رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والعشرون
الظلم يهلك صاحبه لا ينجيه، كيف لك أن تفعل الشر وتريد النجاة! لا فوالله ربكُ جبارٌ عزيز، عادل لا يبغي الظلم، قلت منذ مدة أنه كما تدين تدان، وها هو يقف عاجر لا يجد مخرج من مصيبته، خرج مرتضي من عند الطبيب ووجهه شاحب بشدة، شعر بأن الدنيا تميدُ به فاستند على الحائط بجانبه يحميه من السقوط، ومن الذي سيمنعه من عذابٍ في القبر وعذاب الآخرة! لن تساعده سوي أعماله، وأعماله جميعها تغضب المولي عز وجل، ابتلع ريقه بصعوبة وبصعوبة أشد هبط للأسفل وقاد سيارته حتى وصل إلى منئاه حيث يختبئ من العدالة، صعد إلى الشقة الماكث بها وقدماه هلاميتين غير قادرتين على حمله، طرق على الباب عدة مرات ضعيفة حتى فتحت له هدير ورأت إعيائه الشديد فنظرت إليه بجمود، اسندته بعد ثواني من النظر إليه بنظرات غريبة لاحظها ولكن لم يقوي على الحديث، دخل بخطي متهالكة للداخل ثم ارتمي على الأريكة وكأنه جثة هامدة ضعيفة، وأخيرًا خرجت هدير عن صمتها وهي تجلس جانبه واضعة قدمًا فوق الأخري متحدثة ببرود: رحت وعملت التحاليل!
اومأ لها بضعف وغشاوة من الدموع تكونت على عيناه، لتتحدث هي ببرود أشد ونظرات شامتة: عندك الإيدز صح!
رفع رأسه بسرعة ينظر تجاهها وكأن جزء من قوته المهدورة عادت إليه، ليخرج صوته مدهوشًا ممزوج بالشك: انتي. انتي عرفتي منين.
خرج من ثغرها ابتسامة عابثة ثم وقفت ودارت حوله حتى وقفت خلفه فهبطت لمستوي أذنه متحدثة بهسيس: أصل أنا كمان عندي الإيدز، وعلاقتك القذرة معايا هي اللي خلت المرض ينتقل ليك يا باشا.
وكأن الصدمات لا تأتي فرادي، ظل يحصد في زرعٍ فاسد حتى أطرح ثمارًا أكثر فسادًا ليكون هو أول ضحية لزرعته، أدار وجهه تجاهها ووجهه مِصفرٌ من الصدمة، خرج صوته مبحوحًا وهو ينطق بعدم تصديق: انتي بتقولي ايه! انتي اكيد كدابة، انا هتعالج.
دوي صوت ضحكاتها أنحاء المنزل وهي تضرب كفًا على كف قائلة بحسرة من بين ضحكاتها الهستيرية: وانت فكرك أنا محاولتش أدور على علاج! تبقي غلطان، انا طلع عيني عشان الاقي علاج واحد بس للأسف مكنش فيه حل، كل الدكاترة أكدولي إن الأدوية الموجودة بتأخر من موتي مش أكتر، وأنا بصراحة محبتش أموت لوحدي، قلت طالما انت علاقتك كتير وإنسان زبالة، أريح الناس منك ومن شرك وتموت معايا.
عند هذا الحد ولم يعد قلبه يحتمل أكثر، وضع يده على قلبه وأنفاسه أصبحت ثقيلة، ليردف بغل: اه يا بنت ال، ورحمة أمي لقتلك.
ابتلع صدمته ووضعها جانبًا ثم وقف أمامها صافعًا إياها بقوة أدت إلى سقوطها على الأريكة خلفها مما سهّل عليه مهمته التي بدأها للتو، بينما هي شعرت بالتوتر يغلفها من نظراته الحاقدة لتحاول مقاومته ودفعه بعيدًا لكنه سبقها محتحزًا إياها بين ذراعيه ممسكًا بخصلاته ثم قرَّب وجهه منها وهو يتحدث بتهديد صريح: بقا حتة عيلة و زيك عايزة تموتني! عايزة تخلصي العالم مني!
بدا لها أنه على وشك الجنون لتحاول هي دفعه بكل قوتها ولكن ماذا تأتي هي بجانبه الآن! لقد تحول كليًا إلى مستذئب يصعب إيقافه، ولأول مرة بحياتها تشعر بالخوف، وما زاد خوفها هو إستماعها لضحكاته الهستيرية وهو يهذي بفحيح: أنا اللي زي مبيموتوش. اللي زيي لازم يكونوا عايشين. عارفة ليه! عشان انا اللي اقول اموت امتي واعيش امتي.
ماذا يهذي هذا المغفل بحق الله! يبدو فعليًا بأنه قد وصل إلى حافة الجنون، تخلت عن خوفها قليلًا مردفة بإنفعال يغلفه القسوة: متصدقش نفسك يا مرتضي. انت من بين كل التعابين اللي حوالينا دي تعبان صغير ملكش لازمة، فمتديش لنفسك أكبر من حجمها، بتقول إنك مش هتموت! لا يا مرتضي هتموت والدود هياكل في لحمك بمرض ينهش في لحمك، نقلتلك المرض زي ما كنت انت السبب فيه.
لاحظت تحول وجهه لعلامات الإستفهام لتكمل هي بغل واضح لم تكلف نفسها عناءًا لمداراته: ايوا انت السبب، فاكر من شهرين بالظبط، بعتني لواحد زبالة زيك عشان تلف عليه في المناقصة، وطبعًا هدير هي الجارية اللي بتدفع تمن لعلاقاتك وتدخل في علاقات أقذر. من بعدها عرفت إن الراجل دا تعبان ومرضه تقريبًا ملهوش علاج، ولما تعبت وبعدت بعدها اكتشفت إن مرضه انتقل من علاقتنا. وقتها حلفت إني أدفعك التمن وزي ما كنت انت السبب هخليك تدوق العذاب اللي شوفته واللي لسه هشوفه.
كان يستمع لها بعقل مشوش، أعماله السيئة جميعها عادت له بطريقة بشعة، وماذا كان ينتظر هو بعد كل ما فعله من جرائم! أكان يتوقع أن حياته ستكون وردي لا يوجد عليها ذرة غبار واحدة! بالطبع لا، فما فعله يهلكه الآن بقوة أكبر، قبض على عنقها بغل وهو يردف من بين أسنانه بغضب وصل لآخره: هقتلك. هقتلك وارمي لحمك للكلاب يا حيوانة. مش مرتضي الرفاعي اللي يتعمل فيه كدا. وهتعالج. غصب عنك هتعالج وانتي هتكوني اتعفنتي في تربتك.
وضعت يدها بذهول على كفاه القابضة على عنقها تحاول أن تبعده لتلتقط أنفاسها التي أوشكت على النفاذ ولكن محاولاتها بائت بالفشل، شعرت بالهواء ينسحب تدريجيًا من حولها وعيناها منفتحتان على آخرهما بينما وجهها بدأ يتحول إلى اللون الأزرق الداكن، في تلك الأثناء تذكرت كل ما فعلته وما مرت به، يبدو بأنها كانت تضحك على آخر أعمالها، هي لم تكلف نفسها عناء التوبة حتي، لذلك وبعد وقت قليل زُهقت روحها إلى خالقها وعيناها مشخصتان للأعلي وهو يقف أمامها يتنفس بعنف باصقًا على جثتها قائلًا: كلبة وراحت، دلوقتي أو بعدين كنتي هتموتي فريحتك أنا.
ومن أنت يا بني الإنسان كي تحكم متي ينفذ حكم ربك في الحياة، لم تكن بملاك أو حتى نبي كي يبجلك العالم ويسيروا حسب أوامرك، لذلك جاء الحكم الإلهي والذي كان عبارة عن طلقة واحدة عابرة استقرت بمنتصف رأسه لتودي بحياته في الحال.
وعشقي يتلاحم مع عشقك مكونًا رباطًا لا يمكن فك شفراته، بسماتك تنعش من حالة قلبي الحزين، وبهجتك تبعد من حولي الجو الكئيب، نغماتك تسري بين أضلعي ليعيد إحياء قلبي المسكين، سيدتي الأولي والأخيرة، منبع حناني الوحيد والأوحد، أعشقكِ بقدر عشقي لذاتي، نرجسيتي تأتي أمامكي راكعة لأتحول لطفل صغيرٌ، شاردٌ أنتظر أن تُمني عليَّ بحنانكِ الفضفاض، لأغرقكِ أنا بعشقي الملتاع.
|شروق حسن|.
نائمة بين ذراعيه يستشعر دفئ جسدها، ليأتي بخاطره نطفته المتكونة بداخلها، صغيره الحبيب، نعم حبيب، فلقد أخذ جزءًا كبيرًا من قلبه قبل حتى مجيئه على الحياة، فماذا سيفعل عند قدومه! يا الله. فبمجرد التفكير تتسارع نبضاته نبضات قلبه طربًا، ويتسارع معدل الإدرنالين بجسده، ما هذا الشعور التي منحته إياه تلك القصيرة ذات اللسان القصير! قبَّل جبهتها بعمق وكل خلية بجسده تشكرها على هذا الإحساس الذي منحته إياه.
ابتعد قليلًا ليمرر طرف أصابعه على وجهها وكأنه يحفظه للمرة المليون ويحفره كوشمٍ على قلبه المسكين، كان منغمس بإكتشاف وجهها لتأتي جملتها المتأففة والتي جعلته ينظر لها بضجر شديد وهي تردف: بس يا يزن بغير.
لوي شفتيه بضجر وهو ينظر لملامح وجهها المنزعجة متمتمًا بيأس: اكتر واحدة فصيلة في العالم. اقتلك واخلص البشرية منك!
فتحت عين واحدة ناظرة اليه وعلى وجهها يظهر آثار النوم مردفة بتحذير: بتقول حاجة يا بوبي!
ابتسم ابتسامة صفراء وهو يقول: مبقولش حاجة يا قلب البوبي، اتخمدي.
وبمجرد ما أنهي جملته حتى وجدها بالفعل قد استغرقت في النوم وكأنها لم تكن مستيقظة منذ قليل، نظر لها بدهشة ثم هز رأسه بيأس طابعًا قبلة حنونة أخري أعلي رأسها، ثم وقف من على الفراش ليدخل إلى المرحاض، قام بالوضوء لتأدية صلاة الفجر، فمن بعد وعده لها بالإصلاح لم يترك فرضًا واحدًا إلا وكان يصليه بخشوع كبير، وكأنه وجد الراحة والملاذ بين يدي خالقه ليروي له أحزانه وخوفه ويجيبه خالقه ببث الراحة والأمان في صدره، فينهي صلاته وهو شاعرًا بإنشراح صدره وراحة باله التي كان يفتقدها من قبل.
كانت الساعة لم تتعدي الخامسة صباحًا بعد، وكان يشعر بالإنهاك القليل، لذلك تمدد على الفراش مرة أخري آخذًا إياها في أحضانه بقوة وكأنه يخشي فراقها، شرد قليلًا فيما سيحدث بعد ذلك، فالخطوة القادمة هي الخطوة الوحيدة والأقل خطرًا عما سبقت، لكن تحتاج إلى كثيرٌ من التركيز حتى لا تفشل فشلًا ذريعًا يقضي عليهم جميعًا، تنهد بصوت عالي وداخله يردد ماذا تريد بعد! لقد نفذت جميع مخططاتك وبقيت خطوة واحدة ستقضي على الزعيم وأمثاله، إذًا لما كل ذلك الإضطراب! هو نفسه لا يعلم لما كل ذلك الإضطراب الذي تحويه نفسه، أمن الممكن لأن زوجته الآن أصبحت تحمل في أحشائها طفلًا لم يري الحياة بعد! زفر مرة أخري وهو يردد: يارب ألهمني الصواب.
قال تلك الجملة ثم تلي بعض الآيات القرآنية القصيرة وذهب في سبات عميق وهي بين يديه مطمئنة لوجوده بجانبها.
اشرقت الشمس واشعتها تتسلل إلى الجميع بأكثر وهجًا كأنها تخبرهم بأن الشر على وشك الإنتهاء، دخلت اشعتها إلى غرفة هذا الماكث بغرفته وهو يحاول تنقية الحديث محاولات عدة.
زفر بغضب وهو يرمي بفرشاة شعره على الفراش، ليقول بضجر وغضب: لا. لا دي متنفعش، لازم كلام يكون مقنع.
حمحم مرة أخري وهو يمشك بفرشاة شعره للمرة الثانية واضعًا إياها على فمه كأنها جهاز مكبر للصوت قائلًا بجدية وملامحه تحولت للعشق: رزان أنا بحبك. رزان انا بحبك. رزان أنا بحبك وكمان، اووووف، يلعن ابو دي شغلانة مكنش إعتراف هو!
هبط من على الفراش راميًا الفرشاة عليه ثم هتف بسخط بعدما وقف أمام المرآة ينظر لهيئته المشعثة من النوم: أنا هقولهلها خبط لزق وبعدين اخدها ونكتب على طول.
وضع يده على فمه وكأنه يفكر في شئ هام وليس إعتراف صغير منه: ولا ممكن تتخض وروحها تتطلع ساعتها لا هطول هوا ولا ماية.
صمت قليلًا ثم جذب خصلاته بغضب مردفًا: اومااال لو مكنتش مهزقاني عشروميت مرة قبل كدا! انا أروح استحمي واطلع على مراد يجبلي الخلاصة ويقولي أعمل إيه.
وبالفعل قام بالدخول إلى المرحاض وبداخله يتمني لو تتقبل عشقه، هذا الأبله لا يعلم بأنها تبداله العشق من الأساس!
وعلي الجانب الآخر كان مراد يزرع الغرفة ذهابًا وإيابًا بتوتر مُحدثًا نفسه: أفاتح يزن إزاي دلوقتي إني بحب أخته! ياحوستي دا ممكن يقتلني فيها.
عض على شفتيه بتفكير وهو يردد بجدية بحتة: بص يا يزن يابن عمي. واخويا. وصحبي، انا بصراحة كدا طالب ايد اختك وبنت عمي وحبيبتي آيات.
وكأنه علم ما سيحدث بعد ذلك ليضع يده على وجهه بفزع مستشعرًا الألم فيه، ليبتلع ريقه بتوتر وهو ينظر حوله مبتسمًا ببلاهة: ربنا يجعل كلامي خفيف عليه.
ذهب إلى خزانة ملابسه وهو يقول في قرارة نفسه: انا هلبس واروح لعمر هخليه يكلمه. هو كدا كدا مهزق فمش هيفرق معاه.
انتهي من ارتداء ملابسه بعد وقت قصير وكاد أن يخرج من العرفة بعدما حمل هاتفه حتى استمع إلى صوت الباب يطرق بقوة، ليفتح عيناه بفزع مبتلعًا ريقه بصعوبة: هو سمع فعلًا ولا إيه. يالهوي ياما دا هيقتلني.
ازداد الطرق على الباب ليذهب بخطوات بطيئة تجاهه حتى وقف أمامه ليستجمع رباطة جأشه وهو يضع أذنه على الباب من الداخل قائلًا بصوت جعله عادي بقدر الإمكان: م. مين!
ليأتيه صوت عمر الحانق من الخارج وهو يحاول ان يفتح هذا الحاجر: افتح يا زفت. بقالي ساعة بخبط.
زفر مراد براحة، ليفتح الباب وعلى وجهه إبتسامة عابثة، ثم أخذ عمر بأحضانه قائلًا بفرح مبالغ فيه: عمر. ابن عمتي. حبيب هارتي. تعالي تعالي دا انت وحشني موووت.
تشنج وجه عمر من معاملته الملكية تلك، يشعر بأنه دخل أحد الأفلام الأسطورية، نعم هو لا يبالغ فمعاملة مراد المتلهفة له جعله يشعر بالريبة والخوف ليقول بتلعثم: انت. انت عايز إيه مني يا مراد!
ثم وضع يده على ثيابه ممسكًا بها بقوة قائلًا وهو يكاد يبكي: لا. لا سبني في حالي الله يستر عرض بيتك. انا وحداني ومليش حد.
قطب مراد جبينه بعدم فهم، حتى تحول وجهه في لحظة إلى غضب هاتفًا بإشمئزاز: يخربيت دماغك القذرة، انت عايز خرطوم يدخل دماغك ينضفها من التفكير دا يا حيوان.
مط عمر شفتيه بسخط من تحوله، ليقول بعدها بعدم فهم: اومااال إيه المعاملة دي! مش عوايدك الحنية يابن خالي.
عادت نظرات مراد المرتبكة مرة أخري فنظر حوله بإنتباه ثم وقف فجأة وذهب تجاه الباب ليغلقه جيدًا، وعاد لمكانه مرة اخري وهو يقول بهمس: عايز منك خدمة يا صحبي.
ارتفع حاجبي عمر بدهشة ليبتسم بمراوغة ثم عاد بظهره للمقعد الجالس عليه واضعًا قدمًا فوق الأخري وهو يقول يتكبر لا يجيده: كل حاجة بشروط.
جز مراد على أسنانه بغيظ فلو كان لا يحتاج لمساعدته لقام بتكسير عظامه عظمة عظمة حتى يعحز الأطباء عن معالجته ولكن للصبر حدود، ليتحدث بإبتسامة مبتذلة: شروط إيه يا حضرة الظابط.
نفخ على أصابعه ببرود ليقول بعد وقت قصير: انا كمان عايزة منك خدمة.
قام مراد بضرب قدمه بعيدًا عن الأخري ليهتف بصياح غاضب وهو يمسكه من تلابيبه: وحياة أمك! يعني عايز خدمة وكمان بتتشرط وتتنك!
أنزل عمر يده من على ثيابه قائلًا بعبث وهو يضحك يخفوت: بصراحة عجبني جو الإحترام دا. المهم قولي عايز إيه وأنا أكيد معاك.
هز مراد رأسه بيأس وهو يبادله الضحك ليقول بجدية بعدها: بص. انا عايز أفاتح يزن في موضوعي أنا وآيات. عايز أقوله إني عايز أتجوزها بس مش مطمن لردة فعله.
هز عمر رأسه بفهم ولكن فتح عيناه بصدمة عندما أدرك مغزي حديثه قائلًابفزع: أيواا وانا إيه دخلي بالموضوع!
نهض مراد من محله ليجاوره وهو يلف ذراعه حوله: إزاي بقا، دا انت الخير والبركة وزينة شباب البيت دا.
هز عمر رأسه بنفي وهو ينهض من مكانه: وهو انت عايز تقطع زهرة شبابي خالص!
حاول إقناعه وهو ينفي ذلك ليقول بإصرار: لا لا متخافش. انت عارف إن يزن بيحترمك انت أكتر واحد.
حدجه عمر بإستنكار حاد ليكمل مراد حديثه: بغض النظر عن إنك مهزق بس هو بيحبك انت اكتر واحد. ها إيه رأيك يا صحبي هتساعد ابن عمتك حبيبك!
وضع عمر يده على وجهه وهو يهز رأسه بيأس موافقًا على عرضه، ليحتضنه مراد بلهفة وحب فيبادله عمر ذلك بحنان وهو يقول له بمشاكسة: وانت هتساعدني إني اقنع رزان تتجوزني.
خرج مراد من أحضانه ليقول بتعجب: رزان اخت منتصر!
هز عمر رأسه بنعم ليضرب مراد على كتفه بتشجيع: ومالو احنا عندنا كام عمر يعنى!
وما الصداقة إلا علاقة مقدسة لا يدركها الكثيرون، يحتاج المرء إلى صديقٌ يعبر معه مزلات الحياة، صديقٌ يأخذ بيده نحو الصواب لا الهلاك، صديقٌ يحميه بروحه ويفديه بوجدانه، صديقٌ يساندك وقت حزنك ويقف معك حين شدتك، وما أكثر الأصدقاء وما أقلهم وفاءًا.
لا بأس إن كانت الحياة تختبرنا ببعض المواقف، ولكن ماذا إن كان ذلك الإختبار هو القشة التي قسمت ظهر البعير إلى نصفين، فتعود حالتك أسوأ عن ذي قبل! تحاول ألا تسقط في القاع مرة أخري، وألا تجذبك يد الإحباط مجددًا، يجب أن تعافر من اجل ذاتك التي عملت جاهدًا لتطويرها، ستسقط وتفشل وتعاني ولكن ستعود مجددًا.
دخل بخطوات واثقة ورائحة عطره النفاذ تتسلط لأنف الجميع، ها هو مصطفي الرفاعي عاد أقوي عن ذي قبل، دخل مكتبه بوجه جامد وداخله يقسم بعودة شخصيته القديمة، شخصيته المرحة التي دفنتها عائلته المشبوهة، يتذكر صباحًا حين استيقظ على صوت هاتفه وأحد زملائه يخبره بوفاة والدته الخائنة، ليرتمي على الفراش مغمضًا عينه بألم يسحق صدره، فلم يمر سوي الدقائق القليلة ليتعالي صوت هاتفه مرة أخري، ليأخذه بلهفة علَّ أحدهم يخبره بتكذيب هذا الخبر، ولكن الصاعقة التي وقعت عليه هو سماعه لأحد كلمات أصدقائه مرددًا بمواساة: البقاء لله عمك مرتضي اتوفي امبارح بليل.
ليغلق الهاتف وبداخله يردد أصبحت وحيدًا نعم لم تكن بالعائلة المشرفة التي يحزن لأجلها، لكنه حزين على نفسه، أصبح بلا عائلة وبلا مأوي، نعم لديه الكثير من الثروة التي سيرثها عن عائلته، ولكن أي ثروة تلك التي ستُبني دون عائلة!
ظل بعض الوقت متصنم بمكانه فلم يجد سوي الصمت الذي يحيطه، وبعض الدمعات.
دمعات حارقة تسقط على خده لتكون اشبه بالحمم البركانية، دموعه تأتي من أعماق روحه المحترقة بالخيانة، وذنوب ارتكبها رغمًا عنه، ولثاني مرة لم يمانع بالبكاء، بل ظل يبكي كثيرًا حتى أشفق على حال قلبه المسكين، ليقرر العودة من جديد، لذاته، لشخصيته، لروحه، والأهم لقلبه.
لذلك استعد للذهاب إلى عمله ويحرق صفحات الماضي التي لم تجلب له سوي المتاعب، ليرتدي ثيابه التي كانت تتشح بالسواد، فكان يرتدي قميصًا أسود وبنطال يماثله في اللون، وجاكيت ثقيل من الصوف يناسب ذلك البرد القارص.
أفاق من شروده على صوت طرقات ليسمح للطارق بالدلوف، فيحيه الشرطي قائلًا بإحترام: مصطفي بيه سيادة اللوا عايزك.
أوما له بصمت آمرًا إياه بالذهاب، ليذهب هو بعدها لمكتب اللواء مؤديًا التحية العسكرية: تمام يا فندم.
أشار اللواء للمقعد أمامه وهو يقول بهدوء: اتفضل يا مصطفي اقعد.
امتثل لأمره ليقول بتعازي حارة: البقاء لله يابني. أمر الله ونفذ.
ونعم بالله يا فندم. الحمد لله كل إنسان وبياخد اللي يستاهله.
حاول اللواء تنقية كلماته ليقول بعدها بحذر محاولًا ألا يجرح مشاعره: لقينا جثة تانية في البيت اللي كان مستخبي فيه مرتضي الرفاعي واكتشفنا بعدها انها كانت عشيقته، ومع البحث اكتشفنا ان هو مش بس كان بيهرب مخدرات، لا دا كمان كان متعاقد مع مافيا كبيرة وهما اللي قتلوه لما حسوا ان احنا كشفناه.
وعن أي ألم يتحدث عنه الآن وكل الألم يمكث على قلبه، ليبتلع ريقه بصعوبة متحدثًا بحشرجة: عرفت الكلام دا قبل ما اجي يا فندم.
انا طبعًا عارف إن الموضوع صعب وخصوصًا بعد وفاة والدك سالم الرفاعي.
التوي ثغره بإبتسامة ساخرة مرددًا بمرارة: والدي!
قطب اللواء جبينه بتعجب قائلًا: في إيه يا مصطفي!
مفيش يا فندم. انا هعمل كل إجراءات الدفن وهفتح الخزنة وهشوف كل المعلومات المتعلقة بالمافيا دي.
أومأ له اللواء وهو يشكره بإمتنان: وهو دا اللي انا عايزه منك يا بطل. شد حيلك.
استأذن منه مصطفي للذهاب ليختلي بنفسه قليلًا قبل أن يري شاشة هاتفه تنير بإسم يزن الراوي ليجيبه بهدوء قبل أن يستمع لحديثه: مصطفي لو فاضي تعالي الساعة 3 عايزك في حاجة مهمة.
تمام يا يزن. هكون موجود في الميعاد، سلام.
أغلق الهاتف وهو يفكر هل حان الوقت لأخر إنتقام!
ورغم وجودها أمام عينيه كان يحاوطها بنظراته التي تشع حنانًا وتمنحها الأمان، ذهب بيبرس إلى جيسيكا التي تعافت بشكل ملحوظ ثم قبَّل جبينها بعمق لتبادله بسمتها المهلكة بالنسبة له، ليردف بعذاب: اوووه عزيزتي، كُفي عن الإبتسام بهذا الشكل.
أجابته بتسلية وهي تراه يحاول بقدر الإمكان السيطرة على ذاته: ماذا بك بيبرس، أنا لم أفعل شئ يا رجل.
قالت جملتها وهي تتعلق بعنقه، ليقربها منها وهو يهمس أمام وجهها مباشرة: سأهبط وأنهي إذن الخروج بعدها سنتزوج ولن أترككِ تخرجين من أحضاني أبدًا.
ضحكت بدلال ليجز على أسنانه بغيظ ثم هبط للأسفل لإكمال إجراءات الخروج، نظرت لأثره وابتسامة عاشقة تتشكل على ثغرها، فماذا كانت ستفعل لولا وجوده بحياتها، فهي رغم خوفها من تلك المهمة، لكنها ممتنة لها بذات الوقت لمقابلته، تذكرت حين تسللت لغرفته من الشرفة فظنها أحد الجواسيس ليوجه سلاحه تجاهها، لتضحك على تلك الذكري التي تعتبر أولي لقائهم، أفاقت من شرودها بعد مدة لم تتعدي الخامسة عشرة دقيقة فرأته يدلف للغرفة مرة أخري ويرتسم على وجهه ملامح الراحة ليقول بسعادة: سنخرج اليوم من المشفي لقد تعافيتِ بالشكل الذي يؤهلك للخروج.
شاركته سعادته لكنها هتفت متسائلة: ولكن أين سنقيم؟
هز رأسه بجهل وهو يفكر قليلًا حتى أردف: لا أعلم. لكن قبل كل ذلك يجب أن نتجه لقصر الراوي، فالسيد يزن أخبرني بأنه يريد شيئًا هامًا للغاية.
أومأت له بشرود ومن داخلها هاجس الخوف يعود مرة أخري يحتل مكانًا بقلبها، ليلاحظ هو قلقها فيربت على يدها الموضوعة امامه: لا تقلقي. كل شئ سيمر مرور الكرام عزيزتي.
أومأت له بهدوء فهي بالنهاية لا تريد إقلاقه، فهي تعلم بان داخله الكثير من الألم لماضيه، ماضيه الذي لم يرويه لها سوي بضعة اجزاء صغيرة، تعلم بأنه متأذيًا من الداخل بشدة وهي ستكون كفيلة لينسي ألمه وحزنه، هو يستحق كل الحب والحنان، بل ويستحق أكثر من ذلك، يكفي بأنه يعاملها كطفلته، حنانه يغدقها به لتغرق بعشقه أكثر وأكثر، أغمضت عينها براحة تستشعر وجوده ولا تعلم متي وكيف وصلت إلى قصر الراوي بتلك السرعة! يبدو أن التفكير به يحتاج لسنوات عديدة وليس فقط دقائق كما تظن.
ترجلوا الإثنان من السيارة لتستند جيسيكا بيدها على بيبرس الذي مد يده تجاهها وهو يقول بعبث: هل أحملكِ صغيرتي؟
ظن بأنها ستخجل وتقوم بزمجرته، لكنه تفاجئ بها تومئ بشقاوة: أجل احملني.
ضحك بعدم تصديق من وقاحتها تلك، وما هي إلا ثواني ووجدت نفسها تطير في الهواء مكانها على يده، ذهب بها حيث يقف الحارث الذي نظر لهم بغضب وهو يردد: استغفر الله العظيم يارب. ايه دا بس!
تحدث بيبرس بلكنته وهو يتسائل بعملية: هل السيد يزن هنا!
أشار له الحارس بالدخول وهو يحدجهم بنظرات غريبة، فسيدهم أمرهم بدخوله ولكن لم يكن أن يكون الضيف رجل وقح هكذا!
دلف لبهو القصر وجيسيكا مازالت على يديه بنظراتها المشاكسة، ليقول بضحك على مظهرها: ما بكِ يا فتاة تضحكين كالبلهاء!
لا شئ، تذكرت شيئًا هكذا.
هز رأسه بيأس منها ثم أردف بجدية: ما حال لغتكِ العربية، هل ما زلتِ تتقنيها!
حركت حاجبيها بمشاكسة وهي تقول: نعم أجيدها عزيزي وهنا سأتعلمها أكثر من اللازم.
ومع حديثهم المستمر وجدوا أنفسهم يقفون أمام عائلة كاملة تحدجهم بصدمة، ليبتلع بيبرس ريقه وهو يهمس لها: ما بهم هؤلاء يحدقون بنا وكأن على رؤوسنا الطير.
وكان آخر ما سمعوه هو صوت ضحي الصارخ وهي تمسك بمعدتها هاتفة: ااااه بطني، بوووولد. بتخوني يا يزن وجايب عشيقتك البيت!