قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

(( لا تشكي لأحد جرحاً أنت صاحبه، فالجرح لا يؤلم إلا منه به آلم ))
ظلت إيناس تردد تلك العبارة في عقلها طوال طريق العودة إلى المنزل
كبحت عبراتها بصعوبة، فهي الوحيدة التي تُهان ويُستخف بها، بل ما يكمدها حقاً هو دفاع عائلتها المستميت عن باسل وكأنه ملاك منزه عن الخطأ..
زادت جرعات بغضها له، وأصبح بجدارة عضواً دائماً في قائمتها السوداء للمنبوذين من حياتها..

لم تصغِ هي لأيٍ من الأحاديث الجانبية لأفراد أسرتها، وأثرت الصمت وأبعدت أعينها عنهم...
بعد برهة أوصلهم مسعد إلى المنزل، فترجلت إيناس أولاً من السيارة وركضت مسرعة نحو مدخل البناية وهي ترفع فستانها عن الأرضية محاولة الإختباء قبل أن يراها أحد الجيران فيسخر منها..
لحق بها أبويها بخطوات متريثة ومتباطئة نوعاً ما، وبالطبع لم تتوقف صفية عن الحديث عن ناتالي واختيار باسل الغير موفق لها.

ولجت إيناس إلى داخل المرحاض، وأوصدت الباب خلفها، وأجهشت بالبكاء الحار وهي تنظر إلى انعكاس هيئتها المزرية في المرآة..
لم تتحمل منظر الفستان المشوه، فانفعلت بغضب، وأمسكت به من أطرافه، ثم شقته بعصبية واضحة وهي تصيح بتشنج:
-مش عاوزاه خلاص، مش عاوزاه!
تمزقت أطراف الفستان إلى أجزاء صغيرة، ودهستها إيناس بقدمها بعصبية، ثم فتحت الصنبور، وأغرقت وجهها بالمياه لتزيل أثار تلك الليلة عن وجهها..

فيكفيها التطلع إلى علامات العبوس والتجهم لترى حجم المآساة التي عاشتها..
توقفت عن التشنج والنحيب، ورفعت رأسها للأعلى في شموخ، وحدثت نفسها بكبرياء:
-اوعي تتهزي يا إيناس، ماتسمحيش لواحد زيه أو غيره إنه يقهرك ويخليكي تفقدي ثقتك بنفسك، انتي أحسن منه مليون مرة!
أخذت هي نفساً عميقاً، وزفرته على مهل، ثم خرجت من المرحاض تاركة بقايا فستانها ملاقاة على أرضيته المبتلة..

نظرت صفية إلى ابنتها بإندهاش وهي تتحرك نحو غرفتها، وهمست بتعجب:
-البت دي مجنونة! والله ما تصرفات ناس عاقلة أبداً، ربنا يهدي!

ذرع مسعد غرفته جيئة وإياباً وهو يفكر بحيرة في إيجاد الحجة التي يستخدمها – دون أن يثير الشكوك – في البحث عن سابين، فهو لا يريد أن يلفت الأنظار إليه..
كذلك لم يعرف أي شخص بشعوره العميق نحوها عدا باسل الذي اعترف له بما يكنه في فؤاده من مشاعر صادقة..

فكر في الإستعانة به لمساعدته وإخباره بما رأه اليوم، ولكنه تراجع عن تلك الفكرة سريعاً بسبب انشغال الأخير بخطبته، وبالتالي لن يكون متفرغاً له ولمسعاه الجدي، وربما سيسخر منه ويثبط من عزيمته..
لذلك ليس أمامه أي بديل سوى اللجوء لمن تجدي نفعاً في الأزمات الصعبة، أخته إيناس
همس لنفسه بنفاذ صبر:
-مافيش إلا هي، صحيح ليها دقات نقص كتير، بس وقت الجد بتبقى جدعة وبتسد!

وبالفعل عقد مسعد النية على مفاتحة أخته باكراً في خطته الجدية...

في منزل باسل سليم،
تمدد باسل على فراشه عاقداً كفيه خلف رأسه ومحدقاً في سقفية الغرفة بنظرات والهة..
كان كمن يرى انعكاساً حياً لطيف إيناس عليه، فالتوت شفتيه بإبتسامة عذبة..
تنهد بعمق وهو يتذكر سقوطها في أحضانه، كانت من أسعد الذكريات التي حفرت في عقله للأبد..
أرخى ذراعيه، ورفع كفيه أمام وجهه ليتذكر ملمسهما عليها، وأردف قائلاً لنفسه بهيام:.

-لو تعرفي يا إيناس بأحبك أد ايه! ازاي أنا فكرت أنساكي بالسهولة دي!
توقف هو عن حديثه حينما اقتحم أخيه الأكبر خالد غرفته فقطع خلوته، وعبس بوجهه، ثم اعتدل في جلسته، ونظر له بضيق قليل، وعاتبه قائلاً:
-مش تخبط قبل ما تدخل
رد عليه خالد بهدوء:
-ده أنا إيدي وجعتني من كتر الخبط بس الظاهر إنك مش هنا أصلاً
ثم غمز له وهو يضيف بمكر:
-اللي واخد عقلك!
امتعض وجه باسل بدرجة واضحة، وسأله بضيق:.

-خش في الموضوع على طول يا خالد، عاوز ايه؟
رفع الأخير حاجبه للأعلى في اعجاب وهو يجيبه بتريث:
-حقيقي بيعجبني فيك إنك لماح!
سأله باسل مجدداً بنفاذ صبر:
-جاي السعادي تكلمني في ايه؟
جلس خالد على طرف الفراش، وابتسم له بتهذيب وهو يرد قائلاً:
-ايه حكايتك مع إيناس؟
ارتبك باسل من سؤاله المباغت والصادم، واكتسى وجهه بعلامات شاحبة، وبدى كالطالب المخطيء وهو يحاول الحفاظ على ثباته الانفعالي..
تابع خالد متساءلاً بحذر:.

-متنكرش إن في حاجة بينكم، أو على الأقل من ناحيتك انت، صح ولا أنا غلطان؟
ازدرد باسل ريقه، ورد عليه بتوتر قليل وهو يتحاشى النظر مباشرة في عينيه:
-ايه اللي خلاك تقول كده؟ أنا آآ...
قاطعه خالد بجدية دون أن تطرف عيناه:
-باسل أنا مش صغير قدامك، ولا معنديش خبرة، أنا بأفهم في الناس كويس، واللي شوفته النهاردة وحصل قدامي يأكدلي إن في حاجة، والحاجة دي من زمان أوي مش وليدة النهاردة!

ابتلع باسل ريقه، وحك بإصبعيه جبينه، وبحث عن كلمات مناسبة ليرد على أخيه الذي فضح أمره ببساطة..
أكمل خالد قائلاً بابتسامة واثقة بعد أن تأكد من ظنونه:
-طب لما انت عاوزها روحت خطبت غيرها ليه؟
هز باسل كتفيه وهو يجيبه بخفوت:
-مش عارف
وضع خالد يده على طرف ذقنه، وفركه قليلاً، ثم تساءل بإهتمام:
-طيب، وناوي على ايه مع ناتالي؟
أجابه باسل بتنهيدة مطولة:
-أنا مش عاوز أظلمها معايا، أنا اتسرعت في ارتباطي بيها، وآآ...

قاطعه خالد بجدية قبل أن يكمل حديثه للنهاية:
-يبقى مافيش أحسن من المواجهة المباشرة!
قطب باسل جبينه، ونظر إليه بثبات، ثم سأله مستفهماً:
-قصدك ايه؟
رد عليه خالد بنبرة متعقلة:
-يعني بلاش تخترع حجج وأعذار، صارحها إنك بتحب واحدة تانية وكنت مفكر إنك لما ترتبط بغيرها هتنساها!
وضع باسل يده على رأسه، ومررها عليها عدة مرات وهو يفكر ملياً فيما قاله أخيه، ثم تساءل بقلق:
-وتفتكر ناتالي هتتقبل ده بسهولة؟!

أجابه خالد برد دبلوماسي اعتاد عليه:
-والله لو عقلها متفتح وزي ما أنا شايف مش هايفرق معاها وجودك، لأن هي من النوع العملي، والمشاعر ممكن تكون درجة تانية عندها فهاتكون ردة فعلها طبيعية ومتفهمة!
حرك باسل كتفيه في عدم مبالاة وهو يردد:
-احتمال!
تابع خالد حديثه الجدي قائلاً:
-المهم انت متحطش نفسك في دوامة، خَلَص مع ناتالي!
أومأ باسل برأسه موافقاً إياه، فأكمل خالد بمرح متعمداً الضغط على كلماته:.

-وبعدها ظبط أمورك مع إيناس يا ( أبيه ) باسل
تشنجت تعابير وجهه عقب عبارته، وحذره بضيق:
-بلاش الكلمة دي لأحسن بتعصبني!
ابتسم خالد وهو يدافع عما قاله:
-بتقولي أنا ليه؟ روح قولها للي كبرتك يا، آآ، يا أبيه!
هتف باسل بتبرم بائن وهو يعقد ما بين حاجبيه بشدة:
-تاني!

تعالت قهقهات خالد عالياً وهو ينظر إلى وجه أخيه المتشنج، ثم نهض من جواره، وضرب كفاً على الأخر، وأخذ يردد عبارات مبهمة، وتحرك إلى خارج الغرفة وهو متعجب من تأثير الحب على عاشقيه..
شعر باسل بالإرتياح نوعاً ما لأنه لم يعد بحاجة إلى إخفاء مشاعره الحقيقة تجاه حبيبة فؤاده، فقط عليه أن يضع الأمور في نصابها الصحيح ليحقق أحلامه، وسيبدأ من الغد في هذا مع خطيبته ( السابقة ) ناتالي..

على غير عادته في أيام عطلته، قرر مسعد الاستيقاظ مبكراً للحاق بأخته إيناس قبل أن تذهب إلى كليتها للحديث معها على انفراد وبعيداً عن أجواء المنزل..
تعجبت هي من إصراره على إيصالها بنفسه ولكنها فرحت بذلك لإراحتها من عناء زحام السير وانتظار سيارات الأجرة..
تحرك مسعد بالسيارة ببطء ملحوظ، فسألته إيناس مندهشة:
-السكة فاضية قدامك يا مسعد، دوس بنزين شوية، أنا مش عاوزة أتأخر على محاضراتي!

رد عليها بإرتباك قليل وهو يوزع نظراته بينها وبين الطريق:
-ماشي، بس أنا كنت عاوز الأول أحكي معاكي شوية!
سألته بإمتعاض وهي تشير بكف يدها:
-وانت ماينفعش تحكي وانت مسرع حبتين كده؟!
ابتسم وهو يجيبها:
-لأ ينفع، بس عاوزك تكوني مركزة في اللي هاقوله يا نانوسة عين أخوكي!
ضيقت إيناس عينيها، واستدارت للجانب بجسدها لترمقه بنظرات متفحصة، وهتفت بجدية:
-طالما قولت كده يبقى في إن، ها يا مسعد خير.

غمز لها قائلاً بمرح مصطنع:
-ده انتي أختي وبأدلعك!
صاحت فيه بنبرة شبه آمرة وقد زاد وجهها تجهماً:
-خش في الموضوع دوغري!
رد عليها بغموض وهو يبتلع ريقه:
-سابين
تهدل كتفيها بفتور وقد عرفت السبب، ورددت قائلة على مضض:
-اشمعنى؟!
هتف مسعد قائلاً بإستنكار:
-احنا هانخش لبعض قافية؟!
نفخت وهي تسأله بنفاذ صبر:
-مالها يعني؟
صمت للحظة قبل أن يجيبها بهدوء:
-أنا شوفتها امبارح!
التوى فمها بتهكم وهي تقول:.

-ده الكلام ده كان في المنام ولا ايه؟
انزعج من أسلوبها الغير مهتم والساخر، وأردف قائلاً بحدة:
-لأ، في الحقيقة يا إيناس، وأنا بأركن العربية!
أبعدت إيناس خصلة شعرها المتناثرة على جبينها بفعل الهواء للخلف، وردت عليه بنبرة دبلوماسية بعد أن لاحظت ضيقه:
-مسعد ممكن تكون أوهام ومش هيا اللي انت شوفتها، يعني جايز تكون واحدة شبهها!
رد عليها بإصرار وقد برزت عروقه:
-لأ أنا متأكد إنها هي!
سألته مندهشة من تمسكه برأيه:.

-وايه اللي خلاك متأكد من ده؟!
أجابها دون تردد بضجر:
-لأنها هربت أول ما شافتني!
عقدت إيناس ما بين حاجبيها في استغراب، ونظرت له بإهتمام وهي تسأله:
-هربت؟ طب ليه؟
أطلق زفيراً عميقاً وهو يجيبها بإحباط:
-مش عارف
مطت إيناس فمها للأمام، وردت عليه معللة:
-يعني بالعقل كده يا مسعد سابين رجعت من برا وعايشة هنا في القاهرة عادي كده، ومن غير ما تعرفك بده؟

ضغط مسعد على المقود بقبضتيه، وحاول الحفاظ على ثباته الانفعالي وهو يجيبها بهدوء:
-ما أنا مش فاهم ايه اللي حصل معاها، والغريبة إني شوفت معاها بنتها!
شهقت إيناس مصدومة عقب جملته الأخيرة، وسألته بعدم تصديق:
-ايه ده! هي اتجوزت؟
عبس وجهه بوضوح وهو يجيبها:
-باين كده
اعتدلت في جلستها، وحدقت أمامها غير مصدقة ما سمعته تواً، ثم حاولت استيعاب الموقف برمته، فرددت بلا وعي:.

-أوبا، يعني عاشت حياتها عادي واتجوزت وخلفت كمان، وانت يا عيني كنت آآ...
قاطعها قائلاً بضيق بائن:
-بصي مش هاخمن حاجة دلوقتي، أنا محتاج بس أوصلها وأفهم منها كل حاجة!
وضعت يدها على حجرها، والتفت إليه وهي تسأله بسخرية:
-طيب وهتوصلها ازاي، ده انت عامل زي اللي بيدور على إبرة في كوم قش!
ابتسم لها بتصنع وهو يجيبها:
-ماهو البركة في ربنا، وبعدين فيكي!
ضاقت نظراتها وأصبحت أكثر حدة، وسألته بغموض:
-قصدك ايه؟

أجابها مسعد بتريث:
-بصي أنا لحقت أقرى أرقام العربية والحروف، صحيح مش كلها بس ده اللي لقطته وقتها
عقدت ساعديها أمام صدرها، واكفهرت تعابير وجهها بإنزعاج وهي تسأله:
-أها، والمطلوب مني ايه؟
زادت ابتسامته الماكرة اتساعاً وهو يقول:
-بشاطرتك كده يا نوسة تشوفيلي واحدة من صحاباتك الأنتيم يكون لها حد معرفة في المرور يجيبلي بيانات العربية بتاعتها!
ردت مستنكرة بعد أن أرخت ساعديها:.

-طب وليه اللفة الطويلة دي كلها، ماتقول لحد من اللي انت تعرفه!
أجابها بجدية وهو ينظر نحوها:
-أنا مش عاوز أعمل شوشرة وقلق على الفاضي، وعاوز الموضوع يفضل كده في السَكَرَتَة ( سر ) لحد ما أقابلها بنفسي
صمتت إيناس لتفكر ملياً فيما قاله، فالأمر ليس بالهين لتفعله، كما أنها لا تعرف إن كانت إحدى زميلاتها أو حتى رفيقاتها على صلة بأحد ما بالمرور لتستعين بخدماته، فردت عليه:
-مش عارفة والله يا مسعد هاعرف ولا لأ.

توسل لها أخيها بإستعطاف:
-حاولي بس يا نوسة، ها!
ثم أسبل عينيه ورمقها بنظرات أكثر توسلاً ورجاء، وأضاف بجدية:
-ده انتي تعرفي طوب الأرض هنا!
استنكرت عبارته الأخيرة وردت بحدة:
-يا سلام، أل يعني انت اللي متعرفش، ده انت ماشاء الله أصحابك أكوام أكوام
رد عليها بإلحاح غير مكترث بما قالته:
-يالا بقى، عشان خاطر اخوكي، اعملي الخدمة دي ليا!
-ممم..
سألها مجدداً بنظرات ناعسة:
-ها ماشي؟
حذرته بسبابتها قائلة:.

-بلاش البصة دي! عشان أنا مش بأستحمل
زادت ابتسامته اتساعاً وتهللت أساريره وقد استشف أنها وافقت على طلبه، فصاح بسعادة:
-قلبي يا نوسة!
ردت بسخط قليل:
-ايوه ده اللي باخده منك قلبي وكلاويا وبس!
أضاف قائلاً بمزاح:
-بكرة أخدمك في مصلحة، دي جمعية ودايرة يا بنتي!
هزت رأسها بإيماءة واضحة وهي تقول:
-ماشي، أما نشوف، وساعة الجد بتلبسها لأي حد
ابتسم مغتراً:
-عيب عليكي، ده أنا مسعد غراب!
-هانشوف يا سي مسعد!

تنهد هو بعدها في إرتياح بعد اقناعه لأخته بمساعدته في مسعاه الجدي، وتطلع بتلهف لإيجاد سابين وكشف غموض كل شيء...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة