قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

خلال اﻷربع سنوات التالية،
لم يتوقع مسعد أن تمتد المهمة التدريبية إلى أربع سنوات وليس كما قيل في البداية انها لن تتجاوز بأي حال من اﻷحوال مدة عامين، وذلك بسبب وجود نزاعات ومشاكل عويصة في تلك الدولة مما استدعى بقاء جميع أفراد القوات هناك ريثما ينتهي كل شيء، ويعود الإستقرار..

كاد أن يفقد أعصابه ﻷكثر من مرة بسبب اليأس واﻹحباط والضيق وطول المدة، بالإضافة إلى ضعف وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، ولهذا اعتمد فقط في مهاتفته لعائلته على محادثات الفيس بوك المكتوبة، ومكالمة أسبوعية دولية..

على عكسه تماماً، تأقلم باسل مع الوضع الجديد، و أوهم نفسه أن حبه ﻹيناس لم يكن إلا عبثاً، وهو لم يكن جدياً معها، وأن التفكير في حبها مجرد فكرة هوجاء لا أساس لها من الصحة..
وبرر لنفسها بأنها مراهقة صغيرة لا تفقه شيئاً، ولم تعرف عن حبه الخفي شيئا، وبالتالي لن تتأثر بفكرة تخليه عنها، كما أن حداثة سنها وربما تفكيرها المتهور يجعلها غير مهيئة لتكون شريكته المستقبلية..

اختلق لنفسه العشرات والعشرات من اﻷعذار ليقنع نفسه برأيه النهائي وهو عدم صلاحية إيناس كزوجة مناسبة له لعدم توافقها مع طموحاته الحالية وتطلعاته في نصفه اﻷخر، ناهيك عن إندفاعها الأعمى، وتجاهل متعمداً أن يعرف أي شيء يخصها، ليجبر نفسه على تخطي تلك المرحلة من حياته، وحينما طالت المدة تحول اعتقاده إلى يقين مُلزم، وبدأ مهمة البحث عن شريكة حياته تتوافق مع رغباته وآماله..

وبالفعل التقى بإحداهن، فاستحوذت على تفكيره، وشغلت عقله بطريقتها المبهرة، وأسلوبها المنمق، خاصة وأنها كانت ضمن فريق المترجمات المتواجد هناك..
وهي ذات أصول غربية وتدعى ناتالي ..
كون معها صداقة طيبة، ثم تحول اﻷمر بينهما إلى شيء أعمق و جدي، وأعلن ارتباطه الرسمي بها..

ورغم اختلاف الطبائع والعادات والثقافات بينهما، إلا أنهما وجدا سبيلاً للتواصل والتوافق الفكري والعقلي، وارتبطا في النهاية بما يشبه الخطبة ولكن غير رسمية..
حصل الاثنين – وبقية أعضاء المهمة - على ترقيات بسبب جهود الجميع المبذولة بالخارج فور انتهائهم من مهامهم، ( كل على حسب رتبته الأعلى )، فأصبح مسعد مقدماً، وباسل رائداً..

أما عن أحوال سابين، فلم يعرف أحد عنها أي شيء، فقد تلاشى كل ما له صلة بها، فأصبحت هي والعدم سواء، حتى صورتها كادت أن تمحى من ذاكرة مسعد بسبب عدم رؤيتها، فاعتمد فقط على مخيلته في استعادة صورتها كلما اشتاق إليها..

في منزل مسعد غراب،
طرقت السيدة صفية على باب المرحاض بدقات عالية وهي تصيح بنبرة شبه منفعلة:
-يالا يا نوسة، بقالك ساعة جوا!
أتاها صوت ابنتها إيناس المتذمر من الداخل قائلة:
-ساعة ايه بس، ده أنا يدوب لسه داخلة!
ردت عليها والدتها بضيق:
-انجزي، في غيرك عايشين معاكي في البيت!
تمتمت إيناس بصوت عالٍ:
-ده احنا تلاتة بس!
هتفت والدتها بإمتعاض وهي تطرق الباب:
-ياني عليكي، ليمضة من يومك! خلصي أوام
-حاضر، طالعة أهوو!

قالتها إيناس بإيجاز وهي تفتح باب المرحاض لتخرج منه وهي تجفف وجهها، ثم ألقت بالمنشفة على كتفها لتبدو ملامحها الجديدة التي تغيرت..
لقد كبرت إيناس حقاً، وتبدلت ملامحها الطفولية لأخرى أنثوية..
وبدت عليها علامات النضج والحيوية، وعنفوان الشباب..

احتفظت هي بشعرها الغجري المجعد ولم تبدل مظهره مثلما فعلت قريناتها، ولكنها اعتنت أكثر بمظهرها الخارجي وببشرتها، فهو من متطلبات كليتها الحالية، نعم فقد التحقت إيناس بكلية السياسة والعلوم الاقتصادية ، خاصة وأنها قد حازت على مجموع مرتفع في الثانوية العامة، ففضلت أن تلتحق بها، ودعمتها عائلتها، وأثبتت هي تفوقها فيها، وأنهت عامها الأول بتقدير جيد جدا ً، وهي الآن بالفرقة الثانية بها..

بعد برهة، كانت تعلق إيناس حقيبة يدها على كتفها، ثم حركت رأسها للجانبين لتلين عنقها، وتأكدت من بقاء خصلات شعرها في مكانها بعد أن ثبتتها بكريم الشعر الجديد، ونظرت إلى إنعكاس هيئتها في المرآة، وابتسمت لنفسها بثقة وهي تضع ملمع الشفاه الشفاف، ومصمصمت شفتيها معاً، ثم استدارت للخلف وأمسكت بكتبها ودفترها الكبير بقبضة يدها، ثم هتفت بصوت مرتفع وهي تخرج من غرفتها:
-أنا نازلة يا ماما.

التفتت صفية برأسها في اتجاهها، لترمقها بنظرات خاطفة وسريعة متأملة هندامها الكلاسيكي المنمق قبل أن تعود لتنظر إلى ما في حوزتها، و سألتها وهي تقشر حبات البطاطس المسنودة على حجرها:
-عندك محاضرات متأخر؟
هزت إيناس رأسها نافية وهي تجيبها:
-مش أوي، بس هاخلصها وهارجع عشان عندي تسليم بحث بكرة!
أومأت والدتها برأسها بحركة خفيفة، وهتفت بتضرع:
-ماشي يا بنتي، ربنا ينجحك ويكرمك!

توجهت بعدها إيناس إلى باب المنزل لتنطلق في طريقها إلى جامعة القاهرة..

أكملت صفية باقي عملها في التقشير وهي تتذمر بضيق:
-موال الأكل اللي مش بيخلص كل يوم، لازم أطبخ 100 صنف عشان أعجب، كل واحد مش بيعجبه أكل التاني!
تنهدت بإرهاق، ثم تابعت بحزن:
-والله ما كان مريحني إلا انت يا غالي، دايماً كنت تاكل اللي أعمله وتقولي تسلم ايدك يا ست الكل..
سمعت هي قرع جرس الباب، فتمتمت مع نفسها بإمتعاض:
-وده مين اللي جاي السعادي؟
قطبت جبينها، وضاق ما بين حاجبيها وهي تحدث نفسها:.

-لأحسن تكون البت إيناس نسيت مفاتحها، ماهي ماطيورة، وعقلها مش فيها، أوقات بتعمل حاجات غريبة وليها العجب!
نهضت بتثاقل عن الأريكة، وأسندت صحن البطاطس على الطاولة الجانبية، ثم تحركت في اتجاه باب منزلها..
كان كل ما يدور في تفكير صفية هو مجيء ابنتها إيناس فقط فلم تتوقع على الإطلاق أن يكون الطارق هو ابنها العائد بعد غيبة مسعد ...

شهقت مصدومة حينما رأته أمامها بشحمه ولحمه، واتسعت مقلتيها بإندهاش أعجب، وترقرقت عبرات الفرحة فيهما..
ثم هتفت بلا وعي:
-ابني، حبيبي!
-ازيك يا ست الكل
قالها مسعد وهو يفتح ذراعيه ليحتضن والدته بإشتياق كبير..
ضمته والدته بكل عاطفة وحنو، وتابعت بصوت شبه باكي:
-اه يا حبيبي، وحشتني أوي، كل دي غيبة
رد عليها بغصة عالقة في حلقه:
-غصب عني والله!

ثم انحنى ليقبل كفيها، فأبعدتهما، وضمته إلى صدرها مرة أخرى وهي تبكي بفرح:
-حمدلله على سلامتك يا مسعد، نورت بيتك يا غالي!
ابتسم لها وهو يكافح لمنع دموعه المشتاقة من الإنهمار، وتساءل وهو يتلفت حوله:
-أومال سيادة اللوا فيه ونوسة؟
ردت عليه صفية بإستياء قليل:
-أبوك زي تملي على القهوة مع شلة العواجيز بتوعه! ليل نهار لازقين في بعض
هز رأسه متفهماً وهو يردد بخفوت:
-تمام!
بينما أضافت هي قائلة بهدوء:.

-واختك نزلت كليتها من شوية، ده أنا حتى فكرت إنها انت لما خبطت عليا!
ولج مسعد إلى داخل المنزل، وتأمله بنظرات دقيقة متفحصة، ثم ابتسم قائلاً بمزاح وهو يلوح بيده:
-ماشاء الله، زي ما سبتكم، بحطة ايدي من أربع سنين!
عاتبته والدته قائلة بحزن قليل:
-يا حبيبي، عدوا عليا كأنهم 100 سنة!
رد عليها بإحباط واضح في نبرته، ونظراته، وتعابير وجهه الباهتة:
-أومال أنا أقول ايه بس يا ماما، يالا الحمدلله على كل حال!

ربتت صفية على ظهره، وهتفت بحماس:
-تعالى يا غالي، خش أوضتك، زي الفل وتمام وآآ...
قاطعها قائلاً بجدية:
-هادخل أريح شوية وأعمل كل اللي نفسك فيه بس أنزل أسلم على سيادة اللوا، مايصحش بعد ده كله مايخدش التمام مني!
ردت عليه والدته بحماس:
-ده هايفرح أوي لما يشوفك! انزله يا بني!
أومأ برأسه وهو يتابع بنبرة مشتاقة:.

-ماشي يا ماما، وجهزيلي الله يكرمك كل اللي عندك في التلاجة، لأحسن أنا عايش على النابت بقالي زمن لما حاسس إني ربيت ديدان في معدتي!
مصمصت صفية شفتيها أسفاً وهي ترد عليه:
-يا عيني يا ضنايا، ده أنا هاعملك المحمر والمشمر، هاخليك تربرب من تاني!
تنهد مسعد قائلاً بحماس يحمل المزاح:
-ايوه، أنا عاوزة من ده يا حزومبل، أنا عاوز من ده!

في المقهى الحديث،
كان اللواء محمد يمارس هوايته المعتادة ( لعب الطاولة ) مع رفاقه الذين اعتاد الجلوس معهم..
لم ينتبه إلى تلك اﻷوجه المحدقة بمن يقف خلفه، فأنظاره كانت مسلطة على اللوح الخشبي بتركيز شديد..
استشعر وجود خطب ما، فالتفت برأسه بحذر للخلف، وهتف مصدوماً حينما رأى ابنه يبتسم له من الخلف ويؤدي له التحية العسكرية قائلاً بصوت صارم وقوي:
-تمام يا فندم
صاح والده بفرحة جلية:
-ابني!

ثم هب واقفاً من مقعده، واستدار بجسده ليحتضنه، بينما لف مسعد ذراعيه حوله، وتمتم بخفوت:
-ازيك يا بابا؟ اخبارك ايه؟
ربت والده على كتفيه عدة مرات وهو يجيبه:
-الحمدلله يا مسعد، أنا بخير، انت عامل ايه ورجعت امتى؟ نازل اجازة ولا نهائي وآآ...
قاطعه مسعد مبتسماً وهو يوميء بعينيه:
-واحدة واحدة وهافهمك كل حاجة يا سيادة اللوا!
هتف أحد رفاق والده مرحباً:
-حمدلله على سلامتك يا مسعد!
بينما أضاف أخر:.

-نورت مصر يا سيادة الرائد!
أوضح له مسعد خطأه قائلاً:
-هاصلح معلومة، أنا بقيت مقدم!
رد عليه صديق والده مهنئاً:
-ايه ده بجد، مبرووووك
بينما ردد ثالث مشجعاً:
-تستاهلها والله!
التوى ثغر اللواء محمد بإبتسامة متفاخرة بابنه الذي حقق انجازات مشرفة في كل ما يكلف به من مهام، وصاح متباهياً:
-الف مبروك، وعقبال رتبة المشير!
رد عليه مسعد بمزاح طريف:
-الله يبارك فيك، دي وأنا طالع على المعاش ده إذا ماتكعبلتش على السلم!

لكزه والده في جانبه وهو يوبخه قائلا:
-بطل تنكيت يا مسعد!
رد عليه بجدية واضحة:
-حاضر يا فندم!
ثم تحرك الاثنين سوياً بعد أن استأذن اللواء محمد بالانصراف من رفاقه وودعهم..
وقبل أن يخرجا من المقهى، تساءل مستفهماً:
-روحت سلمت على أمك؟
رد عليه مسعد بإهتمام:
-طبعا، هو أنا اقدر!
ربت والده على ظهره مرة أخرى وهو يقول:
-طب بينا على البيت نكمل كلامنا هناك!
رد عليه مسعد بهدوء:.

-ماشي، اللي تشوفه، بس الاول هاعدي على نوسة في كليتها، عاوز افاجئها البت دي!
لوح والده بذراعه معترضاً:
-ده لسه قدامها كتير، تعالى ناكل لقمة وبعدها تروحلها، ولا معدتش اكل الست صفية بيعجب؟
أجابه مسعد بنبرة متحمسة:
-ماشي، ده أنا هاموت على اي حاجة من ايد الحاجة
هز اللواء محمد رأسه بإيماءة خفيفة وهو يردد:
-طب بينا يا ابني، والله وليك وحشة!
رد عليه مسعد مبتسماً بود:
-الله يباركلنا في عمرك يا بابا!

ثم تساءل بعدها بإهتمام:
-واخواتي إسراء وأسماء وعيالهم واجوازتهم عاملين ايه؟
أجابه أبيه بهدوء:
-كلهم كويسين وبخير
زادت ابتسامة مسعد الراضية وهو يقول:
-الحمدلله.

في مكتبة كلية اقتصاد وعلوم سياسة،
تهامست أماني -رفيقة إيناس المقربة – معها وهي تسحب أحد الكتب من على أحد الرفوف وهي تتلفت حولها بحذر:
-ده هايموت عليكي، انتي مش بتشوفي بصاته ليكي عاملة ازاي!
ردت عليها إيناس بضيق ظاهر في نبرتها الخافتة بعد أن تبدلت ملامح وجهها للعبوس الشديد:
-مش هيرتاح إلا لما أهزئه وأخذئله عينيه دول، مش ناقص إلا وائل الفاشل واتكلم معاه!
همست أماني مبررة:.

-يا بنتي هو بيدبلر بمزاجه، بيعاند في باباه يعني، لكن الصراحة هو آآ...
قاطعتها إيناس بنبرة حادة رغم صوتها الخفيض:
-أنا ماليش دعوة بالكلام ده!
ثم تابعت بجدية وهي تشير بإصبعها:
- أنا اخدة قرار في نفسي من زمان ماخليش حد ابدا يقلل من شأني أو طموحي أو يمنعني عن أحلامي!
اعترضت أماني قائلة:
-بس وائل عاوز يتعرف عليكي وآآ...
قاطعتها إيناس مجدداً بحزم:.

-خلاص يا أماني كبري دماغك منه وخليني اشوف ناقصني ايه عشان ألحق انجز البحث بتاعي!
تمتمت رفيقتها بخفوت من بين شفتيها:
- ولو مكانتش دماغك ناشفة!
شردت إيناس في ذكريات بعيدة نوعاً ما، لكنها أحدثت آلماً وجرحاً غائراً في نفسها..
ذكريات أجبرتها على التشبث أكثر برأيها، وألا تستسلم لما يظنه الأخرين عنها...
رفعت رأسها للأعلى في كبرياء، وهمست بشموخ وعزة:.

-أنا اتعلمت الدرس كويس، ومش هاستنى واحد تاني يتريق عليا ولا يهيني مهما حصل...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة