قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الخامس والعشرون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الخامس والعشرون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الخامس والعشرون

كأنه كُتب علينا العيش هكذا، معلقين في منتصف الأشياء كلها. لا نحب ما يحدث، ولا يحدث ما نحب.
ما يحدث الآن بين أروقة الغرف من تبادل الأطباء للأدوار والأماكن، كان مستثيرًا لمخاوف يزيد التي تضاعفت بشدة، خاصة بعدما رفض الجميع الإدلاء بأي معلومة قد تُفيد عن حالتيهما.

راقب الطبيب المساعد شاشة عرض المؤشرات الحيوية ل ملك، بعينان يفيضان بالخوف والترقب في آنٍ، فرك أصابعه بشئ من التوتر، وانتقلت عيناه القلقة نحو رئيس الأطباء الذي لم تقل حالتهِ عنه، وقال إنذاك: - الوضع مش مبشر خالص يادكتور، هنعمل إيه؟

فرك رئيس الأطباء صدغهِ بتحيرٍ تجلى على ملامحهِ، وبرر سكون حالة ملك وإضطراب ضغط دمها ب: - الجسم بياخد وقت عشان يتكيف مع أي عضو جديد دخل للجسم، اللي فعلًا مش طبيعي هي حالة المُتبرع، اللي المفروض يكون فاق بقاله ساعة!
قبض الطبيب على أصابعهِ شاعرًا بمزيج من القلق والتردد، ثم أردف بلهجة آمره: - شوف بسرعة وضع الدكاتره هناك إيه، خلينا نعرف الآشعة أظهرت إيه.
- حالًا.

وهمّ الطبيب المساعد موفضًا للخارج، منتقلًا لغرفة الحالة الثانية، ولكنهُ دُهم أثناء ذلك، حيث استوقفه يزيد وتعابير وجهه المتجهم قد أسترعت على وجهه، وسأله بحدة ناسبت تمامًا تخوفهِ المفرط: - في إيه يادكتور؟ عمالين تتنقلوا من هنا لهنا كأن في حاجه ومخبينها!

فلم يُفضي الطبيب بما يحدث على الفور، مُحبذًا التأكد من استقرار الحالة أولًا، وتوصلها لنقطة جيدة، حينها تتاح الفرصة له للشرح وبإستفاضة: - مفيش حاجه، لسه الأوضاع مش مستقرة، عن أذنك.
كاد يلحق به لولا تدخل نغم، ووقوفها حائلًا مانعًا أمامه وهي تردف: - مش قالك لسه مفيش حاجه يايزيد؟ رايح وراه فين!؟ خليهم يشوفوا شغلهم.

ما كان منه إلا إنفعالًا طاغيًا منه عليها، بدون عمدٍ، متأثرًا بهواجسه المريبة، حيال حالة شقيقهِ التي بدت متعثرة: - إنتي مرتاحة أوي يعني للي بيحصل! مش شايفة الهرج اللي كل فيه!؟
ونفخ بتذمر وهو يتابع: - أكيد حصلت حاجه!
عضت نغم على شفتيها، وأطرقت بصرها لأسفل مستدعية ثباتها الكاذب، لتبدو أكثر تماسكًا، على عكس ما تحملهُ نفسها: - ربنا ما يجيب حاجه وحشه يارب!

نظر الطبيب لآشعة المُخ المقطعية، التي وضحت بشكلٍ تفصيلي مدى تطور حالتهِ الدماغية. ازدرد ريقهِ بتوجس، وغمغم محاولًا تخمين السبب وراء ما يحدث ل يونس: - في حاجه مش عارفين نوصلها!

ثم نظر بإهتمام شديد نحو إحدى الصور المقطعية الأخرى مسترعيًا جمّ تركيزه، حتى أثار شيئًا انتباههِ. دقق بصرهِ جيدًا، وانشغل عقلهِ بتحليل ذلك التخثر الذي يراه واضحًا جليًا، اضطربت أنفاسهِ بقلقٍ ملحوظ، وقال بشئ من الوجل: - مُصيبة! في بروتينات في بلازما الدم اللي واصلة للمخ جالها تجلط.!

وهبّ واقفًا من مكانهِ أمام الشاشة، وقد ارتفعت نبرة صوتهِ المذعور: - إحنا كده هنفقد المريض، ده ممكن يُصاب بسكتة دماغية في أي لحظة.

لحظة واحدة، شكلت فارقًا في مدى تفهمهم لوضعيتهِ الحرجة. ركض كلا منهم ساعيًا للوصول السريع إلى رئيس الإطباء، لإعلان ضرورة التدخل الفوري لإنقاذ الحالة، وفي هذا الوضع كان وجوب إبلاغ يزيد حتميًا ولا يقبل النقاش أو التفاوض، فقرر الطبيب المسؤول عن التخدير توضيح الصورة كاملة، عن السبب الرئيسي الذي أدى بالحالة إلى ذلك المُنحدر، وبدون استيفاء.

الأمر جلل، مُتعاظم الخطورة، وهذا ما جعل يزيد تثور ثائرتهِ، حيث لم يرى بأم عينهِ، سوى حياة شقيقه التي على المحاف.
طرحهُ يزيد أرضًا، بعدما دَحرهُ بعنفٍ مفرط، وسدد له ضربة مُبرحة، عقب تفسير الطبيب له، والذي حممّ الدماء في رأسهِ باندفاعٍ أعمى ليتغلب عليه تهورهُ وجنونه إنذاك.
تهدجت أنفاسهِ، وصاح بصوتٍ مكلوم والغضب يتطاير من بين نظراتهِ المتأججة: - يعني إيه خطأ في التخدير.!؟

تدخل رئيس الأطباء ليحول بين يزيد الذي تحول لمجنون حرفيًا، وبين طبيب التخدير الذي زحف على الأرض محاولًا النهوض عنها، وأردف برسمية وسطية: - إهدا وكل حاجه ليها حل، ده وارد جدًا يحصل في أي عملية جراحية، جرعة المخدر كانت زايدة عليه، وده أدى للتخثر، لكن هنقدر نلحقه بعون الله.

لم ينفد رئيس الأطباء من يزيد، بل كان له دورًا هو الآخر، كونهِ أشرف على عملية النقل الجراحية بنفسهِ. فقبض يزيد إلى تلابيبهِ بعنفٍ، وصاح بإهتياج في وجهه: - متقوليش إهدا! أنت هنا بتكلمني عن حياة أخويا!

حاول الطبيب المساعد جاهدًا، التدخل بين يزيد ورئيس الأطباء، حتى نجح في التفريق بينهما وهو يحثهم على ضرورة التدخل السريع: - إحنا كده بنخسر وقت ياأستاذ يزيد، من فضلك تساعدنا، الوضع ممكن ميكونش خطير للدرجة دي، لو أتدخلنا في الوقت المناسب.
فتدخل رئيس الأطباء بدورهِ قائلًا: - دلوقتي بيتم تجهيز أوضة العمليات، وهيتم حل الوضع حل جذري، وإن شاء الله الباشا يقوم بالسلامة، ميكونش عندك أي قلق.

أشار له يزيد مُحذرًا، بلهجة شديدة القوة: - لو ده محصلش، أنا ههد المستشفى دي على راسكم، هأوريكم يعني إيه خطأ بجد.
وطفق ينظر بنظراتٍ ملتهمة لطبيب التخدير، الذي تسبب في تلك النائبة، بينما نكس الطبيب رأسهِ في حرج، غير قادر على مواجهتهِ. الحال إنه المتسبب في ذلك، وإن لم يتحسن وضع يونس، حتمًا سيكون مصير ذلك الطبيب مصيرًا مآساويًا.

بقدر تخوفاتها بشأن حدوث ضرر ل يونس، كانت مخاوفها بشأن أن يتهمها يزيد بالتسبب في وضع أخيهِ الراهن، والذي لم تكن إحدى أسبابهِ بأي شكل.
أسبلت نغم جفونها عن رؤية ملك الغائبة عن الوعي، وأطلقت سراح زفيرًا طويلًا محملًا بالثقل من بين ضلوعها، وهي تغمغم بصوتٍ حزين: - يارب، عديها على خير.

ثم رفعت بصرها من جديد تنظر لرفيقتها الوحيدة، وتضرعت بصوتٍ هامس: - نجيهم هما الأتنين يارب، ملك لو فاقت وعرفت هيجرالها حاجه من الزعل.
اخترقت مسامعها صوت وقع أقدام بطيئة تقترب منها، ف التفتت رأسها لترى كاريمان تخطو نحوها ببطءٍ حزين. تنهدت متضايقة وهي تستند على عكازها من ناحية، وعلى الجدار من ناحية أخرى. ف هرعت نغم نحوها لكي تساندها، قائلة بلطف: - تعبتي نفسك برضو يانينة ورايحة جاية من هنا لهناك؟!

تنفست كاريمان بصعوبة، مستشعرة الهمّ المصقول على كاهلها، وأردفت بصوتٍ ضعيف: - لازم أشوفها، هي لسه مفاقتش؟
هزت نغم رأسها بالسلب، حتى وصلت بها أمام الغرفة. ولجت كاريمان وهي ترتكز بعيناها على ملك، فرّت عبرة حزينة من قلبها المكلوم، وهي تغمغم: - لا حول ولا قوة إلا بالله، كان مستخبي كل ده فين!
ربتت نغم عليها تواسيها، وتسائلت متوجسة: - هو يونس لسه مفاقش؟!
- دخل العمليات تاني، ربنا يقومه منها بالسلامة.

- يارب.
انحدرت أنظار كاريمان إلى وجهها، وتفرست النظر إليها، لترى خطوط الضعف المُصفرّة بازغة بوضوح على تعابيرها المنهكة. مسحت بكفها المجعد على كف ملك، ورجتها بصوتٍ ملأه اليأس: - فوقي ياملك، أنتي اللي هتساعديه يتخطى اللي حصله، فوقي ياحببتي.
ذمّت نغم شفتيها متأثرة، وهي تتطلع ل ملك بنظراتٍ متوسلة، قبيل أن تدخل الممرضة عليهم لتقول برسمية حازمة: - من فضلكم نسيب المريضة لوحدها، ممنوع دخول الرعاية المركزة.

اجتذبتها نغم برفق، وهي تقول: - يلا يانينة، هنبقى نيجي تاني.
وخرجن سويًا، آملين أن ينتهي ذلك الكابوس الذي جثم عليهم جميعًا بأقصى سرعة، فقد استُهلكوا جميعًا بدون استثناء، وأصبح التأقلم مع الوضع الراهن شئ في منتهى الصعوبة.

كانت تهتز على أريكتها المتأرجحة، وهي تستمع لصوت الموسيقى الشرقية العذبة، مرسومة ابتسامة خبيثة على طرفي محياها، مستمتعة بكل ما يحدث من أحداث راقت لها. حطّ زُهدي على جلستها المنفردة منفعلًا، وهاج فيها: - إيه برودة الدم دي ياشيخة! أنا ابتديت أخاف منك فعلًا ياغالية.
تنغض حبيتها بإستغراب، وتوقفت عن هزّ أرجوحتها، وهي تردف بإستهجان: - إيه الكلام الفارغ ده يا زُهدي، أنت تخاف مني ليه دوستلي على طرف؟

ارتفع حاجبيه مذهولًا، وتفحص ملامحها الجدية وهو يسأل بإرتياب: - حتى لو دوستلك على طرف، ممكن تعملي فيا كده؟!
تأففت غالية وهي تنهض عن جلستها، وواقفت قبالته وهي تقول بفتور مثير للأعصاب: - متخافش أوي كده، أنا وأنت عارفين إنه كان يستحق اللي حصل.
وبدأت تهتاج وهي تُذكرّه: - ولا نسيت إنه خلاص نسي بنتي وعايز يبني حياة جديدة ويعيش ولا كأن حصل حاجه!

كانت عبارتها گالمادة المثيرة للإشتعال، وقد انسكبت على نيرانهِ لتُسعرّها: - أنتي مجنونة، أنتي اللي عملتي كل ده مش هو، أنتي اللي موتي هانيا حقدك. أنتي بتنتقمي من مين؟، لو انا مطاوعك على جنانك فده عشان بحبك، عشان لسه باقي عليكي، لكن الموضوع كبر ودخل فيه دم، وأنا مش قتال قتلة يا غالية.

تنفست غالية بصوت مسموع، وطافت حولهِ وهي تتحدث ببرودة متناهية: - إحنا مش بنقتل حد ياحبيبي، عندنا االي يعمل كل حاجه نيابة عننا. وبعدين كل اللي حصل كان عن طريق الخطأ، ولا نسيت هدفي الأساسي.
ثم دنت منه متابعة إلقاء سمومها في آذانهِ كي تُخدر ضميرهِ الناعس من جديد: - أنا مش عايزة غير الحاجه اللي اتبقت من ريحة هانيا، طالما قرر يبدأ، يبدأ من غير حاجه تخص بنتي.

زفرت قبل أن تتابع، متخطية نقطة الخلاف بينهما: - متقلقش يا زُهدي، مش هتعرض ليونس بحاجه تانية عشان خاطرك. أنت برضو جوزي ويهمني متاخدش موقف.
لاحت إبتسامة هازئة على ثغره، ورمقها مستنكرًا أقوالها التي تناقض أفعالها دومًا: - كويس إنك فاكرة إني لسه جوزك، أنا كنت نسيت!
ضحكت، وأتبعت ذلك قولها: - طبعًا فاكرة.

ابتعد عن محيطها خطوتين، واعترض بدون إن ينخدع بها گكل مرة: - عشان كده مصممة يفضل جواز عرفي مش كده! حتى بنتك لما كشفت الموضوع وقاطعتك بسببي رفضتي تعترفي لكل الناس.
دنى منها خطوة وسأل متحيرًا منها: - مش عارف هدفك إيه من إننا نفضل مخبيين كل السنين دي، هه!؟
نفخت مضجرة، وأردفت بسأمٍ انتابها: - مش معقول كده يا زُهدي، كل مرة نفتح الموضوع ده ومنوصلش لنتيجة، مش بتزهق!

وتابعت في نفس اللحظة، مع فارق نبرتها التي علت قليلًا: - إحنا حريين، نعرف الناس أو لأ دي حريتنا. مش لازم كل مرة تفكرني إنك كنت واحد من الأسباب اللي خلت هانيا تبعد عني وتقاطعني.
فلم يتلقى اللوم وحده، وأشركها معه في ذلك الذنب: - أنتي اللي كذبتي الكذبة دي من الأول ومستمرة فيها، مش أنا.

ثم ضحك مستهزئًا بوضعه، وتابع: - أنا عامل زي الضيف هنا، في بيتي اللي انتي مستخبية فيه من الراجل بتاع يونس، أشركتيني في مصيرك وبقيت عدو لواحد عمري ما شوفته غير مرتين، ودلوقتي زيي زيك، بيدور عليا.
حدجها بنظرات اشتطت، وتابع مُنهيًا الحوار، الذي لا يؤتي بثمارهِ معها: - أنا ماشي وسايبهالك، مش هتشوفيني تاني، إلا لو فكرتي في كلامي وقررتي تسافري معايا برا، ساعتها كلميني، غير كده لأ.

استدار وتركها بالفعل هذه المرة، بدون أن يلتفت أو يتردد في قرارهِ، بعد كل ما ارتكبتهُ وأشركته فيه، أصبح غير قادرًا على تحمل المزيد من آثامها غير المبررة. أعمت مشاعر الحقد قلبها الكفيف، فلم تعد تشعر أو ترى أي شئ آخر، سوى رغبتها العارمة في تقديم الأذى ل يونس، ما أن أُتيحت لها الفرصة لذلك، وفي طريقها أذت البريئة الوحيدة في تلك القصة، والتي لم تجمعها بها حتى سابق معرفة، فقط لإنها انتمت ل يونس، أصبحت مُدناه.

سحب شهيقًا لصدرهِ آلمه، شعر بغصة مُرة تخترق بقوتها العاتية آساريره، بعد وصول ربّ عمله لتلك الحالة الحرجه. مما أوغر صدرهِ بشدة حيال تلك السيدة اللعينة، التي يبحث عنها ليلًا ونهارًا، مستخدمًا كافة السُبل المعاونة، التي قد تصل به إليها، فيثأر منها أشرّ ثأرًا، عقابًا على كل ما ارتكبتهُ في حق يونس.
نظر عيسى لساعة يدهِ، وغمغم بإحباط شديد انتابه: - كل ده جوا.!

التفت ليرى يزيد، والذي كانت حالتهِ مزدرية أضعاف مضاعفة، في كل لحظة تمر على شقيقهِ وهو يصارع الموت، يحس وإنه يفقد قواه تدريجيًا، حتى بات خائرًا هشًا بدونهِ. أصدر هاتفهِ صوت رنين خافت، فألقى نظرة على شاشتهِ. امتعض وجهه، وابتعد قليلًا ليجيب بعجلة: - ألو، مش قولتلك متتصلش لحد ما اكلمك ياراجل انت.؟
آتاه الرد الذي جعل الصدمة تغزو تعابيرهِ، فأردف وهو يخطو بعجلة: - طب انا جايلك.

أغلق الهاتف وهو يردد: - هو ده اللي كان ناقصني! يجيلي هنا كمان.
خرج عيسى من بوابة المشفى، قاصدًا جراچ السيارات الملحق بالأسفل. نظر بعيون مستكشفة باحثًا عنه، لكنه لم يجد أثرًا لأي أحد. أخرج هاتفه قاصدًا الإتصال الهاتفي به، لكنه تفاجأ به يأتي من خلفه ويضع كفهِ الغليظ على كتفهِ: - باشا!

انتفض عيسى متفاجئًا، والتفت إليه وإمارات الغضب تكسو وجهه، قائلًا بإنفعال حاول كبحهِ: - إيه ياجدع انت! مش قولتلك مينفعش نظهر مع بعض كده!
مسح سيد على شاربهِ الكثيف، وقال بعدما تلوت شفتيه بإستنكار: - لامؤاخذة يابشوية، المرة اللي فاتت الباشا الأبهه اللي كان معاك سابلي شنطة معطرمة (مليانة) فلوس، وقالي هرسيك على الحوار، ومحدش كلمني من يومها، من الآخر هي العبارة إيه؟

تنهد عيسى بثقلٍ، ثم فسر له بإيجاز شديد: - كل حاجه هتفهمها في وقتها ياعفريت، يونس باشا حب يأكدلك حسن نيته عشان كده دفع الفلوس مقدم، اللي جاي أنا هرسيك عليه في وقته، هي حاجه معقدة شوية بس انت قدها.
أشار سيد نحو عينيه قائلًا: - ده انا عنيا ليكوا، بس أفهم.

ضرب عيسى على كتفهِ الصلب قائلًا: - هتفهم متقلقش، بس أمشي دلوقتي وأنا هتصل بيك، متخليش حد يشوفك معايا. معلش يعني أنت واحد مطلوب القبض عليه، مينفعش تروح وتيجي كده.
ضحك سيد ملئ شدقيهِ، وقال هازئًا: - وربنا المعبود انتوا مديين الحكومة فوق قيمتها، أنا سيد العفريت ياباشا، يعني عيوني في كل حته ومحدش يقدر يعمل معايا حاجه، أطمن انت بس وشهل في الحوار عشان نخلص.

نظر عيسى في ساعة يده، وأكد عليه بقوله: - قريب أوي، أنا لازم أمشي، سلام.
وأسرع عائدًا للمشفى، كي يلحق ب يونس الذي كان على وشك مغادرة غرفة العمليات للمرة الثانية على التوالي، داعيًا الله، أن يعود بكامل صحتهِ وسلامتهِ ليكون بينهم من جديد.

أحست وكأنها تحارب في مُعترك الحياة بمفردها، عالقة في منتصف الطريق الخاوي من البشر، لا أحد يسمع لها، ولا تستمع إلى أحد، وكأن صوتها انبح، فأصبحت غير قادرة على طلب الغوث. آخر ما رأته قبل أن تفقد رؤيتها نهائيًا، طيف يونس الذي كان يعدها الكثير من الوعود، مستشعرة قبض ذراعيهِ عليها كي لا تنفلت منه، لكنها في الأخير انفلتت وسقطت مرتطمة بأرض الواقع، الذي سلبها آخر أمل كانت تعيش لأجله.

فتحت ملك عيناها ببطءٍ حسيس، لتتفاجأ عيناها بالضوء الشديد في وهجهِ، مسلطًا عليها. تآوهت بصوتٍ مكتوم، منتسية حتى هويتها، أستغرق منها الأمر العديد من الدقائق، حتى ضربت الأحداث ذاكرتها، ورأت نفسها تُطعن من جديد، كأن ذلك كان مستثيرًا لها، لتحس بآلام عظيمة تضرب جانبيها الخلفيين. تنفست بصعوبة، وتسربت البرودة إلى روحها من جديد، وهي تهمس بصوت شبه متقطع: - ي، ي ون، س.!

انتبهت لها الممرضة التي كانت تُجدد المصل الذي تتغذى عليه الأوردة، ف شهقت وهي تنظر حيالها، كانت غائبة عن الوعي الكامل، فقط تهزي بإسمه، ف أوفضت الممرضة تخرج من الغرفة، لتصطدم ب نغم في الخارج وتُبشرها أولًا مبتهجة بتطور الأحداث: - المريضة بدأت تفوق.
خفق قلب نغم، وانبعجت شفتيها بإبتسامة واسعة، وهي توفض نحو الغرفة لتراها وتطفئ لهيب صدرها القلق.

كان رئيس الأطباء يقف على رأس يونس، فور خروج الأخير من غرفة العمليات، بعدما تم السيطرة على التخثر الناتج عنه جلطة في جذع المخ. كان يتناقش مع فريق الأطباء المحاوطين به في غرفة الرعاية المركزة، بينما يقف يزيد بالخارج، يراقب الأوضاع بترقبٍ مرتعب. ينظر لأخيه -الذي لم يستعيد وعيهِ بعد- تارة، وللأطباء تارة أخرى، محاولًا سبر أغوارهم، والتوصل لتخمين حول مناقشتهم. وإذ بالممرضة تركض إليه، ثم دلفت بسرعة إلى رئيس الأطباء لتبلغه: - المريضة التانية بدأت تفوق يادكتور.

ف تحرك رئيس الأطباء على الفور: - أنا هشوفها وأرجع فورًا، محدش يسيب الحالة لوحدها.
خرج رئيس الأطباء ونظرات يزيد المضطربة تحاوطه، استقبله بنظراتٍ مرتابة، وهو يسأله في اختناق شديد: - وصلتوا لأيه؟
ف طمأنه مخبرًا إياه: - متقلقش، إن شاء الله خير، لكن لازم أباشر المريضة بنفسي بعد ما فاقت وراجع على طول.

تجهم وجه يزيد وهو يراه ينصرف، وقد ضمر قلبهِ من ملك مرة أخرى، ولكن هذه المرة السبب هو يونس. ممتكلهُ الوحيد في الدنيا، جذعهِ وقوتهِ، سندهِ وحياتهِ بالكامل. إن فقدهُ بسببها هي، لن يكون الوضع بينهما مبشرًا على الإطلاق.
صرّ يزيد على أسنانهِ، ونظر إلى حالة يونس التي لم تتقدم خطوة واحدة، وهو يردف بصوتٍ غلفهُ الحقد: - يعني خلاص ملك بقت كويسة وعايشة بفضل أخويا! وأخويا أنا هيروح قدام عيني بسهولة كده!

رفض عقلهِ الهائج تقبل حقيقة گهذه، وراح يوفض نحو غرفة ملك، لا يعلم ما الذي يفعله، حتى إنه غير شاعر بنفسه في هذه اللحظة، الخوف والذعر من فقدان يونس شكل منه إنسان بدون عقل، قد يفعل أي شئ للتنفيس عن مخاوفهِ المهلكة.
أمسكت نغم بكفها، وامتلأت عيناها بدموع السعادة وهي تسألها في تلهفٍ: - سمعاني ياملك؟ ردي عليا والنبي.

ضغطت ملك على أصابعها مغمضة العينين، وكأنها إشارة ضمنية بإنها تسمعها، وما زالت تهذي بإسمه من جديد، متلهفة لكي تراه، وتشعر بدعمهِ المتفاني لها: - يونس، فين يونس؟
عضت نغم على شفتيها، وازدردت ريقها في توترٍ وهي تختلق سببًا لغيابهِ: - جاي، راح يعمل حاجه وجاي على طول.
دلف الطبيب إليهن، وتسائل: - ها، قالت حاجه؟
نهضت نغم عن جلستها وأخبرته: - لأ، لسه مغمضة عينها وبتنادي على يونس.

فتح رئيس الأطباء كشاف الإضاءة الصغير وبدأ يتفحص عيناها، بينما كانت نغم تراقب من مسافة ما يحدث، حتى استشعرت خطوات بالخارج تستعد للدخول، التفتت رأسها، لترى يزيد في حالتهِ تلك التي لم تبدو بخير أبدًا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة