قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

في الوحدة العسكرية،
طلب مسعد من سابين حزم حقائبها والاستعداد للرحيل، فنفذت طلبه، وجهزت كل شيء، وجلست في انتظاره في سكنها، بينما هاتف هو باسل عدة مرات، ولكنه لم يجب على أي من اتصالاته المتكررة، فتملكته الحيرة هو سبب اختفائه وتجاهله لمكالماته..
عاد باسل إلى الوحدة دون أن يعرج على رفاقه، وكان على وجهه وجوم غريب..

بالطبع ولما لا يحزن، فقد أهان أخت أعز رفاقه بإهانات متعمدة ربما تجعلها تكرهه للأبد وكذلك تهز ثقتها بنفسها..
لم يستطع تفسير غضبه الزائد ولا إنفعالاته العصبية تجاهها، فالموقف لم يكن ليحتاج لكل تلك الثورة، ولكن كون إيناس تخطت المألوف وأصبحت كالفتيات العابثات أصابه بالجنون، فهو لم يعتد منها على هذا..

ودون أن يدري قادته قدماه إلى الصالة الرياضية، وبادر بإرتداء قفازيه ليمارس الملاكمة، فقد أراد إفراغ تلك الشحنة العنيفة المتأججة بداخله في شيء ما...
ظل يضرب بعنف ضربات متلاحقة قوية حتى خارت قواه المشتعلة، وجلس على جهاز رياضي ليلتقط أنفاسه اللاهثة.

توجه مسعد إليه حينما رأه في الصالة الرياضية، ورأى الحالة البادية عليه، فظن أنه قد علم بما حل بالفريق ضياء، وأصيب بحالة هياج أراد التنفيس فيها عن مشاعره، فضغط على شفتيه قليلاً، ثم اقترب منه، ومد ذراعيه ليحتضنه بصورة مفاجئة، فإندهش الأخير من تصرفه هذا، وسأله بريبة:
-هو في ايه؟
ابتسم له مسعد ابتسامة مصطنعة وهو يجيبه:
-باخد بخاطرك.

ظهرت تعابير الصدمة على قسماته المتصلبة، فقد اعتقد في نفسه أن إيناس قد أبلغته بما حدث، فسأله بصوت قاتم:
-ليه؟
رد عليه مسعد بجدية وهو يشير بيده:
-انت مش شايف شكلك، أكيد متأثر زيي!
حاول باسل أن يحافظ على هدوئه وثباته الانفعالي أمامه ريثما يكتشف ما الذي عرفه رفيقه، فسأله بحيطة:
-من ايه؟
أجابه مسعد بصوت شبه حزين:
-انت مش عرفت باللي حصل، وعشان كده مكونتش بترد عليا!

ابتلع باسل ريقه بقلق، ودارت في رأسه أسئلة عديدة، أهمها هل لجأت إيناس لأخيها لتقص عليه ما صار، وخاصة تطاوله باليد وباللفظ عليها..
فرددت بتوجس وقد ارتبكت نظراته:
-هاه، هي، هي قالتلك!
حدق فيه مسعد بإندهاش، وحك فروة رأسه في عدم فهم، وردد بإستغراب:
-هي كانت معايا أصلاً
أدرك باسل في لحظة أن مسعد يتحدث عن شخص أخر، فتساءل بجدية:
-انت بتكلم عن مين؟
أجابه الأخير متساءلاً بهدوء:
-عن صابرين، انت تقصد حد تاني؟

تنفس باسل الصعداء لكون مسعد لم يعرف بعد بما حدث، وبدى شبه متوتر وهو يرد عليه:
-هاه، لأ، بس سابين هاتقولي ايه أصلاً
هتف مسعد بنزق:
-انت معرفتش باللي جري للفريق ضياء
انتصب باسل في جلسته، ورفع حاجبه للأعلى باهتمام، وتساءل بنفاذ صبر:
-ما تقول اللي حصل يا بني على طول؟!

سرد له مسعد ما أصاب الفريق ضياء من وعكة صحية مفاجئة أودعته في العناية المركزة في حالة فقدان وعي بالكامل، فسيطرت حالة من الحزن على، وهتف غير مصدقاً:
-طب ازاي؟ ده، ده كان لسه كويس!
رد عليه مسعد بضيق:
-قضاء ربنا!
سأله باسل بجدية مفرطة:
-طب والعمل؟
رد عليه مسعد بإنزعاج:
-انا مشكلتي الوقتي مع صابرين
هتف باسل قائلاً وهو ينظر بدقة نحوه:
-سابين! مالها؟
أجابه مسعد بنبرة شبه حائرة وهو يحك مؤخرة رأسه:.

-هنعمل ايه معاها، المفروض كانت جاية بتصريح على قوة الفريق ضياء، استثناءي يعني، اللي جاي بقى مكانه هيسمح بوجودها ولا لأ!
زفر باسل بصوت مسموع، وأضاف بإمتعاض:
-مش عارف
تطلع مسعد أمامه بنظرات مطولة، ولاح طيف ( سابين ) أمامه، فتنهد بعمق، ثم عاود النظر إلى رفيقه، وتابع قائلاً بتوجس:
-محدش ضامن دماغ ولا تفكير القائد الجديد!
نزع باسل قفازيه، وهب واقفاً ليضيف:
-طب ماهو أكيد الفريق ضياء هايفوق وآآ...

قاطعه مسعد بجدية وهو يشير بيده:
-ولحد ما ده يحصل لازم نفكر في بديل!
سأله باسل بصوت جاد وقد ضاقت نظراته:
-طب ناوي على ايه؟
هز مسعد رأسه بحركة يائسة، ورد عليه بإستياء:
-مش عارف لسه، أنا عمال أقلبها في دماغي من بدري!
مسح باسل حبات عرقه بمنشفة قطنية، والتفت ليقول:
-هي مش هاينفع تفضل هنا كتير
رد عليه مسعد على مضض وهو عابس الوجه:
-معتقدش هايسمحوا بوجودها!

زاد عبوس وجهه وهو يتذكر كم المضايقات التي تعرضت لها فور وصولها للوحدة، بالإضافة إلى تطاول فادي عليها بالإيحاءات الغير مريحة والنظرات الجريئة، فزفر بغضب وهو يردد:
-وبفرض وافقوا مش هاتسلم من رزالة حد!
وافقه باسل الرأي، وهتف بجدية:
-ايوه، عندك السمج فادي، والعينة اللي زيه
تابع مسعد بإمتعاض وهو يفرك كفيه معاً:
-ده غير إن ممكن يكلفونا بأي مهمة، وساعتها هاتكون لوحدها!
سأله باسل بجدية وهو ينظر له:.

-طب هانتصرف ازاي؟
صمت مسعد للحظة، ثم أردف قائلاً بصوت جاد:
-بص، أنا بأفكر في حاجة كده، بس مش عارف إن كانت هاتظبط ولا لأ!
سأله باسل بإهتمام:
-ايه هي؟
فرك مسعد طرف ذقنه بإصبعيه، ثم أجابه بهدوء:
-هاحجزلها في فندق تبعنا وتبقى في نفس الوقت تحت عينيا
تابعه باسل بإهتمام بائن دون أن يقاطعه، في حين أوضح مسعد مبرراً:
-يعني منها تبقى على راحتها، ومنها نكون متابعين معاها.

فكر باسل في اقتراح مسعد ملياً، ثم رد عليه بنبرة دبلوماسية:
-ماشي، بس استنى أما نشوف رأيها
أومأ مسعد برأسه موافقاً إياه، فبالطبع لا يمكنه الشروع في عمل أي شيء دون موافقة سابين عليها أولاً، وردد بإقتضاب:
-طيب
لوح باسل بيده ليضيف بجدية:
-ولازم أروح أطمن على الفريق ضياء بنفسي
-ماشي، خد تصريح واتوكل على الله وشوفه.

في منزل مسعد غراب،
أوصدت إيناس باب غرفتها عليها، وألقت بجسدها على فراشها لتبكي بمرارة على تلك الإهانة الجارحة التي تعرضت لها..
دفنت وجهها في وسادتها، ونشجت بأنين متآلم..
وظلت كلمات باسل المستهزأة بها والمحقرة من شأنها تتردد في أذنيها..
رفعت رأسها عن الوسادة، وتحركت بوهن من على فراشها لتقف أمام مرآتها..
تأملت وجهها بعينيها المنتفختين، ومدت يدها لتتحسس فمها وجانبي صدغيها..
همست لنفسها بقهر:.

-أنا، انا مش زيك، مش عندي شنب!
انفطرت في بكاء أشد وهي تتخيل نفسها بتلك البشاعة أمامه..
لقد نجح في هز ثقتها بنفسها، أوجعها بشراسة في وقت لم تحتاج فيه إلا للثقة..
وهي لم تفعل ما يستوجب كل تلك القسوة
تحسست كذلك موضع صفعته، وهمست لنفسها بنبرة متألمة:
-مش هانسى القلم ده طول عمري، القلم ده عرفني أنا مين بالظبط!

في الوحدة التدريبية،
هبت سابين واقفة من مقعدها، وظهر على ملامحها الضيق، وهتفت معترضة بشدة:
-نو ( لأ )، موسأد
تعجب مسعد من رفضها الشديد، وأثار ريبته نوعاً ما، فوجودها في فندق مجهز بأحدث وسائل الراحة هو الحلم لأي شخص، خاصة إن كان متواجداً في سكن غير مناسب في هذا الجو الحار، وهي بإصرار غامض ترفضه رفضاً تاماً..
لذلك سألها بفضول مسيطر عليه وهو يدقق النظر في تعابير وجهها المتشنجة:
-ليه بس يا صابرين؟

ردت عليه بنبرة حاسمة:
-أنا مش روح إقعد في أوتيل لوحدي
رد عليها مسعد بإلحاح:
-ماشي بس ليه برضوه؟
صمتت سابين ولم تجبه وحدقت فيه بنظرات شبه متوترة، فهي واقعة في مأزق كبير، لا أحد يعرف بهويتها الحقيقية ولا بالكارثة التي حلت بها حينما قررت فضح كبرى الشركات، ولا بجرائم الاغتيالات التي لاحقتها، ونالت ممن حولها..

لاحظ الاثنين صمتها الذي طال، وتبادلا نظرات ذات مغزى خاصة حينما بدى على تعابير الارتباك والخوف، وأدركا أن الأمر أكبر من كونها مجرد خبيرة حصلت على تصريح استثنائي بالتواجد هنا..
مال باسل على مسعد وهمس له بشيء غير مسموع في أذنه، فهز الأخير رأسه موافقاً إياه، وتلاها تحديق الاثنين بها بنظرات متفرسة..

شعرت سابين أنها في دوامة لا تنتهي من الصراعات، فهي ما إن تخرج من معضلة حتى تتعثر في أخرى أشد خطراً من سابقتها..
هي بمفردها، تقاتل للبقاء بثبات أمام ما تعرضت له..
لم تدرِ أنها كانت محدقة في باسل ومسعد بنظرات فارغة أثارت قلقهما أكثر..
هي لم تكن تنظر إليهما فعلياً، ولكنها كانت شاردة في حياتها السابقة التي انقلبت رأساً على عقب..

بالطبع فلا أحد يعرف بكونها شاهدة رئيسية في قضية خطيرة وهامة، ومطلوب تصفيتها قبل أن تصل لقاعة المحكمة، ولجأت لبرنامج حماية الشهود لإبعادها مؤقتاً حتى جلستها..
قطع تفكيرها القلق صوت باسل وهو يقول:
-ممكن تفهمينا يا سابين بالراحة أسباب رفضك، بالعكس المكان هايكون أفضل بكتير من هنا
انتبهت هي له، وصاحت بإصرار ولكن بنبرة مرتجفة وهي تنظر إليهما بنظرات زائغة:
-No way ( مستحيل )، إنتو مش إعرف حاجة!

سألها مسعد بفضول وقد شعر بالتخبط الذي يعتريها:
-نعرف ايه بالظبط؟
ارتعش جسدها وهي تضيف بصوت شبه مرتعد:
-أنا، انا اقعد هنا، مش إمشي
وقف مسعد قبالتها، ودقق النظر فيها فرأى الخوف في عينيها جلياً، فسألها بتوجس:
-طب ليه؟
ازدردت ريقها بهلع، ولم تجبه، هي لا تملك الخيار حالياً، لا يمكنها المخاطرة بإخباره بهويتها الحقيقية فتخسر حمايتها..
أزعجه صمتها، فهتف بجدية:.

-لا يا صابرين، وجودك هنا الوقتي بقى مش اكيد، ولازم نفكر في بديل!
هزت رأسها معترضة، وهمست له برجاء وقد لمعت عيناها:
-مش ينفع موسأد
سألها بإلحاح وهو يطالعها بنظراته القلقة عليها:
-ليه بس؟
ضغطت على شفتيها بقوة، وتنهدت بإستياء ولم تجبه
استعطفها مسعد قائلاً برجاء:.

-عشان خاطري يا صابرين، قوليلي ليه انتي عاوزة تفضلي هنا؟ ومتقوليش الوحدة وجمالها والهري الكداب اللي محدش هايصدقه، أنا هنا جمبك ومعاكي ومش هاسيبك، بس فهمينا سبب رفضك!
استشعرت سابين في نبرته صدق نواياه نحوها، فترددت في إخباره..
أردف مسعد قائلاً بجدية وهو ينظر لها بثبات:
-قولي يا صابرين ومتخافيش، في حاجة حاصلة واحنا منعرفهاش؟
أضاف باسل هو الأخر قائلاً بصوته الجاد:.

-شوفي انتي لو فضلتي ساكتة احنا مش هانعرف نساعدك، وصدقيني الأوامر لو جت من فوق محدش فينا هايقدر يعترض، لازم نكون على علم بكل حاجة عشان نعرق نتصرف صح!
هز مسعد رأسه موافقاً على حديث رفيقه، وتابع بنبرة حازمة:
-ايوه، احنا أد المسؤلية، ثقي فيا وقوليلي، انتي عاوزة تفضلي هنا ليه؟ اتكلمي يالا!
عضت هي على شفتها السفلى، وأجابته بتلعثم وهي تبتلع ريقها:
-آشان ( عشان ) آآ، آآ...

صاح بها مسعد بنفاذ صبر وقد ضاقت نظراته:
-ما تكلمي يا صابرين! قولي
استسلمت سابين لإلحاحه المتكرر بعد صمت محدود، وتفكير متأني، فرغم كل شيء هي لم ترَ منهما سوى كل خير، ولعل اخبارهما بالحقيقة ربما يساعدها في إيجاد الحل، لذلك حسمت أمرها بإخبارهما بالحقيقة كاملة..
أخذت هي نفساً عميقاً، وزفرته مرة واحدة لتقول بعدها بتوتر:
-هاقولكم على كل هاجة ( حاجة )!

في منزل مسعد غراب،
دقت صفية على باب غرفة ابنتها عدة مرات، ولكنها لم تستجب لها، فتوجست خيفة من حدوث مكروه لها، وصاحت بقلق:
-مالك يا نوسة؟ في ايه اللي جرالك، يا بت افتحي وردي عليا
طرقت مجدداً بصوت مسموع، وتابعت بجدية:
-يا نوسة، مالك يا عين أمك
فتحت إيناس الباب فجأة، فرأتها والدتها بحالتها شبه المنهارة، فشهقت بذعر، وسألتها بتلهف:
-يا نصيبتي؟ ايه اللي حصلك يا بت؟

ارتمت إيناس في أحضان والدتها، وأخذت تبكي بمرارة دون أن تنطق بكلمة مما أثار ريبة أمها كثيراً..
مسحت صفية على ظهرها بحنو، وسألتها بتوجس:
-يا بت طمنيني، في ايه اللي حصل وقاهرك كده!
أبعدتها بحذر للخلف، وأحاطت وجهها بكفيها، ثم نظرت في عينيها، فأجابتها ابنتها بصوت مختنق للغاية:
-أنا، أنا.

حدقت إيناس في عيني والدتها بنظرات مخزية، لم تستطع البوح بما يجيش في صدرها، وكيف هذا وهي المخطئة في نظره، وهي الدميمة في عينيه..
ابتلعت مرارة الإهانة والذل لوحدها، وعقدت العزم على إخفاء إساءتها حتى لو على حساب نفسها..
بكت بلا توقف، فزاد خوف صفية، وشحب لون وجهها من فرط القلق، فسألتها بهلع:
-انتي ايه؟
اختلقت إيناس أكذوبة صغيرة لتطمئن بها قلب والدتها الملتاع، وردت بصوت متلعثم:.

-أنا، نقصت في امتحان المراجعة في الدرس!
تنفست والدتها الصعداء، وهتفت بعتاب:
-خضتيني يا بت، ده أنا قلبي وقع في رجليا، فكرت في نصيبة حصلتلك!
ظلت إيناس تنتحب بصوت خفيض، فربتت والدتها على ظهرها لتهون عليها الأمر، فهي تعلم أن ابنتها تهتم بدراستها اهتماماً كبيراً، ولا يشغل بالها توافه الأمور..
ابتسمت لها، ورددت بصوت أمومي حاني:
-معلش يا حبيبتي، ده امتحان، المهم بتاع أخر السنة.

همست إيناس بصوتها الباكي وهي تتوسل والدتها:
-ادعيلي يا ماما، لأحسن أنا تعبانة أوي
احتضنتها صفية مجدداً، ومسدت على رأسها برفق، وهتفت بتضرع:
-ربنا يريح بالك يا حبيبتي ويعوض تعبك خير!
شعرت إيناس بالإرتياح في حضن والدتها، وعلى الرغم من آلمها النفسي إلا أنها كانت تمتلك عزيمة قوية للصمود أمام ذلك الخزي..
عاهدت نفسها على فعل ما تريد من أجل نفسها ومصلحتها، وليس من أجل غيرها..

ستتغير، ولكن للأفضل، حينما يحين الوقت لهذا...

في الوحدة التدريبية العسكرية،
سردت سابين لباسل ومسعد كل ما يخصها، وكذلك ما حدث معها منذ البداية في ولاية أوهايو، وكيف انتهى بها المطاف هنا في القاهرة..
نظر الاثنين إلى بعضهما البعض بذهول تام، ورمش مسعد بعينيه لأكثر من مرة أثناء حديثها ظناً منه أنها تتحدث عن فيلم ما، وليس عن وقائع ملموسة تعرضت لها..
أطرقت سابين رأسها للأسفل، وهمست بتوتر:.

-That s it ( هكذا كان الأمر )، وأنا بقيت هنا في كايرو معاكو بعد ما ال FBI رتبوا كل حاجة!
انفجر مسعد صائحاً بصدمة وهو يرمقها بنظرات مشدوهة:
-يخرب عقلك، كل ده وساكتة!
نظرت له بقلق، وأسبلت عينيها، ثم همست بخوف ظاهر في نبرتها:
-أنا آآ..
تابع مسعد قائلاً بسخط بعد أن شعر بحماقته ومدى الغباء الذي كان فيه:
-ده انتي طلعتي نمرة لوحدك!
أردف باسل قائلاً بجدية:
-دي مصيبة وحطت علينا!

وضع مسعد يديه على رأسه، ودار في مكانه وهو يقول بحيرة:
-احنا اتقرطسنا!
ما أغضبه حقاً هو أنه تم استغلاله وخداعه فقط من أجل حمايتها، وليس كما ظن من أجل التقييم المزعوم..
تنهد بإحباط، وهتف بإستياء وهو عابس الوجه:
-يعني العملية مافيهاش لا حرس رئاسي ولا دياوله!
هزت سابين رأسها لتجيبه بنفي:
-نو ( لأ )
نظر لها شزراً، وكز على أسنانه بقوة ليقول بحنق:
-وفرحانة، يا خراب بيتك يا مسعد!

حدجه باسل بنظرات حادة، وصاح بإنزعاج:
-انت هتندب حظك، احنا عاوزين نفكر في حل
رد عليه مسعد بتهكم وهو يستدير برأسه نحوه:
-نفكر في حل، ده انا حقي أدفنها في أرض الكفار بعد الكدب ده كله!
لم يستطع مسعد إخفاء غضبه منها، فأكثر ما أزعجه هو كذبها وإن كان مبرراً، لكنه كان يفضل أن يكون على بينة منذ البداية ليتصرف بطريقة صائبة دون أن يبدو أمامها غبياً أو أحمقاً..

شعرت سابين بالضيق بسبب رؤيتها لمسعد على تلك الحالة، ولكن ليس بيدها حيلة، فهي كانت مضطرة للكذب لحماية نفسها..
تحركت بحذر نحوه، ووقفت خلفه، ثم همست:
-موسأد، بليز، calm down ( اهدى )
التفت برأسه للخلف، ورمقها بنظرات معاتبة، ثم أشاح بوجهه بعيداً وهو يتحرك للأمام، و أضاف بنبرة ساخطة:
-أل وأنا اللي عامل خدي مداس عشان خاطر دي مهمة وحركات بقى، وفي الأخر الليلة كلها تطلع بلح!

ضغطت على شفتيها بإستياء، ثم رفعت رأسها للأعلى، وأكملت بنبرة شبه متوترة
-أنا مش كنت آوز ( عاوزة ) قولك موسأد، بس أنا هاف ( أخاف ) أخرج من هنا
استدار ناحيتها، وصاح بضيق وهو يشير بيده:
-ده لو حد عرف أصلاً بالنصيبة دي مش هانترحم فيها
تساءل باسل بإهتمام وهو يفرك ذقنه:
-والفريق ضياء بس اللي كان عارف؟
أومأت سابين برأسها إيجاباً، فتابع باسل قائلاً بجدية:.

-طب هانتصرف ازاي، احنا معندناش أي تفاصيل عن العصابات اللي برا!
رد عليه مسعد بإمتعاض:
-مافيش في ايدنا أي حاجة نعملها!
نظر له باسل بنظرات جادة، وهتف بصرامة:
-على الأقل نتصرف حالياً في المتاح
ثم التفت برأسه ناحية سابين، وأشار بعينيها ليقول بجدية:
-سابين مش لازم تستنى هنا لحظة!
سأله مسعد وهو يلوي ثغره بتهكم:
-طب هاتروح فين يعني؟
أجابه باسل بصوت آجش:
-لازم مكان يكون آمن.

جلس الثلاثة سوياً يفكرون في حل لأزمة سابين بعد أن عرفوا بهويتها..
استغرقهم الأمر وقتاً طويلاً للوصول إلى حل مقنع لا يشكل ضرراً على سابين، وحينما عجزوا عن التفكير في شيء ما، استأذن باسل في الانفراد بمسعد، وتركاها الاثنين في مسكنها، وتوجها إلى بقعة خاوية للحديث..
طال الجدال بينهما، واحتدت المناقشة إلى أن صاح مسعد في النهاية مقترحاً بجدية:
- ايه رأيك لو أوديها عند الحاجة؟

رد باسل بإندهاش وقد إرتفع حاجبه للأعلى:
-أمك!
بدت منها إهانة أكثر من كلمة عادية، فهدر به مسعد بنبرة غليظة وهو يرمقه بنظرات محذرة:
-ماتحترم نفسك يا باسل!
تنحنح الأخير بحرج فقد فهم موقفه شبه العدائي، وبرر قائلاً:
-قصد يعني الست صفية!
أومأ مسعد برأسه وهو يقول بإيجاز:
-ايوه، اتعدل في كلامك
سأله باسل بإهتمام:
-وبصفتها ايه هاتروح هناك؟
هز مسعد كتفيه، وأجابه بنبرة شبه حائرة:
-مش عارف لسه!
أضاف باسل قائلاً بمزاح:.

-يعني بدل ما تدخل على أمك بكيس جوافة ولا قفص برتقان تدخلها بواحدة!
رد عليه مسعد بسخرية:
-فجور بعيد عنك
حدجه باسل بنظرات محذرة وهو يقول بصوت منزعج:
-مسعد، مافيش هزار في الكلام ده!
وقف مسعد قبالته، ونظر له دون أن تطرف عيناه، وهتف بنبرة ثابتة:
-أنا بأتكلم جد مش بأهزر
التوى ثغر باسل بعدم اقتناع، فقد اعتقد انها مزحة سخيفة من رفيقه، وسأله بسخرية:
-طب هاتقول لأمك ايه يا فالح؟
رد عليه مسعد بهدوء وهو يغمز له:.

-ما احنا عاوزين نتكتك ونرسم خطة حرب يا أبو التفانين
رفع باسل حاجبيه للأعلى وهتف ساخطاً:
-يا سلام بالبساطة دي!
نفخ مسعد بصوت مسموع، ثم عبس بوجهه وهو يضيف بتوجس:
-الخوف بس من ردة فعلها لما تشوفها
وافقه رفيقه في رأيه، وبرر قائلاً:
-طبعاً هي هترفض أكيد
أوضح مسعد قائلاً بمزاح:
-أيوه، عملاً بالمثل اللي بيقول ما يضايق الزريبة إلا الحمارة الغريبة!
حدجه باسل بنظرات مشتعلة وهو يقول بتبرم:.

-يخربيت تشبيهاتك! تودي في داهية
رد عليه مسعد بعدم اكتراث وهو يشير بيده:
-سيبك من تشبيهاتي، المهم صابرين!
هتف باسل بإنزعاج وقد ضاقت نظراته:
-سابين يا بني آدم، اسمها سابين احفظه بقى!
رد عليه بتهكم:
-يا سيدي مش لو طلع أصلاً اسمها، ماهو يمكن يكون فشنك زيها!

أكثر ما أصاب مسعد بالإحباط هو شعوره بالحماقة والسذاجة تجاهها، وهي التي استحوذت على تفكيره في مدة قليلة، وبالتالي شعورها نحوه – إن وجد في الأساس – لن يتخطى كونه مفتعلاً من أجل اتقان الحبكة عليه..

في النهاية اتفق الاثنين على أن يظل الوضع كما هو عليه مؤقتاً ريثما يبحث كلاهما عن حل فعال في مشكلتها، مع عدم اخبار أي أحد بما عرفاه، والتحري في الخفاء عن شخص أخر يعلم بحقيقتها لمساعدتهما حتى يمتثل الفريق ضياء للشفاء..
عاد مسعد إلى سكن سابين، والتي أقبلت عليه بتلهف لتسأله:
-ها موسأد، إنت آمل ( اعمل ) ايه؟
تنهد بعمق وهو يجيبها:
-هاتفضلي هنا
تهللت أساريرها بسعادة وهتفت بحماس:
-بجد؟

أومأ برأسه إيجاباً وهو يرد عليها بصوت رخيم:
-أيوه، كل حاجة هتفضل زي ما هي، مافيش تغيير
اعتلى ثغرها ابتسامة سعيدة، وبلا وعي رمت نفسها في أحضانه لتغرق في صدره، ولفت ذراعيها حول عنقه، وتعلقت به، وهمست له بإمتنان:
-ثانك يو موسأد، ثانك يو ( شكراً لك ).

تفاجيء هو من حركتها المباغتة فهزت كيانه بالكامل، وإنتابته مشاعر رهيبة أثرت فيه بصورة لم يتوقعها، وشعر بدقات قلبه تتقافز رقصاً في صدره، وهتف غير مصدق ما فعلته:
-ايه ده؟
أدركت سابين مبالغتها في ردة فعلها الفرحة، فتراجعت بحرج للخلف بعد أن أرخت ذراعيه، وتوردت وجنتيها وهي تقول بخجل:
-أوه، سوري، مش اقصد!
رد عليها بإبتسامة متسلية:
-أنا ممكن أنهار من حركة زي دي!

زاد خجلها، واكتسى وجهها بحمرة أشد، وهمست بإستعطاف حرج:
-بليز! أنا آآ...
قاطعها قائلاً بمزاح وهو يحك مؤخرة رأسه:
-خشي يا بنتي جوا، لأحسن الشيطان شاطر، وأنا عندي استعداد أنفذ أوامره بحذافيرها، وأجود كمان من عندي!
ابتسمت له بخجل وهي ترمش بعينيها، ثم هزت رأسها بحركة خفيفة وهي تقول:
-أوكي!

استدار مسعد للخلف، وأولاها ظهره، وتنهد بحرارة وهو يسير مبتعداً، لكنه تسمر في مكانه حينما سمع صوتها الرقيق يناديه بنعومة:
-موسأد
التفت نحوها، ورمقها بنظرات ممعنة وهو يرد:
-نعم!
ردت عليه برقة أثارته:
-أنا أشكر إنت على Every thing ( كل شيء )
هتف مسعد بتنهيدة شبه هائمة:
-بصي أنا قلبي رهيف ومش مستحمل، اقفلي الباب يالا الله يكرمك!

حركت برأسها بإيماءة خفيفة، ثم لوحت بكفها له، و أغلقت الباب ببطء وهي تشعر بشيء مختلف طمأنها...

مرت عدة أيام التزمت فيها سابين بدورها كخبيرة أجنبية جاءت من الخارج لعمل بعض الأبحاث، ولعبت دورها بإتقان فصدق الغالبية هذا، ودونت في الأوراق الزائفة نتائج الأبحاث المفبركة، فاقتنع المتواجدون بعملها..

حاول مسعد أن يبدو طبيعياً في التعامل معها رغم حالة الإنزعاج التي تعتريه من وقت لأخر من الموضوع برمته، ولكن من أجل حمايتها أدى واجبه بحرفية ومهارة، وظل ملازماً لها في معظم الوقت يعاونها في أداء مهمتها المصطنعة..
ورغم تعامله بحذر معها، إلا أنه حدث نوع من التقارب بينهما، وشغلت حيزاً كبيراً من تفكيره عما مضى، وأصحبت سلامتها هي أولى اهتماماته بل أكثرها أهمية على الإطلاق..

أصبحت سابين تثق في مسعد بصورة كبيرة، بل على العكس كانت تشعر بالآمان في وجوده إلى جوارها..
عاتبت نفسها أنها كانت تظنه أبلهاً في البداية، وحكمت عليه بظلم جائر، ولم تترك له الفرصة ليثبت نفسه..
أرادت الاعتذار منه، ولكن على طريقتها، وفكرت في طريقة مميزة لفعل هذا، وستنفذها حينما تتاح لها الفرصة..
حرص باسل هو الأخر على البحث عمن له صلة قوية وعليا بالفريق ضياء حتى يتواصل معه، ولكن كان الأمر بدون أي جدوى..

ما شغل باله وحاول اجبار نفسه على تجاهله رغم الضيق المسيطر عليه هو الاطمئنان على أحوال إيناس، فلم يعرف عنها إلا القليل، ولم يرغب في سؤال مسعد عنها كي لا يثير ريبته..
أقنع نفسه أن ما فعله معها هو الصواب، وظل يردد في نفسه أنها أخته الصغيرة، وبرر إحساسه تجاهها وغضبه الشديد منها بأنه بسبب الواجب وحكم القرابة كزميل على صلة وثيقة بأخيها، ولا يمكن أن تكون مشاعره لها أي تفسير أخر..

في نفس التوقيت بدأت إيناس في أداء امتحاناتها النهائية وهي عاقدة العزم على بث كل طاقتها الغاضبة في الاستذكار والحصول على أفضل الدرجات لضمان الإلتحاق بفصول الفائقات في المرحلة الثانوية..

مضى ما يزيد عن أسبوعين وكل شيء يسير على ما يرام إلى أن بلغ جميع من في الوحدة خبر وفاة الفريق ضياء...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة