين مختلفين لا يقل أحدهما أهمية عن الأخر، وما قاله في البداية ما هو إلا لغو فارغ..
انتظرت هي بصبر حليم مفاتحة مسعد لها بالحديث..
وفي النهاية استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
-سابين!
رفعت رأسها نحوه، وردت عليه برقة:
-ييس ( نعم )
ضغط على شفتيه قليلاً، وابتسم لها بود وهو يتابع:.

-شوفي أنا، أنا كنت عاوز أفتحك في حاجتين مهمين!
ردت عليه بإيماءة خفيفة:
-اوكي
تحولت تعابير وجهه للجدية، وتبدلت نظراته الناعمة لأخرى أكثر حدة وقوة..
زفر من صدره نفساً عميقاً قد أخذه، وأكمل بصوت شبه رسمي:
-أنا مش عاوزك بس تقاطعيني في اللي هاقوله الوقت!
استشعرت الخوف من نبرته الغريبة التي لم تعتاد عليها من قبل منه، وسألته بتوجس:
-في ايه موسأد؟

أخفض رأسه للأسفل، ونظر لها بحذر، ثم فرك كفيه معاً، وتنهد بعمق قبل أن يجيبها بتوتر قليل:
-بصي، في البداية أنا، آآ...
انتبهت له، وحدقت فيه بثبات..
ضغط مسعد على شفتيه قليلاً، وزفر بإرتباك..
لا بديل عن الإفصاح الآن، فالوقت يسرقه، وربما با يستطيع تعويض تلك الفرصة..
لذا استجمع رباطة جأشه ليفاتحها فيما يريد، وهتف بنزق:.

-بصراحة مكونتش بأطيقك خالص، يعني قولت عنك بت تنكة، خواجية، شايفة نفسها متنططة على اللي جابونا، مالهاش تلاتين لازمة، أخرها ترتم ( تتحدث ) كلمتين انجليزي والسلام!
شهقت مصدومة من أسلوبه الفج في الحديث عنها بتلك الصورة المؤسفة، وهتفت بعدم تصديق مستنكرة كلماته التي توصفها:
-أوه، كل ده موسأد؟!
هز رأسه نافياً، وأكمل بثقة:
-لأ، لسه في كتير كمان زي رخمة وغتتة، ومعندهاش دم وآآ..

قاطعته قائلة بعبوس من إصراره على التفوه بحماقات:
-بليز، Enough ( كفاية ) موسأد!
شعر هو بضيقها، فرمش بعينيه وهو يتساءل بحذر:
-احم، انا بوخت صح؟
ردت عليه بوجه متجهم:
-ييس ( نعم )
ابتسم لها ببلاهة وهو يبرر تصرفه الأحمق:
-معلش الجلالة خدتني شويتين كده
عضت على شفتها السفلى وهي ترد بإيجاز:
-اوكي!
تنحنح مسعد بخفوت، ثم انتصب بكتفيه، وأكمل بصوت آجش:.

-انتي كنتي بالنسبالي واحدة هطلع من وراها بمصلحة، أروح الحرس الرئاسي وخلاص!
ضاقت نظراتها أكثر، واغتاظت من اسلوبه التهكمي، وقبل أن تفتح شفتيها لتوبخه، تابع بنبرة رخيمة:
-، بس آآ..
سألته بوجوم ظاهر على محياها:
-بس ايه؟
أجابها بإبتسامة هادئة وهو يحدق فيها بنظرات رومانسية:
-لما أعدنا فترة مع بعض، أقصد يعني كنتي معانا في الوحدة وعرفتك عن قريب، وشوفتك على طبيعتك لاقيت إني كنتي غلطان.

لاحظت التحول السريع في تصرفاته، فإرتبكت قليلاً، وأصغت إليه بانتباه..
تنهد بحرارة وهو يضيف:
-طلعتي بنت جدعة وكويسة وعندك أخلاق، وحاجة كده طرية، بسكويتة، بقلاوة تتاكل!
ابتسمت له قائلة بدعابة:
-إنت جآن ( جعان) موسأد؟
رد عليها نافياً وهو يقول:
-لأ، بس إنتي عاملة كده زي الجاتوه السواريه اللي يتخطف خطف من على تربيذة الحلويات، بأوصفك يعني! فهمتيني!
اتسعت ابتسامتها الرقيقة، وشكرته قائلة:
-اوكي، ثانكس!

أكمل مسعد حديثه المطول قائلاً وهو يشير بيده نحو قلبه:
-المهم، أنا معرفش حصلي ايه بعد كده، بس حالي اتشقلب، وقلبي بقى يدق دوم دوم دوم جامد!
تراجعت برأسها للخلف متعجبة مما يفعل، وتساءلت بعدم فهم:
-هاه، what ( ايه )؟
اقترب مسعد منها، وحدق فيها بنظرات ثابتة متأملاً ملامحها، وأخفض نبرة صوته وهو يقول لها:.

-مش قادر أوصف احساسي بالظبط ناحيتك، بس كل اللي انا حاسه وعاوزه إني أفضل على طول جمبك، واشوفك كل يوم، ومابعدش عنك ولا لحظة!
توردت وجنتيها سريعاً من تلميحاته الصريحة عن تعلقه بها، وزاد توترها وخجلها، وهمست بإرتباك:
-أوه، موسأد!
ابتلع مسعد ريقه، وهمس متنهداً:
-سابين! أنا، أنا معجب بيكي بزيادة أوي!
خفق قلبها من تصريحه الصادق، وشعرت بنظراته العاشقة لها، ولم تستطع الرد عليه..
أكمل قائلاً بشغف واضح في نبرته:.

-ويمكن أكون بأحبك!
رددت بصدمة:
-ايه؟
أوضح لها قائلاً بإبتسامة مشرقة:
-مش عارف بالظبط أحدد، لكن حبيت إنك تعرفي ده حتى لو كنتي آآ...
قاطعته قائلة بإرتباك:
-أنا آآ...
قاطعها هو بجدية واضحة:
-مش عاوزك تقولي حاجة دلوقتي، أنا كنت بأقولك على اللي حاسه ناحيتك!
طأطأت رأسها لتتحاشى النظر إليه، لكن تعابير وجهها كانت مرآة لإحساسها نحوه..

فهي الأخرى تكن له المشاعر العذبة، وربما تبادله الإعجاب، لكنها ليست مثله، لا تستطيع الإفصاح عن مشاعرها هكذا..
ابتسم بإطمئنان لرؤيتها في حالة تخبط، ولصمتها أيضاً، فهذا يعطيه الأمل في أنها تكن له أحاسيساً مرهفة مثله، لكنه لن يتعجل اعترافها بهم..
مال هو بجذعه للأمام ليستند بمرفقيه على ركبتيه، وتابع بنبرة هادئة لكنها جادة:
-الموضوع التاني بقى!
تساءلت سابين بخجل وهي تنظر بحياء إليه:
-هو لسه في تاني؟

تجهمت قسمات وجهه، وتحولت نظرات للضيق، وأجابها بحزن:
-للأسف أه، ويمكن ده قهرني أوي!
شعرت من نبرته أن الخطب جلل، وأن هناك شيئاً ما قد طرأ في قضيتها، وهو يود إخبارها به..
لذا تساءلت بتلهف:
-ايه هو موسأد؟
نفخ بضيق، وأجابها بصوت شبه قاتم:
-الأوامر صدرت لنا من جهة عليا بنقلك لمكان تاني عشان هترجعي بلدك.

اتسعت حدقتيها مصدومة، وهب جسدها منتفضاً بخوف من مجرد تخيل ما هي مقبلة عليه، وهتفت بتخوف وقد تسارعت دقات قلبها:
-ايه؟!
شعر مسعد بخوفها الظاهر عليها، وانزعج لعجزه عن طمأنتها حالياً، لكنه مد يده ليمسك بكفها، ونظر إليها بثبات، ثم تعهد لها قائلاً:
-مش عاوزك تخافي، أنا معاكي، وهافضل جمبك حتى لو ودوكي فين!

تنهدت إيناس بسعادة وهي تعبث بالقلم الحبري المميز بأصابعها، وحركت بيدها الأخرى كيس الثلج على ذقنها لتخفف من حدة الوخز..
لم تفارقها نظرات باسل المحتدة، وظل متابعاً إياها في صمت مهدد بالإنفجار..
وضعت إسراء يدها على كتف والدتها، ومالت على أذنها لتهمس لها:
-ماما، عاوزاكي كده في كلمتين!
أدارت والدتها رأسها في اتجاهها، وسألتها بإهتمام:
-خير؟
أشارت لها بحاجبيها وهي تقول بصوت خفيض وجاد:
-تعالي جوا في المطبخ!

انصرفت الاثنتان وهما تتبادلان حديثاً خافتاً غير مسموع لأحد..
وما إن تأكد باسل من ابتعادهما حتى هب واقفاً من مكانه، واتجه إلى إيناس التي كانت مشغولة بالتحديق بإعجاب في هديتها..
لم تنتبه له إلا حينما اختطف منها عنوة القلم، ففغرت فمها مشدوهة بذهول، وهتفت بحدة:
-انت بتعمل ايه؟
حدجها بنظرات قوية تحمل الغضب، ثم كور قبضته على القلم بعنف كبير...

نهضت عن الأريكة وألقت بكيس الثلج عليها، ووقفت قبالته لتسأله بتوجس:
-انت خدت القلم بتاعي ليه؟
رد عليها بسخط وهو يرمقها بتلك النظرات المشتعلة:
-عاجبك أوي
ردت عليها بحدة وهي متعجبة من تصرفه الغير عقلاني معها:
-ايوه، مش جايلي هدية من المستر بتاعي!
ضغط على شفتيه بعصبية بائنة، وطالت نظراته المحتقنة إليها، ثم فجأة، وبدون سابق انذار، اتجه إلى النافذة بخطوات سريعة، وقذف بالقلم إلى خارجها بغل ظاهر للعيان...

انفرجت شفتي إيناس في صدمة أكبر، وجحظت بعينيها غير مصدقة ما حدث تواً..
تحركت خلفه وهي مصدومة من تهوره الجامح، وسألته بغضب وهي تحاول تفسير فعلته الغبية:
-ايه اللي عملته ده؟ انت ازاي ترمي القلم بتاعي كده؟ انت آآ...
قاطعها قائلاً بشراسة وهو يكز على أسنانه:
-أرميه أحسن ما أغرزه في رقبتك!
شهقت مرعوبة من تصريحه العدائي المخيف، واستنكرت قائلة:
-نعم، انت، انت بتقول ايه؟
رمقها بنظرات مميتة، وتابع بنبرة مغتاظة:.

-لو عاوزة أقلام قوليلي، وأنا أديكي منهم عشرة على وشك عشان تتعدلي!
نهج صدرها بذهول مما يقوله، وشعرت بقلبها يقفز في قدميها...
ظل ينظر إليها بنظراته القاتمة دون أن يبرر لها تصرفه، فظنت أنه يريد فقط استفزازها بأفعاله الغير مفهومة ليثير غضبها، وكأنه يكمل عقابه لها..

حتى أنها تساءلت مع نفسها لما كل تلك العدائية معها، واعتقدت أنه يحاول إشعارها بالنقص وعدم أهميتها بالنسبة لشخص أخر حتى وإن كان معلمها ليزيد من تحقير ذاتها، ومن التقليل من شأنها..
صرت على أسنانها بغضب، وتلون وجهها بحمرة محتقنة، ثم هتفت بصوتٍ عالٍ متحدية إياه:
-ماما، أنا نازلة أجيب مرهم مسكن من الصيدلية اللي تحت لاحسن اللي معايا خلص!
أجابتها صفية من المطبخ بنبرة مرتفعة:
-طيب، أوام!

اشتعلت مقلتي باسل مما قالته، وسألها بنبرة محتقنة وهو يسد عليها الطريق:
-انتي رايحة فين؟
نظرت له ببرود، وتابعت بنفس النبرة العالية لتزيد من غيظه:
-وباسل يا ماما عاوز يخش الحمام بس محروج لأحسن يكون حد فيه!
برزت عروقه المتشنجة مما هتفت به، وصر على أسنانه بقوة تكاد تحطمها:
-إنتي آآ...
ردت والدتها قائلة بصوت دافيء:
-قوليله يتفضل، هو مش غريب!

تقوس فمها بإبتسامة زهو، وتحركت مسرعة من أمامه لتحضر القلم الذي ألقاه من أسفل البناية..
كان باسل على وشك منعها، ولكن حضرت إسراء إلى الصالة، وهتفت وهي تبتسم له بود:
-تعالى يا باسل، الحمام فاضي ونضيف
كور قبضة يده بعصبية عنيفة، وزفر نيراناً حارة من فمه وأنفه وهو يقول بهدوء مريب:
-ماشي!

نزلت إيناس على الدرج سريعاً لتبحث عن القلم الحبري قبل أن يجده أي عابر طريق ويأخذه..
وبالفعل وجدته ملقى بجوار الرصيف، فتنفست الصعداء، وهمست لنفسها بإرتياح:
-الحمدلله لاقيته، كنت هازعل أوي لو ضاع، ده شكله حلو وغالي!
حكت مقدمة رأسها بإستغراب من تصرف باسل الطائش، وتساءلت بعبوس:
-أنا مش عارفة إيه اللي خلاه يعمل كده؟!
زمت فمها لتضيف بسخط:
-ده زي ما يكون مستقصدني ومتسلط عليا، والله لأوريه!

استدارت لتعود إلى مدخل البناية، ولكنها لمحت سيارته في نهاية الرصيف، فتوقفت في مكانها، وحدقت فيها بنظرات غامضة..
ثم سريعاً التوت شفتيها بإبتسامة عابثة وهي تقول لنفسها:
-طب والله فكرة! ألحق أعملها وأعكنن عليه!
فركت طرف ذقنها بحذر، وأصدرت أنيناً خافتاً وهي تكمل بتأوه:
-يستاهل بجد اللي هاعمله فيه! منك لله وجعتني!

تحركت بخطوات سريعة في اتجاه سيارته، ثم سلطت أنظارها للأسفل لتحدق في الرصيف بدقة وكأنها تفتش عن شيء ما حتى وجدت غايتها، فهتفت بحماس:
-ايوه، دي هاتنفع أوي!
التقطت بيدها قالب طوب مكسور، وأمسكت به جيداً بأناملها، وتلفتت حولها بريبة لتتأكد من عدم متابعة أحد لها..

ابتسمت لهدوء حركة السير في الطريق، ولعدم وجود أي مارة، ثم عاودت النظر إلى السيارة بشراسة، ثم أرجعت ذراعها للخلف لتقذفه بقوة في اتجاه النافذة الخلفية التي اصطدم بها، فتهشمت إلى أجزاء صغيرة تناثرت على المقعد الخلفي، وعلى الرصيف..
رفعت قبضتها المتكورة بحماس للأعلى، وقفزت في مكانها بفرح بعد تحقيق انتصار أخر على غريمها، وصفقت بكفيها بخفوت مشجعة نفسها، ثم استدارت والإبتسامة العريضة متشكلة على شفتيها..

لكنها تسمرت، بل تجمدت في مكانها مذعورة، واختفت بسمتها، وحل على قسمات وجهها الهلع والشحوب حينما رأت باسل يقف خلفها ومحدقاً فيها بأعين كالجمرات الملتهبة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة