قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

أحيانًا عليك التخلي للنجاة، التخلي عن ماضيك، عن أحلامك، عن آلامك، والأهم من ذلك التخلي عن قلبٌ نازف استهلكك لتكون شبه روح معذبة، ليكون بمقدورك العيش وإكمال الحياة، ربما ستضيع أهدافك الأولي، لتُشكل أنت أهداف أخري تليق بحاضرك ومستقبلك الذان يقفان على قرارٍ منك، فإما أن تَمحي أو تُمحي.

أنزل بيبرس جيسيكا بخفة من على زراعيه مُسنِدًا إياها، فجرح رأسها لم يُشفي بعد، بينما ضحي عندما رأت تلك الشعلة الحمراء تقف أمامها بقوامها الممشوق، وجمالها الفتاك الساحر لأي رجل، فتحت عيناها على آخرهما تنظر ليزن بتحذير مضحك، وكأنها تحذره من النظر إليها، بينما هو كتم ضحكاته بصعوبة عندما نظر إلى وجهها المتشنج عند حديث بيبرس الهامس مع جيسيكا، اضطرب قلقًا عندما استمع إلى صراخها وهي تمسك بمعدتها مردفة بألم: ااااه، بولد بتخوني يا يزن. وجايب عشقيتك هنا البيت!

كان يمسك بيدها بقلق وعندما استمع إلى حديثها ابتعد عنها بضجر وهو ينظر لها بإستنكار غاضب مردفًا بحدة: ودا وقت هزار يعني!
وقفت معتدلة وكأنها لم تكن تتألم منذ قليل، لتتخصر محلها وهي تقول بغضب مشوحة بيديها أمام وجهه: والله قول لتفسك يا أوستاااذ، مين دي يا يزن، ومين الواد المسهوك اللي واقف معاها دي!
كان عمر يتابعهما وهو يستند على الأريكة من خلفه قائلًا بإستمتاع: أما قصة عِبرة بصحيح.

بينما بيبرس تحدث وهو ينظر بإستغراب لضحي موجهًا حديثه ليزن: What does it mean مسهوك sir yazan!
جز يزن على أسنانه بغيظ وهو ينظر لضحي متحدثًا بضجر: عاجبك كدا! اهو طلع بيفهم عربي.
نفخت وهي تمط شفتيها بعدم رضا ثم عادوت النظر لتلك الشعلة الحمراء بقوامها الممشوق مرة اخري، اتخذت عدة خطوات تجاهها وهي تفحصها من رأسها لإخمص قدمها ثم قالت بعد وقت من التحليل: ودا نفخ ولا طبيعي يا أمورة!

حدجتها جيسيكا بتعجب مع تقطيبة حاجبها الاشقر ثم سألت بإستفهام: ماذا تعني! لا افهم شئ مما تقوليه.
استنكرت ضحي وهي تقول: وكمان رقيقة! ياا مرااااري.
لم تهتم جيسيكا بما تقوله بل أقبلت عليها بخطوات بطيئة نوعًا ما حرصًا على جرحها، ثم احتضنتها بود مردفة بسعادة: لا يهم ما تقولين، المهم لقد تشرفت بمعرفتك مدام ضحي، كنت أود أن أراكِ منذ زمن.

رمشت ضحي عدة مرات وهي تتمتم: ياعيني شكلتي ظلمت البونية وهي باين عليها طيبة.
بادلتها ضحي الإحتضان ثم قالت بسعادة وكأنها لم تكن ستقتلها منذ قليل: اهلا يا شابة، البيت منور والله. بس قوليلي هو دا شعرك ولا صبغاه!
ضحكت جيسيكا بمرح وهي تغمز لها مردفة بمشاكسة: بلي. إنه شعري، بلا صبغة ولا أية الوان.

بينما كان يزن يتابعهما وهو ينظر لزوجته بيأس من افعالها، تلك السليطة كانت ستقتل الفتاة منذ قليل بسبب غيرتها، ومع أول كلمة ألقتها لها بود، سارعت على معانقتها ومعاملتها كأنها صديقة منذ أمد لا منذ دقائق معدودة، ظهر على ثغره ابتسامة حنونة وهو يطالعها بحب، فكم هي بريئة ونقية رغم حدتها أحيانًا ولكن كما يُقال الأصل غلاَّب وهنا غلب اصلها وصلة العراك التي كانت ستشنها منذ قليل، ذهب إليهم ثم مد يده ليصافح بيبرس قائلًا بإستهجان وهو يرفع أحد حاجبيه: مقولتليش إنك بتعرف تتلكم عربي.

أجابه بيبرس بمشاكسة قائلًا بمراوغة: سر المهنة سيد يزن.

انضم لهم باقي العائلة تقوم بتحيية الضيوف الجدد والذي استقبلوهم برحابة شديدة، وكم شعر معهم كلًا من بيبرس وجيسيكا بالألفة الشديدة، تلك العائلة ما هي سوي مثال نموذجي للحنان والتعاون، فالحب المتبادل بينهم يجعلك تحترمهم رغمًا عنك، إستأذن كبار العائلة بالخروج وتركوا الشباب وحدهم ولم يبقي سوي الشباب، انضم ساهر والذي كان يضع يده على كتف رضوي ويبدو بأنه كان يشاكسها لتضحك هي بخجل، كانت الوجوه موجهة إليهم بتشنج ليقطع خلوتهم صوت يزن الحاد وهو يردف بغضب: شيل ايدك من عليها يا حيوان، لما تبقوا تعملوا فرح رسمي وتشهير ابقي اعمل اللي انت عايزه يا حيلة أمك.

حدجه ساهر بضحر ثم ابعد زراعيه عن رضوي التي كانت تتطالعه بإستنكار هي الأخري وكأن الوضع لم يعجبها، لتقول بسخط: ما تسيبه يا يزن الله!
اشار لها بإستنكار للمقعد بجانب الفتيات وهو يقول: اسكتي يابت وتعالي اترزعي جنب البنات هنا، فاضيلكوا أنا كل شوية همشي ألمكوا من كل مكان شوية انتي وسي روميو بتاعك.

دبت بقدمها على الارض بغيظ وهي تلقي يزن بنظرات تكاد أن تحرقه ولكنه استقبلها بإستخفاف وتهجن، تأوهت رضوي بشدة عندما نكزتها ضحي في ذراعها بقوة قائلة بغضب: متبصيش لجوزي كدا. هو عشان طيب ومش بيعمل حاجة هتستغليه يا حقودة.
رفع ساهر أحد جوانب شفتيه كالعجائز مع رفعة حاجبيه بإستنكار وهو يقول: والنبي ايه! بس معاكي حق، انتي وجوزك نسمة، تتحط على الجرح يطيب.

مسد يزن على قدمه بتحذير قاتم قائلًا: لِم لسانك وعدي الليلة بدل ما اخليها زرقة فوق دماغك.
لم يجيب ساهر بل ظل يتمتم بغيظ وإمارات الغضب تظهر على وجهه بعد رضا لبعده عن محبوبته.
انتبه يزن لحديث بيبرس وهو يتسائل بإدراك: لم تقل لي سيد يزن لما طلبت مني القدوم اليوم!
أجابه يزن بتمهل: ستعلم عندما يأتي منتصر ومصطفي، جميعنا سنكون معًا.

نظر الشباب بعضهم لبعض في حذر وحيرة، وجميعهم أيقنوا بأن هناك ما ينتظرهم، قُضي بعض الوقت ودخل الخادم يتحدث بإحترام يُعلم رب عمله بقدوم مصطفي، ولج إلى الغرفة مصطفي بخطوات متمهلة ثم ألقي التحية عليهم جميعًا: مساء الخير.
مساء النور.

أجابه الجميع بود ولكن كان هناك زوج من العيون تطالعانه بغضب وغيرة، أدار مصطفي وجهه عندما شعر بأحدهم يسلط أنظاره نحوه، فلم يجد سوي مراد، لم تكن نظراته عادية، بل كانت محملة بالغضب والحقد تجاهه، علم الثاني بالحالة التي تلبسته عندما نظر لأيات وأشار لها بالصعود، ضحك بخفة واستهجان عندما علم مقصده، هو بالتأكيد مغفل، أو، ربما عاشق ولهان.!

صعدت آيات بغضب للأعلي وهي تزفر بضيق من تحكماته عليها، سرعان ما تحول غضبها إلى خجل عندما علمت مقصده، إنه يغار، عند تلك الفكرة وتوهجت عيناه بمزيج من العشق والخجل، لا تعلم أين كان عقلها عندما أحبت غيره وهو كان أمامها كل هذا الوقت، وضعت يدها على قلبها المتراقص بين جنباتها علها تُهدئ من ضرباته.
فُتح باب غرفتها فوجدتها ضحي ومعها تلك الحمراء كما اسمتها، لتستمع لتساؤل ضحي: طلعتي فجأة ليه يا بنتي!

أجابتها بتلعثم وقد تحول وجهها مرة أخري للون الأحمر: أصل. اصل. يعني مراد شاولي علشان أطلع.
رفعت حاجبيها بإستهجان وهي تردف: ودا من إيه إن شاء الله!
وجدت من ينغزها في جانبها لتنظر لجيسيكا بسخط والاخري تبادلها النظر وعلى ثغرها ابتسامة بلهاء من حديث آيات، ثم قالت بحماس وهي تضرب بيدها في الهواء: اصمتي يا ضحي يا لكي من غبية.

ثم أخذت يد آيات وجلستا على الفراش مردفة بسعادة: ركزي معي، يا فتاة بالتأكيد إنه يغار يا فتاة.
خلعت ضحي حجابها ثم رمته على اقرب مقعد لها وجلست بجانبهم وهي تردف بإستغراب: وهو هيغير ليه سي روميو؛! ايكونشي بيغير عليها مننا!
حمحت آيات بإرتباك وهي تبرر تصرفه مذكرة إياها بما حدث مسبقًا: لا. ما هو أصل. مصطفي. هو دا اللي وقعت في مشكلة بسببه.

فتحت ضحي عيناها بإندهاش عندما تذكرت إلى ما آلت إليه الأمور، حينما دخل لها مصطفي بدور العاشق الولهان لنيل قلبها، وهي بسذاجتها اعطته له دون النظر لعواقب ما سيحدث، حينها قامت القيامة حين علم يزن بذلك وقام بمقاطعتها غير قسوته التي فرضها عليها، وتعليمه للأخر درسًا لن ينساه لبقية حياته، قطبت جبينها بتعجب مردفة بتساؤل: وإيه اللي لم الشمع على المغربي! دا يزن يطيق العمي ولا يطيقه.

هزت ايات كتفها بجهل وهي تتشدق بما تعرفه: مش عارفة. بس علاقتهم كويسة من فترة صغيرة مش كتير.
أومأت لها ضحي بالإيجاب وهي تفكر في سبب الود بينهم خاصة وأن يزن هو من دعاه إلى هنا أيضًا، نفضت تلك الأفكار عن رأسها سرعان ما تحولت نظراتها للخبث جهة آيات مردفة بمكر: وسي روميو غيران. عشان كدا قالك تطلعي!

نكست رأسها خجلًا من تلميحها المبطن بالمكر، لترفع رأسها حين استمعت لصوت جيسيكا الصارخ بحماس: واااو يا فتاة، كيف فعلتيها! أريد أن أجعل بيبرس يغار ايضًا.
حدجتها ضحي بتشنج قائلة: والنبي يا باربي نقطينا بسكاتك. وخفي من جو حريم السلطان دا، بيعملي حموضة.

قاطع حديثهم فتح الباب فجأة فدخلت عليهم أية بوجهها الذي تحول للون الأحمر وابتسامة بلهاء تزينت على ثغرها، خلاف قلبها الذي يطرق بشدة، نظر لها الجميع بإستغراب لتتسائل ضحي بتعجب وهي ترفع حاجبها بإستنكار: اي داخلة المخبرين دي يابت؟ وبعدين مال وشك أحمر كدا ليه؟

تلقائيًا وضعت يدها على وجهها المشبع بحمرة طفيفة، فشعرت بسخونة جلدها تحت كفها، وكيف تخبرهم بأنه المتسبب بهذه الحالة، فقد جعلت أمر حبها له سرًا، لتقول بتلجلج عندما رأت نظرات الجميع المسلطة عليها منتظرين الجواب: أصل. أصل رزان جت تحت. و...

وقبل أن تكمل جملتها وجدت الباب يندفع ولسوء حظها كانت هي خلفه، لترتمي للأمام لتلحق نفسها قبل أن تسقط للأسفل، نظرت للخلف بحدة فوجدت رزان تطالعها بشر وهي تردف: بقا بتسلميني لأخوكي الأهبل!
تحولت علامات الغضب للتسلية لتلاعبها بحاجبيها بمشاكسة وهي تتشدق بخبث: يعني بذمتك مش كان على هواكِ؟

ببرود أعدلت طرف حجابها ثم مشت عدت خطوات رتيبة لتصعد على الفراش بجانب ضحي الممددة عليه ببرود، ماكثة بجانبها هي الاخري، لتقول بعبث ووقاحة: لا كان على هوايا. وعلى هوايا أوي كمان.
أطلق الجميع ضحكات عالية عبثية، وهم ينظرون لبعضهم بقلة حيلة، لتردف أخيرًا ضحي بخبث وهي تنظر ل أية التي اتخذت مكانها بجانبهم: ورزان هي اللي خلت وشك أحمر كدا؟
أجابتها أية بنفاذ صبر:
عايزة توصلي لإيه يا ضحي؟
اعترفي وهحل عنك.

نفخت بضيق وهي تنظر للأوجه المحملقة بها، ثم أجابت بتروي:
بحبه...
قطبوا جميعًا حاجبهم بجهل بينما ضحي الوحيدة التي ابتسمت بمشاكسة وهي تهز كتفيها بدلال:
ما تزوقيني يا ماما. أوام يا مامااا.
ما تفهموني انتوا بتتكلموا على إيه.
أجابتها ضحي بمكر وهي تعود لوضعيتها القديمة في الجلوس:
الست أية بتحب أخوكي المعفن يا ستي.

بالأسفل تجمع الرجال في غرفة مكتب يزن ليجلسوا حول طاولة مستطيلة من اللون الداكن كحال باقي الغرفة، وضوء المصباح الخافت الصاعد بجانبهم وفي الوسط شاشة الحاسوب الذي عرضه يزن كمحاولة لشرح الخطة الأخيرة لهم، ظل يجوب بنظراته الجميع بأعين ثاقبة كالذئب، لم يكن هيِّن بالتعامل مع أعدائه ابدًا، لذلك توصل إلى جميع المعلومات التي تهمه بشكل شخصي، وذلك بعد الأخذ بحقه بلا شك، دار حول الطاولة ثم إتخذ مكانه بجانب مصطفي، نظر لثواني لمنتصر الذي يحتل الإهتمام معالم وجهه، يحاول إكتشاف سبب ذلك التجمع والذي لن يكون برئ بالمرة، تحدث وعيناه مثبتة على منتصر بصوت رتيب خافت: الأخبار اللي عندي متسرش.

ابتلع الجميع ريقه بخوف مترقبين بقية الحديث، ليسترسل يزن حديثه مكملًا: الإيد اليمين للزعيم مكنش بيبرس بس. في واحد كمان، بس اللي اكتشفته إنه مصري.
مصري!
تلك الكلمات المستنكرة صعدت من فم عمر المندهش والمستنكر بذات الوقت، فكيف للزعيم ان يضع ثقته كاملة في شخصية مصرية وهو بالكاد يفعل ما بوسعه لإغراق الدول العربية وتعميم الدمار فيها!

استكمل يزن حديثه وهو ينظر لوجوههم بإهتمام مردفًا: واحنا نعرفه. ونعرفه كويس كمان.
بلغ القلق ذروته من المتواجدين ليتحدث أخيرًا مراد بنفاذ صبر والخوف ينهش فؤاده: متلعبش بأعصابنا أكتر من كدا يا يزن الله يكرمك.
لم يجبه يزن بل ضغط على زر حاسوبه وهو يقول: مهما كان اللي هتعرفوه دلوقتي لازم تتقبلوه.

انتهي من حديثه ليقوم الحاسوب بعرض مقطع فيديو لأحد الأشخاص الملثمين يدور حول كهف منئي في منطقة صحراوية نائية ولكن لسوء حظه كانت الشمس حينها ساطعة في وقت الظهيرة، تسلل على أطراف أصابعه مُطلًا برأسه بحذر، ليجد اثنين من الضباط المُكلفين بحراسة تلك المنطقة لأسباب مجهولة حتى الآن ظهر بأنه يقوم بجذب سلاحه واضعًا بها قطعة طويلة لفها بها ليكتم صوت الطلقات المدوية، رفع المسدس على هدفه، ليصيبه بلا أي ذرة رحمة، فلقد استقرت الرصاصات في رأس الضابطين ليقعوا صرعي في الحال، تقدم في خطواته بضعة خطوات حذرة ليراقب الوضع، ثم أشار بيده في إتجاه معين، ليظهر بعدها رجال أشداء ذو بنية قوية يحملون أسلحتهم بين أيديهم القاتلة، بحذر أشد ساروا دفعة واحدة حتى وقفوا أمام فتحة الكهف، ليجدوا عدد من الجنود لا بأس به موجود بالداخل يُعاينون الكهف بدقة وامامهم تلك العقاقير المخدرة التي اكتشفوها مسبقًا بعد جهدٍ مضني منهم.

اشهروا بأسلحتهم تجاه الجنود الأبرياء، وعلى خين غُرة قاموا بتفريغ خزنة أسلحتهم بأجسادهم الطاهرة، الرصاصات تنخر عظامهم بلا رحمة، ملابسهم امتلأت بالدماء النقية لتكون رائحتها كالمسك الطاهر، انهوا الرصاصات ومعها صعدت الأرواح تهلل وترقص لنيلهم الشهادة، وعلى جوههم ترتسم ابتسامة حالمة تعكس ما رأوه قبل موتهم بثوانٍ معدودة، رغم تصفية الدماء ولكن تظل الجنة هي ملتقاهم.

بعدما انتهوا من عملهم الملعون، أمرهم رئيسهم بالتوجه ناحية تلك المواد وتعبئتها كما كانوا يريدون في سيارات النقل الكبيرة، وبعد ما يقرب النصف ساعة تقريبًا انتهوا من تحميل كل البضاعة، ليأمرهم بعدها بالذهاب وهو سيعود كما جاء.

بعد ذهابهم ظل بعض الوقت ينظر لجثث الجنود بنظرات مبهمة لا تُقرأ، تحسس ذلك القناع الموجود على وجهه، إلى أن وصلت يده إلى رأسه ليسحبه بعنف راميًا إياه على الأرض الرملية الساخنة، وهنا كانت الصدمة القاتلة لهم جميعًا، الميِّت عاد!
ولكن بشخصية غير التي كان بها، شخص أقل ما يقال عنه خالٍ من الرحمة، الإشفاق، تعابير وجهه عكست الإجرام عكس ما كان عليه، إنه هو شقيقه، الميت!
كريم العامري.

اسم ردده عمر بصدمة والدموع تتسلل إلى عيناه، صديقه الوفي بعد منتصر، وكأن بترديده لإسمه أكدت لذاك المتصنم بالحقيقة المريرة، حقيقة تمني لو مات قبل أن يعرفها، حقيقة كان يتمني دفنه قبل معرفتها، تسللت البرودة لأطرافه ولم يقوي على الحديث، شحب وجهه وسُحبت أنفاسه، ليشعر بشئ يجثم فوق صدره يمنعه من التنفس بحرية.
أخيه الذي اعتبره قدوته ومثله الأعلي. قاتل!
أخيه الذي زرع فيه حب الوطن. هو القاتل!

ولكن كيف وهو قد مات منذ زمنٍ بعيد؟

وجه الجميع نظرات مُشفقة تجاهه بعدما أفاقوا من صدمتهم القصيرة، بالطبع لم يشعروا به ولا بحربه الداخلية الآن، ورغمًا عن الجميع كانت النهاية لتلك العملية المشؤومة غير عادلة معهم بالمرة، ظلوا ينظرون لبعضهم بعجز اصابهم لعدم قدرتهم على مساعدة صديقهم، كان كلًا من يزن ومصطفي هم من يشعران بألامه، فكلامها عاشا نفس تلك اللحظات المميتة بالنسبة لهم، عجزت الألسن عن الحديث وبقي صوت الأنفاس صاعدًا.
إزاي!

كلمة واحدة جاهد منتصر أن يُخرجها من فمه بعد عناء دام طويلًا للتحدث، فالصدمة تفوق توقعاته، والشك يابت يغزو خلاياه غي دواخله مسببًا له الألم الذي لا يُطاق.

أشفق يزن على حالته كثيرًا، هبَّ من مجلسه ثم خطي عدة خطوات تجاهه ليقف بجانبه، وضع يده على كتفه بمواساة، يعلم مقدار الألم الذي يجتاحه الآن، تحدث يزن بعدما ربت عليه متشدقًا: قبل ما احكيلك أي حاجة عايزك تبقي فايق ومركز، عارف إن الصدمة قوية عليك، وعارف الأسئلة اللي في راسك دلوقتي، بس عايزك تشد حيلك وتسمع للآخر.

بنظرات تائهة، وأعين غائمة، وعقل شارد، أومأ له بالإيجاب، تاركًا كل آلامه الآن، ولكن رغمًا عنه لا يستطيع منع تلك الدمعات الموجودة على طرف عينه، عاد يزن يجلس على كرسيه مرة آخري، استطرد حديثه وهو يمرر نظره على كل الموجودين امامه، إلا أن وقف على وجه منتصر الشاحب: كل اللي قدرت أوصله، إن كريم اخوك بعد إتفاق مع ما يا كبيرة وعشان ميتكشفش، قرر إنه يخلي نفسه ميت في عين الكل علشان العين تتشال من عليه، ودا طبعًا بعد ما اللوا السابق خد حذره من كل الظباط، بعد الحادثة اللي مات فيها أو بمعني أصح اللي اتفق فيها إنه هيكون في عربية شرطة وهتتحرق كلها، كل اللي في العربية ماتوا ومبقاش ليهم ملامح، فكان سهل جدًا يزور نتيجة الطب الشرعي إن جثة من الجثث دي بترجع ليه.

كان الأخير يستمع له بأنفاس مضطربة وقلب يُنكر صحة حديثه، فأخيه قد استُشهد وليس بقاتل، ولكن ماذا عما رآه بأم عينه؟ ارتعشت شفتاه ونظر ليزن بأعين زائعة مرددًا بثقل في لسانه، وكأن الكلمات ترفض الأنصياع للكلمات: طيب ليه!
هز يزن رأسه بجهل وهو يقول بحيرة مشتتة: مش عارف إيه السبب اللي يخليه يعمل كدا. إجابة السؤال دا عنده هو.
م. مش. فاهم.

علم يزن حالة التشتت التي تلبسته، لذلك أردف بصوت حاول جعله ثابتًا قدر الإمكان وبه لمحة من الجمود والتحذير بنفس الوقت: يعني المأمورية الجاية هتكون للقبض عليه هو وكل اللي معاه، القبض على كريم يعني انتهاء الزعيم، ومش هسمح بأي خطأ أو مشاعر سلبية تبوظ المهمة وتنهي على حياة ناس أبرياء غير اللي راحوا.
تعمد بحديثه تذكيره بأفعال أخيه الشنيعة رغم ما يعتريه من الآم نفسية جسيمة.

استطرد حديثه قائلًا: انا متفق مع سيادة العقيد وعرفت كل حاجة رغم إن دي معلومات مكنش ينفع تخرج عنكم انتوا، بس لأني فضلت معاهم فترة كبيرة ان عندي المعلومات الكافية اللي تسهل الطريق، ودلوقتي فاضل الخطوة الأخيرة وننتهي من العصابة دي نهائيًا.

بينما هو يتحدث، كان الآخر في وادٍ بعيد عنهم ذهنيًا وعقليًا، أخيه الذي كان يعتبره قدوة له، مرسخًا داخله كل عوامل الأخلاق، هو الآن في طريقه للقبض عليه، بل سينتهي به المطاف أخيرًا بإعدامه.
لم يجبه بل اكتفي بإيماءة ضعيفة وضحت مدي ضعفه في هذا الوقت، استند على المقعد بكف يده ثم وقف بإنهاك وكأن هموم العالم تجمعت لتكون فوق رأسه، ثم خرج من الغرفة قاصدًا منزله دون أن ينبث ببنت شفة.

نظر له الجميع بإشفاق ولم يعقبوا، بل تركوه يخرج ويفعل ما يشاء، بالطبع لن يترك عمر صديقه يعاني من آلامه وحده، لذلك خرج خلفه مباشرة بعدما استأذن من الجميع ولحقه، وجده يكاد يصعد سيارته، فنادي عليه بصوت عالي ليستمع إليه، التف له منتصر بجمود غريب على وجهه وملامحه لا تُظهر شئ، اقترب عمر من خطواته حتى وقف قبالته، وضع يده على كتفه وهو يقول بتشجيع ومواساة واهمة: عارف إن كل اللي عرفناه صعب يا صحبي، مش سهل ابدًا عليك إنك تعرف كل الحاجات دي وتسكت، بس خليك متأكد مهما حصل وهيحصل إني هفضل جنبك ومش هسيبك.

جاهد منتصر دموعه على عدم النزول، ولكن أبت لرغبته وأظهر ضعفه أمام رفيقه، شد على أسنانه بقوة مانعًا الإنسياق خلف مشاعره حتى برز فكه المتشنج، خرجت الكلمات من جوفه بصعوبة، وكأنه يجاهد نفسه على الحديث: عارف يعني إيه أخوك اللي كنت بتعتبره قدوة في حياتك يطلع خاين؟ لا وانت كمان اللي تكون مُكلف في القبض عليه وتوديه لحبل المشنقة بإيديك، عارف يعني إيه تفضل عشر سنتين من بعد موته تصحي من نومك وتتمني إنك تشوفه قدامك لحظة واحدة بس! كريم مكنش أخويا بس، كريم كان ليا السند والداعم ليا بعد موت ابويا، اتكسرت بعد موته، ودلوقتي اتكسرت تاني لما عرفت إنه عايش، كان المفروض أكون أسعد واحد في حياتي، بس دا كله اتبخر لما عرفت إنه خاين. عارف يعني إيه خاين يا عمر! خاين.

صرخ بجملته الأخيرة بكل معاني القهر والخذلان، لتهبط دموعه على صفحات وجهه وقلبه يصرخ من الألم، احتضنه عمر وهو يربت على ظهره بدعم أخ لا صديق، معه كل الحق فيما قاله، هو بحد ذاته متألم، فما بالك بهو! تحدث بعد مدة قليلة بدعم أكبر: خليك عارف أيًا كان الخطوة اللي هتاخدها أنا معاك فيها.

مسح منتصر دموعه وخرج من أحضانه مردفًا بإنكسار: انا عايز أعرف هو ليه عمل كدا! عايز أعرف ليه كسرنا مرتين! هقول إيه لماما ورزان لما يعرفوا! ماما ممكن يجرالها حاجة، ورزان كانت روحها في كريم، هقولهم إيه بس!
خاطبه بلين به بعض التحذير: متقولش لهم حاجة يا منتصر، كدا كدا انت عارف النهاية.

وكأن بحديثه العفوي ذكره بحجم المآساة التي سيتعايش بها مجددًا، بينما عمر ندم على ما تفوه به ولكن بالنهاية تلك هي الحقيقة بدون تجميل بالحديث.

بالداخل.
عاتب مصطفي يزن بلطف وهو يقول: مش كدا يا يزن، كان ممكن تقوله الخبر مش توريه الفيديو كدا على طول.
هز يزن بالنفي وهو يعاود الجلوس مكانه مرة أخري، نفخ بإستياء ردفًا بإنزعاج طفيف: كان لازم يشوف ويعرف اللي أخوه عمله وبيعمله، علشان يوم النطق بالحكم عواطفه متتحكمش فيه.

اقتنع مصطفي بتفكيره وبحيلته رغم صعوبتها وتأثيرها على منتصر، إلا أنه معه كل الحق في ذلك، دمدم مصطفي بصوت خفيض: معاك حق، ربنا يستر.

كان ساهر يأخذ دور المتابع الصامت، يجلس بينهم ويتابع أحاديثهم دون التطرق لأي حديث، رأي الألم المتجسد بصديقه، ومن قبلها كان مصطفي عندما علم بخيانة والدته لأبيه، غير متاهة النسب التي كان بها، ومن قبلهم جميعًا معاناة يزن وطفولته المنتهكة، بينما هو كانت كل معانته فقره ومعاملة جافة من أبيه، ظهر شبح ابتسامة ساخرة على ثغره وهو يردد بصوت مسموع نسبيًا: صحيح اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته. الحمد لله.

وبسبب السكون الذي كان يعم المكان، استمع إليه البقية، موجهين أنظارهم إليه، تحدث مراد بمزاح عله يخفف من توتر الأجواء من حوله: منور والله يا ساهر. انا وانت عاملين زي الأباجورات بالظبط، بنسمع وبس.
ضحك على طرفته وهو يؤكد له حديثه: معاك حق والله.
صمت قليلًا ثم وجه حديثه ليزن بصوت مترجي: قولي بها هتجوزني رضوي امتي!

نظر له يزن بإزدراء، فتركه دون إجابته، متمتًا بسخط وهو يخرج من غرفة مكتبه: واد معندكش دم صحيح.

انقضي يومان، منهم من يفكر بالثأر، ومنهم من هو يحمل هموم العالم فوق كتفاه، كان سيكون بخير إذا كان المجرم هو شخص آخر غير آخيه، ياللسخرية القدر، كيف يكون الداعم هو المؤذي بين ليلة وضحاها! عندما رأي وجه أخيه في شاشة الحاسوب، كان وجهه يناقض ما كان عليه من قبل، فقد كان مثال للقسوة والإجرام، بينما في الماضي كان دائمًا ما يبتسم، حنون، ودود، ليس كما الآن، السؤال الوحيد الذي كاد أن يُفقده عقله هو لماذا!

جذب خصلاته بقوة، وبدأت الدمعات تتجمع في عينه مرة أخري، لا يعرف ما سيفعله، هل سيقدم أخيه للعدالة لتقتنص منه لحق هؤلاء الأبرياء الذي قام بقتلهم! هل سيستطيع حقًا.
رغمًا عنه انفلتت شهقة متألمة من جوفه، تبعها شهقات متحسرة، يكاد الألم يطبق على صدره، الإختناق بات يلازمه، ناهيك عن شغفه الذي تحطم متكسرًا، عن أي ألمٍ تتحدثون وهو الوافي الذي سيتسبب في مقتل أخيه!

مر وقت ليس بالكثير وهو على وضعيته تلك، لا يعلم ما يفعله سوي البكاء، يحتاج بشدة إلى من يحتضنه مواسيًا إياه، ولا يوجد سوي والدته، والدته التي لو علمت فوالله سيخسرها هي الأخري، حينها لم يسامح ذاته، لذلك قرر أن يكون تلك المسألة ما هي سوي مهمة كغيرها.
مسح دمعاته بصرامة بكف يده وهو يقول بجمود: انت اللي اخترت يا كريم، وانا هنفذ العدالة، وهجيب حق كل اللي ماتوا دول.

تربعت جيسيكا وهي تجلس على الأريكة بغرفة الإستقبال بمنزل يزن وبجانبها بقية الفتيات، لتتحدث وهي تشير بيدها كالبلهاء: وقتها قولتله انا احبك يا أبله.
مصمت ضحي بشفتيها وهي تقول بإستنكار: ايه ياختي كلامك اللي نصه شعبي ونصه فصحي دا!
قطبت جيسيكا جبينها بضجر مردفة: جرا ايه يا ضحي ما انا لسه بتعلم.
ربتت ضحي على فخذها وهي تهتف بفخر: لا انتي كدا تربيتي. اتنحني كدا بدل جو حريم السلطان دا.
خلصانة.

قطع حديثهم صوت عمر المستنكر الذي جاء لتوه: خلصانة! هما البنات خلطوا عليكي!
رفعت ضحي حاجبيها وهي تردف بتحذير: بتقول حاجة يا عمر!
بقول استغفر الله العظيم. فيها حاجة دي!
أجابته بإبتسامة مستفزة: من كل ذنب عظيم ياخويا. طرأنا بقا عشان دي قاعدة بنات.
نظر لها بغيظ لإحراجه ولكنها تغاضي عنها رافعًا أنفه بشموخ وهو يقف: انا كدا كدا كنت هخرج يا ذوق. بالعواف يا بنات.

ضحكوا على اسلوبه بالحديث فمر يزن الذي جاء لتوه من الخارج ليجد عمر على وشك الخروج من الغرفة فتحدث متسائلًا: انت جيت امتي يا عمر!
من شوية كدا. خير فيه حاجة!
حددتوا الميعاد!
فهم عمر ما يرمي إليه فتحول وجهه للعبوس وهو يزفر بضيق بدأ يتخلله: بعد يومين بالظبط هتبدأ المهمة. خايف على منتصر أوي. النهاردة كان شكله ميريحش، دا غير انه صمم يطلع المهمة دي رغم إني قولتله بلاش.

زفر يزن على مهل وهو يجيب بتروي: مش هيهدي غير اما يعرف الحقيقة وليه اخوه عمل كدا، أي حد مكانه كان هيبقي كدا.
ربنا معاه ويصبره.
آمن على حديثه، ثم نظر للخلف لزوجته المشاكسة التي كانت تضحك بصخب مع الفتيات، فنادي عليه بصوت عالي مردفًا: ضحي. تعالي عاوزك.

أومأت له قبل أن تستأذن من الفتيات لتتبعه حيث صعد للأعلي، دخلت الغرفة وكادت أن تناديه، وجدت ذراعان قويتان تحيطان خصرها بقوة مستمعة لهمسه المشتاق وهو يردف: وحشتيني.
ابتسم قلبها قبل ثغرها وهي تقول بإشتياق مماثل: وانت كمان وحشتني أوي.
أدارها وهو يقول بإعتذار وعيناه تجوب على قسمات وجهها التي يعشقها: عارف إني مقصر معاكي الفترة دي، بس غضب عني الفترة دي صعبة أوي.

حاوطت وجهه بيداها وهي تقول بتشجيع له: ربنا يعينك يا حبيبي، أنا مش زعلانة، المهم عندي راحتك.
احتضنها بقوة ليدفن وجهه في ثنايا عنقها ويداه تحيط بها بقوة أكبر: كلامك بيريحني زيك بالظبط.
كم ازدات ثقتها بنفسها عندما سمعت حديثه بها فلفت يداها حول عنقه وهو مازال يحاوط عنقها: وحشتنا أنا وابنك يا يزونتي.

طغت عاطفته الأبوية على مشاعره وتلقائيًا اتجهت عيناه تجاه بطنها التي برزت قليلًا، فأردف تزامنًا مع هبوط يده على معدتها محركًا إبهامه يمينًا ويسارًا: وانتي وابني وحشتوني أوي أوي، أنا من غيركم ولا حاجة.
أوقفت حديثه وهي تقول بحنان مبطن بالعتاب: متقولش كدا، انت كل حاجة، انت هتبقي أحسن أب في الدنيا.
قبل وجنتها بقبلة مطولة هاتفًا بصوت يجتاحه المشاعر: عشان انتي معايا.

نظر إلى عيناها البنية ليأخذها معه في بحر أشواقه الذي لا يمل منه مهما مر من الوقت، معها يتخلي عن ثوب الجمود ويظهر بعاطفته الجياشة تجاهها، مالكة قلبه ووجدانه، مصدر أمانه رغم وجود الصعوبات، هي ضحاه، هي بالنسبة له شاطئ النجاة الذي انتشله من ظلمته.

مر يومان. يومان لم يتزوق فيهما طعم الراحة، خاصمت عيناه النوم، وبات منتصر يفكر ويفكر حتى اُتلفت خلايا عقله، وها هو اليوم الموعود، يوم كشف الستار، حيث لا يوجد فرار من الحقيقة، الحقيقة التي ستؤلمه بالتأكيد وتتسبب في إنهياره إن يكن.

اكمل ارتداء ثياب العمل، ومن الأسفل واقي الرصاص، ابتسم بسخرية على حاله، فالموت عنده أهون من ذلك، أخذ نفسًا عميقًا وزفره على مهل، ثم حمل سلاحه ووضعه بالجيب الخلفي من بنطال بذلته الرسمية وعقله مازال منشغل، خرج من غرفته ليجد والدته بوجهها البشوش تخرج من المطبخ وبيدها أطباق الطعام، ابتسامة متكلفة خرجت من شفتيه ليرمي إليها تحية الصباح وهو يقبل ظهر يدها: صباح الخير يا ست الكل.

نظرت له بحنان غريزي وهي تجيبه بود: صباح النور يا حبيبي. تعالي افطر قبل ما تنزل.
هز رأسه بالنفي وهو يجيبها بهدوء يعاكس النيران التي تتأجج داخل صدره: لا يا ماما ربنا يديمك ليا يا ست الكل، بس انا مليش نفس.

نظرت له والدته بتفحص بعدما وضعت الأطباق على الطاولة، ثم قالت بعدما أخذته من يده ليجلسا سويًا على الأريكة: مالك يا منتصر! بقالك كام يوم مش مظبوط، وانا بقول هيتظبط وهيجي يحيكلي، بس مبتجيش، فيك إيه يا ابني!

كان على وشك قاب قوسين أو أدني أن يرتمي داخل أحضانها ويبكي ألمًا وتحسرًا على ما يمر به، يريد أن يشكو لها ويريدها أن تُطمئنه كعادتها، ولكن لا يستطيع، سحب نفسًا عميقًا ثم قال بإبتسامة متكلفة: مفيش حاجة يا ماما، هتلاقي من تأثير الشغل مش أكتر.

تركته والدته على راحته، رغم تيقنها من كذبه عليها، ولكن وليدها ناضج بما يكفي، وآااه لو تعلم ما يعتريه من ضيق، لكانت أخذته بين أضلعها ولا تفلته أبدًا، ربت على كفها وهو يستأذن منها بإحترام للذهاب: انا مش، ادعيلي يا أمي.
قالت بحنان فطري له: بدعيلك يابني دايمًا، ربنا ينور طريقك ويبعد عن شر القريب قبل البعيد.

خفق قلبه لكلماتها العفوية ولم يستطيع السيطرة على وجوم وجهه، فذهب من امامها مسرعًا قبل أن ينكشف السر المخفي.
هبط درجات السلم مسرعًا وهو يشعر بالإختناق، تحول وجهه للإستغراب عندما وجد صديقه عمر يستند على سيارته بظهره وهو يقول بتأفف مصطنع: خطيبتي انت عشان استناك كل دا؟
نظر له منتصر بإمتنان فذهب تجاهه ليحتضنه بقوة وهو يقول بشكر بائن في صوته: شكرًا على وقوفك جنبي يا عمر. شكرًا بجد يا صحبي.

بادله عمر العناق وهو يقول بعتاب غير زائف: متقولش كدا، انت اخويا يلا مش صحبي.
ابتسم له بفتور لما يعانيه ونظراته تعكس ما يريد قوله، ذهبوا إلى محل عملهم ليجدوا أن جميع الضباط متجهزين مرتدين بذلاتهم الرسمية للمهمة، رآهم مصطفي من بعيد فذهب ناحيتهم بعد أن حيا كل منهم، ثم وجه حديثه لمنتصر: جاهز!

هز رأسه بالإيجاب، وبعد وقت قليل انطلقوا إلى وجهتهم المحددة، وصلوا بعد وقت ليس بالقليل، فأخذ مل جندي مكانه المحدد، كان المكان ميت لا روح فيه، ولكن ما أكد لهم عن وجودهم بالداخل هم هؤلاء الحارسان الواقفان في الخارج.
أشار لهم قائدهم بتتبعه، وكما فعلوا هم مسبقًا قام واحدٌ منهم بوضع كاتم للصوت ليصوبه تجاهه الحارسان، ليقضي عليهم بنفس الطريقة التي يقضون بها على الشهداء الابرياء.

ذهب نصفهم ليحاوطوا مخبأهم والنص الآخر ولجوا للداخل بلا أي صوت، برغم أن كل شئ على ما يرام، ولكن شعر منتصر بالتوتر يجتاحه، وقطرات العرق تتشكل على جبينه رغم برودة الجو، حاول أن يمنع شعوره بالخوف والحنين جانبًا ليركز على ما جاء لأجله، وبأعين كالصقور رأوا على بُعد أمتار منهم عدة رجال يظهر على وجههم الأجرام، يقومون بتعبئة بعض الصناديق بمواد غير مشروعة عرفوها على التو، وهناك حيث تلك البقعة تحديدًا، رآه منتصر، ذلك الخائن الغائب، يقوم بتنفيث دخان سيجارته من فمه وهو يأمر العامل بصوت غليظ: زود من الكمية يابني عشان مفيش حاجة تبان.

مرت ثانية. واثنان، واشار لهم القائد بالهجوم، فقاموا بمحاوطهم وتشهير أسلحتهم في وجههم منعًا للهروب، ابتلع الرجال ريقهم بصعوبة وهم في صدمة شديدة، لم يتوقعوا الهجوم عليهم بل وفي ذلك التوقيت تحديدًا، صباحًا!

فكر كريم في طريقة ما للهروب ولم يلحظ أخيه بعد، متذكرًا ذلك السرداب المجاور له نسبيًا، كاد أن يتحرك ولكن كان قد سبقه منتصر وذهب خلفه مباشرة ثم فاجئه بوقوفه أمامه مشهرًا سلاحه تجاه صدره، وعيناه تعكس مدي الألم والحزن والحقد وأخيرًا الإحتقار المغلف به، صدمة أخري هبطت على رأس كريم عندما رأي أخيه الصغير يقف أمامه وتلك النظرات هي آكثر ما آلمته، أردف كريم بصوت يشبه الهمس مرددًا: منتصر!

التوي جانب فمه بإبتسامة ساخرة وهو يقول بإحتقار: كنت مفكر إنك هتفلت بعملتك حتى لو عدي عليها خمس سنين! عيب عليك، دا انا حتى تربيتك.
ومع تلك الكلمات تحشرج صوته في نهاية حديثه، لتدمع عيني كريم وعيناه تعكسان إشتياقًا كبيرًا لأخيه: منتصر، اخويا!
قست ملامح وجه الأخير وهو يقول بحقد: متقولش اخويا، انا اخويا مش مجرم، انا اخويا اللي اعرفه مات شهيد، مش واحد و، زبالة بيقتل الناس بدم بارد زيك.

علي بُعد قليل منهم، حاوط عمر ومعه الضباط الآخرين الرجال، أشار رجل للأخر بإشارة تنفعم في تلك الأزمات، ليومأ له بنعم، ثم تحدث بصوت فزع مصطنع: في إيه يا باشا، احنا معملناش حاجة.
ضحك عمر بإستخفاف من زاوية فمه وهو يقول بسخط: هنشوف دلوقتي عملتوا إيه يا روح امك.
حاول الرجل استعطافه بقوله: يا باشا الله يرضي عنك انا عندي عيال، وعايز اربيهم.

زجره عمر بحدة وهو يقول بغضب وصوت عالي ومازال يشهر السلاح تجاههم: ما تخرس بقاا يلاااا، دلوقتي بتفكر في مصلحة عيالك! دا انا هخليك تتعفن في السجن يا زبالة.

استغل الآخر إنشغالهم بالنظر لتلك المشاحنة بينهم، وقام بالتسلل البطئ، حتى اقترب من مصطفي الذي كان يركز إهتمامه على مكانٍ آخر، ثم انتشل منه سلاحه ببراعة ليوجهه تجاهه ممسكًا عنقه بين ذراعه، ثم وجه فوهة المسدس تجاه رأسه وهو يقول بتهديد: ارموا سلاحكم بدل ما افجر دماغه قدامكم.

اتجهت الأنظار تجاه صوته المهدد، فنظروا المجرمين لبعضهم بإبتسامة نصر وإنتشاء، شحب وجه عمر ومنتصر عند رؤيتهم لمصطفي بين ذراعي ذلك الذي لا يعرف الرحمة، قام مصطفي الرجل مردفًا بتهديد صريح: واللهِ لهخليك تتمني الموت ومتطلهوش يا حيوان.
شد الآخير حول رقبته متشدقًا بتحذير: احترم نفسك يا حلو بدل ما اطيرلك نفوخك الحلوة دي.

نظر منتصر إلى كريم الذي يتابع الموقف بجمود، يبدو انه اعتاد على مظهر الدماء وتلك المواقف ليقف بكل ذلك الثبات، اخبره منتصر بتحذير: خلي رجالتك يسيبوا مصطفي يا كريم.
رفع حاجبه بإستهجان وهو يردف بسخرية: انتوا اللي بدأتوا يبقي تستحمل اللي هيجرالهم.
نغزه بقوة فيصدره وهو يصرخ بصخب: انت ايه! جبت القساوة كلها دي منين! ليه عملت في نفسك وعملت فينااا كدااا! ليه وصلت للمرحلة الزبالة دي!

رد عليه بهدوء ينافي ثورته: المصلحة. المصلحة بتحكم ياخويا.
وكأن شياطين الإنس والجن تجمعت أمام عينه ليتأجج الغضب بداخله، نظر إليه كأنه مُسخ حاقد، ليحني عاطفته جانبًا ثم وجه سلاحه تجاه أخيه وهو يمسكه من عنقه بنفس طريقة الآخر وهو يقول بتحذير غاضب: خلي الأو بتوعك يسيبوه بقولك.
نظر الآخرون لبعضهم بقلق، فها هو رئيسهم في قبضة الآخر، وإذا انتهي يعني إنتهائهم هم أيضًا بلا أدني شك.

ظن كريم أن نزعة الأخوة ستشفع له عند منتصر، ولكن يبدو أنه مُخطأ، بدأ القلق يتسلل لقلبه مع صرامة الآخر وقبضته التي تشتد حول عنقه، ليأمر رجله بترك مصطفي، نظر له الرجل بصدمة فقال بسخط وهو مازال ُيمسك عنق مصطفي: لا مش هسيبه، احنا كدا كدا ميتين، يا إما ههرب بيه، يا إما هخلص عليه واموت بعدها.
صرخ به كريم صائحًا: بقولك سيبيه يا، انت بتعصيني!

رد عليه الاخر ببساطة استفزته: اه بعصيك، واللي في دماغي هو اللي هيمشي.

كان يزن جالس بمكتب شركته يقلب في الأوراق التي أمامه وعقله مشغول بتلك المهمة، لا يعلم لِما قلبه ينبئه بحدوث الأسوأ! حاول إلهاء نفسه بالعمل ولكن فشل بالأخير، ليزفر بضيق وهو يقول بضجر: هو في ايه بقا!

ترك مكانه ثم وقف أمام الشرفة العريضة الموجودة بالغرفة ينظر لمنظر المارة من الداخل، ظل يفكر في ما يواجهوه الآن، بالتأكيد هناك مشكلة ما تواجههم، هم ليسوا بالعصابة الهينة، ومن الممكن أن يقوموا بأذية أي فرد منهم، ولكن هل من الممكن أن تشفع صلة الدم بين مناصر وكريم! سؤال ظل يراوده كثيرًا ولكن لا إجابة له، فم يبيع وطنه وعائلته من اجل المال، يستطيع قتل أخيه بدمٍ بارد حتى لو أظهر عكس ذلك.

ملَّ من التفكير فحمل هاتفه من جيب حلته الرمادية، ثم هاتف العقيد الذي كان على علاقة وطيدة بأبيه ويُعتبر كأبٍ ثانٍ له لمعرفة آخر الأخبار، مرت بضعة ثواني حتى آتاه الرد ليجيب برسمية: اهلاً سيادة العقيد. مفيش أي جديد!
أتاه الرد من الجهة الآخري وهو يقول بقلق: لسه يا يزن، ومفيش أي اتصال جه منهم لحد دلوقتي، حاسس إن فيه مشكلة واجهتهم.

اضطرب قلبه ليقول بجزع: طيب يا فندم ابعت قوة إضافية ليهم عشان لو فعلًا فيه مشكلة.
طمئنه العقيد نبرة هادئة: هو دا اللي عملته، من سوية بعتت قوة عسكرية للمكان، وكلها دقايق وهيوصلولهم متقلقش.
أنهي يزن الإتصال مع العقيد بعد شكره، ولكن قلبه مازال قلقًا على أصدقائه، رفع عيناه للسماء قائلًا برجاء: يارب ردهم سالمين غانمين، يارب هون.

كان حمدي يجلس أمام أرجيلته ينفث دخانها بتمهل، وعقله غارق بالذكريات المؤلمة، استمع لجرس الباب، فوقف بثقل ودوار وهو يردف عندما تكرر الطرق مجددًا: استني ياللي على الباب، هو انا هطير!
بمجرد فتحه للباب، دُهش من الزيارة المفاجئة والتي لم تكن متوقعة على الإطلاق ليردد بعدم تصديق: كريمة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة