قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

اطمأنت عائلة مسعد هاتفياً على حال ابنتهم الصغيرة إيناس، وكذلك على سابين – ظناً منهم أنها رفيقتها الأجنبية وبالطبع كانت معها خلال الأحداث المؤسفة – وتنفسوا الصعداء لكونهما بخير ولم يصبهما مكروه، ولم يهتموا برحيل الأخيرة، فالأهم عندهم هو سلامة ابنتهم..
وأبلغهم مسعد مدعياً بأن سبب رحيلها المفاجيء هو إصرار عائلتها على عودتها حتى تهدأ الأمور..

وبالرغم من هذا كان هو على عكسهم تماماً، فسيطرت عليه حالة حزن جلية..
فرحيلها برفقة أولئك الرجال تاركة إياه في حالة تخبط، قد أحدث في نفسه فجوة عميقة، وفراغ كبير..
تمنى لو لم يقابلها أو يحبها أو حتى يخفق قلبه لأجلها كي لا يعاني حينما تحين لحظة فراقها المحتومة..
لكن ما لأحد من سيطرة على فؤاده أو مشاعره...

ولأن البناية تحولت بأسرها إلى ساحة جريمة، فتم منع أغلب السكان من الصعود إلى منازلهم حتى ينتهي المعمل الجنائي من مهامه كليةً، لذلك اضطر مسعد أن يذهب مع باسل، وبالطبع كانت أخته الصغرى تجلس بالمقعد الخلفي متذمرة من تحكمات رفيقه الغير مبررة بها..
هي مازالت على ظنها به، متسلط جارح للمشاعر غير مكترث بالأخرين، دوره في الحياة فقط هو تثبيط العزائم وإهانة غيره والتحقير من شأنه..

قررت في نفسها ألا تعيره الانتباه، وأن تهتم بما يخصها فقط، فأمثاله لا يستحقون سوى ما يليق بهم..

لم يغبْ عن مخيلة سابين نظرات مسعد العميقة المليئة بالحزن وهو يودعها، تلك النظرات التي اعتصرت قلبها آلماً، وجعلتها تشعر بوخزات حادة في صدرها...
لم تظن أن وجوده القليل في حياتها سيحدث كل هذا التأثير الكبير عندها..
هي لا تملك زمام أمرها الآن لتقرر البقاء معه، لكن عليها أن تنهي ما بدأته، فأمور كثيرة على المحك بسبب تلك القضية الشائكة...
وها قد أوشكت النهاية...

لمح باسل تلك العبرات التي يحاول رفيقه تخبئتها، فأراد أن يهون عليه الأمر، فمازحه قائلاً:
-شكلك لما هتبقى عريس هتعيط ليلة فرحك، اه والله!
التفت له مسعد ونظر له من طرف عينه بنظرات شبه خاوية، فتابع باسل متساءلاً:
-تفتكر هايكون من ايه؟
هز مسعد كتفيه في عدم مبالاة ولم يرد عليه، فقد بدى غير مهتماً بما يقول، واستدار بجسده لينظر أمامه، بينما علقت إيناس قائلة بتهكم:.

-تلاقيه شاف واحدة احلى من اللي اتجوزها فندمان انه اتسرع
لم يتحمل مسعد الدعابات السخيفة المتبادلة بين باسل وأخته الصغرى إيناس، فعنفهما قائلا:
-اتلموا انتو الاتنين بدل ما أكدركم!
رد عليه باسل بحذر:
-انا بأحاول بس ألطف اﻷجواء، وآآ...
قاطعه مسعد قائلا بغلظة وقد قست تعابير وجهه:
-لا تلطف ولا تعطف، خليكوا ساكتين أحسن
التزمت إيناس الصمت مجبرة، فأخيها كان في حالة مزاجية سيئة، وأسلم شيء اﻵن هو تجنب الحديث معه..

بعد برهة وصل باسل بسيارته إلى بنايته، ثم ترجل منها بعد تأكده من نزول مسعد و إيناس..
كانت تلك هي المرة اﻷولى التي ترى فيها إيناس منزله، فبالرغم من صداقته لأخيها - والممتدة ﻷعوام - إلا أن عائلتها لم تقمْ بزيارته ولو لمرة واحدة..
صعد الجميع إلى الطابق المتواجد به المنزل، وقام باسل بفتح بابه ليلج الثلاثة إلى الداخل..

مد هو يده ليضيء مفتاح الإنارة المجاور للباب، فأُضيء المنزل بإنارة صفراء وأخرى بيضاء..
تأملت إيناس المكان بنظرات متفحصة شمولية سريعة، فلا وقت لدراس تفاصيلها بدقة..
رأت هي صالة المنزل الواسعة والموضوع بها طاقم من اﻷرائك المريحة لاستقبال الزائرين من اللون البنفسجي، وموضوع أمامهم وسائد أرضية كثيرة لهواة ومحبي الجلوس على اﻷرضية الصلبة..

وبالطبع كانت هناك الطاولة الحديثة المنخفضة والتي يزينها مزهرية صغيرة زجاجية..
كذلك لمحت رواق جانبي صغير، خمنت أنه يؤدي إلى الغرف الداخلية..
أفاقت من تأملها على صوت باسل وهو يقول:
-اتفضلوا في الليفنج..!
رد عليه مسعد بجمود وهو يشير بيده:
-احنا مش هانطول يا باسل، شوية وهاخد ايناس وهانروح أي فندق!
تعجب باسل من قرار رفيقه الحازم، واعترض قائلاً:
-ايه اللي بتقوله ده يا مسعد، ده بيت أخوك
رد عليه بجمود:.

-ما انا عارف، بس ميصحش نقعد فيه، انت فاهم قصدي!
وأومأ له بحاجبه في إشارة ضمنية منه نحو أخته الصغرى، فتفهم اﻷخير مقصده، ولم يجادله كثيراً...

لاحقاً وصلت سابين إلى مكان مجهول ولكنه كان مريحاً ومزوداً بكل ما يمكن أن تحتاج إليه..
لم يجب أي أحد على تساؤلاتها الملحة، فيئست من الحصول على إجابات، وظلت صامتة حتى وصلت إلى تلك الوجهة الغير معلومة..
لم يتوقف عقلها عن التفكير في مسعد وفي لحظاتهما سوياً..
ربما لم تكنتلك الذكريات بالكثيرة، ولكنها كانت كافية لتجعل قلبهما ينبضان معاً..
برقت عيناها بوميض حزين، وتنهدت بعمق...

انتبهت إلى صوت وقع أقدام ثابتة تتحرك صوبها، فأدارت رأسها ناحية الصوت...
أحضر لها رجل ما يرتدي حلة سوداء وجبة طعام رائحتها شهية وأسندها أمامها قائلا بنبرة عملية وباللغة الانجليزية:
-تفضلي، هذا الطعام لكِ!
ابتسمت له بتصنع، وردت بإقتضاب:
-أشكرك
أمسكت بالشوكة وبدأت في التقاط بضعة لقيمات لتسد بها جوع معدتها..
وقبل أن تفرغ من طعامها حضر إليها رجل أخر قائلا بجدية:
-سيقابلك الجينرال بعد دقائق، من فضلك استعدي.

ابتلعت ما بقي في جوفها على عجالة، ومسحت شفتيها بمنشفة ورقية، ثم نهضت عن مكانها لتتوجه معه إلى غرفة أخرى جانبية، وعقلها لم يتوقف للحظة عن التفكير في طبيعة هذا اللقاء...

كان في انتظار سابين مسئول رفيع المستوى يجلس بجمود على مقعد جلدي..
نهض فور أن رأها تلج للغرفة، ومد يده لمصافحتها قائلاً بود باللغة العربية:
-أتمنى يكون اتعمل معاكي واجب الضيافة كويس ومافيش أي مشاكل!
تعجبت سابين من استخدامه للغة العربية في الحديث، ونجحت في اخفاء دهشتها، وردت عليه بحذر:
-ثانكس، كل شيء فاين ( بخير )!
هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يتابع بهدوء:.

-تمام، المهم عشان مانضيعش وقتنا، انتي هترجعي أوهايو تاني تحت عينيا للمحاكمة، وطبعا بروتوكول الحماية بينا وبين ال FBI بيجبرنا نلتزم بتنفيذ الجزء اللي يخصنا!
حركت رأسها إيجاباً وهي تردد بإيجاز:
-اوكي!
أضاف قائلاً بنبرة عملية:
-أنا عاوزك ترتاحي النهاردة وبكرة من بدري هنتحرك في اتجاهنا!
وافقت سابين على ما قاله، وتساءلت بفضول:
-اها، بس ممكن أسال one question ( سؤال واحد )؟

رد عليها بإبتسامة سخيفة أبرزت أسنانه الصفراء:
-اكيد، اتفضلي
هتفت بلا وعي:
-موسأد!
نظر لها بغرابة، فعدلت ما قالته، وأوضحت قائلة بتلعثم قليل:
-(أنا أقصد الرائد مسعد )، I mean major Mossaad
رد عليها متساءلاً بعبوس:
-ماله؟
سألته بحذر وهي ترمش بعينيها:
-انتو هاتعملوا ايه معاه؟
أخذ نفساً عميقاً، وزفره على مهل، وأجابها بعدم اهتمام بمصيره:
-ولا حاجة، ده كان مكلف بمهمة محددة انتهت خلاص.

عضت سابين على شفتها السفلى في ارتباك، وفكرت في اقتراح شبه طائش، ولم تتردد في البوح به، فربما تكون هي فرصتها لرؤيته مجدداً، فتساءلت بقلق:
-هل يمكن أن يأتي معي ( come with me )؟
رد عليها بجمود:
-لا للأسف
عبست تعابير وجهها بشدة، وانطفأ بريق عينيها، وسألته بحزن خفي في نبرتها:
-ليه؟
رد عليها بنفاذ صبر:
-في مهام أخرى هو ملزم بيها، وعنده أولويات
ابتلعت غصة في حلقها، وتنهدت بحزن وهي ترد:.

-أوكي، ، أنا متفهمة لما تقول!
أخذت هي شهيقاً عميقاً، وزفرته دفعة واحدة وهي تقول:
-هل ممكن تبلغه my greetings ( سلامي )؟
ابتسم بإستخفاف، ورد عليها قائلاً بتهكم صريح:
-أكيد، ولو عايزة ابعتله بوكيه ورد مافيش مانع!
انزعجت سابين من مزحته السخيفة، ولم تعقب عليه، ولكن أصيبت باﻹحباط والحزن الشديدين لعدم وجود أي فرصة أخرى لرؤية مسعد...

في منزل باسل،
أغلق باسل باب منزله بعد أن استلم الطعام الجاهز الذي طلبه قبل قليل، ثم اتجه إلى غرفة المعيشة حيث تجلس إيناس..
وضع أكياس الطعام البلاستيكية أمامها، فعبثت الرائحة بأنفها وأوقظت عصافير معدتها الخاوية..
تصنعت عدم الاهتمام، ولكنه بفراسته لاحظ نظراتها المختلسة للأكياس، فأردف قائلاً بهدوء:
-اتفضلي، ماتتكسفيش
ردت عليه بعدم مبالاة وهي عابسة الوجه:
-مش جعانة على فكرة
لوى شفتيه وهو يجيبها:.

-ما أنا عارف انك مش جعانة، يالا سمي بالله وكلي..
أصرت قائلة بإعتراض:
-لا مش عاوزة!
تنفس بعمق وهو يردد:
-يا إيناس بلاش مكابرة في الاكل، ﻷحسن تكوني خايفة أحطلك سم فيه ولا حاجة
شهقت مذهولة مما قاله، وردت عليه بإمتعاض ظاهر على وجهها:
-مش بعيد، هو انت حد يقدر عليك!
وقبل أن يضيف المزيد، انضم إليهما مسعد وهتف قائلا وهو يجفف شعره بالمنشفة:
-كنت محتاج فعلاً للدش ده
رد عليه باسل بإبتسامة عادية:.

-البيت بيتك يا مسعد، انت مش غريب!
شكره مسعد قائلاً بإمتنان:
-الله يكرمك يا باسل!
ثم صمت للحظة قبل أن يتابع حديثه بجدية:
-احنا هناكل ونتوكل بعدها على الله
تابع باسل قائلاً بهدوء:
-خد راحتك يا سيدي
رد عليه مسعد بنبرة منهكة:
-لا كفاية كده، عشان ألحق استقبل ابويا وأمي، هما ركبوا مواصلات وفي الطريق!
هز باسل رأسه بإيماءة خفيفة وهو يقول:
-يجوا بالسلامة
-يا رب امين.

راقب باسل إيناس وهي تتناول الطعام بنهم واضح رغم انكارها الشديد للجوع، فابتسم في نفسه، وتابعها في صمت..
أما مسعد فكان في عالم أخر يفكر في حبيبته التي لن يراها مجدداً، وحدق في صحن طعامه بنظرات فارغة، لكن صورة سابين لم تفارق ذهنه لثانية..
تساءل في نفسه بحزن:
-يا ترى جعانة ولا شبعانة؟ بردانة ولا حرانة؟
ثم مازح نفسه ليهون عليه المسألة قليلاً:
-يا ترى لسه سابين ولا رجعتي صابرين؟!

ثم أطلق تنهيدة مطولة تحمل الكثير مما في صدره...

بعد مرور أسبوع،
كان كل شيء تقريباً قد عاد إلى طبيعته في منزل مسعد، وأصبح الوضع كما كان في السابق فيما عدا تبدل أحواله هو للعبوس والضيق، ونفاذ الصبر...
شعرت والدته صفية باﻷسف عليه، وأشفقت على حاله، فقد بدى أكثر استياءاً وتجهماً ورافضاً للحديث في أي شيء...
بينما اهتمت إيناس بالالتحاق بمراكز تعليم اللغات لتحسن من مستواها اللغوي، وكذلك لتستعد للعام الدراسي الجديد..

انهت إسراء مع زوجها مسألة الخطبة المزعومة لأختها الصغرى من أحد معارفه، وطلبت منه ألا يتدخل في هذا الشأن العائلي مجدداً طالما أنها لا تزال طالبة وبناءاً على رغبة والدها..

انضم مسعد وباسل إلى قوات الصاعقة مرة أخرى بعد حل التشكيل القديم، ولكن ضمن كتيبة جديدة..
حاول هو تقصي أي معلومات تخص سابين أو قضيتها، ولكنه لم يصل إلى أي شيء، وكأنها لم تكن موجودة يوماً في حياته..
حتى أنه حاول البحث عن تفاصيل قضيتها في المواقع اﻹخبارية ولكن بلا جدوى، ، دائماً يصل إلى طريق مسدود في مسألتها..
-انساها بقى يا مسعد!
قالها باسل مواسياً إياه ومحاولاً إثناءه عما يفعل..

ضغط مسعد على شفتيه بقوة ليرد عليه بضيق:
-أنساها ازاي ودماغي مش بتفكر إلا فيها؟!
تابع باسل قائلاً بإمتعاض:
-يا مسعد الدنيا مش بتقف على واحدة، وهي مش هاتكون لا أول ولا أخر واحدة هتقابلها في حياتك أو تشوفها
تنهد مسعد بعمق، ثم رد عليه بضجر:
-أنا عارف كل الحوارات دي، بس مش قادر!
لم يرد باسل أن يستمر في ذلك الحديث الغير مثمر، فغير مجراه، وأضاف قائلاً بجدية:.

-طيب، تعالى نشوف هنعمل ايه، احنا المفروض هننتقل على وحدة ((، ))
هز مسعد رأسه إيجاباً وهو يقول:
-ايوه، أنا مجهز نفسي وكل حاجة!
تابع باسل قائلاً بحماس مفاجيء:
-أنا سمعت انهم عاملين بعثة تدريبية للضباط، ما تيجي نكلم حد من معارفنا يرشحنا فيها
كانت مجرد فكرة مجنونة من باسل تلك التي اقترحها على رفيقه، ولكن كان غرضه منها هو إلهائه عن أي شيء يذكره بمن يعاني من فراقها..

صمت مسعد قليلاً ليفكر ملياً فيما قاله، ثم رد عليه بفتور:
-بلاش أنا..!
تساءل باسل بقلق:
-ليه بس؟ ده انت كفاءة وآآ...
قاطعه مسعد قائلاً بجدية:
-لأ مش قصدي على المهارات القتالية، على المصيبة التانية اللي أنا فيها!
قطب باسل جبينه، ونظر له بثبات، وسأله بإهتمام:
-ايه هي؟
ابتسم مسعد قليلاً وهو يجيبه:
-براعتي وجهبزتي في اللغة!
لكزه باسل في جانبه، ولف ذراعه حول كتفه، وهتف بحماس وقد تهللت أساريره:.

-ايوه بقى يا مسعد، فوكك كده وروق دماغك
حافظ مسعد على ابتسامته الهادئة وهو يقول:
-ماشي.

بعد عدة أيام،
استعان باسل بمعارفه الوثيقة وصلاته القوية في الزج بإسمه هو ورفيقه ضمن أحد البعثات التدريبية العسكرية إلى إحدى الدول الأوروبية من أجل الدراسة وتبادل الخبرات، وشدد على بعض الوسطاء من أجل هذا..
فهي فرصة لكلاهما للبعد عن الضغوط المحيطة والهروب مؤقتاً من الظروف التي أجبرتهما على الحب في صمت تام..

ولكن على عكس توقعاته وآماله تم ترشيحهما – مع أخرين - للانضمام إلى وحدة تدريبية قتالية سترسل إلى دولة أفريقية لتدريب القوات اﻷمنية في معسكر تابع للجيش الخاص هناك.

ومهمة التدريب بإيجاز تأتي في إطار عملية مشتركة بين الدولتين حيث أنها ستغطي نطاقاً عريضاً من المهارات العسكرية الفردية والتنظيمية ومن بينها الأسلحة الأساسية،
وكذلك تتضمن التخطيط للعمليات والدعم الطبي واللوجيستي للعمليات، والحرب غير النظامية...
وبالرغم من أن تلك المهمة التدريبية هي مهمة غير قتالية ﻷنها تعتمد على بناء القدرات من جديد، إلا أنها ستستمر لمدة سنتين.

انزعج مسعد من ذلك الترشيح، واعتبره عقاباً وليس تكليفاً..
فقد تم اقصائه إلى منطقة بعيدة للغاية لا صلة لها من قريب أو من بعيد بدولة حبيبته..

بكت صفية بحرقة وهي تودع ابنها الذي حزم حقائبه ليتحرك وينفذ أمر التكليف..
انحنى هو ليقبلها من كف يدها، ثم احتضنها بذراعه، وتمتم قائلاً:
-خلاص يا حاجة صفية، أمانة عليكي ما تقطعي قلبي!
انتحبت وهي ترد عليه:
-مش قادرة يا بني، يعز عليا فراقك والله!
ابتسم بصعوبة، ثم ابتلع غصة مريرة عالقة في حلقه، فهو لا يريد الانهيار في تلك اللحظة تحديداً، وهتف قائلاً بمرح:
-معلش، هانت، ده الأيام هتعدي هوا.

وغمغم مع نفسه ساخراً:
-بالظبط زي ما سميرة سعيد بتغني ( هوا، هوا )
ربت اللواء محمد بقوة على كتف ابنه، وتشدق قائلاً:
-شد حيلك يا مسعد، إنت أدها وادود يا بطل!
التفت مسعد برأسه نحوه، وأدى له التحية العسكرية وهو يرد عليه بصلابة:
-تمام يا فندم!
ثم أرخى جسده المتصلب، وتابع بمزاح:
-على فكرة أنا مش رايح أحارب، أنا هادرب بس وآآ...
قاطعه والده قائلاً بتفاخر وهو يشير بسبابته:.

-طالما بتخدم وطنك في أي مكان، فأنت بطل، وأبو الأبطال!
ابتسم مسعد عقب عبارة أبيه المتباهية الأخيرة، ورد عليه:
-الله يكرمك يا سيادة اللوا!
ثم استدار بجسده ليودع أخته الصغرى إيناس، فألقت بنفسها في أحضانه، وتعلقت بعنقه، وبكت وهي تقول:
-هتوحشني يا مسعودي، كده مش هاشوفك تاني!
ضمها إليه، ثم أبعدها عنه، ونظر إلى وجهها الحزين، واحتضنه براحتيه، ومسح بإبهاميه عبراتها التي بلت صدغيها، ورد عليها بمرح:.

-في يا نوسة نت وماسنجر وسكايب وواتس، يعني هانشوف خلق بعض على طول، بس تفتكري عندهم واي فاي؟
ضحكت وسط دموعها، وردت عليه بمزاح:
-اشحن الباقة قبل ما تمشي!
رد عليها ساخراً:
-ده على أساس إن الخط بتاعي هيبقى جوال
لكزته في صدره بخفة وهي تعاتبه:
-بطل غلاسة بقى!
ضمها مسعد إليه مجدداً، وعبث بفروة رأسها بيده، وتابع بجدية:.

-هتوحشني والله لماضتك، خلي بالك من نفسك، وحافظي عليها واتجدعني، عاوز أرجع ألاقيكي جايبة مجموع حلو!
ردت عليه بثقة:
-حاضر، هاطلع الأولى!
غمز لها قائلاً بجدية:
-تعمليها، أنا واثق فيكي!
رفعت له إبهامها، وأكملت بنبرة مغترة:
-طبعاً
وزع هو أنظاره على أفراد عائلته، وهتف بثبات حذر:
-يالا أشوفكم على خير
صاحت والدته قائلة بصوت شبه مختنق:
-عارف يا ضنايا اللي مطمني شوية عليك إن معاك صاحبك باسل، أهو ياخد بحسك في الغربة!

كزت إيناس على أسنانها قائلة بتبرم:
-بسلة الرزل، أهوو احنا ارتحنا منه!
نهرها مسعد قائلاً بتحذير:
-يا بنتي ماتبقيش ناقر ونقير معاه، هو بيسمع اسمك بيتعصب!
لوت ثغرها قائلة بإستخفاف:
-لا والله
رد عليها مسعد بإمتعاض:
-ايوه، زي ما تكوني سادّة نفسه عن كل حاجة
انفرج ثغرها بسعادة، ولمعت عيناها بفرح، وهتفت بحماس غريب:
-بجد، ربنا يسد نفسه كمان وكمان!
تعجب مسعد من موقف أخته العدائي تجاه رفيقه المقرب، وعاتبها:.

-أعوذو بالله، خلي قلبك ابيض، وصفي نفسيتك كده
عبست إيناس بوجهها وهي ترد:
-أنا مش بأطيقه أصلاً!
عنفتها والدتها صفية قائلة بتذمر:
-يا بت ابلعي لسانك شوية خليني أتكلم مع أخوكي!
نظر مسعد في ساعة هاتفه، وأردف قائلاً بتنهيدة:
-الوقت أزف، أشوف وشكم على خير!
لم تستطع صفية كبح عبراتها الحزينة على رحيله، وردت عليه بشجن:
-مع السلامة يا حبيبي، تروح وترجع بالسلامة يا رب.

وبالفعل ودع مسعد عائلته، وانطلق بعدها في اتجاه المطار لينضم إلى بقية أفراد وحدته بعد أن رفض أن يصحبه أياً منهم لعدم قدرته على تحمل لحظة فراق الأحبة...

على الجانب اﻷخر، ورغم حالة الحذر والحرص الشديدين المفروضة عليها، إلا أنه لم يستطع أحد الولوج إلى عقلها ومنعها عن التفكير في مسعد غراب..
ذلك الضابط الذي أحدث انقلاباً في حياتها وسيطر على تفكيرها كلياً...
هي أجبرت على قطع كافة الصلات مع من تعرفهم في القاهرة، والتزمت بإتفاقها مع المباحث الفيدرالية..

وتم محو كل ما يخصها من كافة وسائل الاتصال الاجتماعية، وما له علاقة بقضيتها على المواقع الإخبارية والاعلامية حتى بات وجودها سراباً للجميع..
فأصبحت بلا هوية، وبلا وجود..
لكن لم يتم إزالة ما نبت في مضمار قلبها، وعاهدت نفسها بألا تسمح لها بالنسيان...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة