قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع عشر

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع عشر

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع عشر

إن كان الحُب أثم، ف نسيانهِ أعظم أشكال التوبة.

كانت الغرفة مُبعثرة من حولها، حتى فراشها الذي تنام أعلاه لم يكن في شكلهِ المُرضي للنظر. لم تفتح زجاج الشرفة منذ ثلاثة أيام، وكأنها أقسمت على تأديب قلبها الذي خنع لرجل لم تشعر لوهله إنه يستغل برائتها. بل واستخدمها مستغلًا ضعفها وحالتها كأنها دُمية يُحركها بين أصابعهِ، عندما أمعنت التفكير وجدت إنها بالفعل فعلت كل ما قاله وسرت خلف توجيهاتهِ تاركة العمى يتمكن من قلبها وحواسها. لم تفعل شيئًا بإرادتها الحرة، بل كان هو المحرك الذي دفعها لفعل ما تلوذ إليه.

فتحت ملك عيناها وهي تنظر نحو الشرفة المغلقة، وأطبقت جفونها ب استسلام من جديد، شعرت بصوت خشخشة كأن أحدهم يعبث على الفراش. وشيئًا صغيرًا يسير على يدها كأنه كائن حي، جحظت بعيناها على الفور واعتدلت برأسها لتنظر، ف اصطدمت برؤية فأر صغير كان يسير على يدها. انتفضت وهي تصرخ، دفعته عن يدها ونهضت متعجلة عن الفراش وهي تتنفس بصعوبة، ومازال صراخها مستمرًا وهي تنظر إليه برهبة وخوف. التفتت برأسها وكأنها تبحث عن شئ تُبيده به، ولكن بصرها وقع على آخر أكبر منه على الأرض بجوار الكومود وزحف حتى دخل أسفل الفراش. قفزت في مكانها وقد تمكن الذعر من نظراتها المفزوعة، وسرعان مع بحثت بعيناها عن منتاج الغرفة كي تفتح الباب وتفرّ بسرعة.

كان يونس يقف بالخارج بجوار الباب يستمع لصوتها، منتظرًا اللحظة التي ستخرج فيها من بين جدران أربعة حبست نفسها بهم طوال الأيام الماضية.
وما أن شعر بالباب ينفتح خطى نحو الدرج مستعدًا الهبوط عليه، ولكنه توقف مع سماع صوت صرختها وهي تناديه بعدما خرجت: - يونس
التفت برأسه ينظر بفتور، بينما هرعت هي نحوه و: - فار، لأ أتنين. الأوضة فيها فارين.

أدّعى عدم الإكتراث بحجم المصيبة كما تتوقع هي، وقال: - عادي بتحصل، سيبي الأوضة ومهدي يطلع يشوفها. يمكن لما وشك يشوف الشمس يتحسن بدل البهدلة اللي انتي فيها دي
ختم عبارته وهو يرمق أعلاها وأسفلها بنظرات أزعجتها وجعلتها تنظر لحالها. ثم عادت تنظر نحوه، ف تركها وهبط وهو يقول: - الفطار جاهز لو عايزة.

نظرت نحو الغرفة التي أغلقتها من خلفها كي لا يخرج زوج الفئران اللذان اقتحما غرفتها، ثم عادت تفكر. هل تذهب لتناول الطعام أم تتجرأ وتدخل لتبديل ثيابها أولًا!
جلست على حافة الدرج وهي متحيرة فيما ستفعل، حتى رأت مهدي يهبط عن الطابق الأعلى. ف نهضت على الفور و: - عم مهدي، ألحقني. في فارين في الأوضة
حدق مهدي بعدم تصديق و: - فيران؟ متأكدة؟

فقالت والخوف ينتابها: - آه والله، بالله عليك تشوف الأوضة وتخرجهم عايزة أغير هدومي
نظر نحو الغرفة قبل أن يهمّ لفتحها، ف استوقفته وهي تصيح: - لأ لأ، لو فتحت هيخرجوا
- أمال اعمل إيه؟ لازم يخرجوا
ف نظرت حولها و: - آ. طب استنى لما انزل
وفرّت راكضة على الدرج حتى وصلت للبهو.

بينما دخل مهدي وراح يبحث هنا وهناك. حتى وجد أثر لذيل فأر صغير قبل أن يركض، ف اعتدل في وقفته وفكر قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة مغزية وهو يقول: - مفيش حاجه تعجز معاك يايونس.

نظرت ملك حولها يمينًا ويسارًا وهي تستكشف المكان، لا تدري إلى أين تذهب. حتى ظهر يونس وهو يخرج من أحد الردهات ممسك ب كوب من الشاي ومضى نحو غرفة ما. يبدو إنها غرفة الطعام، شبكت ملك أصابعها گطفلة صغيرة تائهه، هي بالفعل طفلة. طفلة لم تعيش طفولتها گغيرها من البقيّة، وحتى شبابها يضيع الآن بين الأحداث الغريبة والأحزان. وبين الظلم والقمع الذي عاشت به تحت مُسمى عشّ الزوجية.

سارت ملك نحو أحد المقاعد المُبطنة الموجودة ضمن طاقم جلوس فاخر، وجلست أعلاه تفكر في أكثر من أمر. حتى قطع عليها تفكيرها رؤية عيسى بهيئته الغامضة تلك يدلف الغرفة الذي دخلها يونس منذ قليل. هذه المرة الأولى الاي تراه فيها، ولكنها خشيته. شعورها أخبرها بإنه رجل يُخاف منه.
دخل عيسى لغرفة يونس الخاصة، واقترب منه وهو يقول: - حصل.

ناوله جريدة اليوم التي تم نشر الخبر فيها ف عنوان أول يجذب الأنظار، وأردف: - الصحفي بتاعنا كان موجود في مكان الحدث وصور كل حاجه. وطبعًا إذن النشر كان في جيبنا من قبلها عشان يطلع تاني يوم.

تفحص يونس ورقات الجريدة وقرأ السطور بإمعان، ف لاحت ابتسامة ظافرة على محياه راضيًا عن ثمار المجهود الذي بذله خلال يومين فقط لإنهاء أمر هذا الحُثالة الذي تجرأ بالتعدّي العاطفي على ملك وجعلها في هذه الحالة. ثم ترك الجريدة وأمسك ب دفتر (الشيكات) خاصته، وقّع على واحد منهم بعدما كتب المبلغ به و: - ده عشانك ياعيسى.

تناوله عيسى ثم طواه ودسّه في جيب بنطاله، في حين كانت إشارة السماح بالخروج تأتيه من يونس: - خليك في مكانك وانا لما احتاجك هكلمك
- ماشي ياباشا، عن أذنك
خرج عيسى، ثم لحظات وتبعه يونس. حيث عبر الردهة ومنها دخل إلى غرفة الطعام، وضع الجريدة بجواره وراح يرتشف الشاي وهو ينظر إليها بحبور اجتلاه. حتى رآها تقف عند الباب، فترك الشاي و: - واقفة كده ليه؟ أدخلي.

دخلت ملك وهي تتأمل المكان. ثم جلست على أحد مقاعد المائدة البعيدة عنه، ف قطب جبينه مندهشًا وسألها: - خير! خايفة تقعدي قريب مني ولا حاجه؟
ف نفت وجود الفكرة برأسها و: - لأ
أشار نحو الطعام و: - قربي عشان تفطري ياملك
نهضت ملك عن جلستها وجلست بالمقعد المجاور له تحديدًا. وضع أمامها بعض الأصناف التي خمّن إنها تُحبها، ثم أردف أثناء ذلك: - انتي اتطلقتي ليه؟

رفعت بصرها فجأة نحوه وهي تحدق فيه، ف لم يتراجع هو عن النظر المتعمق بداخل عيناها المُخيم عليها الحزن. حتى أجفلت هي وسحبت قطعة من الخبز وضعت عليها قطعة من الجُبن الأبيض، ثم نهضت عن مكانها وخرجت بدون أن تتفوه بكلمة واحدة. تركها بدون أن يضغط عليها، ولكن تصرفها المتجاهل ذلك أثار انزعاجهِ المكتوم أكثر. نظر نحو الجريدة التي لم يلحق كي يُريها إياها، ثم عاد يرتشف الشاي الخاص به وهو يفكر قليلًا.

قضمت ملك قضمة واحدة من الخبز، كانت تلوكها بين فكيها ببطء والدموع تنسال من طرفيها. ابتلعتها وكأنها تبتلع قطعة من حجر. مسحت دموعها وسارت نحو المطبخ، المكان الوحيد الذي تعرف طريقه، رمت ما بقى من الطعام الذي لم تتناوله في سلة المهملات ثم خرجت.
ترك يزيد زجاجة المياه الصغيرة وهو ينظر لشقيقهِ بتمعن كي يصل لتخمين يمكنه من معرفة رد فعله، ولكنه لم يستطع. فسأله مباشرة: - هتعمل إيه يايونس؟

فأجاب مباشرة وبدون تفكير: - ملك لازم تعرف، عمي لو مات في أي وقت وهي متعرفش مش هتسامحنا
ف لم يهتم يزيد بأمرها كثيرًا و عبّر عن ذلك بصراحة مطلقة: - أنا ميهمنيش ملك تعرف ولا لأ، اللي يهمني إنها تضغط عليه عشان يوافق يتعالج. ده السبب اللي خلاني أفكر نبلغها.

كان يزيد يجلس برفقته وسط مربع محاط بالكلأ ويطل على أسطبل الخيل خاصته. عينا يونس أغلب الوقت على خيوله التي تنتمي أغلبها لفصائل نادرة. أشاح بوجهه عنهم لحظة ينظر لأخيه و: - مهما كان السر اللي تعرفه ومخبيه عني ده مش سبب يخليك بالجحود ده. البنت ملهاش حد غير أبوها
ف لمحّ يزيد بعدما رأى بعينه دفاعه عنها وحمايته لها حتى وإن كانت غائبة: - معتقدش! أنت كمان بقيت موجود.

تنغض جبينه عاقدًا لحاجبيه المُستطران، ثم أردف كأنه لم يفهم: - يعني؟
ف رفع يزيد عيناه عنه كي لا يواجهه و: - ولا حاجه، أقصد إنك مش هتسيبها لوحدها في نص الطريق
رنّ هاتفه الموضوع أمامه، وبدون أن يلتقطه كانت عيناه تقرأ هوية المتصل. أطبق جفونه وكشّر وجهه وهو يهمس ب انزعاج: - إزاي نسيتها؟
ف خمّن يزيد: - دي نينة اللي بتتصل؟

أومأ يونس برأسه وهو يجيب عليها. لانت نبرته وكأنه يستعطفها ويعتذر عن غياب الفترة الماضية و: - ألو، أنا آسف. سامحيني والله مقصدتش أغيب كل ده عنك
وكأنها كانت توبخه، صوتها العالي كان ظاهرًا حينها. صمت يونس وهو يستمع لصوت صياحها فيه، ثم أردف ب: - والله هاجي، حقك عليا
ثم نظر ل يزيد الذي حدق فيه وأشار له كي لا يأتي بسيرته. ولكن يونس قام بتوريطه هو الآخر و: - من عنيا، هجيب يزيد معايا حاضر.

ف نفخ يزيد ونهض عن مكانه، سار ب اتجاه الأسطبل. وعندما رأى ريحان تقف. ابتسم، ودخل إليها كي يداعبها قليلًا، لحظات وكان يونس يقف بالخارج ويهتف ب: - حضر نفسك، نينة مستنياك تيجي معايا
ف أطبق جفونه وهو يهمس بينه وبين حاله: - هتقعد تديني كلام في جنابي لحد ما اقول يا بس، أنا عارفها. مش بترتاح غير لما تهزقني.

حرص الشقيقين على تناول الغداء معًا قبيل عودة يزيد إلى القاهرة. حيث أشرف مهدي بنفسه على الطباخ الذي أعدّ أفضل الأصناف اللاتي يُحباها كلاهما، ووضع الطعام بنفسه على المائدة مُضيفًا: - وبعدها خليتها تقعد في الأوضة التانية اللي جمب أوضتها لحد ما نتصرف
- تسلم يامهدي
بدأ يزيد بالحساء أولًا، وقال أثناء تناول الطعام: - هتنزل أمتى يايونس؟
- بكرة، نازل بكرة ضروري وهعدي على المجموعة في طريقي.

وقبل أن يتابعا حوارهم كان صوت مهدي يظهر وهو يقول: - تعالي يابنتي انتي مكسوفة ولا إيه!؟
وأدخل ملك. كانت تضم شعرها القصير المبتل للوراء تاركه بعض الشعيرات تنسدل على الجانبين، رُد لها لون بشرتها الطبيعي وحاولت أن تتناسى ما حدث في سبيل حياة جديدة تنشدها. دلفت، وجلست بجوار يونس في المكان الذي جلست به بالصباح.

رفعت بصرها نحوه لهنيهه. فوجدته مهتم بطعامهِ ولم ينظر حتى نحوها، بينما لاحظ يزيد هذا الفتور من كلاهما كأنهن متخاصمين، ضاقت نظراته وهو ينظر للحساء، ثم رفع بصره يسأل مهدي: - هو الطباخ اللي هنا بيعرف يعمل مكرونة بشاميل؟
فأجاب مهدي على الفور: - آه طبعًا
وكأنه اشتاق لتناولها مرة أخرى بعدما حُفر مذاقها في حواسه. ف قال متحمسًا: - طب خليه يعملي وهاخدها معايا وانا ماشي
- من عنيا.

تركت ملك الملعقة التي لم تتناول بها حتى الآن. ثم أردفت: - أنا عايزة أروح لبابا
توقف يونس عن تناول الطعام ولم ينظر نحوها وهو يجيب: - لأ
ارتفع جاجبيها بذهول متفاجئة من رده، كانت تتوقع إنه سيبلبي رغبتها على الفور، ولكنها صُدمت برأيه وتسائلت حول السبب: - ليه لأ؟
ف نظر نحوها و: - عشان انا عايز كده.

كانت تعابير الإندهاش والذهول تُخيم على وجه يزيد الذي لم يصدق رفضه. ولكنه التزم الصمت وهو يراها راكدة بلا حيلة هكذا، نظرت للطعام كأنها تُدبر جملة مُفيدة. ثم عادت تنظر له وهو يتناول الطعام بدون اهتمام لها، وأردفت: - على الأقل أتصل بيه، أعرف أنا ليه هنا وهفضل قد إيه!
ف نظر لها بفتور ضايقها و: - تؤ، مش هتكلميه. هتسأليني ليه، وهقولك عشان أنا قررت ده.

تشنجت وهي تنهض عن جلستها، وقبيل أن تهمّ للخروج استوقفها مناديًا بنبرة حازمة: - ملك!
التفتت برأسها نحوه، فسألها بأسلوب فج: - أنتي ليه مبتقوليش لأ؟
أسبلت ولم ترد، ف وقف عن جلسته واستند بذراعيه على المائدة وهو يعيد صياغة سؤاله بشكل أكثر بساطة: - ليه مش بتعترضي وتتمسكي ب اعتراضك!
ليه معتبرة نفسك ديكور جميل يحركه ويشكله صاحبه زي ما هو عايز! ليه ملكيش رأي.

ثم غمز وهو يذكرها: - حتى الدكتور إياه، طلعتي منفذة كل خططه بالحذافير
ارتفع حاجبي يزيد، ف هو يعرف بأصل الأمر منذ البداية من خلال ما سرده إبراهيم. وتحولت نظراته المدهوشة لأخرى متفاجئة حينما قبض يونس بقبضته القوية على ذراعها وهو يجتذبها ويصيح فيها: - أنتي فين؟ شخصيتك فين ولسانك فين!
ثم هزّها من جديد بينما هي تنتفض غير متوقعة كل ذلك منه وكأنها ما زالت في صدمة: - قولي لأ هروح وأشوف بابا غصب عنك، قولي لأ.

نهض يزيد ووضع يده على كتف يونس يحاول أن يجعله يتراجع و: - مش كده يايونس إيه اللي جرالك فجأة!
دفع ذراع أخيه ولم يأبه له وهو يكرر فعلته بصوت هادر ارتعش له صدغهِ: - بقولك قولي لأ
ف كررت بصوت مرتفع قليلًا: - لأ
وكأنه لم يكتفي بها: - بصوت أعلى
فصرخت في وجهه وهي تدفع ذراعه عنه بأقصى قوة لديها: - لأ.

تدخل يزيد من جديد محاولًا الفكاك بينهم خاصة وأن ملك قد تبكي في أي وقت أو تتابع صياح وصراخ لن يقوى أيهم على صدّهِ: - ما خلاص يايونس، الله!
ف التفت إليه يبرر تصرفه ضدها: - لازم تتعلم، لازم تواجه مش تهرب. لازم تعترض وتقول لأ. هي مش عروسة لعبة في أيد أي حد.

وفجأة استمع كلاهما لصوت اصتكاك وتكسير وتهشيم، حيث سحبت ملك مفرش المائدة بكل ما عليه من أطباق وصحون وكؤوس ووقع كله أرضًا مُحدثًا فوضى وأصوات مرتفعة. انتبه كلاهما لها ولنظراتها المغتاظة التي شملت كلاهما قبيل أن تنظر ل يونس تحديدًا وتسأله بصوت ممشوج بالصياح: - كده كويس؟!
تنفس قليلًا وأجاب: - مش بطال
ف حدجته بتحدٍ وقالت: - أنا عايزة أروح لبابا
- بكرة الصبح ه..

قاطعته كما كان يفعل هو دائمًا وأردفت برفضٍ قاطع: - لأ، النهاردة
وكأنه هكذا انتصر في أن يُدرسها أولى دروس الحياة التي ستتعلمها، وعلى الفور أجاب: - أطلعي غيري هدومك
ف التفتت لتغادر، في حين جلس يونس وهو ينظر لما أفسدتهُ، ولم يسلم من توبيخ يزيد له: - إيه اللي عملته ده! انت اللي بتعلمها التمرد؟ أنا مش مصدق!
- وماله، خليها تتمرد
ورفع بصره نحو شقيقه و: - أحسن 100 مرة من إنها تخذل نفسها بنفسها.

ثم عاد يُرخي كتفيه و: - أنا كده مرتاح
وصول القاهرة استغرق منهم بالضبط ساعتين وبضع دقائق، ولكن الوصول إلى منزل إبراهيم كان صعبًا في ظل الزحام المروري. ولكن في النهاية وصل بها.
ترجل يونس عن السيارة أمام المبنى العتيق، نظر حوله قبل أن يفتح لها الباب، حيث كانت العيون عليهم لسبب غير معلوم. هبطت ملك عن السيارة ورمقته بنظرات ساخطة وهي تقول بتبرم: - انت ليه محسسني إنك البودي جارد بتاعي!

ارتفع أحد حاجبيه قبل أن يقترب منها بوجهه قائلًا: - أنا! يونس ابن حسن الجبالي! يبقى الحارس بتاعك انتي يابنت إبراهيم الجبالي!
وكأنها تعلمت الدرس جيدًا، ف لم تتوانى في إثبات إنها تلميذة جيدة تتعلم بسرعة وقالت: - أنت أصلا متطولش توصل للمكانة دي
ف ابتسم وهو يعود لوضعيته الطبيعية و: - لأ شاطرة، عجبني الرد الحقيقة
- أنتوا هتفضلوا واقفين كده كتير ولا إيه!

قالها يزيد بعدما صفّ سيارته بالجانب الآخر وهبط عنها، ثم استبقهم وصعد وهم من خلفهِ.
طرق على الباب رغم إن بحوذته نسخة أخرى من المفاتيح ولكنه أراد أن يفتح عمه بنفسه.
فتح إبراهيم الباب وانبعج فمه وهو يستقبله: - أهلًا يابني، تعالى
- يونس معايا ياعمي
وكأنه لم يقدر على إضافة شئ آخر، ف فتح إبراهيم الباب على مصرعيه وهو يستقبلهم بحفاوة: - يا ألف أهلًا وسهلاً، تعالو ياولاد أدخلوا. نصيبكم تتعشوا معايا.

دلف يزيد وهو يحمحم وينظر ل يونس الذي دخل في أعقابه. لم ينطق كلاهما، دخول ملك من الباب نطق بدلًا عنهما ليظل إبراهيم محدقًا للحظات، حنّ ورق قلبه. كأنه ارتوى بعد ظمأ طويل. تعقدت أنفاسه المضطربة وكأن صدره لم يتحمل سعادتهِ برؤيتها، بينما كانت هي في حيرة. هل تسعد لأنها تراه أن تعابته لما هي به بسببه وبتعليمات مشددة منه!
أحنت بصرها قبيل أن تردف بصوت خافت: - أزيك يابابا؟

فتح ذراعيه لها، ف خطت ببطء نحوه حتى انتشلها وضمّها بعطف أبوي مستسلمًا لمشاعره الأبوية الجارفة التي تتوق لعناقها. حتى لم يأبه ل آلام ضلوعه وصدره الذي ضغط عليه، كأنه يُشبع مرارة الأيام التي كانت تخلو منها. تمسكت به رافضة الترك أو الإبتعاد، وبصوت هامس معاتب أردفت: - ليه عملت معايا كده؟ أنا صدقت إنك حسيت بيا!

ابتعد عنها ومسح تلك العبرة قبيل أن تنزلق من عينها، ثم قال بقناعة شديدة وبدون أن يتراجع لوهله: - ده كان عشان مصلحتك ياملك، بكرة تحسي بيا وتشكريني
هزت رأسها بالنفي و: - أنت أذتني أكتر
دلف يزيد للمطبخ وهو يقول: - مش وقته الكلام ده
خرج وهو يحمل زجاجة مياة باردة و: - ياريت نوفر أي عتاب لبعدين، الراجل مش ناقص هم على همه
حدق فيه إبراهيم ف كفّ عن التحدث، بينما تسائلت ملك منتبهه لما قيل: - همّ إيه؟

ف تدخل يونس بعدما جلس تاركًا الجميع واقفًا: - عمي كمان مضايق من غيابك، مش ناقصة تزوديها عليه. أقعد ياعمي
جلس إبراهيم بعد أن أجلسها بجواره و: - خلينا في المهم، أنتوا إيه اللي رجعكم فجأة كده!
ف أطرقت رأسها لحظة قبل أن ترفعها مجددًا وهي تنظر نحو يونس قائلة: - أنا اللي أصريت آجي أشوفك
ف سخر يزيد وهو يعقب: - هي فعلًا كانت مُصرة إصرار مُكلف جدًا.

قرع أحدهم على الباب وكأنه يُطالبهم بدين أو ما شابه، ف امتعضت تعابير يزيد وهو يخطو نحو الباب وفتحه فجأة، ثم هبّ منفعلًا في ذلك الرجل الذي رآه أمامه بدون حتى أن يسأل عن هويته: - إيه يابني انت! هي زريبة أبوك عشان تخبط عليها كده!؟
تخلل محمد ببصره للداخل بكل تبجح وبدون استحياء و بدون أن يهتم بما قاله يزيد: - ملك فين؟

ف تمسك يزيد بياقته وهو يضم قبضتيه نحو عنقه متعمدًا الضغط على أنفاسه وهو يهدر به: - لا ده انت عبيط بقا وعايز حد يعدلك دماغك
نهضت ملك من مكانها مفزوعة بعدما التقطت صوت زوجها السابق. ونهض يونس بعدما اشتبك أخيهِ مع مجهول الهوية بالنسبة لهم، حاول يونس الفضّ بينهم وهو يزجر محمد بنظرة حادة. وعلى الفور لحق بهم إبراهيم وقد صُدم برؤية محمد هنا الآن و: - محمد!

قام يونس ب إبعادهم عن بعضهم وفككهم، فتسائل يزيد بعصبية وهو يشير نحو محمد ب احتقار: - أنت تعرف المهزأ ده ياعمي!
اقتحم محمد المنزل بوقاحة شديدة وهو يدفع يزيد قائلًا: - أنا جوز بنته، انتوا اللي مين؟
وما أن وقعت عيناه على ملك وهي تقف مرتجفة مذعورة حتى انتشى وهو يقول: - بقالي كتير بدور عليكي
صفع يونس الباب كي لا يتسرب صوتهم للخارج، وقال بعصبية: - أنت مش طلقتها يابني آدم! بتدور عليها ليه!؟

وقف أمامه يسدّ عنه رؤيتها أو تسديد نظراته المحتقنة لها، في حين تدخل إبراهيم وقد ضاق ذرعًا: - مش فضيناها سيرة وكل واحد راح لحاله يامحمد، مراتك إيه وكلام فارغ إيه! أنا كل ده مراعي العشرة ومش عايز أتصرف معاك بشكل مش هيعجبك.

تلوت شفتي محمد وهو ينظر ل إبراهيم تارة ول يزيد تارة أخرى ثم ألقى بالقنبلة الموقوتة بين أحضانهم وهو يردف بسماجة شديدة: - رديتها، رديتها غيابي والمحضر راح بيتكم التاني ملقاش حد عشان يبلغه
تحرك محمد خطوتين للجانب كي يتمكن من رصد تعابير وجهها في هذه اللحظة، وتابع مضيفًا: - يعني ملك دلوقتي مراتي شرعًا وقانونًا وحقي آخدها حالًا.

أنفعل إبراهيم ولم يستطيع أيًا من الشابين التدخل في الأمر بعدما أصبح حساسًا هكذا، خاصة وأن يونس تحديدًا لا يعلم ما وراء قصتهما.
جأر إبراهيم قائلًا: - ده لعب عيال ولا إيه يامحمد! إزاي تعمل كده من غير ما ترجعلنا!
فأجاب الأخير بغلّ شديد: - حقي أعمل اللي عايزه، محدش ليه حق يلومني بعد ما بنتك رفعت خلع عليا.

لن يقوَ إبراهيم على قول شئ آخر في ظل أن القانون والشرع معه. ف خطى محمد نحوها، فوجد يونس يسد الطريق عليه مرة أخرى. رمقه محمد بنظرة محتقنة و: - وسع ياأخ الله يخليك، عايز أصالح الست بتاعتي.

رغمًا عنه اضطر أن يتنحى جانبًا وهو ينظر نحو ملك التي شحبت ومرّ من عمرها عمر آخر من فرط الذعر لمجرد فكرة عودتها زوجة له. رأى كم كانت مقهورة مصدومة في هذه اللحظة، حينما دنى منها زوجها وسألها ناظرًا لشعرها: - أنتي قلعتي الحجاب ياحببتي!

لسانها ثقيل حتى عن الرد عليه. ف تجرأ هو وصفعها صفعة أدمت شفتيها اللاتي اصطدمت ب أسنانها، تشنج يزيد وكاد يتدخل وهو يسبّه سبابًا نابيًا: - يابن ال ××××× يا ×××××
أمسك به يونس كي لا يتورط معه. وكأنه سيتركها الآن، وقال بفتور لا يناسب غليان صدره: - ملناش دعوة، دي مراته
ف رمقته بنظرة تلوذ لمساعدته و: - يون..

قطعت صوتها مع رؤية نظرة عينه التي تحدثت بالكثير، كأن عبارة مفيدة كونتها من نظرة واحدة. ف صمتت وهي تنظر لزوجها المزعوم الذي قبض على ذراعها وجرّها من خلفه: - هنكمل عتاب في بيتنا ياحببتي
سارت خلفه وهي تنظر لوالدها و: - بابا!
ف تحرك إبراهيم نحوها وقد تألم ألمًا أقوى وأعنف و: - بنتي! يامحمد آ..
وضع يونس ذراعه أمامه يمنعه من التدخل: - عمي. متدخلش
- يايونس آ..
ف نظر الأخير نحوه و: - خلاص ياعمي.

صفع محمد الباب بعدما حصل عليها بذلك الشكل الذي ظنهُ سهلًا. بل وأسهل مما توقع، بينما كانت هي تبكي بحرقة شديدة كأن قلبها سيتوقف الآن من شدة انقباضتهِ.
لم يكن يزيد راضيًا عن تخاذل يونس وتركها به بسهولة، وعبر عن ذلك بصوت مرتفع: - ملكش حق يايونس! إحنا نعرف منين هو هيعمل معاها إيه!

وقف يونس خلف النافذة ينظر إليهم. حتى رآهم وقد خرجوا من المدخل، دفعها محمد بهمجية حتى أجلسها في السيارة، ثم جلس بمكانه وبدأ يستعد المغادرة.
تراجع يونس عن النظر إليهم وخطى موفضًا نحو الباب، ف استوقفه إبراهيم و: - انت هتعمل إيه! ووقفتني ليه يايونس؟
فسأله يونس سؤال ذات مغزى: - أنت محتاج جوز بنتك في حاجه!
تنغض جبينه و: - يعني إيه!؟
- يعني متشغلش بالك. مالك هتبات معايا في المزرعة النهاردة.

خرج يونس وهو يخرج هاتفه متمتمًا: - أنا غلطان، كنت لازم أكون عارف كل حاجه قبل ما أغامر وآجي بيها هنا
أجاب عيسى على اتصاله، ف أردف يونس: - أيوة ياعيسى، هبعتلك لوكيشن على الواتساب تيجي عليه ضروري. عندنا حوار كده وهنخلصه
وسرعان ما استقر بداخل سيارته وتحرك بها، حتى يزيد لم يلحق به عندما نزل من خلفهِ وكأنه طار من على الأرض كي يلحق بهم ويبدأ ثأر جديد من أجلها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة