قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

في منزل باسل سليم،
وضعت السيدة صفية في فمها قطعة من الجاتوه، وابتلعتها على عجالة وهي تراقب العروس عن كثب، ثم التفتت برأسها ناحية ابنها وسألته بفضول:
-قولي يا حبيبي هي نانا خطيبة صاحبك دي غنية ومعاها فلوس؟
رد عليها مسعد متساءلاً باستغراب:
-بتسألي ليه يا حاجة صفية؟
أجابته بتبرم وهي تلوك ما تبقى من طعام في فمها:
-أبوك مش مريحني ولا بيرد على أسئلتي!
لوى مسعد ثغره ليقول بصوت خافت للغاية:
-ليه حق!

سألته مستفهمة بعد أن عجزت عن سماع ما قال:
-بتقول ايه؟
ابتسم لها بثقل وهو يجيبها:
-ولا حاجة!
سألته بفضول وقد لمعت عيناها:
-طب قولي هو ايه اللي جابر باسل عليها؟
أجابها مسعد بتنهيدة منزعجة:
-عادي ياماما، واحدة شافها عجبته فقرر يخطبها!
هزت رأسها مستنكرة، وأشارت بإصبعها وهي تقول محتجة:
-لا مش مصدقة، هي أكيد سحراله يا عملاله عمل!
كز مسعد على أسنانه قائلاً بتذمر:
-بلاش الله يكرمك يا ماما جو الدجل ده.

تابعت صفية قائلة باستهجان:
-ماهو لو أخدها عشان فلوسها، يبقى يا حسرة مش هايطول حاجة، وعلى رأي المثل يا واخد القرد على ماله، يروح المال ويفضل القرد على حاله!
ضرب مسعد مقدمة رأسه بيده بعد أن ضاق ذرعاً بما تتفوه به والدته، وهتف بضيق:
-عشان خاطري، مالناش دعوة!
أكملت صفية غير مكترثة بالإنزعاج البادي على وجه ابنها:
-ماهو بالعقل كده، هي لا مال ولا جمال، يبقى خاطبها ليه؟

وضع مسعد كلتا يديه على رأسه، وتمتم بيأس جلي:
-يا دماغي! مش هنخلص النهاردة!

ولج باسل إلى الشرفة وهو يحمل في صدره ثقلاً كبيراً و هماً مزعجاً..
شعوره بعدم الرضا عما يحدث في الخطبة كان طاغياً عليه، فلم يظهر عليه تعابير الفرحة كغيره ممن يخطبون ويتزوجون بشريكة حياتهم..
تساءل مع نفسه بحيرة وهو ينفخ بإنزعاج هل تسرع فيما فعل؟ أم كان يجب عليه التريث أولاً قبل الإقدام على تلك الخطوة الهامة؟

زفر بقوة وهو يرفع يده على رأسه، ولكن قطع تساؤلاته تفاجئه برؤية إيناس بالشرفة وهي مولية إياه ظهرها، ومحدقة أمامها وكأنها في عالم أخر، فلم تشعر بوجوده..
تسمر في مكانه ليتأملها بإمعان شديد، فربما لن تتكرر تلك الفرصة يحدق بها دون مقاطعة..
التوى فمه بإبتسامة ظاهرة وهو يرى تفاصيلها..
لقد تغيرت حقاً، وصارت أنثى رشيقة القوام، جذابة..
رفع حاجبه للأعلى في اعجاب وهو يخفض بصره بتريث..

هي أصبحت أطول قليلاً، كانت أجمل مما مضى بالرغم من احتفاظها بأغلب ملامحها التي اعتاد رؤيتها عليها..
ربما لأنه رأها الآن مثلما تمنى قبل سنوات، ولأنها أصبحت أصلح لأن تكون زوجة أحدهم..
زوجة لغيره، مجرد التفكير في الأمر أشعل به نيران الغيرة والغضب..
أيقن أن مشاعره نحوها لم يبدلها الزمن رغم انكاره لها..
هو يحبها، بل متيماً بها، وأخطأ فيما فعل بنفسه..
استشعرت إيناس وجوده رغم عدم التفافها..

فعبست ملامحها أكثر، وأغمضت عينيها للحظات لتستعيد قوتها وثباتها..
فأياً كان ما سيحدث لاحقاً، لن تجعله يراها ضعيفة أو منهارة أمامه..
هو دمرها مسبقاً، فلن تسمح لها بإذلال كبريائها..
وفكرت في اغاظته قليلاً، ولما لا، هو يستحق هذا..
رسمت على ثغرها ابتسامة عريضة مصطنعة، وهتفت بنزق:
-المنظر حلو أوي من هنا يا أستاذ خالد!
أزعجه بل رفع ضغطه ذكرها لاسم أخيه، فهتف محتجاً وهو يقترب منها:
-أنا مش خالد!

التفتت ببطء، وادعت الضيق وهي ترمقه بطرف عينها:
-اوه، سوري، افتكرته إنت!
وقف باسل قرابتها، ونظر مباشرة في عينيها بتلك النظرات الحانقة..
بادلته هي نظرات قوية غير مكترثة به، وابتسمت بسخرية متعمدة الاستهزاء به..
ضغط على شفتيه بقوة محاولاً كبح نفسه من التهور، فمازال أحمر الشفاه المغري جاذباً لأنظاره ومثيراً لحنقه أكثر..
رفعت إيناس رأسها للأعلى في إباء، وسألته ببرود يحمل التهكم:.

-هو عادي تسيب عروستك القمر كده؟ مش خايف حد يقول عليكم حاجة
شعر بالسخرية من حديثها عنها، فعنفها قائلاً:
-أنا واثق فيها، فبلاش تلميحاتك دي
تجمدت تعابير وجهها، وصارت نظراتها أكثر قسوة، ثم ردت عليه بمرارة:
-وهو أنا قولت حاجة وحشة عنها لا سمح الله؟ بالعكس ده أنا بأقولك دي قمر، مالهاش زي ولا مثيل
ثم نظرت إليه بعتاب ظاهر، وتابعت بتشنج قليل:
-مش عندها شنب ودقن زي ناس، فاكر ولا نسيت؟

جرحته بكلماته السابقة عنها، فنكس رأسه متحاشياً النظر إليها..
زادت نظراتها حدة، وأكملت بقسوة أشد:
-أنا فاكرة كل كلمة قولتهالي كويس، ومانستهاش، يا ترى انت فاكرها ولا نسيت؟ ماهو اللي بيجرح حد مش شرط يكون ب آآ...
قاطعها قائلاً بندم وهو يرفع عينيه نحوها:
-إيناس أنا، أنا أسف، مكونتش أقصد وقتها، بس انتي فاهمة الظروف كانت آآ..
قاطعته بنبرة شبه منفعلة ونظراتها قد تحولت للشراسة:.

-أسف، عادي كده، صح، انت المفروض أصلاً مش تتأسف على حاجة شوفتها فيا واعتبرته عيب، بس قبل ما كنت تهين غيرك كنت فكر مليون مرة قبل ما تأذيه بكلامك!
حدق باسل فيها بندم، وعجز عن الرد عليها، فقد كانت مصيبة في كل حرف قالته..
أضافت هي قائلة باستنكار:
-إنت لما اخترت تخطب خدت واحدة الكل بيعجب على شكلها، واحدة أنا اتصدمت من اختيارك ليها!
ردد غير مصدق وهو يرفع حاجبيه للأعلى:
-اتصدمتي!
أومأت برأسها وهي تجيبه بقوة:.

-ايوه اتصدمت، لأني توقعت بعد اهانتك ليا، وكلامك المذل إنك هتاخد ملكة جمال مش واحدة زيها!
رد عليها محاولاً تبرير موقفه:
-إيناس انتي مش فاهمة حاجة وكنتي صغيرة وكلامي ليكي كان عشان مصلحتك!
رفعت كفها أمام وجهه لتجبره على الصمت، وصاحت بغلظة:.

-بس، عندك، مش محتاجة مبررات، إنت كلامك خلاني أعيد حساباتي من أول وجديد، وأعرف قيمة نفسي كويس، مش بالشكل ولا بالمظهر ولا بالتفاهات اللي الرجالة بتفكر فيها، الواحدة تقدر تعمل من نفسها حاجة، وتبقى متميزة وليها مركز بمجهودها مش بجسمها ولا شكلها!
ثم تراجعت خطوة للخلف، وأمسكت بجانبي فستانها لتفرده أمامه، وتغنجت قليلاً بجسدها لتظهر حسنها، وهتفت بمرارة:.

-وأظن أنا قدامك أهوو، بقيت أحلى وأجمل، وبكرة هايجيلي اللي هايعرف قيمتي كويس، ويحبني عشان أنا إيناس مش عشان شكلي ولا منظري!
لم تدرِ أنها بحركاتها العصبية والعفوية تلك قد أججت من شعوره نحوها، وزادت رغبته فيها..
هي أهلكت أعصابه التي يحاول التحكم بها بكل قوة..
هي لا تعلم ما الذي يفعله وجودها به..
هي تعذبه بشراسة بجحيمها الأنثوي غير مدركة لخطورة الأمر معه..

أرخت أصابعها عن فستانها، ثم عقدت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له بنفور قبل أن تدير رأسه للجانب لتتجاهله عمداً لعله يشعر بعدم تقبلها له فيرحل مبتعداً..
نظر لها مطولاً ممتعاً عينيه بها، وابتسم بتسلية وهو يرى ذلك القرط المتدلي من أذنها..
لم يلاحظ من قبل أنها كانت ترتدي الأقراط، ربما لأنها أصبحت محور اهتمامه بعد ذلك الحرمان الإجباري، فباتت كل تفاصيلها الصغيرة مهمة بالنسبة له..
سألها عفوياً وهو يتفرس فيها:.

-من امتى بتلبسي حلقان؟
صدمت من سؤاله العجيب، وحلت ذراعيها، ونظرت في اتجاهه بإندهاش، ورددت:
-نعم؟!
تابع قائلاً بمكر:
-أصل الحلق اللي حطاه في ودانك حلو
تحسست أذنها تلقائياً، وردت عليه بحدة بعد أن ضاقت عيناها:
-والله أنا بألبسهم من يوم ما ربنا خلقني بنت، بس في ناس عامية مش بتشوف ولا بتحس!
ثم أخفضت نبرة صوتها لتضيف بتهكم:
-مش بيعجبهم إلا الدرة ( ثمرة الذرة ) المحروقة وبس!
رد عليها بهدوء حذر:.

-ناتالي مش درة على فكرة
هتفت معترضة على ما قاله وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-ومين قالك إني بأتكلم عليها؟
اقترب بخطوات حذرة منها، وسألها بخبث:
-يعني انتي مش قاصدها؟

توترت من اقترابه الملحوظ منها، وأرخت يدها عن خصرها، وابتلعت ريقها بعدم ارتياح، خاصة أنها قد رأت في نظراته شيئاً غريباً، وميضاً مختلفاً يربكها، ويسرع من نبضات قلبها، وخشيت أن يلكمها في وجهها مثلما فعل في الماضي، ولكنها استعادت سريعاً سيطرتها على نفسها، فلما التوتر والخوف منه، فهو لن يتجرأ على فعل أي شيء أحمق هنا..
وهي بالطبع لن تصمت إن فكر في إذائها..

لذلك وبكل ثقة جمدت تعابير وجهها، وأصبحت أكثر صرامة أمامه، وهتفت بجدية وهي تشير بكفها محذرة:
-أبيه باسل، روح لعروستك أحسنلك ومافيش داعي آآ...
باغتها بإمساكه برسغها بقبضة يده، فتوقفت عن الحديث مصدومة من فعلته، وشهقت بتوتر خائف، بينما شدد هو من أصابعه عليها، وحذرها بهمس خطير وهو ينظر لها بتمعن واضح:
-مش هاتبطلي كلمة أبيه دي!

حاولت التملص بكفها محاولة تحريره، وشعرت بقوته على رسغها، وتلعثمت وهي تحاول الرد عليه بشجاعة زائفة:
-هاه، آآ، أنا
اقترب برأسه منها، فتقلصت المسافات بينهما، وتابع بصوت خافت ذو مغزى:
-هايجي يوم هاخليكي فيه تحرمي تقولي كلمة ( أبيه ) دي تاني!
حدقت فيه بنظرات شبه خائفة وهي مشدوهة مما قاله..
بينما بادلها هو نظرات عميقة، وحدث نفسه بنبرة عازمة:
-بس الأول أصلح الغلط اللي عملته فيكي وفي نفسي...!

في منزل باسل سليم،
أرخى باسل قبضته عن رسغ إيناس بعد أن رمقها بنظرات واثقة، بينما بادلته هي بنظرات بغيضة كارهة إياه..
ابتسم لها مغتراً، ثم أولاها ظهره، وتحرك مبتعداً عنها تاركاً إياها بمفردها في الشرفة..
نظرت له بحنق، وتمتمت مع نفسها بغيظ:
-عمري ما كرهت حد في حياتي أدك!
ركلت الأرضية الصلبة بكعب حذائها، فآلمها قليلاً، فثنيت ساقها لتفرك كعبها قليلاً، وتابعت حديث نفسها بكلمات مبهمة..

عاد باسل إلى خطيبته التي كانت تجلس بخيلاء، فنظر لها بغرابة..
أزيلت الغشاوة عن عينيه بالفعل، ورأى الحقيقة واضحة أمامه.
هو لم يحبها يوماً، ولم تكن لديه أي مشاعر صادقة نحوها..
هو انبهر فقط بشخصيتها، وانجذب إليها نوعاً ما، وبعناده أراد أن يتخلص قسراً من حبه الحقيقي ويعوضه بحب زائف..
كانت ناتالي كمن يراها لأول مرة..
تفرس فيها بنظرات مطولة غير مصدق اندفاعه وتهوره الأعمى..

هي تختلف كلياً عنه في الطبائع وفي الصفات وقبلها في الثقافة والأخلاق..
ويوماً ما كان سيحكم على ارتباطهما بالفشل الذريع..
لم يرد أن يفسد الأجواء الآن، وقرر أن ينهي الخطبة خلال الأيام اللاحقة ليتجنب القيل والقال..

جلس هو إلى جوارها، ورسم ابتسامة متكلفة على ثغره، واستدار ببطء برأسه ليحدق أمامه، وبحث بعينيه عن حبيبته التي خفق لأجلها فؤاده، فرأها تخرج من الشرفة وعلى وجهها نذير غضب، فابتسم عفوياً ليزيد من غيظها أكثر..
نادت صفية على ابنتها قائلة وهي تشير بيدها نحو طاولة الطعام:
-نوسة، تعالي يا حبيبتي، كلي حتة جاتوه ولا آآ...
قاطعتها إيناس قائلة بضيق:
-مش عاوزة حاجة!

تعجبت والدتها من حالة العبوس الظاهرة عليها، واستنكرت رفضها قائلة:
-ليه بس؟ والله ده الجاتوه كويس ومن محل نضيف
ضيقت إيناس عينيها، وهمست بحنق وهي تكز على أسنانها:
-ماما!
رمقتها والدتها بنظرات ساخطة، ومصمصت شفتيها هامسة باستهجان:
-يا ساتر يا رب على بوزك ده!
نفخت إيناس بغل وهي تقول:
-زهقت!
ردت عليها والدتها بإمتعاض:
-خلاص شوية وهنمشي!

التفتت إيناس برأسها نحو الأريكة الجالس عليها باسل وخطيبته، ورمقت الاثنين بنظرات قوية، ثم أبعدت عينيها عنهما، وأردفت قائلة بتبرم:
-مش هو صاحب مسعد احنا مالنا نيجي معاه، مكانش ليها لازمة والله!
ردت عليها والدتها معترضة عليها:
-كتر خيره الشاب عزمنا على خطوبته، صحيح أنا مش عاجبني الحال، بس كتر خيره افتكرنا وعمل معانا الأصول
لوت إيناس ثغرها لتقول بتهكم صريح:
-لا فيه الخير!

انضم إليهما اللواء محمد ليقول بجدية:
-تعالوا نسلم على العرسان قبل ما نمشي!
ثم تلفت حوله ليبحث عن ابنه وهو يتساءل:
-أومال مسعد فين؟
رأه يقف في أحد الزوايا، فأشار له بعينيه، فامتثل الأخير له، وحضر إليه، ثم قال له:
-عاوزين نسلم على صاحبك ونباركله ونتوكل على الله ونمشي
رد عليه مسعد بهدوء:
-ماشي يا بابا!

اعترضت السيدة صفية على اصرارهما على الرحيل في هذا الوقت خاصة أنها لم تشبع فضولها بعد من تلك الخطيبة العجيبة، فهتفت محتجة:
-الله! هو انت هتمشي الوقتي يا مسعد؟ مش تقعد حبة كمان؟!
رد عليها مسعد بفتور:
-كفاية كده يا ماما، احنا يعني هانعملهم ايه!
أصرت قائلة بتجهم ظاهر في تعابير وجهها:
-يا بني ده احنا ملحقناش نقعد ونعمل الواجب
استنكرت إيناس ما تفعله والدتها، فهمست بإحتقان:.

-هو انتي يا ماما من أصحاب الفرح واحنا منعرفش، يالا بقى أنا زهقت واتخنقت!
زفرت صفية باستياء بعد أن أصر الجميع على موقفهم بالرحيل، وردت بإمتعاض:
-ماشي
ثم توجهوا جميعاً ناحية العروسين لتهنئتهما..
كانت ناتالي ممسكة بكأس المشروب البارد في يدها، وابتسمت برقة وهي تتلقى المباركات من الجميع..

وقفت صفية أمامها، وتأملتها بنظرات شبه مستنكرة، خاصة أنها كانت ترى تفاصيلها بوضوح، وتعجبت من موافقة شاب حسن الطلعة وذو مركز هام – كباسل – على الارتباط بتلك الفتاة..
مدت يدها لتصافحها، ثم انحنت بحذر للأمام لتقبلها من وجنتيها كعادة السيدات المصريات، فبدت ناتالي منزعجة من تصرفها هذا، ونظرت إلى باسل بغرابة، فأوضح لها قائلاً:
-هذه من العادات المصرية لدينا، تهنئة العروس بالقبلات الحارة!

أمسكت صفية بكف باسل وقربته إليها، وهمست له بعتاب:
-ايه يا بني اللي وقعك الوقعة السودة دي؟
التوى ثغره بابتسامة خفيفة وهو يرد بخفوت:
-معلش بقى يا طنط
ردت عليه بإنكار:
-هي دي فيها معلش، دي مافهاش حاجة يا باسل، أنا عارفة الست أمك رضت بيها ازاي، لا حول ولا قوة إلا بالله، أكيد ذنب وبيخلص منك!
اكتفى بالابتسام لها ولم يعقب، ولكنها كانت مصيبة في أنه أخطأ في اختياره..

تحركت بعدها السيدة صفية للجانب لتفسح المجال لابنها لتهنئة رفيقه، وعلى عكس والدته لم يصافح العروس وابتسم مجاملاً وهو يقول:
-مبروك يا عروسة وربنا يتمم بخير
تمتمت صفية مع نفسها بسخرية:
-ودي هاتفهمك يا بني، دي بتكلم بالضالين!
ثم سار مبتعداً ولحق به أبيه ليقوم بدوره في تقديم المباركات..
كانت إيناس تتقدم بخطوات بطيئة، ولا يخفى على وجهها علامات النفور والإشمئزاز..

هي تبغض الموقف برمته، فكيف تبارك لمن أهانها، وقرر الارتباط بمن هي أسوأ ليشعرها دوماً بالنقص..
ومع ذلك لم تتخلَ عن أداء واجبها المزعوم، واقتربت من ناتالي لتهنئها، ولكن تعبت الأخيرة من كثرة الوقوف والنهوض، فأثرت الجلوس وهي تتلقى المباركات من البقية..

ولسوء حظ إيناس كان ذلك دورها، ولذلك اضطرت للانحناء بجسدها للأمام نحوها لتقبلها، فأصبح الفستان ملاصقاً اكثر لانحناءات جسدها وموضحاً لتفاصيله بصورة لافتة..
وكان باسل هو الأقرب بأنظاره لرؤيتها، فبدا عليه الضيق، وزفر بصوت شبه مسموع وكأنه محتج على ذلك التصرف..
حرك لا إرادياً قدمه ليدوس على ذيل فستانها دون أن يشعر، وغمغم بخفوت:
-استغفر الله العظيم!

اعتدلت إيناس في وقفتها، وأردفت قائلة لها باللغة الانجليزية وهي تدعي الابتسام:
-أتمنى السعادة لكِ، فأنتما تليقان ببعضكما البعض
ردت عليها ناتالي بإيجاز:
-أشكرك
ثم التفتت برأسها نحو باسل، ونظرت له بعدم اكتراث وتجهمت أكثر وهي تردد على مضض:
-مبروك
رد عليها بإقتضاب وهو ينظر لها بحدة:
-شكراً
نظرت له شزراً وهمست بغل:
-إن شاء الله تطلعه عليك حي ني!

اشتعلت نظراته حينما التقطت أذنيه ما قالته بصوتها الخفيض، وضغط على فمه بقوة لكي لا ينفعل..
ثم عاود الجلوس وهو ينفخ بضيق..
أبعدت ناتالي كأس المشروب للجانب لتتفادى الارتطام به بأي أحد خاصة وأنه مازال ممتلئاً لأكثر من نصفه، ولكن ما لم تضعه في الحسبان هو تعرقل إيناس وهي تحاول التحرك مبتعدة عنهما، فصرخت مصدومة و جسدها يترنح..

حدث الأمر كله في لمح البصر، حيث حاولت الإمساك سريعاً بذراع ناتالي لكي تحافظ على اتزانها، ولكن الأخيرة أبعدت ذراعها بعنف، وحركت الأخر نحوها ليتناثر المشروب الملون على فستانها، فشهقت إيناس بهلع، وفقدت توازنها، وسقطت على حجر باسل الذي حاوطها بذراعيه ليمنع وقوعها على الأرضية..
ورغم تفاجئه بما صار معها ووجودها في أحضانه إلا أن روحه كانت تقفز طرباً من فرط السعادة، فقد حظى بشيء لم يتخيل حدوثه مطلقاً..

التوى ثغره بإبتسامة واضحة، ونظر لها بعمق بنظرات والهة تفضحه..
تهدجت أنفاس إيناس من قمة الإحراج واعتبرت الأمر إهانة إليها، وحدقت فيه بضيق شديد خاصة حينما رأت ابتسامته الظاهرة للكل، وعندما حاولت النهوض رأت قدمه موضوعة على فستانها، فظنت أنه تعمد فعل هذا ليسيء إليها أكثر ويحرجها أمام الجميع ليحط من شأنها..
هبت ناتالي واقفة من مكانها، وهتفت معتذرة:
-أوه سوري!

أسرع مسعد بالتدخل، وساعد أخته على الوقوف وتساءل بإنزعاج:
-ايه اللي حصل؟ مش تاخدي بالك!
شهقت إيناس بهلع حينما رأت تلك البقع تلطخ فستانها، وصرخت مصدومة:
-فستاني باظ!
رد عليها مسعد بعدم مبالاة:
-حصل خير يا بنتي
تدخل خالد هو الأخر في الموقف، وتشدق قائلاً بهدوء:
-اهدي، ده أمر طبيعي، ممكن يحصل في أي مكان، مافيش داعي للعصبية!
استدارت إيناس برأسها نحو باسل، ورمقته بأعين كالجمرات في لهيبها، وصاحت فيه:.

-هو السبب، هو اللي قاصد يعمل كده فيا
تعجب مسعد مما قالته، وسألها باستغراب:
-ليه يعني؟
رد عليها باسل بعصبية قليلة وهو يرمقها بنظرات غاضبة:
-وأنا هاعمل كده ليه؟ بيني وبينك تار مثلاً؟! والله ما شوفته أصلاً، وده حصل غصب عني!
حضرت صفية لترى المشهد، ولطمت على صدرها مذهولة حينما رأت ما صار بفستان ابنتها، وهتفت قائلة بتحسر:
-ياني، دي عين سودة وصابتك يا حبيبتي!
أضاف خالد قائلاً بنبرة دبلوماسية ملطفاً الأجواء:.

-يا جماعة حصل خير، اتفضلي يا آنسة إيناس في الحمام نضفي فستانك!
بينما أكمل مسعد قائلاً بتنهيدة شبه مرهقة:
-خلاص يا نوسة ماتعملهاش قضية! كبري مخك! عادي بقى!
صاحت هي مغتاظة وهي تمسك بفستانها مشيرة إلى ما به من بقع متسخة:
-يعني عاجبكم أنزل كده قصاد الناس ويتريقوا عليا؟!
ردت عليها والدتها محاولة تهدئتها:
-محدش يستجري يعمل كده
بينما أضاف مسعد بعدم مبالاة:.

-كده كده انتي هتركبي العربية ومحدش أصلاً هايشوفك بالليل، فعديها!
اغتاظت من تلك الردود المواسية والغير مكترثة بها، وصاحت بإصرار وهي متشنجة الوجه:
-أبداً والله!
تنحنحت ناتالي في خجل، فهي كانت بطريقة أو بأخرى المتسببة في إفساد فستانها، وأردفت قائلة بأسف باللغة الانجليزية:
-أعتذر منكِ، لم أقصد فعل هذا!
ردت عليها إيناس محتجة:
-مش انتي السبب!
ثم أشارت بسبابتها نحو باسل وتابعت بحنق جلي:
-هو ده اللي عمل فيا كده!

صاح باسل معترضاً على اتهامها الصريح:
-برضوه هاتقول أنا!
لكزها مسعد بخفة في كتفها لتتوقف عن عصبيتها الغير مبررة، وأمرها بهدوء جاد:
-عدي ليلتك يا نوسة، خلاص بقى!
التفتت برأسها نحوه، وردت عليه بإنفعال:
-يا مسعد إنت مش شايف البهدلة اللي أنا فيها!
لوت صفية ثغرها للجانبين، وهمست بأسف وتحسر:
-حسرة على الفستان الغالي اللي راح بلاش!
حاول مسعد التهوين عن أخته قليلاً، فهتف بمزاح وهو يبتسم:.

-يا بنتي دلق العصير خير! صدقيني!
لم تجد إيناس مفراً من عدم اهتمام الجميع بها، فضغطت على شفتيها بإستياء كبير، وزفرت بغضب وهي تقول بعصبية:
-أوف، أنا ماشية، بجد حاجة تخنق والله!
ثم أخفضت نبرة صوتها لتقول بتشنج:
-يعمل المصيبة ويقول مش أنا!
تساءلت صفية مع نفسها باستغراب وهي تتابع تصرفات ابنتها المنفعلة:
-بتبرطم تقول ايه البت دي؟
رد عليها مسعد بعدم اهتمام:
-مش سامع!

تابعها باسل بنظراته حتى انصرفت من أمامه، وهمس لنفسه متوعداً:
-ماشي يا إيناس، اغلطي براحتك!
قطع تحديقه بها صوت ناتالي وهي تقول:
-أوه باسل، الأمر حدث فجأة وأنا آآ...
قاطعها قائلاً بجمود بعد أن حدجها بنظرات قوية:
-لا عليكِ ناتالي، تجاهلي المسألة برمتها!
هزت رأسها بحرج وهي تقول بإيجاز:
-أوكي..!
عاود النظر إلى أثر طيفها بعد أن رحلت، وحدث نفسه بضيق:
-ليكي وقتك يا إيناس معايا!

-يالا يا ماما عشان نلحق نوسة بدل ما ترتكب جناية مع أي حد
هتف بها مسعد ساخراً وهو يدفع والدته للأمام لتضيف هي موافقة إياه في الرأي:
-على رأيك، مجنونة وتعملها!

لاحقاً في سيارة مسعد،
لم تتوقف إيناس عن الشكوى أو التذمر بسبب ما حدث معها، واتهمت باسل صراحة بأنه يقف وراء إذلالها فتعجب الجميع مما تقول..
اعترضت والدتها قائلة:
-فداكي يا نوسة، والله ده باسل غلبان وواقع في نصيبة ربنا يعينه عليها
أردف والدها قائلاً بهدوء:
-يا بنتي انتي ممكن تتعرضي للموقف ده في أي مكان، فمتشغليش بالك، المهم إنك بخير وكويسة
أضاف مسعد مستخفاً بعصبيتها المبالغة:.

-والله لو عملتوا ايه، برضوه نوسة مش هاتقتنع، دي أختي وأنا عارفها! هاتفكر إن كل جاي عليها، وتعيش في جو المحن والنكد!
لم تقتنع بالمبررات التي قالوها، وهتفت محتجة بغضب:
-والله كان قاصد! هو عاوز يهزأني قصاد الناس!
ردت عليها والدتها متساءلة بإستفهام:
-طب ليه هايعمل كده، هاه؟

نظرت لها إيناس بحدة، ولم تستطع اجابتها، ولكنها كانت تحترق من الداخل، فهي متأكدة من استمراره في استخدام أسلوب التقليل من الشأن والحط من قدرها ليستمتع برؤيتها محطمة..
أضافت صفية قائلة بحزن قليل:
-ده الشاب كله ذوق واخلاق ومحترم، لأجل البخت المنيل اللي وقعه مع البت دي! ربنا يعدلهاله بقى، هانقول ايه أدي الله وأدي حكمته!
صرت إيناس على أسنانها قائلة بصوت محتقن:
-بتدافعوا عنه كمان؟

مل مسعد من حديث أخته، فما يشغل باله حالياً أهم بكثير من ذلك الموقف الغير مقصود، لذلك هتف بضجر:
-كبري بقى، في حاجات أهم من حتة فستان باظ من شوية عصير!
استطرد والده الحديث قائلاً بجدية:
-اعقلي يا ايناس وشيلي التوافه دي من دماغك!
ابتلعت هي غصة مريرة في حلقها، وتوقفت مجبرة عن الشكوى، وأرغمت نفسها على كتم غيظها بداخلها، فلا أحد يستطيع تقدير ما عانته وما تعانيه، وحدثت نفسها بإحتقان:.

-محدش فيكو حاسس باللي فيا، فهتفهومني إزاي؟
أدارت رأسها في اتجاه النافذة، وحدقت في الطريق بنظرات شاردة وتابعت بإحباط جلي:
-انتو مش عارفينوه زيي، هو أسوأ بني آدم ممكن تتخيلوه...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة