رواية خادمة الشيطان للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون
ولأن الوصال بيني وبين قلبِك في تشابك مستمر، أشعر بخوفِك عزيزتي، أتخيل دموعك الصامتة الآن وقلقك المتفاقم، أتمني أن أكون أمامك في تلك اللحظة، حينها سأدخلك داخل أحضاني رغمًا عن الجميع وسأغلق باب قلبك منعًا للدخيل بالولوج.
تنهد بعمق قبل أن يذهب هو وصديقه مراد إلى الميناء، ذلك المكان الذي سيتم فيه تسليم تلك الشحنة المدمرة، وبالطبع لم يذهب معهم عمر فهو قد اتجه للقدوم بالفرقة التي ستقوم بالقبض على هؤلاء السفهاء.
ربت مراد على فخذه مردفًا بتشجيع عندما رأي شروده: كل حاجة هتكون كويسة صدقني.
نظر يزن لصديقه بشرود ثم تشدق بدهاء: مفيش حاجة هتكون كويسة يا مراد، الماضي رجع وكل اللي فات بيرجع، ومعاهم رجع الشيطان.
هز مراد رأسه بيأس من تفكير صديقه الدموي مردفًا: لسه بتفكر في الإنتقام لسه يا يزن! مكفكش اللي حصل زمان!
ضغط يزن بقدمه على مقبض السيارة لتنطلق بسرعة هائلة وهو يردف بفحيح من بين أسنانه: مش هنسي غير ما ادفعهم تمن اللي حصل زمان غالي أوي، وتمنه عندي الدم.
نظر مراد لإبن عمه ورفيق دربه بحزن، فالذي يحمله بقلبه لا يريد البوح عنه حتى لا يُظهر به ضعفه وآلامه المكبوتة داخل فؤاده، يعلم أن جرحه عميق ولن يُشفي إلا بأخذ ثأره.
أما بالنسبة ليزن، كان يعيد مشاهد طفولته المنتهكة، بداية من مشهد خطفه وتعذيبه بأسوأ الطرق التي لا تمت للإنسانية بِصلة، عندما كان طفلًا في ريعانه، ولم يكتفوا بالقسوة فقط! بل قاموا بالإعتداء عليه وهو يصرخ بهم برجاء وروح ممزقة أن يتركوه وشأنه!
ومع كل ما يتذكره تزداد شدة قبضته على مقود السيارة وعيونه نافرة بحمرة شديدة وكأنها ستنفجر، ابطأ من سرعة السيارة التي كانت تأكل الطريق من سرعتها شاعرًا بألم في أنحاء جسده، يبدوا أن جسده يريد جرعة من العقاقير المخدرة مرة أخري، لكنه لا يستطيع أخذها، هو وعدها بأن يتغير من أجلها، ولكن يا الله، ما هذا الألم الذي يفتك برأسه الآن وكأنها على وشك الإنفجار!
نظر له مراد بقلق واضعًا يده على ذراعه مردفًا بخوف على صديقه: مالك يا يزن! حصلك ايه!
ضغط بكلتا كفيه على رأسه جاززًا على أسنانه مردفًا بألم: دماغي هتتفرتك مش قااااادر.
ابتلع مراد صديقه بخوف يقف عاجزًا لا يعلم ما عليه فعله خاصة وهم وسط الطريق الخالي من المارة والقريب من الميناء المتوجهون إليه، تحدث وهو يقوم بجذب إحدي زجاجات المياة ثم أعطاها إليه، ليبتلعها يزن بسرعة ولكن الألم لم يقل بل يزداد شدة مع آلام جسده أيضًا التي بدأت بالظهور.
تمتم ببعض الكلمات الخافتة والتي لم يفهمها مراد، ولكن اتسعت عيناه عندما رآه يخرج من جيب حلته السوداء الحالكة كحال قلبه كيسًا يحتوي على المادة البيضاء التي استنشقها بعنف مرجعًا رأسه للخلف بألم وهو يتنفس الصعداء كأنه كان يحتبس أنفاسه داخله كل هذا الوقت.
نظر يزن إلى مراد المتابعه بصدمة ودهشة جلية على وجهه، فلم يشعر مراد بدمعاته التي تجمعت بعيناه عندما رأي حالة ابن عمه والذي يعتبره كأخ أو أكثر قليلًا، نفخ يزن بضيق عندما نظر إليه، ليشعر بجسمان الآخر تحتضنه بشدة متحدثًا من وسط دموعه وهو يعنفه بشدة: ليه مُصِر إنك تشيل الحِمل لوحدك! ليه بتتعذب بعيد عننا ورافض تشاركني وجعك يا صحبي! ليه مش عايز تفهم إني مش معتبرك بس صاحبي انت أكتر من أخويا، انت أناني وهتفضل طول عمرك أناني.
كان يزن يستمع له بقلب يصرخ ألمًا، لم يجد لأسئلته جوابًا سوي مبادلته لإحتضانه، فتحدث بعد قليل مشاركًا حزنه معه ولأول مرة: عايزني اقولك إيه يا مراد! أقولك إني لسه مدمن وانتوا مفكرني اتعالجت! اقولك إني بعد ما دخلت المصحة حاولت أقتل الدكتور اللي كان بيعالجني عشان مدنيش الجرعة، اقولك إني حاولت أتعالج كذا مرة بس كنت كل مرة بفشل! عايزني أشاركك وجعي عشان تتوجع إنت كمان! مش كفاية اللي أنا فيه عايزني أشيل ذنبك وذنب راحتك! انا فعلًا أناني يا مراد، أناني عشان عايز راحتك انت وعمر، انتوا اغلي اتنين عندي ومش عندي إستعداد أحملكوا همي حتى لو هعاني لوحدي.
كان يتحدث معه سامحًا لدموعه بالهطول، فها هو وجد من يتحدث معه غيرها، يعلم أنها تعاني معه ولا يريد أن يعاني أصدقائه هم كذلك، هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا مثل الأخوة وأكثر.
علي الجانب الآخر قام عمر بتجهيز جميع القوات للذهاب للميناء لكي يتم القبض عليهم وعيناه تشتعل بالغضب، فاليوم هو يوم الثأر لصديق طفولته، الضلع الثالث لمثلث الصداقة كما أسماه هو، لم يمتلك أخوة مثل يزن ومراد.
وماذا يريد الإنسان سوي شخصًا حنونًا يعبر معه مذلات الحياة ويخفف عنه أعبائه! يريد صديقًا مخلصًا يسير معه خطواته برفق، صديق إذا وقع أسنده بذراعه ومدافعًا عنه بروحه.
ولم يجد مسمي للصداقة سوي معهم، والان حان دوره ليرد الصاع صاعين لما عاناه أحد رفاقه، وبرغم مزاح عمر إلا أن من يراه الآن يجهله، فمن يتحدث الآن يتحدث من أعماق قلبه يُملي الأوامر التي جائته للجنود، رفع صوته متحدثًا بقوة: النهاردة مهمة من أكبر المهمات اللي عدت علينا قبل كدا، هننقذ بيها حياة شباب وأُسر كتير بتتدمر ويمكن من ضمنها حياة حد من أُفراد عيلتنا بس احنا مش دريانين بدا، النهاردة هنقبض على أكبر شحنة مخدرات ممكن تدخل مصر، هنقبض على أكبر مهربين سموم في العااالم، هنجيب حق شبابنا اللي ضاعوا واللي لسه هيضيع من وراهم.
صمت ينظر لوجوههم بحذم ليجدهم واقفين بإنتباه وقوة ثم أكمل بصوت عالي: وعلى العهد يا رجااالة، يا النصر يا الشهااادة، لا إله إلا الله. الله أكبر.
ردد من بعده الجنود بصوت عالي قوي كذئير الوحوش في قوتها وعيون الأسود في حدتها، لينظر لهم عمر بفخر وداخله يتوعد كثيرًا، ليأتي إليه اللواء وهو ينظر إليهم بفخر مشجعًا إياهم: ربنا معاكم يا شباب، ربنا أكيد مش هيسيب حق الناس اللي اتظلمت وانتوا زي النجدة للناس اللي لسه عايشة.
أشار لهم بالذهاب ليتجهوا للسيارات ثم يتجهوا إلى وجهتهم ولا يعلمون ما سيحدث، هل سيمر الأمر مرور الكرام، أم سيكون هناك عائق بينهم!
هناك تحديدًا عن الميناء يقف كل من بيبرس وجيسيكا التي تخفت وكأنها من معارف بيبرس حتى لا يتم التشكيك بالأمر، ينظر بيبرس بشرود للبحر أمامه واقفًا على قطعة خشبية كبيرة تسمي ب المعدية يتذكر ماضيه عدة مشاهد مختلطة تتقاذق بعقله الآن.
بيبرس يا بني، اهرب الآن سيقتلونك كما قتلوا ابيك.
نظر بيبرس ليدها الملطخة بالدماء والدموع تتسابق على وجنته وهو يري والدته التي تصاعدت روحها إلى خالقها وبجانبها شقيقته الحنونة التي كانت تكبره بسنوات قليلة محاطة بدمائها هي الأخري، ليصرخ بألم شق حنجرته من ألم الفراق المفاجئ، لكن فزع عندما استمع إلى اصوات متداخلة بالخارج ليقوم بالإختباء خلف أحد الأخشاب حتى ذهبوا من منزلهم بعد القضاء على جميع من به.
فاق من شروده على صوت جيسيكا التي تطالعه بتعجب لملامح وجهه الجامدة والمتألمة بنفس الوقت لتهمس له بصوت منخفض: بيبرس، ما بك؟
نظر لها بصمت ثم هز رأسه بجمود بمعني لا شئ، علمت أن هناك ما يخفيه ولكن ليس هذا الوقت المناسب لمعرفته.
وجدوا على بُعد أمتار عديدة سيارة تتقدم ناحيتهم، علم أنه يزن الراوي عندما هبط منها بشموخ وكبرياء لا يتخلي عنه، من يراه يظن أنه صامد قوي ولكن ما خفي كان أعظم، أثار ريبته هذا الغريب بالنسبة له والذي لم يكن سوي مراد، ذهب إليه مسرعًا واتبعته جيسيكا ليقول بقلق محدجًا مراد بنظرات متفحصة: سيد يزن. أمن المفترض أن تأتي وحدك حتى لا يتم كشفنا!
لم يجيبه يزن بل نظر إليه ببرود قبل أن بجيبه: أظن أنه شئ لا يخصك يا هذا.
جز بيبرس على أسنانه بغضب من بروده وكبريائه المفرط وكاد أن يصرخ بغضب، لكن تمالك نفسه حتى لا يتم كشفهم وقتلهم في الحال.
أتي عليهم عدد من الرجال المسلحين ينظرون إليهم بتفحص فتحدث أحدهم بغلظة وهو يمد يده ليزن: منور يا يزن باشا.
ثم نظر إلى مراد مردفًا: الإتفاق اللي وصلنا بيقولنا تيجي لوحدك، مين دا!
أجابه بثبات وهو يحدجه بنظراته: مراد الراوي، شريكي في أي حاجة ويعتبر دراعي اليمين.
أومأ له الآخر براحة ليبتسم بثقة موجهًا نظره لمراد الذي ابتسم من زاوية فمه بإعجاب على ثباته.
لم يفهم بيبرس وجيسيكا أي كلمة مما قيلت للتو ولكن زفروا براحة من عدم إكتشافهم الأمر.
جذب انتباههم صوت صفير الباخرة القادمة من البحر فذهبوا إليها جميعًا، توجه الرجال لرؤية محتويات الشحنة الكاملة بينما الآخرين يقفون كصف واحد كجنود مسلحة.
اقترب بيبرس من جيسيكا متحدثًا بخوف عليها: جيسيكا هل تثقي في؟
نظرت له بتعجب ناظرة لعيناه الزرقاء اللامعة بضربات قلب تخفق من قوتها لتومأ له بالإيجاب، فأكمل حديثه: اذهبي الآن.
مااذااا!
نطقت بها بدهشة مستنكرة ليكمل هو بخوف حقيقي وهو يمسك يدها برجاء: اترجاكِ جيسيكا، ألا ترين هذا العدد الهائل من الرجال المسلحة! أخاف أن تصابي أو يحدث لكِ مكروه، حينها صدقيني لن أستطيع العيش مجددًا.
هزت رأسها برفض وهو تهمس له بحذر تنظر حولها: مستحيل أن أتركك وحدك بيبرس، لقد جئت معك وسأكمل المهمة معك.
أغمض عينه بألم وهو ينصت إلى حديثها، لماذا لا تريد الإستماع إلى حديثه تلك البلهاء! ألا تعلم أنها باتت له حبيبة بعد عدة مقابلات سرية! ألا تعلم إنه يعشقها! بالطبع لا تعلم. وكيف تعلم وهو حتى لم يخبرها بذلك وحتى لو مازحًا! يا الله ما هذه المحنة التي بها الآن!
تحدث برجاء أشبه للتوسل مكملًا: إن كان هناك في قلبك مثقال حبًا لي فلتذهبي من هنا الآن.
نزلت دموعها بصمت وهي تتابع حديثه المترجي ولكن هناك قبضة تقبض على فؤادها تمنعها من الإستماع لحديثه، لكن في النهاية استمعت لرجائه لتومئ بضعف فيبتسم براحة ثم مال على يزن يخبره بضع كلمات ليومئ له الآخر بهدوء آخذًا إياها وهو يري إنشغال الرجال بالباخرة وجري بها حتى يخرجها من هذا المكان الملعون.
وصل بها إلى منطقة بعيدة نسبيًا ليتحدث بلهاث: اذهبي من هنا سريعًا.
اومأت له لتهبط دموعها بصمت فاحتضنها بشدة قائلًا برجاء: لا تبكي عزيزتي، أعدكِ كل شئ سيكون على ما يرام، أعدكِ.
لا أريد سواك، لا أريد سوي أنت تعود لي سالمًا، أحبك بيبرس.
همست ببكاء تلك الكلمات وذهبت من أمامه مسرعة قبل أن تخونها مشاعرها أكثر من ذلك.
بينما هو ظل ينظر لأثرها بصدمة تشوبها السعادة والفرحة بنفس الوقت، لو كان في موقف غير ذلك لكان صرخ بفرحة محتضنًا إياها بشدة، لكن لسوء حظه لا هذا هو الوقت ولا والمكان المناسب.
تنهد ثم عاد حيث جاء بخلسة وهو ينظر حوله بحذر غافلًا عن زوج العيون التي تتابعه بخبث وابتسامة ماكرة.
جاء قبطان السفينة ومعه رجاله المسلحين متحدثًا بلكنته الأجنبية وهو يشير للباخرة: كل شئ جاهز سيد يزن، لقد اخبرنا الزعيم بأنك المسؤول عن تلك الصفقة.
طالعه بجمود وهو يحدج به هو ورجاله، يطالع الموقف الذي به ومتي يمكنه الهجوم، هز رأسه بيرود فأخذ من الأوراق التي مد يده بها للتوقيع بأن تلك الصفقة تحت مسؤوليته هو وإذا تم القبض عليها ستكون مسجلة بإسمه بعيدًا عنهم.
امسك بقلمه مدعيًا وضع إمضته على الأوراق ليمسك على حين غفلة ذلك الرجل والذي يعتبر رئيسهم من رقبته وبيده سلاح حاد يشبه السكين ولكن أكثر حدة.
تحدث يزن بفحيح وهو يحدج الرجال الذين قاموا بتصويب جميع أسلحتهم تجاهه محاوطين إياهم من الجميع الجهات: أخبر رجالك بأن يرموا جميع أسلحتهم وإلا أقسم لك ستكون رقبتك بين يدي الآن.
ابتلع الآخر ريقه بزعر ناظرًا للألة الحادة التي جرحت عنقه فتأوه بألم ليأمر رجاله برمي أسلحتهم فورًا، لكن تحدث آخر بخبث قائلًا: لا يمكننا التضحية بتلك الشحنة من أجلك سيدي، هذه أوامر الزعيم.
فتح عينه بفزع لتظهر ابتسامة شيطانية على ثغر يزن ناظرًا إليه بشفقة مصطنعة: أنظر ماذا! رجالك تخلوا عنك.
لم يعطيه فرصة للإجابة بل نحر عنقه بغل ليسقط الآخر صريعًا تحت قدمه.
نظر بجانبه ليجد مراد وبيبرس على أهبة الإستعداد للهجوم ليشير إليهم بإشارة اتفقوا عليها من قبل، ليهتف يزن وهو ينظر للرجال حوله: والان قد حان دوركم يا صغار.
انطلقت ضحكات الذي تحدث منذ قليل رغم أنه شعر بالريبة من طريقة قتله الغير آدمية بالمرة ولكن تحدث بثبات اصطنعه جيدًا: تثق بنفسك كثيرًا وهذا غير صحيح، يجب أن تطلب مني السماح قبل أن اقتلك وابعث جثتك للزعيم الآن.
اقترب من يزن بثبات فابتلع الآخر ريقه مصوبًا سلاحه ناحيته قبل أن يقول: ابتعد وإلا أقسم لك سأجعلك تقع صريعًا الآن.
كان يتحدث بتلعثم ولكن أكثر ما أثار ريبته هي ابتسامته الشيطانية وعروق رقبته التي برزت من الغضب يليها رفعه لإبهام إصبعه تبعتها إنطلاق الطلقات الرصاصية العنيفة من حوله، لتشتعل الأجواء وكأنهم في أحد الحروب العالمية تتعالي الأصوات من حولهم تشق سكون الليل الحالك.
التفت جميع الرجال خلفهم بخوف يرون مصدر تلك الطلقات المجهولة ولكن لم يجدوا أثرًا لأي شخص، يبدوا أن هذا الذي يطالعهم ببرود متمرس في فن إرباك من أمامه، وقف يزن أمامه مباشرة ليتحدث بعمق ناظرًا في عينه: تبًا لك ولزعيمك الأحمق.
ثم وعلى حين غرة قام بسحب سلاحه ووجهه أمامه ليفتح الآخر سلاحه بفزع وهو ينظر لرجاله المتعرقون من الخوف وكاد أن يتحدث حتى باغته يزن بطلقة نارية علمت طريقها إلى رأسها مباشرة.
نفخ ببرود في فوهة المسدس لينظر للرجال الباقون، رغم أن عددهم كبير ولكن يعلمون جيدًا من هو يزن الراوي، فهو يعتبر كبيرهم بعد أن عمل معهم لمدة عام ونصف تقريبًا ليتحدث واحدًا منهم بخوف: س. سيد يزن، نحن ننفذ الأوامر فقط.
شقت طلقة نارية اخري سكون الليل ليهبط الآخر ممددًا لا حياة فيه ليردف يزن بسخط: اللعنة عليك وعلى أوامرك اللعينة.
ابتلع بيبرس ريقه فاقترب من مراد متحدثًا بهمس: ما به هذا! يقتل دون حتى الإستماع لمن أمامه وكأنه متمرس على القتل.
تمتم مراد بخوف هو الآخر: ربنا يستر. باينه يوم مش معدي النهاردة.
نعم هو يعلم بأنه الآن يشبه الأسد الجريح الذي يريد أن يفترس كل من أمامه إنتقامًا لما عاناه وما يعانيه حتى الآن.
علي الجانب الآخر كان عمر يقف بعيدًا عنهم ومعه القوات المتسلحة متأهبة للإنقضاض بأي وقت، راقبهم بأعين صقرية يري يزن وهو يقتل بلا رحمة، لم يشعر بالشفقة تجاههم بل كان يشعر بالإنتشاء عندما يقعوا واحدًا تلو الآخر، جذب انتباهه ذلك الدخيل الذي ينتوي في رفع سلاحه بحركة غدر لذلك ودون تفكير أمر القوات بالإستعداد وقام بالتصويب صوب ذلك الخائن ليصيبه في منتصف قلبه ليخر صريعًا في الحال، عم الهرج والمرج المكان وقاموا بتبادل الطلقات النارية على كلا الطرفين.
بينما يزن جذب سلاحه وقام بجذب أداته الحادة مرة اخري من أرض الميناء ليقاتل بغل كل من يراه أمامه، أمسك بأحدهم ثم قام بنحر عنقه والاخر طعنه في منتصف قلبه واخر أطلق رصاصته في معدته حتى قام بتصفية دمائه.
ظل يقتل ويقتل بلا رحمة وشريط ذكرياته يمر مرة اخري لا يرحمه، صرخاته وبكائه المتألم وصور الإعتداء عليه تتراقص أمامه ليقتل ببشاعة ذئب لا يمت للإنسانية بصلة.
وعن أي إنسانية سيتحدث وهم من نُزعت الرحمة من قلوبهم لتعذيبه وتعذيب غيره، استباحوا جسده في التعذيب والشهوات ليكون طفل بلا مأوي وبلا عائلة، مدمن ومشرد، لن يتهاون في الثأر بحقه وقطرة دماء هبطت من جسده، بل سيثأر لحقه ولكرامته ولرجولته.
بينما بيبرس كانت حالته لا تقل عنه، مشهد الدماء الملطخة بيده ووالدته الجاثية على الأرض تترجاه بالهرب، وشقيقته الصريعة واخيه الصغير الذي لم يتخطي العاشرة يفترشون الأرض وحولهم بركة من الدماء، هبطت دموعه وهو يقتل بلا رحمة، تلك الوحوش عليها الإنقراض حتمًا حتى لا يتسبب بأي آخر.
وقف عمر يختبأ خلف أحد الحوائط وهو يلهث بعنف يبادل الطلقات هو ورفاقه، لكن لسوء حظه نفذت خزانته ليضرب الحائط بقسوة ناظرًا حوله ليجد جثة من أحد الرجال وبجانبها سلاحه، نظر حوله بترقب مقتربًا ببطئ وحذر ثم جلس القرفصاء لأخذه، لكن تثبتت نظراته على الحذاء الذي امامه فرفع عيناه ببطئ ليجد أخدهم موجهًا سلاحه إليه، نطق بداخله الشهادة وهو سعيد بأنه سيموت مدافعًا عن بلاده وآخذًا بثأر ابن عمه، وثواني انطلقت الطلقات في رأسه!
كانت جالسة على سجادتها تناجي ربها وتدعوه ببكاء حار، حتى الآن وهو لم يعد للمنزل، أين يمكنه الذهاب يا تري!
هبطت دموع ضحي بأسي مردفة بتوسل لخالقها: يارب نجيه واحميهولي يارب، يارب خليك جنبه ومتسبهوش، انت الحنين على عبادك يارب وهو شاف كتير، عارفة إنه اختبار. بس صعب عليه أوي، يارب متبكنيش ولا توجع قلبي عليه بعد ما علقتني بيه، واثقة في حكمتك وعارفة إن كل اللي جاي خير، بس متبعدهوش عني يارب.
ظلت على حالتها تلك وهي تدعو وتترجي حتى غلبها النعاس ونامت محلها ودموعها مزينة وجهها الصغير.
نائمًا بهدوء يشعر بنسمات وردية ترفرف من حوله فشقت الإبتسامة ثغره ولكن بلحظة تحول كل شئ للون الأسود، ظهرت ذئاب تحاول اللحاق به وهي يجري بأقصي سرعته للنجاه، ولكن ما أوقفه هي تلك الأيادي التي ظهرت من باطن الأرض لتعرقله فيقع أرضًا متألمًا بشدة، استمع إلى صوت ذئير خلفه ليلتف بسرعة فاتحًا عيناه بصدمة وهو يري تلك الذئاب تفتح فمها مستعدة لجعله وجبة لتلك الليلة، أغمض عيناه بإستسلام وهو يتقبل مصيره، ليسمع صوت زئير ذئب قوي يهجم على الآخرين منقذًا إياه من براثنه ثم بلحظة انقض عليه هذا الذئب للفتك به.
اعتدل منتصر من نومته بفزع وهو يتنفس بعنف ناظرًا لجسده يتفحصه بقلق ليزفر براحة عندما أستعاب بأنه مجرد كابوس.
زفر بإرهاق قائلًا بتعب وهو ينظر لجبيرة يده: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
حول انظاره للجهة الأخري من الغرفة في منزله ليجد والدته نائمة على الأريكة، ليبتسم بحب ثم وقف ليجلس أمامها مقبلًا يدها بحنان وهو يقول بصوت خفيض حتى لا يفزعها: أمي. اصحي يا أمي.
فتحت والدته عينها تحدجه بقلق لتقول بريبة: في حاجة بتوجعك يا حبيبي!
قبل يدها مرة أخري ليقول بحنان: مفيش حاجة يا حبيبتي، قومي ارتاحي في اوضتك بدل النومة على الكنبة دي.
هزت رأسها بنفي مردفة: لا مش هسيبك لوحدك.
يا حبيبتي والله انا كويس واحنا قاعدين في نفس البيت اهو ولو احتجت حاجة هناديلك على طول.
نظرت له بتردد ليشجعها بقوله: يلا يا ست الكل روحي نامي.
استسلمت لإلحاحه لتذهب وتنام بغرفتها بينما هو عاد لفراشه وهو يتنهد بإرهاق وذلك الكابوس يؤرقهه، فيبدو أن الأيام القادمة لن يشعر براحة ابدًا.
فتح عيناه ببطئ، لينظر حوله مستمعًا لصوت مراد الساخر: يلا يا نحنوح، لو كنت اتأخرت ثانية كنت خلصت دلوقتي.
زفر براحة ليمسك بسلاحه ماددًا يده لصديقه ليمسكها الآخر بإبتسامة عريضة قائلًا: الله عليك يا شقيق. دايمًا بتيجي في الوقت المناسب.
طب يلا تعالي قربنا نخلص منهم.
ذهبوا مسرعين ليساندوا يزن ليقف ثلاثتهم في ظهور بعضهم معلنين عن مثلث القوة للعودة للصراع مرة أخري.
كان بيبرس مازال يقاتل وحبات العرق تتناثر على جبهته بشدة، ليسيطروا على الوضع بعد دقائق معدودة ويكون النصر لهم هم، ابتسموا بإنتشاء وهم يجلسون أرضًا ليضمهم يزن بحب وهو يربت على ظهورهم.
ولكن ما قاطع إحتفالهم بالنصر هي تلك الصرخة الأنثوية المتألمة ليصرخ بيبرس بخوف وفزع وهو يهرع إتجاهها: لاااا جيسيكاااااا.