قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن والعشرون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن والعشرون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن والعشرون

قلبي وَهِن؛ كلما زرعتهُ بالحُب أصابهُ الوَجَل.

انقبض قلبهِ وكأن أحدًا يعتصرهُ بقوة، بعدما ألقى معتصم بتلك القُنبلة الموقوتة بين أحضانهِ وتركه يعيش مشاعر الخوف. تجددت تلك المشاهد المؤسفة أمام عيناه، وتضاعف شعور الغضب بداخل صدرهِ. بين تلك اللحظات الفارقة التي مرت عليه، انتهز معتصم الفرصة وراح ينهض مستعيدًا قوتهِ، وما لبث أن وقف على ساقيهِ حتى باغتهُ يزيد بنهوض مفاجئ، وصدح صوتهِ الهادر أثناء محاولتهِ للإمساك بهِ: - أنت عملت إيه. هقتلك يامعتصم، المرة دي مش هسيبك تاخد مني حد تاني.

وقبض على ياقتهِ يخنقهُ متابعًا: - هموتك لو اتجرأت ولمستها.
غرز معتصم أصابعهِ بمرفقي يزيد، واجتهد كي يُحرر نفسه من قبضته، قائلًا بصوتهِ الغليظ: - ولا هتستفيد حاجه، لو مسبتنيش أمشي من هنا ودلوقتي حالًا عمرك ما هتعرفلها طريق جُره، واعتبر ده عهد يا يزيد.

حلّ قبضتيهِ عنه وهو يدفعه للخلف، حينما كان معتصم متلذذًا من رؤيته على تلك الوضعية القلقة، علت إبتسامة وضيعة محياه، وأردف بنبرة اتشحت بطعم الشماتة: - لسه عندك ناس بتحبهم وبتخاف عليهم.
وأظلمت عيناه فجأة وهو يتابع: - إنما أنا لأ، أنا خسرت كل حاجه بسببك.
لم يتحمل يزيد الإنحصار في صمته، وصرخ فيه قائلًا: - أنت غبي! كل اللي فاكر نفسك امتلكته مكنش ليك في يوم، ولا حتى مراتي اللي سرقتها مني.

نظر معتصم في ساعة يدهِ بعشوائية، ثم ردد بفتورٍ جلي: - أنا جيت عشان بس أوريك إنك مش بعيد عني، في أي وقت لو عايز أوصلك هوصلك.
تقدم يزيد منه خطوة مندفعة، ف أشار له كي يتوقف وهو يذكرّه: - متنساش اللي قولتهولك، خروجي من هنا دلوقتي مرتبط بإنك تشوف القمورة بتاعتك مرة تانية.

أجبر يزيد نفسهِ بصعوبة شديدة على التماسك، والبقاء في محلهِ حتى يضمن لها الحياة، لكن بداخلهِ انتَفَش السعير، لم يقوَ على إدعاء الهدوء، وصرخ في وجهه متسائلًا: - أخلص عايز إيه؟
فتلقى جوابًا فاترًا مستثيرًا لنزعة الغضب المتهور بداخله أكثر وأكثر: - دلوقتي مش عايز، بس بعدين يمكن أعوز. أنا جيت بس أفكرك بيا.

ولاحت ابتسامة خبيثة على طرفيه متابعًا: - لسه الحرب بينا طويلة يايزيد. وزي ماانت عارف كل حاجه في الحرب مشروعة.
قبل أن يهمّ بالتحرك كان يزيد يسد عنه طريقهُ، وسأل للمرة الأخيرة بصبرٍ مستنفذًا: - رد عليا هي فين!؟
ربت معتصم على كتفهِ، منتشيًا لرؤية عجزهِ عن إطلاق الإنسان الثائر بداخله، وأجاب: - متقلقش، مش هأذيها المرة دي، لكن المرة الجاية مقدرش أوعدك. هتروح تلاقيها في مكانها.

لوح له مودعًا قبل أن يختفي بداخل تلك السيارة التي كانت تنتظرهُ، تتعقبهُ نظرات يزيد المحتقنة، حتى تأكد إنه غادر الجراچ، فأوفض بالخروج حتى يعود إلى مقهى المشفى، راجيًا الله أن يجدها في مكانها كما تركها. ركض مهرولًا گالمجنون، ليلحق بها ويُطمئن قلبهِ المفزوع بشأنها؛ لكنه تفاجأ بما لا يبشر أبدًا. الطاولة فارغة منها، فقط حقيبتها متروكة وكذلك هاتفها، أما هي فقد اختفت تمامًا، حتى طعامها بقى كما هو لم تمتد يدها عليه. تنفس يزيد بصعوبة جليّة، وعيناه مرابطة بالمقعد الشاغر، من المستحيل أن تترك الطاولة بهذا الشكل وحوائجها كاملة وتذهب، إلا إن كان الأمر شدة الصعوبة.

النظر للسماء عبر تلك النافذة الشرقية المفتوحة، كان السبيل الوحيد الذي تهوّن عليه بعضًا من الوقت الذي يقضيهِ في الفراش، بعيدًا عنها، عاجزًا عن مواجهتها وهو بتلك الحالة، خاصة وإنه شدد على الجميع عدم إخبارها الآن بأي شئ يخص تبرعهِ بالكلى لها. تأمل تلك الزُرقة الصافية، متخيلًا طيفها يمر من أمامه، ويستعيد في ذهنهِ بعضًا من المشاهد التي جمعتهم معًا طوال الفترة الماضية. وجودها كان الحسنة الوحيدة في حياته، لقد أسدى له إبراهيم معروفًا لن ينساه قط، وهو إنه تركها بين يديهِ هو. أطبق يونس جفنيهِ كي لا يتذكر تلك المشاهد الموجعة من تعرضها للهجوم، وتنهد بعمقٍ زفره ببطء حتى لا تتفاقم آلامهِ من جديد، ثم نظر حيال باب الغرفة الذي انفتح بهدوء ليطل منه الطبيب بإبتسامتهِ الودودة قائلًا: - صباح الخير، أتمنى يكون المسكن أدى الغرض!

أومأ يونس برأسهِ وهو يردف: - آه، سكن الألم شوية.
ثم تسائل بفضول: - مشوفتش يزيد ولا عيسى يادكتور؟
قطب الطبيب جبينه قائلًا: - لأ، أنا حتى مصادفتش حد فيهم برا، الأول مكنش حد فيهم بيسيبك لحظة.
نظر يونس نحو الكومود حيث هاتفهِ، وقبل أن تمتد ذراعهِ ليتناوله، كان الطبيب ينوب ذلك عنه: - خليك زي ماانت.
ثم ناوله إياه، حينما كان يتسائل بصوتٍ يكسوه التلهف البيّن: - ملك عامله إيه؟ طمني عليها؟

- هي كويسة دلوقتي، الفترة الجاية هتكون حرجة شوية ليكم أنتوا الأتنين، بالأخص هي، عشان كده مش عايزك تقلق خالص من أي تطور، الجسم طبيعي جدًا مش هياخد على عضو جديد بالسهولة دي حتى لو كانت أنسجته متطابقة مع الجسم.
أجفل يونس متفهمًا، وسأل بنبرةٍ مستجدية: - مينفعش أروح أشوفها؟
- لو قمت من هنا مش هتتحرك من غير الكرسي، معتقدش هترضى بكده، صح ولا إيه!؟

لم يفكر يونس في الجواب، حيث كان محسومًا بالنسبة إليه ألا يُطلعها على حالتهِ: - صح، مش عايزها تعرف حاجه دلوقتي.
وتطرق للسبب الذي لأجله لا يحبذ مشاركتها له: - ملك هتحس بالذنب ناحيتي لو عرفت. أنا هشوف إيه المناسب وهعمله.
فوافقه الطبيب الرأي: - اللي تشوفه، أهم حاجه مفيش حاجه تضر باللي عملناه، إحنا وصلنا لهنا بصعوبة ياأستاذ يونس.
- فاهم.
عاد الطبيب خطوة للوراء مستعدًا للإنصراف: - عن أذنك.

فتح يونس قائمة مكالماته، وحاول الإتصال بشقيقهِ، فبم يتلقى منه أي رد، فقرر محاولة الإتصال ب عيسى أيضًا، ليتفاجأ بعدم ردهِ هو أيضًا. راودته الشكوك حول حدوث أمرٍ ما وهو لا يعلمه، تلك ليست صدفة أبدًا. فكر قليلًا بالأمر، وترك خيالهِ يسبح في الأفكار المأساوية أولًا، إلى أن انقبض قلبهِ وغمغم بتخوفٍ: - إن شاء الله ميكونش أتهور وعمل أي حاجه من غير ما يقولي.

عاد يُفتش في قائمة الأرقام الهاتفية، وعقلهِ منشغلًا بهما، حتى وجد ضالتهِ، والتي انتسى بها على الفور أي شئ آخر، وضع الهاتف على أذنه وانتظر الرد، حينما أحس بوخزاتٍ تشك جانبهِ، وحينما استمع للطرف الآخر أردف: - صباح الخير ياوليام، أنا محتاج منك حاجه ضروري.
واسترسل في أفكارهِ وحديثهِ معه، إلى أن وصل إلى الفكرة المرضية له..

راقب يزيد شاشة عرض تسجيلات الكاميرات في المشفى، بالوقت الذي كانت فيه نغم بمفردها. انتظر رؤية ما سيحدث بصبرٍ فارغ، وداخله يتآكل من فرط الخوف عليها. إن وقع لها مكروهٍ بسببه لن يسامح نفسه للأبد، سيعيش مطوقًا نفسه بذلك الذنب ما حيا. كور قبضة يدهِ يصرّ عليها بإنفعالٍ مكتوم، مدققًا أنظارهِ عليها في تلك اللحظة التي تركها بها في المقهى. أشار عيسى نحوها، ليلفت انتباهه قائلًا: - دلوقتي سيادتك سيبتها.

تابع كلا منهما المشاهد بتريثٍ، حتى ظهر ذلك الشاب الفارع الطويل وهو يتحدث إليها، فتدخل موظف الأمن الذي رآهم يخرجان سويًا وصاح قائلًا: - أيوة ده اللي خرج معاها.
تحفزت حواس يزيد وهو ينظر لذلك الرجل غريب الأطوار، والذي لم يتعرف على شكلهِ، وتطلع لما يحدث بفضولٍ شديد، مرددًا بسخط: - بيقولها إيه كل ده؟

نهضت نغم عن الطاولة، تناولت الملف الموضوع أمامها، ثم خرجت برفقة ذلك الرجل، بدون أن تكتسب ملامحها أي تعابير تثير الريبة أو الشك. حتى خرجت نهائيًا وغابت عن حدود تسجيلات كاميرات المراقبة، وما بقى سيكون لمخيلاتهم المفزوعة.
انفعل يزيد بعدما فشل في الوصول إلى حل جذري ينهي تلك المعضلة، وصاح في الجميع: - يعني إيه؟ مفيش كاميرا برا تعرفنا الحيوان ده أخدها فين!؟

أحنى موظف الأمن رأسه بحرج، وهو يقتل أمله الأخير في الوصول إلى تفاصيل أكثر من ذلك: - للأسف مفيش، دي التسجيلات اللي أقدر أفيدكم بيها.
هرع يزيد للخارج گالمجنون، ينظر حوله يمينًا ويسارًا، غير مدرك لأي شئ، حتى هاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين لم ينظر إليه. التفت ينظر بعينان تائهتان ل عيسى الذي كان گالظل له، وأردف بصوتٍ لاهث: - خدعني، مكنش المفروض أسيبه مهما حصل.
- باشا مش وقته، لازم نتصرف ونلاقيها.

ثم بدأ عيسى في تحليل ما رآه من وجهة نظرهِ البوليسية: - الفيديو بين إنها خرجت معاه بإرادتها، أكيد خدعها أو قالها أي حاجه عشان يخرجها معاه.
نظر عيسى لهاتفه ليرى أسم يونس ينبثق من الشاشة، ف ذمّ شفتيهِ متوترًا وهو يقول: - دي رابع مرة الباشا يتصل بيا، أقوله؟
فأسرع يزيد بالرد عليه: - لألأ، متقولش أي حاجه، أنا مش عايز يونس يفكر غير في نفسه دلوقتي.

فكر للحظات ثم تابع بتفكيرٍ مشوش: - رد وطمنه، وأنا هلاقي صرفة.
أوفض يزيد للخروج من هنا، ساعيًا لإيجاد السبيل للعثور عليها، لن يهنأ باله حتى يراها سالمة من جديد، وما بعد ذلك هو الحريق بعينه.
مسحت ملك على شفتيها بالمنديل الورقي، ثم نظرت للحساء بعدم اشتهاء وقد اكتفت بذلك القدر القليل، ثم أردفت بصوتٍ ضعيف: - مش قادرة يانينة، أرجوكي كفاية.

نظرت كاريمان للحِساء معترضة، وحاولت أن تعطيها المزيد: - شوية كمان بس، أنتي ملحقتيش تكملي معلقتين ياملك!
أشارت لها مكتفية، شاعرة بتقلبٍ في معدتها كأنها ستتهوع ما احتستهُ: - مش قادرة خالص والله.
وبنفس ذات العبوس الحزين، سألت للمرة الخامسة على التوالي: - يونس فين يانينة؟ إزاي سايبني كده ومجاش يطمن عليا!

فبررت كاريمان بحجتها الواهيه: - ماانا قولتلك ياحببتي، طول الليل كان معاكي وقام الصبح خرج مشوار. لما ييجي هيعوضك صدقيني.

أجفلت جفونها متحسسة بأطراف أناملها مواضع ألمها، وهي تكتم هذا الألم النفسي أيضًا، شعرت بإحتياجها الشديد له في ذلك الوقت العصيب عليها. عدم وجودهِ أشعرها بسوء مضاعف في حالتها المتدهورة، حاولت اختلاق تبريرات لعدم وجوده، لكن في النهاية قلبها العاشق لم يقبل بأي مبررٍ منهم. طرقات على الباب، أعقبها سماح كاريمان للزائر بالدخول، انفتح الباب ودخل ذلك الشاب اليافع، ممسكًا بباقة زهور ضخمة بيضاء، وأردف متسائلًا: - أستاذة ملك؟

فأومأت ملك و عيناها مرتكزة على تلك الباقة الأخاذة: - أنا.
دلف الشاب ومدّ لها بباقة الزهور قائلًا: - حمدالله على السلامة ياهانم.
تناولت كاريمان الباقة نيابة عنها ووضعتها جوارها على الفراش، ثم سألته: - مين بعت الورد ده؟
- يونس باشا. عن أذنكم.

وانسحب منصرفًا بهدوء، تعلقت نظرات كاريمان المغزية بها، حينما كانت ملك تعتدل في جلستها برفق شديد، خوفًا على جروحها الحية. تناولت باقة الزهور بين أحضانها، وكأنها تعانقهُ هو. لمحت تلك البطاقة المزروعة بداخله، فأخرجتها لتخترق رائحة عطر يونس أنفاسها بقوة لا مثيل لها، قوةٍ أقشعر لها سائر بدنها، كأنها تستشعر لمساتهِ الرقيقة على جلدها الناعم. فتحت الباقة بصدرٍ منشرح، وقلبٍ نسى كل أوجاعهِ، وقرأت كلمتهِ التي دغدغت عواطفها الجياشة حياله: - وحشتيني أوي ومفتقد صوتك جدًا.

لم يكن متكلفًا في كلماتهِ البسيطة، ولكن معناها البليغ قد وصل لأعماقها متجذرًا في قلبها السعيد. اشتمت بعمقٍ رائحة البطاقة الغارقة في العِطر، وتحسست أوراق الزهور البيضاء وهي تضحك ملء شدقيها، بعدما كانت تعيسة تعاني من وحدتها، تغيرت الأوضاع تمامًا، وتمنت لو إنه جوارها الآن، لتضع رأسها على صدرهِ محتمية به، وترمي بتلك الهموم الثقيلة بعيدًا عنهما، لتحظى ببعض اللحظات الفريدة معه.

لم يترك يزيد عملهِ للحظ أو التنبؤات، وقرر أن يُقيم كافة الإحتياطات لكل الظروف، حتى لا يتفاجأ بأي شئ يعيقه عن التفكير السليم. كان يتحدث في هاتفهِ بإنشغال بها، أثناء سيرهِ المتعجل في الچراچ صوب سيارتهِ: - تسلم ياباشا، ده العشم برضو، لو وصلت لأي حاجه عرفني. تسلم.

أغلق المكالمة متسرعًا، وهو يبحث بين ثنايات عقلهِ عن شخصٍ آخر من ذوى السلطة، كي يستطيع مساعدتهِ في إيجادها بأسرع وقت، ضغط على الشاشة للإتصال، ووضع الهاتف على أذنه، حينما تسلطت عيناه على الأرضية. أثار انتباهه شئ ما غير طبيعي، اتسع بؤبؤي عينيه وهو يدقق أنظاره، كانت عبارة عن بقع صغيرة من الدماء، تُشكل خط سير يؤدي لطريقٍ ما. خفق قلبهِ بفزع، وهو يتتبع ذلك الخط المريب والمقلق، سار خلفه حتى وقف لدى سيارتهِ، اضطرب أكثر، وارتجف جسده بالكامل وهو يكتشف أن مؤخرة سيارتهِ شبه مفتوحة، والدماء تتوقف لديها، حتى إنه لمح ذلك الأثر الدموي على السيارة، كأن أحدهم ترك بصمات أصابعه الملوثة بالدماء دون قصدٍ. نهج صدرهِ، وخارت قواه المستنزفة، عاجزًا عن محاولة فتح السيارة، حتى لا يرى مشهدًا قد يُصبح خالدًا في ذهنه وأمام عيناه للأبد..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة