قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العشرون

((( ليس شرطاً أن تتحقق كل أحلامك، بعضها يظلّ مقيداً بأغلال القدر الخفية))).

لم يتوقع أن يكون بهذا الجُبنِ أبداً، حالما يسمع نبرة صوتها المعبقة بالكبرياء والقوة سيصاب بالخرس، دمعة حزن نفرت من مقلتي عمار المُتعب، أغلق الهاتف ورمى رأسه على فراشه الأبيض في المستشفى الراقي، طالع قرص الشمس المتوهجة من النافذة بمزيج من المشاعر المختلطة، ومن خلفه كان شابٌ ما قد وقف يطالعه بأسىً، تنهيدة طويلة صدرت عن عمار مجادثاً رفيقه بنبرة متأثرة: ابنتي الحبيبة،!

اقترب رائد منه حتى جلس على الكرسي جواره قائلاً بمواساة: حريٌّ بك أن تكون فخوراً سيد عمار، فمياس فتاة بألف رجل.
أسدل أجفانه يعتصرها بمزيج من الندم والفخر، عاد ليتطلع إلى رائد بامتنان معقباً: لاتعرف كم أنا شاكر لك يارائد، حقاً.
قاطعه الأخير مربتاً على كتفه معقباً ببسمة صغيرة: لا داعي لتشكرني، فمكانتك عند جدي رحمه الله كبيرة، وأنا أنفذ وصيته فقط.

عاد للخلف يستندُ على كرسيه مضيفاً: ربما يجب أن تكون شاكراً للحظّ وللواء جلال، فلولاهما لما أصبحتُ بهذا القرب من مياس لأجلب لك أخبارها.
حرك عمار رأسه بتفهم ثم استدار نحو النافذة غارقاً في ذكريات شتى، يطالع سماء وطنه ومدينته التي عاد إليها حديثاً، قبل يومين على وجه التحديد، ليقضي آخر أيامه فيها قبل أن يحتويه ترابها...

حطتِ الطائرة لتوها على أرض مطار روما، أطلّ عمار الشاب من خلف الباب حاملاً على ظهره أحلاماً كثيرة، وفي داخله صندوقاً أسود أغلقه من الليلة التي تمّ نفيه فيها.

أنهى كافة معاملاته القانونية ليخرج من المطار بخطوات مرتعشة، تنفس بعمق حالما وطأت قدماه أرضاً أجنبية عنه، هبت عليه رياح الجفاء والغربة فزاد ارتجاف جسده وجلاً، وكل مااعترى قلبه لحظتها كان الندم على مااقترفته يداه في حقه وحق عائلته، وشخصاً آخر لم يجرؤ على ذكره حينها...

مدّ يده إلى جيب سرواله ليخرج بضع وريقات مالية مجعدة، تلك الوريقات الخضراء أعطته إياها أمه بعد أن باعت مشغولاتها الذهبية ليتدبر ابنها أمره في الغربة، ناظرها بقلة حيلة سرعان ماستنتهي هذه الوريقات وبعدها ماذا؟

ارتفع صدره بتنهيدة ثقيلة ثم حثّ خطاه ليستقلّ سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يأخذه إلى فندقٍ رخيص، ربما للصدفة البحتة أو أنها دعوات أمه كان السائق رجلاً عربياً مثله، أوصله إلى الفندق الذي طلب وأعطاه السائق رقم هاتفه لطلب العون حين الحاجة، حاول عمار البحث عن عملٍ ما لكن فرصه كانت قليلة خاصة لعدم إتقانه للغة، بعد أسابيع عدة كانت أموال عمار على وشك النفاذ ليقرر أخيراً الاتصال بذلك السائق طالباً منه المساعدة، لم يتردد السائق فأخبره عن صاحب محلٍ للحلوى العربية يبحث عن عامل يعمل معه، بعد اللقاء وافق الرجل العجوز على عمل عمار معه وتدريجياً تعلم المهنة، بعد عامين صُدِمَ بخبر وفاة والديه دون أن يخبره إخوته وتفرقت عائلته، هذا الخبر جعله يدفن نفسه في العمل ليلاً نهاراً حتى أصبح عمار مع السنوات مالك أكبر محالّ الحلويات الشرقية في المغترب، كان في ليله يعدُ خيال عليا المرتسم على كل شيء أمامه بأن يعود ليحصل على عفوها ويسترضيها، لأنه أدرك بأنه أحبها، لكن بعد فوات الأوان، إلا أنّ كل شيء انقلب عندما عرف عمار بإصابته بالداء الخبيث في كبده، فقد شهيته لكلّ شيء وهزُلَ جسده، حينها فقط شعر بعظم شوقه إلى عليا، والتي لم يعرف قيمتها إلا بعد فقدانها، كذلك تلك الجوهرة التي حُرِمَ منها قبل أن يراها حتى...

عاد عمار من ذكراه تلك على صوت إغلاق الباب ليدرك مغادرة رائد بينما كان هو شارداً في ذكرياته البعيدة، ابتسامة امتنان زحفت على ملامحه لعائلة رائد بدءاً من جده الذي ساعده في غربته، ثم لرائد الذي كان ينقل له أخبار مياس ويسعده بها حين يئس من الدنيا كلها، أغمض عينيه حين نطق اسمها بتلذذ عجيب: مياس، ابنتي الذئب!

رغم كون الأمر مؤلماً بالنسبة له، أن يحترق تعبه أمام ناظريه، لكن الأمر لم يشغله كثيراً كحال أمر ذلك الشاب الغريب، من هو؟
لم يغفو كمال أكثر من ثلاث ساعات، رغم تعبه ورفض سعاد مغادرته المنزل، إلا أنه الآن يصطفّ بسيارته أمام المشفى، ماكاد يدلف إليها باحثاً عن حسام حتى التقاه الأخير عند الباب على وشك المغادرة، استغرب حسام تواجده في هذا الوقت المبكر فهتف متسائلاً: سيد كمال! هل أنت بخير؟

قابله الآخر ببسمةٍ متعبة مربتاً على كتفه بودّ: أنا بخير يابني لاتقلق، أتيت اطمئنّ على الشاب الذي جلبناه بالأمس، كيف حاله؟
أشار حسام برأسه وقد ارتاح بعض الشيء فأردف: لاداعي للقلق سيد كمال الشاب بخير، لكن كما قلتُ لك سابقاً هو في غيبوبة حالياً، وننتظر إيجاد عائلته لنبدأ بعمليات ترميم وجهه.
هتف كمال وقد انعقدت ملامحه: أمن الضروري انتظار عائلته؟ ألا تستطيعون البدء بها فوراً؟

بدت الحيرة على وجه الآخر فقال بتذبذب: بلى ولكن...
قاطعه الآخر برفق: من دون لكن يا بني، إن كان بإمكانكم البدء بهذه العمليات فابدؤا بها فورا، وفي هذه الأثناء سنبحث عن عائلته ومن المؤكد أنهم لن يمانعوا، وأنا سأتكفل بالفواتير كلها.
لم يعرف حسام بمَ يجيب كمال فرفع كتفيه بقلة حيلة: لا مشكلة سيد كمال، تفضل إلى مكتب مدير المشفى لنحادثه بهذا الأمر.

تحرك كمال برفقة حسام عائدين إلى المشفى، بينما هما يمشيان في الرواق تساءل حسام بنبرة عادية: بالمناسبة سيد كمال، ماسبب اهتمامك بذلك الشاب كل هذا الاهتمام؟
تنهد الآخر بقوة مجيباً بصدق: لا أعلم يابني، لكني أشعر بأني المسؤول عمّا حدث له بطريقة أو بأخرى، لربما كان حقاً يساعدنا في إخماد حريق المخزن وعلق هناك.

هز حسام رأسه باستحسان لمقال كمال وقد علت مكانته في نظره ثم عقب: الحقيقة أدهشتني ياسيد كمال، وأقنعتني أنّ الدنيا مازالت بخير بوجود أمثالك فيها.
قهقه كمال بخفة ليضيف: إن خليتْ بليتْ يابني.
وقف أمام غرفة المدير ليقابل حسام متابعاً: وبالمناسبة، لاتنادني سيد، أنت بمثابة ولدي ناديني عمي كمال.
اتسعت بسمة حسام وغزتِ السعادة محياه هاتفاً: طبعاًطبعاً أتشرف بهذا سيد...
سرعان ما تدارك زلّته: أقصد عمي كمال.

ربت الأخير على كتفه ثم دلف كلاهما إلى مكتب مدير المشفى، وفي نفس حسام تعاظم السرور، ربما هذه فاتحة خير تبشره بقبول طلبه إن تقدّم إلى أروى...

قارب اليوم على الانتصاف عندما صدح هاتف مياس معلناً عن اتصال هاتفي، حينها كانت لاتزال نائمة، بحثت عنه بعيون مقفلة حتى وجدته، فأجبرت مقلتيها على الانفراج لتتطلع بنصف عين إلى الهاتف، كان هاتفها القديم، سرعان ماانتفضت صاحيةً وهي ترى الرقم الخاص، أجابت ببرود مقنع: نعم؟
وقف خطاب أمام نافذته الكبيرة واضعاً هاتفه على أذنه قائلاً بجمود: أتعلمين ما الذي فعلته الآن؟

كانت نبرته مُقلقة للغاية، ليست ذاتها نبرته المعتادة الزاخرة بالكبرياء والعنجهية، ببساطة بعثت بها القلق وهي التي لم تخف من قبل، عقدت حاجبيها مجيبة بلهجة حاولت جعلها عادية: أنت من بدأ ياخفاش، والبادئ أظلم.
قهقه الأخير بصخب أزاد قلقها حتى قطعه هو بشكل مفاجئ ثم همس بنبرة جوفاء بطيئة أرعبتها: لقد استدعيتِ الشيطان الكامن داخلي، ولن يهدأ حتى تأتي النار على كل شيء يامياس، كل شيء.

خفت صوته متابعاًوهو يضغط على كل حرف من جملته: حتى أنتِ!
أعقب جملته المُهدّدة تلك صفيراً طويلاً معلناً عن إنهاء المكالمة، لكن مياس ظلت على جمودها وانعقاد ملامحها بقلق، ازدردت ريقها ببطئ وهي تنزل الهاتف عن أذنها متطلعةً صوب الشاشة، يجب أن تعرف الجاسوس لتصل إلى رئيسه في أسرع وقت، الخفاش هذه المرة لايمزح، تهديداته في الأمس واليوم لم تكن عبثاً، ولإنها تعرفه حرياً بها أن تقلق حقاً.

نفضت الغطاء عنها تالياً لتستقيم من مكانها، كان أول ماخطر في ذهنها أن تحادث اللواء جلال وأويس، يجب أن تخبرهما بأخر المستجدات، هما حالياً الوحيدان محطّ ثقتها.
بعد ساعة كاملة كانت مياس قد وصلت إلى مبنى المكافحة، بخطىً متعجلة دلفت إلى المكتب لتجد الشباب الأربعة قد استبقوها، لم تأبه حتى بإلقاء التحية بل وقفت عند الباب هاتفة بأمر: أويس، تعال.

لم يكد أويس يستفيق من أمرها حتى انتبه لمغادرتها، تبادل مع الثلاثة المتبقين نظرات مستريبة ثم انطلق ليلحق بها، فهيئتها لم تكن بالمطمئنة أبداً، تاركاً رفيقه طارق يطالع ذينك الباقيين بنظرات متفرسة، أحدهما هو الجاسوس الذي تحدثت مياس عنه بلا ريب، لكن السؤال اللولبيّ هنا: من هو؟

ومالذي قصده الخفاش باعتقادك؟
هتف جلال بهذه الجملة وهو يقترب بجسده من الطاولة عاقداً كفيه ببعض، موجهاً سؤاله إلى مياس التي شرحت له ولأويس مابدر عن الخفاش وقلقها منه هذه المرة، شبكت أصابعها مجيبةً بعملية: سيدي من منطلق معرفتي بأسلوب الخفاش، فإنه الآن كالحيوان المجروح، همه الوحيد أن يردّ لنا الصاع صاعين ويسترجع كرامته التي أهدرناها خلال الأيام المنصرمة.

هتف أويس هذه المرة بسؤال: ما تفسير مافعله أمس إذاً؟ لماذا لم يقتلنا ببساطة؟
وجهت أنظارها إليه لتعقب بتقرير: لأنّ الخفاش بطريقة ما أعجبته اللعبة، بالأمس كان يحذرنا أن نلعب خارج المضمار، إنها لعبته هو، وقوانينه هو، لكننا بالأمس خرجنا عن المخطط الذي وضعه لنا فكان ماحدث بمثابة بطاقة صفراء من الحكم.
لم يفقه من حديثها حرفاً فصاح باستهجان: لعبة ومضمار وقوانين؟ نحن في صدد مواجهة منظمة كاملة يامياس لانلعب!

دون أن تهتزّ ملامحها أعقبت: بلى، هذه اللعبة بدأت منذ عام ياأويس، منذ أن كنتُ متخفية، لكنها كانت في المرحلة الأولى، اضرب واهرب، حين انكشفت هويتي أمام الخفاش انتقلت اللعبة إلى المستوى التالي، حيث كنتُ مكشوفة بالكامل أمامه.

سكتت لثانية قبل أن تضيف وهي تنتقل بنظرها إلى جلال: الآن وقد انتقلنا إلى المستوى الثالث عدنا متخفين أمام الخفاش، لم يعد يرانا، خلقنا له مايشبه المتاهة، وهذا جعله يخرج عن حذره وصمته.
بدى أويس كأنه يتفكر في مغزى حديثها، والذي لم يقنعه بشكل كلي فعاد ليسأل: لم أقتنع، لماذا قد يقبل الخفاش بلعبة الحظ هذه؟ كان بإمكانه التخلص منا في أي مكان وزمان ويحافظ على منظمته من الخطر الذي بات يحاوطها؟

تبسمت بثقة وقد عادت تتطلع إليه قائلة ببرود: كما أخبرتك قبلاً أويس، الخفاش أعجبته هذه اللعبة، على مايبدو فإنه رآها فرصة لتغيير روتينه اليومي.
بدت عليه الحيرة فنطق بضياع: لم أعد أفهم شيئاً.
اتسعت ابتسامتها وهي تقول بعجرفة: ليس المهم أن تفهم، المهم أن تكون حذراً، فالخفاش يخطط لضربته القادمة، يجب أن نعرف زمانها والمكان بالضبط قبل تنفيذها.

استند اللواء جلال بظهره إلى كرسيه، ضيق عينيه قبل أن يهتف متحدثاً: أظنّ أنني عرفتُ الزمان والمكان.
أولاه كلاهما اهتمامه خاصة مياس التي تجعدت قسماتها متسائلة: ماذا تقصد سيدي؟
أجابها دون تأخير: في الأمس وصل سفير إحدى الدول الأوروبية إلى المدينة، حيث طلب من المحافظ أن يزور المتحف ويرى الأثار الموجودة فيه.

سكت للحظات كان كلاهما قد فهم المغزى من حديثه إلا أنه تابع: الليلة سيقوم السفير بزيارة المتحف وقد طلب المحافظ منا تأمين المكان لزيارته.
تساءل أويس بعدم فهم: لكن سيدي، أيعقل أن يسرق الخفاش تحفةً ما من المتحف وسط كل ذاك التأمين؟
تطلع جلال ناحيته معقباً: المشكلة أنّه سيتواجد الكثير من الصحفيين وقنوات التلفزة هناك يا أويس.

في اللحظة التالية نقل نظره إلى مياس مضيفاً بمكر: أتذكرون تلك التحفة التي قاطعتم عملية بيعها؟ تم وضعها هناك.
غزت الحيرة وجهها كأنها تفكر في صحة ماقيل، ثم هتفت بعد لحظة: ربما ماقلته صحيح سيدي، سيستغلّ الخفاش الجمع القائم ليستعيد التحفة ذاتها، وهكذا يخبرنا بأنه الأذكى، ويحرجنا أمام الإعلام والسفير.
حرك جلال رأسه بتأييد، لكن أويس قال باستنكار: لماذا يسرق التحفة ذاتها؟

ناظرته بدورها مجيبة: كما سبق وقلت أويس، ليظهرنا بمظهر الحمقى والمهملين أمام الإعلام، وفي الوقت ذاته يسرق تحفة أثرية تساوي ملايين الدولارات، أي أنه سيضرب عصفورين بحجر.
عقد حاجبيه لثوان لم تطلْ، سرعان مااقتنع بحديثها فهي لم تخطئ في تقدير حركات الخفاش قبلاً خلا بعض المواقف التافهة كموقف أمس! تطلع تالياً إلى اللواء جلال الذي عقب: تحدثي مع رائد فهو المسؤول عن تأمين المتحف، خذي أويس معك وكونا حذرين.

استدار صوب مياس في اللحظة التالية مضيفاً بلهجة أبوية حانية كلها ثقة: احرصي على القبض على عميل الخفاش يامياس، أنا واثق بك ياابنتي.
تبسمت بامتنان وأشارت برأسها ثم نهضت لتغادر، بطريقة أو بأخرى شعر أويس بالغيرة لاكتسابها ثقة اللواء جلال وكل من حولها، ربما هي تستحق، لكنه يستحق ذلك هو الآخر...

لحقها مهرولاً وكاد يناديها لولا رنين هاتفها الذي أعلن عن اتصال، سحبت هاتفها الجديد من جيب سروالها الخلفي وطالعت الشاشة لتجده الرقم الخاص الذي اتصل بها فجراً، عقدت حاجبيها بتفكير، قلةٌ قليلة هم من يعرفون برقمها الجديد، ويستحيل أن يكون الخفاش، لكن من هو؟

لم تترك نفسها للتخمينات الجوفاء فأجابت الاتصال بثبات، وقفت في منتصف الطريق وأويس من خلفها لكن لم يجبها أحد لغاية اللحظة، تلك الأنفاس ذاتها التي تحمل أشواقاً لم تألفها من قبل، هذه ليست حركات الخفاش، لكن من يكون هذا الشخص؟

أغلقت الهاتف في وجهه شاردةً في نقطة فارغة، ملامحها معقودة بتفكير سقيم، لاتنكر القلق الذي بدأ يتسرب إليها من صاحب هذه الاتصالات المجهولة كأنه فقط من ينقصها الآن، أفاقت على لمسة أويس على كتفها بعد أن ناداها عدة مرات دون رد، أجفلت بخفة متطلعةً إليه بوجه شاحب، فسخر قائلا: مابك أرأيت عفريت؟
تمالكت نفسها لتردّ متهكمة هي الأخرى: لكان العفريت أهون من رؤية وجهك.

تحركت عقبها دون الالتفات نحوه لينظر في أثرها بامتعاض واضح مدمدماً مع نفسه: ماذا أقول؟ خفاش أسود!
تبعها بعد لحظة ليعاود سؤالها: من اتصل بك مياس؟
لم تجب، فسأل مجدداً لتجيب بلا اكتراث: لا أحد؟
كانت صادقة في جزئية ما من حديثها، لكنه لم يقتنع وكاد يسأل من جديد لولا أنها دخلت إلى المكتب المشترك وحادثت طارق: طرأ لدينا عمل مفاجئ، ستأتي معنا.

ثم تطلعت إلى إيهاب وصلاح معقبةً: أنتما ستبقيان هنا في حال احتجنا لدعمكما.
هتف صلاح بسرعة: ماهو هذا العمل المفاجئ مياس؟
طالعته بعيون ضيقة مستريبة فبان عليه التردد ليعقب بنبرة متذبذبة: أ أقصد لمَ تأخذون طارق وتتركونا نحن هنا؟
رغم تعاظم شك مياس به لكنها قررت إرجاء أي إجراء تتخذه في حقه حالياً، ادّعت عدم الانتباه لزلّته فأجابت بلا مبالاة: قد نحتاجك أنت وإيهاب لجلب مؤازرة لنا حيث نحن ذاهبون.

أخرجت هاتفها الجديد من جيب سترتها، لتطبق المثل القائل: غلطة الشاطر بألف.
لم تنتبه مياس لفعلتها هذه حين كانت منشغلة بطلب رقم رائد، ثم تحركت إلى الخارج مشيرةً إلى أويس وطارق بأن يتبعاها، ظلّ صلاح يراقبهم حتى غابوا عن مدى نظره، وابتسامة لئيمة زينت محياه، خاطب إيهاب دون أن ينظر نحوه: لديّ أمر هام أقوم به، انتظر هنا.
أجابه الآخر بدهشة وهو يراه يتحرك خارجاً: إلى أين تذهب صلاح؟ لقد سمعت ماقالته مياس...

قاطعه الأخير مشيراً بيده بلا مبالاة: سأعود سأعود لن أتأخر.

تعال ياسهيل!، اخرج ياسهيل!، اذهب ياسهيل!، اغرب عن وجهي ياسهيل، وكأن العالم خلا من الناس كلهم ماعدا سهيل...
كان الأخير يدمدم بهذه الكلمات متذمراً من أوامر خطاب التي لاتنتهي، صاح معقباً عندما تعالى رنين هاتفه، مقلداً صوت خطاب: والأن أجب على الهاتف ياسهيل، قصف الله عمر سهيل ليتخلص من هذه الأوامر.
رفع هاتفه ليجيب بنبرة جادة مختلفة بشكل جذري عن نبرته قبل لحظة: نعم؟

تحدث صلاح بصوت خافت: مياس بدأت تشكك بي ياسهيل.
صُدِمَ الأخير بجملته المختصرة فارتسمت على وجهه علامات التعجب هاتفاً بحذر: مالذي قلته للتوّ؟
كما سمعت، لقد رأيتها تحمل هاتفاً جديداً، ليس ذاته الذي أخبرتني أن أضعه تحت المراقبة، ربما بسبب ذلك لم أكن أعرف شيئاًعن تحركاتها سابقاً.
همس سهيل بسبةٍ بذيئة ابتلعها الآخر على مضض، ثم هتف صارخاً به: أيها الأبله! ولم تعرف هذا إلا الآن؟

ابتلع صلاح ريقه الناشف بوجل ثم قال بتقطع: ما ذنبي أنا؟ أخبرتك من قبل إنها ذكية بشكل مرعب.
وأين هي الآن؟
لا أعلم، خرجت برفقة أويس وطارق ولم تخبرنا بشيء، فقط أمرتنا أنا وإيهاب بالبقاء هنا.
تنفس سهيل بعمق ثم حادثه من تحت أسنانه: اسمع، سأنقل ما قلتَ للخفاش وأخبرك بما يأمرنا.

أغلق الهاتف عقبها متمتماً مع نفسه بكلمات مبهمة، يبدو أنّ الخفاش ومياس سيوديان به إلى الجنون قريباً، طرق على باب مكتب خطاب بخفة ثم دلف ليجد رئيسه كالعادة يقابل النافذةمن على كرسيه، استدار خطاب صوب سهيل وعلى وجهه بدى سؤاله الذي لم ينطقه فتحدث الآخر بتوتر: سيدي لقد حادثني صلاح منذ لحظة، وأخبرني أنّ مياس ربما بدأت تشك فيه.

زوى خطاب مابين حاجبيه باستغراب جعل الآخر يشحب وجهه ثم أضاف بنبرة مرتعشة: إنها تستخدم هاتفاً غير ذاك الذي تحادثها منه، كما أنها خرجت برفقة طارق وأويس ولم تخبره بالمكان الذي قصدته.

ضيق عينيه بتفكير، توقع أن تكشف جاسوسه لكن والحق يقال، لم يتوقع أن تفعلها خاصة في هذا الوقت المبكر، لكن جملة سهيل الأخيرة أكثر ماأثار انتباهه، ربما توقعت خطته لهذه الليلة، فعلاً في كل مرة يزيد إعجابه بها، تبسم بخبث وقد خطر في باله خاطر، ثم حادث سهيل: أخبر الرجال بإلغاء عملية السطوّ هذه الليلة.
رفرف سهيل بعينيه بعدم فهم فأردف بنبرة متذبذبة: سيدي تقصد أن نلغي الخطة بأكملها؟

حرك رأسه إلى الجانب بخفة معقباً بلهجة باردة: لا، سنقوم بتعديل بسيط بها.
لم يفهم سهيل ماقصده رئيسه، لكن بسمته تلك لاتنمّ عن خيرٍ أبداً، هز رأسه باحترام ثم تحرك ليخرج قبل أن تتجمد قدماه عندما صاح خطاب منادياً باسمه، عاد إلى مكانه بانتظار أوامر خطاب التالية والذي تساءل: قلت أنّ مياس بدأت تشكك في صلاح، لذى لاريب أنها ستبحث خلفه.

سكت لثوان ماجعل سهيل يعقب معتقداً أنه فهم مقصده: تريد أن نتخلص منه سيدي؟ سنفعل في الحال.
طالعه خطاب بنظرات ماكرة ليردف بنبرة هادئة بخطر: لا، بل أريد أن أوقع مياس شرّ وقعة.
استمع سهيل إلى خطة خطاب الجديدة، والتي جعلت مقلتيه تجحظان كأنهما ستخرجان من مكانيهما، مارسمه لها خطاب إن نجح سيودي بها إلى السجن في أفضل الأحوال، هذا إن لم يوصلها إلى حبل الإعدام...

هي المسؤولة بشكل دائم عن طهو طعام العائلة، فهي بارعةٌ فيه بشكل استثنائي، تنجزه بكل الحب والاهتمام، حركت عليا الحساء وهو يغلي على النار لترفع منه ملعقة لتتذوق طعمه، ابتسمت برضى عندما وجدته كالعادة، لذيذاً وشهياً.
كانت أروى تساعد عمّتها في تقطيع البطاطا لتجهيز طبق العشاء، أنهت ماكانت تفعل لتحادثها برقتها المعهودة: لقد انتهيت عمتي، هل تريدين مني شيئاً آخر؟

تطلعت إليها عليا ببسمة حانية قائلة: أريدك أن تجلبي لي بضعة أغصان من النعناع الطازج والبصل الأخضر من الحديقة الخلفية.
أشارت بطاعة لتخرج من فورها، فيما تولّت عليا مهمة غسيل قطع البطاطا وتنظيفها من الأتربة، صدح هاتفها برنين طويل فجففت يديها بقطعة القماش المعلقة على كتفها، ثم أخرجت الجهاز من جيب مريولها الزهري لتطالع الشاشة، قرأت رقماً خاصاً عليه فاستغربت الأمر لتجيب الاتصال بتساؤل: ألو؟ من معي؟

تنهد عمار بحنين طويل قبل أن يهتف باسمها بتوق: عليا!
شحب وجهها دفعة واحدة حتى شعرت بأنّ الأرض تميد بها، فاستندت على الطاولة الخشبية أمامها، ابتلعت ريقها بتوتر قائلة بنبرة حاولت جعلها غاضبة: مالذي تريده ياعمار؟ ألم يكفكَ مافعلته في الماضي؟
أغمض عينيه بقوة يضغط عليهما بندم، تحدث بعد حين بنبرة ذات مغزى ألقت الرعب داخلها: لقد عدتُ إلى الوطن ياعليا، عدتُ إلى مدينتي.

ارتعش جسدها بقوة انعكست على يدها التي تحمل الهاتف، شهقت نفساً طويلاً زفرته على عجل قائلة بلا مبالاة مُختلقة: وماشأني بك؟ لمَ تخبرني بهذا أصلاً؟
لم يتردد في الإجابة عليها بما تمناه دوماً: أريد رؤيتك، رؤيتكما.
جحظت عيناها وهي تتساءل: من تقصد؟
أقصدكِ أنتِ وابنتي، مياس.

لم تعد قدماها قادرتان على حمل ثقلها وهو يصرّح لها بما كانت تخشاه دائماً، أن يعود عمار يوماً ويطالب في حقه بابنته حلماً مزعجاً كان يراودها دوماً وتبتهل بألا تراه حقيقة، لم تستمع عليا لما تبقى من حديثه وهي تسقط بثقلها على الكرسي القريب، شعرت بانقطاع أنفاسها وسقطت عبرتها حين ارتخت يدها عن هاتفها حتى سقط على الطاولة الخشبية أمامها، لم تعد تميز ما تراه ولم تشعر بدخول أروى لتجدها بهذه الحال، أمسكت بكف عمتها تفركه بحنان وهي تسألها عمّا ألمّ بها، لم تستطع عليا إجابتها حتى سقطت بين يديها مَغشياً عليها...

مساءً، في المتحف الوطني الخاص بالمدينة الساحرة.
كان المتحف في الأصل عبارةً عن منزل قديم جداً من الطراز الرفيع، وكان مؤلفاً من طابقين اثنين، لكن الطابق العلويّ أُغلقت كافة غرفه لتبقى الصالة السفلى الكبيرة فقط هي ساحة المتحف، مُدّت البُسُط التقليدية في الأرضية، وانتشر أفراد فريق رائد في الزوايا جميعها.

وصل موكب السفير الأوروبي إلى المتحف، حيث تزاحم عند بابه العشرات من الصحفيين والإعلاميين، بدأت كاميرات التصوير تومض هنا وهناك بسرعة وإزعاج، لكن مياس آثرت ألا تظهر في الصور لذى اتخذت موقعها داخل المتحف، في الطابق العلويّ تحديداً، وضعت في أذنها سماعةً متخفية تتواصل عن طريقها بأويس ورائد الذين كانا في الأسفل، تطلعت من موقعها إلى السفير الذي دلف لتوّه رفقة المحافظ، ومن خلفه كان أفراد الأمن وعدد من الحراس، رفعت مياس يدها لتضغط على سماعتها محدّثة رفيقيها: هل لاحظتم أي أمرٍ مريب؟

أجاب رائد من مكانه في صدر المتحف: لا شيء لغاية اللحظة.
عقب أويس الذي وقف قرب البوابة الرئيسية: لم ألاحظ شيئاً كذلك.
فور دخول المحافظ وضيفه تبعهم العديد من الصحافيين حتى أحدثوا جلبةً وفوضى كبيرة، استرابت مياس في الأمر فهتفت في سماعتها: افتحوا أعينكم جيداً وكونوا يقظين.

تأهب كلاً من رائد وأويس في وقفتهم وتنبها جيداً، استقامت مياس في وقفتها وهي تتفرّس في وجه كل شخصٍ وقف في الأسفل، سمعت همس أويس المتسائل وهو ينقل نظره الحادّ بين الحضور: لا أعلم مياس، أشكّ في أن يتهوّر عميل الخفاش ويحاول سرقة إحدى التحف الآن، لاتنسي أنّ جميع التحف محمية بأشعة ليزر.
أيده رائد مضيفاً: أظنّ أنّ أويس على حق مياس، لو حاول أحد سرقة تحفة ما سينطلق جهاز الإنذار وسيُفتضح أمره.

عقب طارق الذي كان في غرفة المراقبة يجلس أمام العديد من الحواسيب والشاشات: وأنا أؤيدهما كذلك، لا أعتقد أنّ الخفاش أحمقٌ لهذه الدرجة.

سمعت كل ماقاله رفقاؤها لكنها على يقين بأنّ العميل سيظهر عاجلاً أم آجلاً، ضيّقت عينيها بانتباه شديد لكنها لمحت خيالاً ما في الرواق الذي كانت تقف فيه، التفتت تناظر الفراغ بانتباهٍ شديد لكنها لم تجدْ شيئاً، ظنّت نفسها واهمة فعادت لتنظر إلى الأسفل، جلبةٌ خفيفة جذبت انتباهها لتعاود النظر إلى الرواق الفارغ، شعرت بتواجد أحدهم معها في الطابق ذاته فرفعت يدها لتضغط على السماعة هامسةً: رائد إلزمْ مكانك وطارق كن يقظاً، أويس اصعد إليّ.

شعر أويس بأمرٍ مريب فتطلع إلى مكانها متسائلاً بشكّ: مالأمر مياس؟
لم تجبه حين تحركت خلف الظلّ الذي تراءى لها من إحدى الغرف البعيدة نسبياً عن مكانها، استغربت الأمر فهي تعلم أنّ الغرف في هذا الطابق مقفلة كلها، سحبت سلاحها وتقدمت بخطوات حَذِرة، كانت بحاجة إلى الانتباه وصوت أويس السائل في أذنها شتّتها فخلعت السماعة لتركز أكثر.

لم يقفْ أويس مكانه أكثر حين هتف باسمها أكثر من مرة دون ردّ، دمدم بكلماتٍ لم يتبينها مع نفسه ثم حثّ خطاه ليتبعها، لكن في هذه اللحظة انطلق جهاز الإنذار حين اصطدم أحد الصحفيين قاصداً بأحدى التحف، تلهى أويس مع رائد وبقية رجال الأمن الذين رفعوا مسدساتهم، وحرس السفير حاوطوه وقاموا برفع أسلحتهم كذلك، بينما رفع الشاب الصحفي يداه إلى الأعلى بجسدٍ مُرتعش، وقد عمّت الفوضى صالة المتحف.

فتحت الغرفة بحذرٍ شديد ودلفت إلى الداخل بتؤدة وهي تطالع كل شيءٍ حولها، كانت الغرفة كبيرة و فارغة تماماً إلا من خزانة صغيرة في الحائط، ونورٌ خفيف ينبعث من الإضاءة القديمة في السقف، رفعت سلاحها صوب النافذة المفتوحة وحثت خطاها الحَذِرة ناحيتها، لكنها تجمدت مكانها حين انقطعت الإضاءة فجأة وسمعت صوت إغلاق الباب.

تعالى صدرها وهبط وهي تشعر بخطوات خفيفة خلفها، التزمت مكانها والعتمة المحيطة بها تبعث على الخوف في النفس، لكنها تحلّت بالثبات وبرودة الأعصاب حتى شعرت بشيءٍ حديديّ يستقرّ على رأسها من الخلف، وصوتٌ مقيت بنبرة كريهة مستهزئة يحادثها: ثلاثة برفقة جيش في مواجهة واحد؟ ألا تبالغون قليلاً؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة