رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون
ظهر الألم على قسمات وجهه، مرت نصف ساعة كالدهر، قد تظهر بأنها دقائق قليلة، لكن بالنسبة له كأعوام عديدة، تنهد بيبرس للمرة التي لا يعلم عددها، قلبه يخفق بخوف من أن يُصيبها مكروه، هي آخر أمل لديه ليُحارب من أجله، لا يعلم متي تسلل حبها لقلبه، لكنه بات مُتيقن بوقوعه بها وبعشقها، تنبهت حواسه عندما شعر بمقبض غرفة العناية القابعة بها يُفتح بهدوء، ليظهر من بعدها الطبيب وهو يتخفي في زيه الرسمي، ليهرول بيبرس تجاهه متحدثًا بلهفة: جيسيكا. أيها الطبيب طمئِن قلبي، كيف حالها!
ابتسم الطبيب بود عندما رأي خوفه ولهفته الواضحة، ليقوم بخلع الماسك عن وجهه الكمامة ليظهر من خلفها وجهه المجعد قليلًا ولحيته التي يُزينها بعض الشعر الأبيض مما زاده وقارًا، ليردف بهدوء حتى يتمكن من تهدأته: لا تقلق بُني، فقط هي بعض الكدمات في جسدها وقمنا بتقطيب جرح معدتها، لذلك أخذنا كل ذلك الوقت، ستُنقل بعض قليل لغرفة عادية ومن بعدها يمكنك رؤيتها.
نظر له بسعادة ولم يشعر بذاته إلا وهو يحتضن الطبيب صارخًا بفرحة: شكرًا لك، شكرًا كثيرًا. شكرًا حقًا.
قهقه الطبيب وعيناه تسير عليه بسعادة، ليقول بحنان أبوي صادق: تُذكرني بحماقة إبني يا فتي.
شعر بيبرس بالحرج من تصرفه الأهوج فرد عليه بود عندما قارنه بولده متذكرًا والده الحنون المتوفي: أدامه الله لك أيها الطبيب.
غامت عينيّ الطبيب بالحزن ليتشدق بحشرجة خرجت رغمًا عنه: هو في مكان أفضل بكثير الآن، لقد توفاه الله منذ سنوات قليلة.
نظر له بيبرس بحزن، فكلاهما مثل الآخر، هو فقد ابيه الحنون، والاخر فقد ولده العزيز، ليشعر كلاهما بالنقص، أحيانًا توقع بنا الحياة في أشخاص شبيه لحالاتنا، لكن الآن أصبح متيقن من ذلك، أجابه بحزن وهو يربت على كتفه بحنان: رحمه الله، يمكنك أن تعتبرني كإبنك منذ اليوم وأنا أعتبرك أبي إن لم تُمانع بالتأكيد.
نظر له الطبيب بفرحة عارفة، لا يعلم لما شعر معه بكل تلك الألفة منذ رؤيته، حقًا يشبه ولده في كثيرٌ من الصفات، وأهمها حنانه، خلافًا عن عيناه التي تشبه الأمواج في تلاطمها كخاصته، لذلك أردف مسرعًا: بالطبع لا أمانع عزيزي.
احتضنه بيبرس بحنان طفل إفتقد الشعور بالأمان منذ صغره، ليبادله الآخر بحب وكلًا منهما أكتمل بالآخر، كم هي عجيبة تلك الحياة، تأخذ مِنا أشخاصًا لتُبادلنا بغيرهم لنتعلق بهم كتعلقنا بالأسبقين تمامًا.
ابتعد عنه بيبرس عندما وجد جسد جيسيكا موضوع على العربة، ليربط الطبيب على كتفه قائلًا: إذا احتجتني فأنا بمكتبي في أي وقت، وبعد الإنتهاء من رؤيتها تعال قليلًا.
أومأ له بحب، ليذهب خلف جسد معذبته للغرفة التي تم إحتجازها بها، انتهي الممرضون من وضعها على الفراش بعد حرصهم على وضع كل ما يلزمها بجانبها، جلس بيبرس على المقعد المجاور لها، ممسكًا يدها بحب، ثم طبع عليها قبلة حنونة مطولة بث فيها خوفه وقلقه عليها كل تلك الساعات.
مسح بيده على شعرها الأحمر الناري ليهمس في أذنها بوله بعدما أقترب منها: استيقظي شُعلتي، فقد إشتقت لكِ وبشدة.
لم يجد منها إجابة وهذا ما توقعه، لكن يريدها أن تفتح عيناها، يريد التأكد من أنها بخير، يريد التحقق بنفسه بأنها على قيد الحياة ولم تتركه وحيدًا كالآخرين، هو أكثر من يعلم مرارة الفقد ويشعر بآلامها جيدًا، ولم يكن مستعدًا لخسارتها هي الأخري، شعلته الحمراء كما أسماها.
قبل يدها للمرة التي لا يعلم عددها، يلتمس من دفئ كفوفها الراحة والإطمئنان، شعر بالنعاس يداهمه، فهو منذ ليلة أمس لم يذق طعم للنوم وبقي مستيقظًا طيلة الوقت، إنحني للأسفل ووضع رأسه على كفها ناظرًا لها للمرة الأخيرة قبل أن يذهب في ثبات عميق وقلبه مُحمل بالراحة.
وللكلمات وقعٌ فعَّال على النفس، فإما أن يؤثر عليه بالإيجاب وإما بالسلب، والخيار الثاني هو الأنسب عندما إستمع لحديث الطرف الآخر، لقد هرب عدوه اللدود مرتضي الرفاعي من سجنه، كل محاولاته للزج به داخل جدران السجن ليتعفن فيه ذهبت هباءًا، كان عليه قتله بدلًا من السير وراء ذاك القانون السخيف، هدر صارخًا على الطرف الأخر: هِرب إزاي يعني! هو لعب عيال!
قطب صديقيه جبينهم بتعجب فتسائل عمر بحذر من حالته: مين دا اللي هرب يا يزن!
لم تأتيه الإجابة سوي تحطيم يزن لهاتفه بغضب شديد وهو يصرخ به بحدة: مرتضي الرفاااعي هرب، هرب يا عمر. فضلت تقولي خلي القانون ياخد مجراه ومتتصرفش بتهور، وأديه هرب، يأخي طظ فيك إنت والقانون واللي مشغلينك.
ذهب إليه مراد محاولةً لتهدئته، ولكنه فشل أمام ثورته العارمة، كان الجميع ينظر لغضبه ولا يوجد شخصًا منهم يعلمُ ما يدور بخلده، عائلته بخطر الآن، ومن الطبيعي أن يحل بهم الأذي، زوجته، وااااه على زوجته التي يحمل خوفها في أكتافه، لن يسمح لأحد بأذيتها حتى ولو كان الثمن هو حياته.
كانت ضحي تري غضبه الجم بمظهر تراه لأول مرة، توجست منه خيفة وهي تري عروق رقبته التي برزت من الغضب، وعيناه التي كانت كالشرار، غير صوته الذي كان يزأر كالأسد الجامح، لكن هي فقط من علمت أنه كان كالأسد الجريح، أصبحت تعلمه وتعلم جميع إنفعالاته، تعلم نقطة ضعفه ومصدر سعادته، بادت تحفظه عن ظهر قلب، وكيف لا تعلمه وهو من علمها أبجدية العشق لتسير على نهجها! هل لها أن تنسي قوانين عشقه التي وضعها بنفسه جاعلًا إياها تحفظها عن ظهر قلب!
لعقت شفتها السفلي التي جفت من التوتر، مررت نظرها تجاهه وهو يتركهم متوجهًا لغرفتهم، حيث ملاذهم الأول والأخير، لذلك صعدت خلفه مسرعة وهي مستعدة لتحمل نوبة غضبه التي سيصبها عليها، لكن إذا كان ذلك سيريحه فلا بأس.
أمام بالأسفل، هبطت دموع فريدة بأسي وهي تتحدث بوهن: مش عايزين يسبوه في حاله، بعد كل السنين دي كلها لسه عايزين يأذوه، لسه عايزين يعذبوه ويرجعوا الماضي معاهم، الماضي اللي فضل أكتر من عشر سنين بيحاول يمحيه. بس هما بيدمروه أكتر.
إحتضنها عصام من جهة وكذلك آيات التي تبكي على أخيها ووالدتها من جهة أخري، بينما الصديقين إسود العالم من حولهم، ما يصيب صديقعهم يصيبهم بنفس مقدار الأذي بل أكثر، تلك العلاقة التي لا يفهمها الكثيرون، ولكن الذي يربطهم ما هو إلا رابط الدماء الذي يجري بعروقهم، ضغط عمر على فكه بقوة، يحاول تهدأة ذاته عله يجد مخرجًا لتلك الأزمة، ليحيط به ذراع مراد التي التقت حوله كتفه وهو يقول بإصرار: كل حاجة وليها نهاية. اهدي عشان نوصل لحل مناسب.
وضع عمر رأسه بين كفيّ يده بعدما جلس على مقعد قريب منه وهو يتنهد بألم: كنت فاكر إن كل حاجة خلصت يا مراد، بس دلوقتي بهروب مرتضي من السجن يعني الراس الكبيرة بقت على علم باللي حصل للشحنة وبيع يزن ليه ومش هيسيبه لا هو ولا إحنا.
جلس مراد بجانبه يحاول مواساته ولكن صمت عندما بدأ القلق ينهش به بلا رحمة.
صعدت ضحي خلفه مسرعة تحاول اللحاق به، لتلحقه قبل أن يدخل الغرفة، لتجده يقف أمام الشرفة الكبيرة المطلة على الحديقة الخلفية للقصر، اقتربت بهدوء وهي تشجع نفسها على الإقدام، فهي متأكدة بأنه لن يقوم بآذيتها نهائيًا، وضعت يدها على كتفه فلم يكلف نفسه حتى للإلتفاف لها، ضغطت على شفتيها بتوتر ثم أقتربت لتحيط ذراعه القوي بخاصتها، ثم أردفت بحنان: ممكن أعرف إنت متعصب ليه! مش معني إنه هرب إن الدنيا وقفت. هيتقبض عليه تاني ومن كلامك واضح إنه متوصي عليه جامد.
ماذا تقول تلك الحمقاء! هل تظن أن الأمر بكل تلك السهولة! بالطبع، هي لا تعلم بأنها مرتضي أحد أعضاء رجال المافيا الأكثر خطورة بالعالم، لا تعلم بأنه نقد عهده معهم، ومن الممكن أن يكون الثمن هو حياة أحد من أفراد عائلته، أو ربما هي!
إستدار لها بجمود ليتخطاها ولكنها لن تتركه هكذا، هي تعلم أنه حزين ولكن يُظهر عكس ذلك بحالة الجمود التي يؤديها، اوقفته بسرعة لتقف أمامه مرة أخري متحدثة بحنان: يزن اتكلم. قول أي حاجة. متفضلش ساكت كدا. انت بتوجع قلبي بسكوتك دا.
عايزاني اتكلم أقول إيه يا ضحي، عايزاني اقولك إن هروبه دا مش حاجة سهلة زي ما انتي مفكرة! عايزاني اقولك إن حياتك وحياة كل فرد في العيلة دي في خطر! عايزاني اقولك إني ممكن أنام وأصحي ألاقي حد فيكوا مقتول! عايزاني اقولك إن دي شبكة مافيا ممكن بسهولة يخطفوا حد من العيلة دي ويعيش نفس اللي عيشتوا زمان! عايزاني أقولك إيه ولا إيه بس.
كانت الكلمات تصعد من فمه بثقل وكأنه كان يحملها على قلبه ولا يستطيع التنفيس عنها.
ص.
ُدمت هي من حديثه، لم تكن تتوقع أن الأمر بتلك الخطورة، وكيف لها أن تعلم وهي عاشت حياتها كلها بعيدًا عن كل هذا! هي كأي فتاة كانت بعيدة كل البُعد عن حياة الأغنياء، وك كثيرًا من الفتيات كانت تتمني أن تعيش حياة القصور، ولم تكن تعلم ما بداخلها أو بالمعاناة التي تواجههم، وما الذي سيعانوه أبناء القصور وهم بكل هذا النعيم! هكذا كانت تُحَدِث نفسها، والآن علمت ما يحدث، أحيانًا يكن المال نقمة في حياة الإنسان وليس نعمة، حينها يكون الفقر أفضل بكثير مما يتمنوه.
حاولت إخراجه من حزنه وهي تضرب كتفه بكتفها قائلة بمزاح: ما خلاص بقا يا يزونتي. سبتلي إيه كدا لما انت تنكد عليا كل شوية!
علم بأنها تحاول إخراجه من مزاجيته السيئة لذلك ابتسم بهدوء مقررًا السير معها، ليردف بمشاغبة: ما انتي طول عمرك منكدة عليا. سبيني براحتي بقا.
رفعت حاجبها بإستنكار وهي تلوي شفتيها بسخط: الحق علياااا، وانا اللي بفرفشك وبنعنشك ومخلاياك ولا علاء الدين في زمانه.
يا بتتتتت.
نطق بها مستنكرًا، لتؤكد له وهي ترفع رأسها بكبرياء: انكر بقا خلينا نخسر بعض. دا انا اللي عاملة للبيت المنيل دا حِس والله.
اصدر صوت من فمه يدل على السخرية متشدقًا: انتِ وسُمية ما شاء الله. بتصحوا الواد عمر بصريخ وتنيموه بصريخ.
رفعت كفها أمام وجهه تمنعه من إسترسال حديثه وهي تقول بغضب: لو سمحت يا أخ يزن. كله إلا سُمية. وكمان صحيح فكرتني، بقالها يومين حاسة إنها تعبانة نبقي ناخدها ونكشف.
اه. كنت خلفتها ونسيتها انا.
جراااا اييييه يا يززن. بقولك ايه كله إلا سمية، لو حصلها حاجة طلاق تلاتة منك لأخرب البيت دا على كل الموجودين.
ضحك بشدة على حديثها، فمعاملتها ل حيتها أفضل بكثير من معاملتها لأخيها، وكأنها إبنتها البِكر وأول فرحتها، ليتحدث ضاحكًا: ومالو. نكشف لسمية إحنا لينا بركة إلا هي! المهم الجميل ميزعلش.
ابتسمت ببلاهة لحديثه وكأنها لم تكن غاضبة منذ قليل ليهز رأسه بيأس من تصرفاتها الصبيانية، آخذًا إياها بأحضانه قبل أن يقول بهمس: مش عارف من غيرك كان مين اللي هيهون عليا.
الله. الله. يا استاذ انت وهي.
من قال أن البُعد يقلل من المحبة فهو مُغفل، بل البعد يزيد الإشتياق، الأمان، الحنان، وأخيرًا الحب.
لم ترهُ منذ ثلاثة أيام كاملة، لم تسمع صوته، وأحاديثه، ومزاحه، الآن باتت متأكدة بأنها وقعت في شباك حبه، تنهدت رزان وهي جالسة على طاولة الطعام مع والدتها، ليتبادل أخيها مع والدتها النظرات المتعجبة من حالة الشرود التي أصبحت تلازمها منذ عدة أيام، سألها أخيها متعجبًا: مالك يا رزة. عاملة ولا كأنك عندك كومة عيال ومش قادرة على تربيتهم.
تنبهت له ولحديثه، لترفع حاجبها بإستنكار متشدقة: حِل عني يا منتصر الله يستر عرضك.
نظر لها شزرًا معقبًا على حديثها: انتي يابت بتجيبي الألفاظ دي منين. أومال فين رقة البنات!
في الحمام يا خفة.
نظر لها بقرف وهو يلوك الطعام بفمه مردفًا: اخييي عالقرف اخييي.
تحدثت والدتهم بعد أن كانت تتابع مشاكستهم الدائمة في ملل، لتقول بعد أن وجهت حديثها لرزان: كنتِ سرحانة في إيه يا روزا!
أجابتها بلامبالاة مصطنعة وهي تتصنع تناول الطعام: ولا حاجة يا ماما. بفكر بس في الدراسة عشان أنا آخر سنة السنادي.
طالعها أخيها بنظرات متفحصة أدت إلى إرتباكها وكاد أن يتحدث بشك، لكن صدح هاتفه برنينه ليجيب عليه بمزاح عندما لمح إسم صديقه عمر ينير شاشته: وحشني والله يابو الصحاب، ليك وحشة يا بيبي.
نظرت له رزان بقرف لتقول بسخط على حديثهم: ما تتعدل ياخويا منك ليه. دانتوا عالم مقرفة.
سمعها عمر من الناحية الأخري، ليطرق قلبه طربًا لها، فقد ظل أكثر من يومان لم يراها بهم، وللحقيقة فلقد إشتاق لها حد اللعنة، ليجيبها بمراوغة: خلي اختك البومة دي تسكت يا منتصر. كل ما اجي اخد خطوة في موضوعنا يحصل مشكلة.
قطب منتصر جبينه بعدم فهم مرددًا: خطوة إيه مش فاهم!؛
ثم نظر إلى رزان يهتف: بيقولك أسكتِ يا بومة.
شهقت رزان بعنف وهي تقول بردح: ألوان بيتكلم. أول مرة أشوف ألوان بيتكلم.
جز عمر على أسنانه بغيظ وهي يهتف بصوت هادئ سمعه منتصر: يخربيت لسانك اللي زي المبرد. مغلطش لما سميتك بومة.
قهقه منتصر عاليًا وهو يستمع لحديثه مما أدي إلى غيظ رزان وشعورها بالإنفجار تجاهه، وإن جاءت للحق فهي أيضًا قد اشتاقت لمشاكسته، أو ربما إشتاقت له هو!
ابتعد منتصر عنهم وهو يستمع لحديث عمر الجدي بعدما تغيرت نبرة صوته إلى الصرامة: منتصر إنت الحمد لله بقيت كويس وهتفك الجبس بكرة، عايزك تجيلي بعدها على طول.
في إيه يا عمر! حاسس إن فيه حاجة إنت مخبيها عليا.
تنهد عمر بحرارة ليتأكد منتصر من شكوكه، بدأ عمر بسرد ما حدث وتلك الشحنة الكبيرة التي قاموا بالقبض عليها أثناء فترة مرضه ونجاحهم في ذلك، بل وقاموا بالقبض على أكبر المهربين ومن ضمنهم مرتضي الرفاعي وينتهي من سرده عن قوله: ومرتضي الرفاعي هرب النهاردة ويزن قالب الدنيا زمش هيسكت غير ما يقتله.
كان يستمع له والصدمة ألجمت حواسه، كل هذا حدث وهو لا يعلم عنه بشئ إلا الآن؟ صرخ بغضب وهو يردف: ومقولتليش ليه يا عمر! جاي تبلغني دلوقتي! افتكرتني بعد ما خلصتوا! إنت أكتر واحد عارف إني كنت مستني المهمة ي من زمان عشان اجيب حق اخويا.
أغمض عمر عينه بقوة يحاول السيطرة على أعصابه المتلفة، أيكفيه ما حدث بيأتي منتصر الآن ويزيد الطين بلة بصراخه؟ تنفس بعمق ثم تحدث على مهل: يا منتصر حالتك مكنتش تنفع إني أقولك.
ليه شايفني مشلول!
لا كنت شايفك متعافتش بشكل كامل عشان اقولك، ولو كنت قولتلك كنت هتأذي نفسك وتصمم تيجي، وكان ممكن للمرة التانية اخسرك.
ابتلع منتصر ريقه بألم وهو يحمل نفسه الذنب، فحق أخيه المهدور لم يأخذ هو بثأره ولكته انتبه لحديث عمر القائل: المهم يزن دلوقتي طالب مننا نتجمع كلنا عشان شكلنا هنطلع الطلعة دي تاني بعد هروب مرتضي الرفاعي، وكل الأسرار هتتكشف بس الخطر هيبقي أزيد.
ظهرت أنيابه واحتدت عيناه وهو يقول بتصميم: هعدي عليك بكرا وانا راجع من عند الدكتورومش هتأخر.
تمام يا صحبي. صمت ثم أكمل ممازحًا: وبالمرة نزيد حبل الوِد ونقرب أكتر يا بيبي.
خرج منتصر من حالته ليضحك بخفة وهو يقول بمرح: حاسس إن البت رزان معاها حق. اللي يسمعنا يشك فينا فعلًا.
مش قولتلك عشان تبقي تسمع كلامي يا معفن.
نظر خلفه فوجد شقيقته تمسك بثمرة من الجزر وتقضمها بعنف وكأنها تحارب معها بينما تنظر تجاهه بسخط، لتكمل حديثها مردفة: انا مش عارفة انتوا مش بتخافوا ربنا!
تحدث عمر بضجر من الناحية الأخري عندما استمع لحديثها: اختك دي عايزة خنجرين عشان نرتاح منها.
ضحك منتصر بعنف وهو يستمع لمشاكستهم الدائمة، لتخطر بباله فكرة خبيثة عندما أغلق عمر الهاتف بعدما ودعه بود، ليتصنع منتصر الحديث معه وهو يقول بسعادة مزيفة: اي دا بجد! وأخيرًا هتعملها يا برنس، هتخطب! ومين تعيسة الحظ دي بقا!
كل ذلك الحديث المزيف ورزان كانت تقف بصدمة محلها، شعرت بأن الأرض تميد بها ولا تستطيع التحرك، جف حلقها وشحب وجهها وزاغ بصرها مما استمعت لتوها، لاحظ منتصر ما يحدث لشقيقته، فتيقن مما يفكر به، أخته تخفي بعض المشاعر لعمر، ويبدو أنه كذلك، ذهب ناحيتها وجذبها لأحضانه دون أن يفتح فمه ببنت شفة، لتجفل هي وتحمحم بإرتباك متصنعة الضحك وتردف: هو. هو عمر بجد هيخطب!
لم يرد إحزانها أكثر من ذلك والإكمال بخطته السخيفة، هو الآن تيقن مما برأسه، هل تظنه مغفل لا يعلم بأقل تحركاتها؟ بل هو يعلمها أكثر من ذاته، هي شقيقته الصغيرة وابنته المتدللة، كيف لها أن تخفي مشاعرها عنه، لذلك هز رأسه نافيًا وهو يجيبها: لا دا طلع بيهزر يا روزا.
استمعت رزان لحديثه ومن ثم عادت الحيوية لوجهها لتدفعه بغضب وهي تصرخ: طب وسع كدااا، وسع عشان مشلفطش وشك دلوقتي.
ثم نظرت له شزرًا تاركة إياه ينظر لأثرها بصدمة، ضرب كفاه على رأسه وهي يهمس بيأس: جاية من زريبة والله.
وما الحب إلا للحبيب الأول، تعطيه كل الإهتمام ويبادله هو معك، تنهد عمر بعمق بعدما انتهي من مهاتفة صديقه وسماع صوت تلك الثائرة الصغيرة، لينشرح قلبه وتعود الحيوية لجسده وكأن لسحر صوتها رغم لزاعته مفعولٌ خاص.
قرر الصعود لغرفة يزن لرؤيته والإطمئنان عليه، ليصعد درجات السلم ثم يسير في الممر المؤدي لغرفته ليجده هو وضحي على وضعهم، حيث كان يحتضنها بحنان وهي تبادله كذلك، ليقول بصوت عالي أفزعهم: الله، الله، ايه اللي بيحصل هنا دا يا أوستااذ إنت وهي.
وإنت مالك!
كانت تلك الكلمة تصعد من فم ضحي وهي تحدق به بغيظ لقطعه خلوتهم الجميلة.
ليجيبها بسخط وهو ينظر حوله: لا مالي ومال خالي ياختي، ومالي يا عنيااا. مالي يا ست.
ليأتيه الرد هذه المرة من يزن وهو يبادله نفس نظرات ضحي الساخطة: يابني بطل تتعامل على إنك من أهل البيت دا، إنت معندكش دم؟
تأفف عمر بقوة وهو يجيب بضجر: سمعت الكلام دا كتير غيره بليز يا فوكس.
لم يجد إجابة سوي نظراتهم الحانقة ليكمل: كنت طالع اتطمن عليك واديك زي القرد اهو. تشاو بقا.
ذهب بضع خطوات ليتوقف قبل أن يقول: وصحيح منتصر هيجي النهاردة. العواف معطلكوش.
تحدثت ضحي بعدما ذهب وهي تقول بوله: كنا بنقول إيه!
ضحك عليها وهو يقول بخبث: هقولك كنا بنقول إيه.
خارج القصر.
هناك من يقف يراقب كل تحركاتهم ويمسك بيده بندقيته، مصوبًا تجاه شخصًا ما، ليبتسم بخبث وها قد حصل على هدفه، ليطلق الرصاص على هدفه ويصدح المكان بصوت الصرخات، لتنتهي حياة شخص آخر.
داخل المشفي، ظل بيبرس جالس بجانب جيسيكا عدة ساعات كاملة دون أن يتركها أو يغفل له جفن، كانت نظراته مثبتة عليها بحزن وزاكرته تعود للخلف، حيث مقتل والده العزيز، ذلك الأب الحنون، الصديق والرفيق، كان يمثل له كل شئ، حتى جاءته طلقة غادرة اودت بحياته ليتركه يتحمل مسؤلية عائلته، والتي كانت تتكون من والدته وشقيقه الاصغر وشقيقته الكبري، وبعدها بأشهر قليلة تم قتلهم هم أيضًا ليصبح بلا مأوي.
(قصة بيبرس واللي حصل زمان هتتشرح بالتفصيل بس الصبر)
أحس بململتها وضغط أصابعها الرقيقة على كفه، لينتبه لها بكافة حواسه، مقربًا وجهه منها وهو يقول بلهفة: جيسيكا. عزيزتي هل تسمعيني!
وصل صوته لقلبها قبل أذنها، ذلك العاشق الولهان، لتفتح عينها ببطئ وتراه ماكثًا أمامها ينظر لها بخوف، لتتحدث بإنهاك وصوت منخفض: متي ستتزوجني يا أحمق؟