قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

لم يرغب مسعد في إصطحاب إيناس معه خلال مواجهته مع سابين، وبرغم تذمر الأخيرة واعتراضها على قراره الصارم والنهائي إلا أنها لم تتمكن من اقناعه بمجيئها معه..
هي تعلم بما دُوِن من معلومات في الورقة، لكنها مثله لم تفهم سبب فعلها لهذا..
أوصلها أولاً عند بنايتهم، فترجلت على مضض منها، ورمقته بنظرات معاتبة، ولكنه لم يعبأ بها ولا بتوسلاتها، و انطلق مسرعاً بالسيارة نحو العنوان المذكور..

ظلت أنظار إيناس متعلقة ببقايا أثر سيارة أخيها وهي تدعو الله في نفسها أن يمر الأمر على خير..
تحركت في اتجاه مدخل بنايتها، ولكن استوقفها ذلك الصوت المألوف الذي بات كابوسها مؤخراً وهو يهتف باسمها:
-إيناس!

أسئلة كثيرة دارت في رأس مسعد محاولاً الوصول لتفسير مقنع لها..
لم يكن يرى أمامه سوى صورة وجهها، وتلك الطفلة الصغيرة التي كانت معها..
ظل يكرر لنفسه متساءلاً بحيرة:
-طب ليه عملت ده؟ واشمعنى أنا؟ ليه؟!
ضغط على المقود بكفيه مفرغاً فيه شحنته العصبية لعجزه عن الإجابة عنهم..
قطع أشواطاً مخترقاً الزحام المروري بصعوبة حتى وصل أسفل بنايتها، ثم رفع رأسه للأعلى ليحدق بالطابق المتواجد به منزلها..

طالت نظراته الممعنة، وفي النهاية تحرك بالسيارة ليبحث عن مكان شاغر ليصفها به..
ترجل منها، وجاهد ليضبط انفعالاته بالرغم من التشنجات الظاهرة على قسمات وجهه..
اتجه إلى مدخل البناية، فأوقفه حارسها متساءلاً عن هويته، فرد عليه بصرامة:
-مقدم مسعد غراب! قوات مسلحة!
ظن حارس البناية أنه يستخف به، فسأله بأدب:
-ممكن بطاقتك لو سمحت؟
أشهر له مسعد هويته وهو يرد بتهكم:.

-ولو تحب أجيبلك الكتيبة كلها هنا عشان تتأكد معنديش مانع!
اضطرب الحارس بعد أن تحقق منها، وأدى له التحية وهو يقول بصوت شبه مرتجف:
-اتفضل يا باشا
ولم يسأله المزيد، فيكفيه إطلاعه على هويته، وربطه بهوية الساكنة بالطابق العلوي ليخمن من هو...
وبالفعل ولج مسعد إلى داخل بهو البناية الحديثة، واستقل المصعد ليصل إلى الطابق المتواجد به منزل سابين..
ومع كل خطوة كان يخطوها نحوها، تتسارع فيها دقات قلبه..

ورغم حنقه منها إلا أنه لم يستطع إنكار حالة التخبط التي أصابته في مشاعره..
لا يعرف هل يحق له الغضب منها أم عليه الصبر والتريث لفهم كل شيء..
وقف أمام باب منزلها، وحدق فيه بنظرات مطولة قبل أن يمد يده ليقرع الجرس..
انتظر للحظات قبل أن يسمع هتاف طفلة صغيرة مصحوباً بخطواتها وهي تركض ناحية الباب لتفتحه دون تردد..
فتحت هي الباب على مصراعيه ووقفت على عتبته وهي تهز جسدها ببراءة، وهتفت بإبتسامة:
-أنا!

ابتسم لها مسعد بعد أن أخفض بصره نحوها، وتفرس في ملامح وجهها البريء الذي كان مختلفاً كلياً عن وجه سابين، وسألها بنبرة هادئة:
-ماما فين؟
أشارت الصغيرة بيدها للخلف وهي تجيبه ببراءة:
-جوا!
استمع هو إلى صوت سابين وهي تهتف بإنزعاج من الداخل قائلة بلكنتها الغريبة:
-جينا، انتي افتحي بدون أنا again ( مرة أخرى )!

كانت محدقة في وجه الصغيرة بنظرات غاضبة وعلى تعابيرها علامات استنكار لفعلتها المتهورة، ثم دفعتها برفق للخلف..
رفعت تلقائياً عينيها للأعلى لتنظر في وجه الشخص المتواجد أمامها، فتجمدت نظراتها عليه بعد أن انفرج فمها مفتوحاً من الصدمة الغير متوقعة بالمرة...
تسمرت مذهولة في مكانها، وظلت محدقة به دون أن ترمش للحظة..
التقت أعينهما معاً، وامتزجت نظرات الغضب الحانقة مع نظرات الإندهاش والصدمة.

صمت رهيب ساد بينهما للحظات معدودة قبل أن يقطعه مسعد قائلاً بصوت متحشرج يحمل التهكم والسخط:
-اهلا يا سابين! ولا أقولك أحسن مدام صابرين موسأد غراب؟!
لم تتحمل هول المفاجأة المباغتة من قِبَلِه، وشعرت بعجز ساقيها على الصمود، وبتراخي قواها كلياً فجأة..
ارتجفت بشدة، وجف حلقها، وتشوشت الرؤية في عينيها، وترنح جسدها للأمام والخلف، وبدت كمن على وشك الإغماء..
أسرع مسعد بإسنادها من ذراعيها قائلاً بغلظة:.

-مش هتخيل عليا الحركات دي!
لكنها لم تكن تدعي ذلك، فقد فقدت وعيها بالفعل، وإنهار جسدها، وسقطت في أحضانه مغشية عليها، فخفق قلبه خوفاً عليها وهو يضمها بذراعيه ممسكاً إياها بقوة وهاتفاً بقلق:
-سابين!

أسفل البناية،
التفتت إيناس برأسها للخلف لتجد باسل مقبلاً عليها وهو يحمل في يده باقة ورد صغيرة..
عبس وجهها فور وقوع عينيها عليه، وزادت حدة نظراتها المحتقنة نحوه، ونفخت بغيظ منه..
تفهم هو تصرفاتها الطبيعية تجاهه، ولما لا؟ فهو قد أساء إليها بصورة مبالغة، وترك في نفسها أثراً سيئاً..
اقترب ببطء منها حتى وقف قبالتها، ثم أردف متساءلاً ً بصوت رخيم:
-عاملة ايه؟

نظرت له شزراً، وردت عليه بنبرة محتدة ومنفعلة نسبياً:
-أفندم؟ إنت جاي هنا عشان تسألني السؤال الغبي ده!
ضغط على شفتيه بقوة مسيطراً على نفسه، فلا داعي للاشتباك أو التشاجر معها أمام المارة بسبب فظاظتها، واجتذاب الأنظار نحوهما..
تصنع الابتسام وهو يرد عليها بهدوء عجيب:
-على فكرة أنا واقف مستنيكي من بدري!
ثم أخفض نبرة صوته، وأسبل عيناه وهو يتابع موبخاً إياها بحذر:
-فعيب عليكي تردي عليا بقلة أدب!

استشاطت غضباً من تعنيفه الغير مبرر لها، واستنكرت ما قاله، فهو أكثر من تبغضهم في حياتها، ولذلك ردت عليه بإستهجان وهي ترمقه بنظراتها المشتعلة ومشيرة بكف يدها في الهواء:
-عيب عليك إنت لما تقف كده في الشارع وتستنا أخت صاحبك زي الشباب الصيع!
نظر لها مشدوهاً، واصطبغ وجهه بحمرة غاضبة من هجومها اللاذع عليه، ولكنها لم تتوقف عند هذا الحد، حيث أضافت بوقاحة متعمدة اهانته:
-إنت كبرت على حركات العيال دي يا أبيه.

أغمض عيناه للحظة ليسيطر على نوبة غضب توشك على الانفجار في وجهها فتطيح بها، ربما هي محقة في جزء مما قالته، ولكنه لا يستحق كل هذا التطاول منها..
فتح عينيه ورمقها بنظرات ثابتة، وأخذ شهيقاً عميقاً كتمه في صدره، و أخرجه دفعة واحدة ليرد عليها بعدها من بين أسنانه:
-مش قولتلك تبطلي الكلمة دي!
نظرت له بإستخفاف وسألته بعدم اهتمام بتلك النيران التي تراها تتراقص متأججة في عينيه:
-جاي هنا ليه؟

تجاهل نظراتها متعمداً، وأجابها بجدية وهو مكور لقبضة يده:
-كنت عاوز أقولك إني فركشت مع ناتالي!
لوت ثغرها مستهينة بما صرح به، وردت عليه بعدم اكتراث:
-وأنا مالي، ما تخطب ولا تتجوز ولا تفركش!
رد عليه بإمتعاض:
-انا قولت الموضوع يهمك!
صاحت به بعدم مبالاة وهي تشيح بيدها في الهواء:
-بتاع ايه يهمني، أنا ماليش دعوة باللي يخصك!
حذرها بعينيه قائلاً بصرامة:
-لمي ايدك وانتي بتكلمي معايا.

نظرت إلى حيث أشار، وبرزت عروقها الغاضبة من أمره الحاد إليها، وتفاجئت به يمد يده نحوها ليعطيها باقة الورد وهو يقول بنبرة شبه هادئة:
-اتفضلي، ده عشانك!
نظرت إلى الباقة بإزدراء، وتمتمت بإستغراب:
-نعم؟
أضاف قائلاً بسخط قليل:
-يا ريت بس يعجبك! ولو إني عارف إنك مش بيعجبك العجب!
ثم ابتسم بسخرية وهو يتابع قائلاً:
-بس يالا أنا قولت الصلح خير وأهو نبدأ مع بعض من أول وجديد وننسى اللي فات!

شعرت إيناس بأنه يتفضل عليها بما يفعله، وأن تلك الباقة ما هي إلا وسيلة رخيصة لإشباع غروره وتعاليه وليس إعتذاراً حقيقياً منه..
لذا جذبتها منه عنوة دون أن تنطق، وألقتها على الأرض بعصبية، فصدم مما فعلته بها، وقامت بدهسها بقدمها لتفسدها وهي ترد بعصبية:
-وأدي الورد اللي انت جايبه، ده مصيره!
تحولت حدقتيه لشرارتين متقدتين، وكان على وشك تعنيفها لولا انفعالها قائلة:.

-أنا بأكرهك وبأكره أي حاجة منك، فيا ريت ما أشوفكش ولا تشوفني تاني!
ركلت بعدها ما تبقى من الباقة بقدمها لتطيح بها في الهواء، وتابعت بفظاظة محدثة نفسها بصوت عالي وهي توليه ظهرها:
-كفاية بقى، كانت معرفة سودة جت على دماغي في الأخر!
تجمدت قدماه في مكانه وعجز عن الرد عليها..
تساءل مع نفسه بحزن واضح وهو يراها تختفي من أمامه.

ألهذا الحد تبغضه؟ هل أذاها بشكل بشع جعلها لا تتقبل العفو عنه مهما فعل؟ وهل بالغ في تحطيم ثقتها بنفسها بالشكل الذي جعلها تشعر بالنفور الشديد منه؟
أدرك باسل وهو يقف في مكانه أن الطريق إلى قلب إيناس أصعب بكثير من الطريق إلى إيلات، ولكنه لن يستسلم بسهولة، فقد اعتاد على اتمام ما يُكلف به من مهمات حتى لو كانت مستحيلة، وهي أصبحت مهمته الحالية بل أهم تكليف في حياته القادمة...

في منزل سابين،
أسرع مسعد بتلقي جسد سابين المغشي عليه بذراعيه، وأسند رأسها على كتفه، ثم حاوط بذراعه خصرها، وتحرك بها بحذر للداخل ليتمكن من غلق باب المنزل قبل أن يراهم أي أحد ويظن به السوء..
استغربت الصغيرة جينا مما أصاب والدتها، وتساءلت ببراءة وهي تجذب بنطال مسعد بأصابعها:
-مامي نامت؟
نظر هو لها بتعجب ورافعاً حاجبه للأعلى، ثم هز رأسه إيجاباً وهو يقول:
-اه!

انحنى قليلاً ليتمكن من حمل سابين، ثم بحث عن أقرب أريكة، ووضعها عليه برفق..
تلفت حوله ليفحص المكان بنظرات سريعة شمولية..
لمح الصغيرة وهي تقترب منها، وتجثو على ركبتيها أمامها، وتمد يدها لتعبث بخصلات شعرها المتدلية، واستمع إلى صوتها وهي تهزها قائلة:
-مامي، wake up ( اصحي )
ضغط على شفتيه بضيق، ثم بحث بعينيه عن المطبخ فوجده، واتجه ناحيته ليحضر ما يستعين به لإفاقتها..

غاب للحظات بالداخل، ثم عاد وهو يحمل ( بصلة ) في يده
نظرت إليه الصغيرة جينا بإندهاش، وسألته بفضول:
-دي آمل ( اعمل ) ايه؟
أجابها مسعد بإمتعاض:
-هافوقك أمك بيها! ماهو الجيش بيقول اتصرف.

قام مسعد بتقشير أوراق البصلة الخارجية، ثم جلس على الطاولة المنخفضة المقابلة للأريكة، وتذكر أنه لم يحضر سكيناً لتقطيعها، وأخفض بصره للأسفل، وضرب البصلة بعنف على زجاج الطاولة بكفه فانقسمت إلى عدة أجزاء، ثم انحنى للأمام على سابين، ولف ذراعه خلف عنقها ليرفعها إليه، ووضع بيده الأخرى البصلة على أنفها، وأجبرها على استنشاقها..

ضحكت الصغيرة مما يفعله، ثم نهضت من مكانها، وركضت مسرعة نحو رواق ما وهي تغمغم بمرح..
قرب مسعد البصلة مجدداً من أنف سابين هاتفاً بضجر:
-فوقي يا صابرين، بلاش شغل الأموات ده، إنتي مش شوفتي عفريت، يالا يا ماما!
تجهم وجهها، وبدت علامات النفور واضحة على قسماتها وهي تجاهد لتستفيق من اغماءتها المؤقتة..

انتبه مسعد إلى الصغيرة جينا وهي تركض عائدة إليه، وجلست إلى جواره على الطاولة حاملة دميتها باربي الشهيرة، ثم قامت بمحاكاته وتقليده ولكن مع لعبتها..
قطب جبينه متعجباً من تصرفها الطفولي، وعاود النظر إلى سابين التي كانت تستعيد وعيها بالفعل، وأصدرت أنيناً خافتاً، وتأوهات خفيضة وهي تحرك رأسها عفوياً للجانبين..
بدت الرؤية مشوشة في البداية، ولكن قوة الرائحة النفاذة لثمرة البصل جعلتها تشعر بالنفور والضيق..

لم يتوقف مسعد عن إجبارها على شم رائحتها حتى تأكد من استعادتها كلياً لإدراكها..
هبت هي مذعورة من نومتها، ونظرت إليه بصدمة، وانكمشت على نفسها في مكانها وهي محدقة فيه بخوف واضح..
لم تكن تتخيل أنه سيتمكن من الوصول إليها بتلك السرعة..
كانت معتقدة انه يستغرق وقتاً – على الأقل شهراً – حتى يصل إلى مقر سكنها، لكنه خالف توقعاتها، ووصل لها في غضون ساعات..

تراجع مسعد بجسده للخلف، وانتصب في جلسته، واحتفظ بهدوء ملامحه وهو يراقبها..
لم تتغير كثيراً، كانت كما رأها أخر مرة من أربع سنوات، مازالت تحتفظ بجمالها الرقيق، وبوجهها الناعم..
لكن لم تتوقف عيناه عن عتابها بقسوة..
صاحت الصغيرة جينا بمرح وهي تتقاذف دميتها في الهواء لتخرج كلاهما من حالة الصمت:
-يااااي، مامي woke up ( صحيت )، بليز نلأب ( نعلب ) again ( تاني )!

انتبهت سابين لوجود الصغيرة معهما، فازدردت ريقها بتوتر كبير، وابتسمت لها ابتسامة باهتة وهي تطلب منها:
-جينا، بليز Go Inside ( اذهبي للداخل )
هزت الصغيرة جينا رأسها معترضة بشدة وهي تقول بوجه عابس:
-نو مامي، أنا stay ( أبقى هنا )!
زادت نبرتها حدة وهي تعيد أمرها عليها مجدداً:
-بليز جينا، مامي قول ايه؟
نفخت الصغيرة بغيظ، وهتفت معترضة وهي تنهض مرغمة من مكانها:
-أوف، مامي!

انتظرت سابين ابتعاد الصغيرة واختفاؤها بالداخل حتى هتفت متوسلة لمسعد:
-بليز موسأد، مش آآ...
قاطعها قائلاً بشراسة وقد احتدت نظراته:
-بلا موسأد بلا بتاع، بقى أنا أفضل دايخ على اللي جابوكي أربع سنين، ومخي يودي ويجيب عشان أعرف أراضي سيادتك فين، وأنتي موجودة هنا، لأ وكمان مسمية نفسك صابرين، وعلى اسمي، وبأوراق رسمية!
ابتلعت ريقها بتوجس، وهتفت متوسلة:
-أنا هافهمك موسأد، بس بليز calm down ( إهدأ ).

هب واقفاً من مكانه، وصاح بها بتهكم وهو يلوح بذراعه في الهواء:
-بلاش عوجة البؤ دي عليا، كلميني عربي يا صابرين، ده احنا دافنينوه سوا!
نهضت هي الأخرى من على الأريكة، ووقفت قبالته مستجمعة شجاعتها، وردت عليه بهدوء رقيق:
-اوكي، بس إنت اهدى، وبلاش صوت آلي ( عالي )!
نفخ بقوة، وهو يتابع بسخط:
-ماشي، أديني هاحط جزمة في بؤي واسكت، اتفضلي فهميني يا مدام!
ابتسمت بخجل قليل وهي توضح له سوء فهمه:.

-أنا still miss ( مازلت آنسة )، أنا لسه مش اتجوزت!
رد عليها بتهكم:
-والمفروض أنا أفرح يعني ولا أزغرط؟
نظرت له بحيرة، فأضاف متساءلاً بحدة:
-والبت دي جت بالمراسلة مثلا؟!
استشعرت من حديثه إتهاماً صريحاً لها بأنها أنجبت تلك الصغيرة من علاقة غير شرعية، بالطبع ولما لا؟ وكل الأمور ليست في صالحها..
حافظت هي على هدوئها أمام بركان انفعاله المبرر، وأردفت قائلة بحذر:
-انت اديني فرصة اكلم!

زفر مجدداً بنفاذ صبر وهو يقول:
-ماشي، أديني سامعك
أخذت سابين نفساً عميقاً، وزفرته مرة واحدة، ثم بدأت في سرد ما دار معها قائلة بتريث وهي تشير بيدها:
-شوف موسأد، أنا بعد ما رجعت أوهايو، كان في قضايا ومحكمة، وآآ...
قاطعها قائلاً بإنزعاج:
-الفيلم ده كله أنا عارفه، خشي على المفيد!
هزت رأسها متفهمة، وتابعت بصوت جاد:
-القضية خلصت بعد شهور، واتحاكم المجرمين، بس للأسف حاولوا يقتلوني تاني!

تشنجت تعابير وجهه، واتسعت حدقتيه مصدوماً، وهتف بهلع واضح:
-ايه؟ يقتلوكي!
أكملت بنبرة شبه أسفة وقد لمعت عيناها إلى حد كبير:
-أنا كنت مفكرة إني في أمان، بس ده مش حقيقي، هما كانوا عاوزين ينتقموا مني، واتعرضوا لصديقتي مارلي، وآآ...
تقطع صوتها، وصمتت للحظات محاولة استعادة السيطرة على نفسها خاصة حينما بدأت تنخرط في البكاء..
نظر لها بإهتمام كبير، وسألها بتوجس:
-ها، كملي! حصل ايه؟

انتحب صوتها وهي تجيبه بحزن حقيقي:
-وقتلوها!
صدم مما قالته، وهتف بنزق وهو محدق بها بأعين متسعة:
-يا ساتر يا رب!
مسحت سابين عبراتها بكفيها، وأكملت بنبرة منتحبة:
-مارلي كان عندها بيبي صغير، هي جينا، وكانت هاتروح ل Foster house ( بيت خاص برعاية الأطفال دون السادسة عشر )
سألها مسعد بعدم فهم وهو يرفع حاجبه للأعلى:
-ده ايه ده؟

أجابته بصوت مختنق بلكنة عجيبة محاولة إيصال مفهومه له بعد أن جذبت منشفة ورقية من العلبة الموضوعة على جانب الطاولة:
-حاجة زي، مممم، بيت رعاية أطفال مش عندهم مامي ولا دادي!
أدرك مسعد أنها تقصد ما يشبه دور كفالة اليتيم، فأومأ برأسه:
-أها، فهمتك
أضافت قائلة وهي تشعر بنوع من تأنيب الضمير بسبب ما حدث لرفيقتها:
-أنا مش رضيت أسيبها تتبهدل، إنت مش عارف ممكن يعملوا ايه في بيبي صغير، مش قادر يحمي نفسه!

التوى ثغر مسعد بتهكم وهو يقول:
-اه، أم قلب طيب، إنتي هاتقوليلي!
تابعت هي قائلة بنبرة حزينة:
-وقررت أتبناها وتبقى تحت وصايتي، وخوفت أكتر إن هما يوصلولي ويؤذوني أو يؤذوها زي مارلي، فلجأت لمكتب حماية الشهود، وغيرت هويتي لحاجة تانية!
وكأنه لم يقتنع بما قالته، فرد عليها بسخط وقد تحولت نظراته للضيق:
-ايوه صابرين موسأد أوراب!
هزت رأسها بإيماءة خفيفة وهي تجيبه بحذر:.

-ييس، مش حد هيفكر إن دي أنا، الكل عارفني بسابين مشعل!
صاح بها ساخراً:
-يا ناصحة، فقولت ألبسها للغلبان مسعد!
عضت على شفتها السفلى وهي تهمس بتوتر:
-مش بالظبط!
أشار بسبابته للأمام وهو يتساءل بعبوس:
-والبت دي؟ عملتي معاها ايه؟
رمشت بعينيها بإرتباك ملحوظ، وتلعثمت وهي ترد قائلة:
-آآ، هي اسمها، آآ، جينا..!
تابع متساءلاً بنفاذ صبر:
-ايوه جينا ايه؟
تراجعت خطوة للخلف وهي تجيبه بصوت خفيض:
-آآ، جينا موسأد أوراب.

وضع مسعد يده على رأسه مصدوماً، وهتف غير مصدق ما يحدث معه:
-صلاة النبي أحسن! كمان!
لم ترغب سابين في إخفاء أي شيء عنه، فالمصارحة في هذا التوقيت مطلوبة لوضع الأمور في نصابها الصحيح..
خاصة وأن كل شيء مرتبط به وبإسمه..
فهي من اختارت استغلال اسمه والاستعانة به كوسيلة للاختباء عن أعين من يحاولون اغتيالها، ومن حقه أن يحصل على تفسيراً كاملاً لدوافعها..
أضافت قائلة بنبرة خافتة:.

-وال FBI رتبلي هويات جديدة، وانتقلت لولاية تانية لحد ما أظبط أوضاعي، وبعدها رجعت كايرو ( القاهرة ) على إني آآ..
رمشت بعينيها وهي تتابع بتخوف من ردة فعله:
-مدام صابرين! وفي مسئول هنا مهم ساعدني عشان كل حاجة تبقى سليمة!
احتقنت عيناه بوضوح، وسألها بغلظة:
-والكلام ده كان من امتى؟
تنحنحت برقة وهي تجيبه:
-احم من آآ، من سنتين ونص
هدر مصدوماً بإنفعال جلي:
-اييييييه!

انتفضت خيفة من تهوره، ورددت بحذر وهي مسبلة لعينيها الدامعتين:
-هو آآ، مش كتير صح؟
كور قبضة يده وأوهمها أنه على وشك لكمها، فأخفضت رأسها ووضعت كفيها أمامها لتحمي نفسها منه، ولكنه ضرب قبضته بالأخرى، وأكمل بصوت غاضب:
-مجاش في بالك للحظة تعرفيني باللي عملتيه ولا تطمنيني عليكي حتى، أش حال مكونتش معترفلك بحبي ليكي!
نظرت له من طرف عينها، وابتلعت ريقها وهي محرجة منه، فهو محق في ضيقه منها...

أولاها ظهره، وأكمل بنبرة متشنجة وهو يضغط بيديه على رأسه محاولاً كبح غضبه:
-حرام عليكي، ده أنا كنت هاتجنن وأعرف أي حاجة تخصك!
أخفضت يداها للأسفل، ونظرت إليه بندم، وبررت موقفها قائلة بهمس:
-خوفت موسأد يحصل زي أخر مرة مع إيناس ( سيستر ) بتاعك، أنا مش كنت أستحمل إنت تتأذى أو حد من عيلة، ومارلي ( ماي فريند ) ماتت بسببي! فخبيت عن الكل!
استدار بجسده ليواجهها، واستنكر ما قالته، ورد عليها بسخرية مريرة:.

-يا حنينة، فقولتي بقى أجي من وراه، وأكتب اسمي على اسمه، وأهوو محدش واخد باله، ولا هيعرفوا أصلاً، وبالمرة ألزقله بنت مش عارفها عشان تكمل الليلة!
هزت رأسها نافية وهي تدافع عن نفسها بجدية:
-نو ( لأ ) موسأد، نو! دي كانت ( دواعي أمنية، مشددة )!
ارتفع حاجباه للأعلى، وظن أنها تستخف به، وصاح متهكماً:
-يا شيخة! دواعي أمنية!
هزت رأسها بإيماءة خفيفة، وردت عليه بجدية:.

-أها، وأنا كان لازم أعمل كده عشان أحمي نفسي وجينا معايا!
اغتاظ من عدم اهتمامها بإحساسه الذي احتفظ به نحوها لأربع أعوام دون أن ينتقص من قدره شيئاً، وهتف متساءلاً بسخط:
-طب مفكرتيش إن ملعوبك ممكن يتكشف؟ وإن ممكن حد من طرفي ياخد باله من الاسم ويعرف ويبلغني؟ ده مصر كلها أوضة وصالة ومنفدة على بعض!
لم تستوعب جيداً المغزى من عبارته التهكمية الأخيرة، وردت عليه بحذر:
-أنا مش إفهم!

انفجر فيها غاضباً وهو يشيح بيده:
-لا انتي فاهمة كويس
ارتجف جسدها من نبرته المتشنجة، ونظرت له بخوف ظاهر في عينيها، وهمست له برجاء:
-موسأد صدقني أنا كنت خايف عليك، وده كان لمصلحة الكل!
استنكر ما رددته قائلاً:
-بلاش كدب!
تحرك مبتعداً عنها، وظل ينفخ بعصبية واضحة..
وقفت مترددة في مكانها، حائرة فيما تفعله معه، وفي النهاية أقدمت على التحرك، وسارت بخطوات محسوبة نحوه..

كان مسعد محدقاً امامه يفكر بتعمق في كل ما دار..
أربع سنوات تم اختزالها في أكذوبة كان هو بطلها المجهول دون أن يعرف..
شعوره بالحنق والغضب يفوق قدرته على تحمله..
خشيت سابين أن يثور هو عليها وينهي كل شيء في لحظة انفعال طائشة..
فمدت يدها بحذر ووضعتها على ذراعه، وتلمست بشرته بأناملها الرقيقة، وضغطت برفق عليه وهي تقول بنبرة ناعمة بتلك اللكنة العربية العجيبة:.

-أنا عارف إنك مضايق، بس أنا صادقة موسأد، أنا عملت ده لينا كلنا!
التفت برأسه نحوها، وأخفض عيناه لينظر إلى يدها الموضوعة عليه..
فكرت هي في سحبها، ولكنها لاحظت تعلق أنظاره بها، فأبقتها كما هي..
شعر مسعد بيد صغيرة تجذبه من بنطاله بعنف وهي تقول بصوت طفولي بريء:
-مامي، ده يشبه البابا!
أدار مسعد رأسه في اتجاه الصغيرة جينا، ونظر لها بتمعن، كانت تمتلك أعين زرقاء، وبشرة بيضاء بالإضافة إلى كونها شقراء..

تنهد بتعب ثم قال ساخراً:
-يشبه البابا، ايه جو الدبلجة ده؟ انتي بتفرجي البت على سبستون كتير؟!
ردت عليه سابين برقة:
-أوه، أنا بأعلمها أربيك ( عربي ) وانجليش
التوى فمه بإستنكار ليقول:
-يا زين ما اخترتي، خليها تشوف عالم سمسم ولا بكار وتتكلم لغوتنا، أنا مش ناقص فقع مرارة!
ابتسمت لأنه استطاع تجاوز تلك الشعرة الفاصلة بين العقل والجنون، وعاد لطبيعته المرحة من جديد..
وردت عليه بنعومة موجزة:
-اوكي.

هتفت الصغيرة جينا متساءلة وهي تشير بإصبعها الضئيل نحو مسعد:
-مامي، دادي؟!
ابتسمت سابين بإشراق وهي تجيبها بهدوء:
-اوه ييس جينا، he s daddy
قفزت الصغيرة بمرح وهي تصفق بيديها، وصاحت مهللة:
-دادي، بابا!
ثم احتضنت ساقي مسعد ولفت ذراعيها حولهما، فنظر لها مصدوماً، وردد متساءلاً بتعجب:
-مين بابا؟
عضت سابين على شفتها السفلى وهي تبتسم، ووضعت يدها على رأسها لتعبث بخصلات شعرها، وتنحنحت قائلة بصوت خافت ومرتبك:.

-احم، ماهو، ماهو أنا مفهمة جينا إنك إنت آآ، بابا بتاعها
صاح بها مذهولاً:
-وحياة أمك!
انزعجت من أسلوبه الفظ، وحذرته قائلة بتوجس بعد أن لاحظت انكماش الصغيرة من الخوف وتراجعها للخلف لتلتصق بها:
-بليز موسأد إهدى، مش قصاد جينا!
نظر لها شزراً وأكمل بصوت غاضب:
-أهدى، يعني جوزتيني وجبتيلي عيال معرفهومش وأنا ولا هنا!
ردت عليه مبررة:
-دي دواعي آآ...
قاطعها قائلاً بتهكم صريح:
-بلا دواعي بلا دوالي!

ثم حدق في الاثنتين بنظرات حادة، وتابع مستهزئاً من الموقف برمته:
-عيني عليا، طب أقول لأهلي ايه، كنت في أفريقيا بأناضل لأربع سنين، وإذا فجأةً اتجوزت وخلفت بالإحساس لأن الواي فاي مكنش شغال كويس هناك! ايوه، لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله!
ضمت الصغيرة إلى صدرها بعد أن رفعتها عن الأرضية، ومسحت على ظهرها برفق، وأنامت رأسها على كتفها، وهمست مواسية:
-أوه، موسأد، بليز
رد عليها بتهكم وهو ينظر لها بضيق:.

-ايوه، اديني شوية تعاطف! وحطي عليها معلشة كمان!
رفعت الصغيرة رأسها عن كتف سابين، ونظرت في اتجاه مسعد، وسألته ببراءة:
-دادي إنت كون فوق؟
نظر له بتعجب، وأجابها متساءلاً بعدم فهم:
-فوق فين؟
ردت عليه الصغيرة ببراءة وهي تفرد ذراعيها في الهواء:
-دادي فلاي ( يطير )
سلط مسعد أنظاره على سابين، وسألها بنفاذ صبر بعد أن تعذر عليه فهم كلمات الصغيرة:
-أنا مش فاهم منها حاجة، بتقول ايه دي؟
ابتسمت بإحتراز وهي تجيبه:.

-لما كانت بتسأل عن باباها آآ..
أكمل وهو يشير بيده نحو نفسه:
-اللي هو أنا يعني!
أومأت برأسها بخفة وهي تجيبه بحرص:
-اها، فأنا عرفتها إنك انت بتسافر كتير!
ألقى مسعد بجسده على أقرب أريكة هاتفاً بإستسلام وهو يضرب فخذيه:
-ماشاء الله! أبوها، طيار بقى وكده، الله أعلم قايلة ايه تاني!
قبلت سابين الصغيرة من وجنتها، وهمست لها في أذنها بشيء ما، ثم أنزلتها على قدميها، فركضت الأخيرة في اتجاه غرفتها..

نكس مسعد رأسه للأسفل، ثم أغمض عيناه محبطاً بعد تلك الحقيقة الصادمة..
لقد تأزم كل شيء، وأصبح هو موضوعاً في أمر لم يكن على علم به..
ربما لم تتزوج سابين منه فعلياً، ولكنها تمكنت من الحصول على أوراق رسمية زائفة تشير إلى كونها زوجته..
تعجب هو من مدى سذاجته، لكونه كان يبحث في دائرة مفرغة، وهي في أخر مكان توقع أنها ستتواجد فيه، بل وعلى ذمته...

خطت سابين نحوه بعد أن طال صمته، وسألته بهدوء وهي تحاول سبر أغوار عقله:
-موسأد إنت ناوي على ايه بعد ما عرفت السر بتاعي؟
رفع رأسه ببطء في اتجاهها، ورمقها بنظرات غامضة لم تتمكن من فهمها، ورد عليها بإستياء بائن في نبرته:
-مش عارف، ماهو اللي حكيته استحالة يحصل ولا حتى في الأحلام...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة