قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والعشرون

(((رغماً عني تسوقني الأشواق الى أيام كنت فيها بخير حقاً، يوم أن كانت ضحكتي حقيقية دون تزييف، اشتقت لوجه غاب ولن يأتي، للمسة حب لن تتكرر))).

عُرِفَ عن الوطواط حبه للظلام، واتباعه لأساليب متجددة دوماً واعتماده على نفسه في الصيد.
كذلك عُرِفَ عن الذئب أنه صاحب دهاء ومكر وخديعة، لكن أحياناً يكون ذكاؤه هذا سبب وقوعه في الفخ الكبير.
أيقنت مياس أنها سارت بقدميها إلى شرك الخفاش الذي نصبه لها بكل أمانة، أمرها خطاب بلهجة جادة لاتحمل ذرة من المزاح، أثناء ضغطه على رأسها بفوهة كاتم الصوت: ألقِ بسلاحك إلى الجانب.

نفذت من فورها، لم تخف مياس من العتمة المحيطة بها، ولا من السلاح الذي وُضع على رأسها، ولا حتى من الخفاش الذي وقف خلفها وهي على يقين بأنه قد يقتلها ويهرب دون أن يشعر به أحد، ماتزال تسمع أصواتاً متداخلة من الأسفل، وهذا معناه أنّ الخفاش رسم خطة بمنتهى الغدر ليستفرد بها، حافظت على رباطة جأشها وهي تسمع نبرته الحازمة لتدرك علمه بالفخ الذي كانت تحيكه له، لكنها والحق يقال لم تتوقع حضوره، ابتسامة باردة ارتسمت على طرف شفتيها وإنارة طفيفة من نور القمر يتسلل إلى جانب وجهها هامسةً بنبرة هادئة: دعني أكن صادقة معك، لم أتوقع أن تحضر شخصياً لتقتلني.

قهقه خطاب بسخرية واضحة ليقول من بين ضحكاته: أقتلك؟ لا ياعزيزتي، لو أني أريد قتلك لفعلها رجالي ليلة أمس دون أن أدنس يديّ، لكني لستُ من هذا النوع.

تعترف أنها شعرت بالريبة، بجملته تلك جعلها تعقد ملامحها دون فهم مايرمي إليه، حاولت التماس أي صفةٍ خاصة به قد توصلها لهويته الحقيقية، عدا عن كونه مغروراً ومعتدّ بنفسه ومستريب للغاية، تحرك خطاب خطوة واحدة حذرة إلى الجانب ليضيف: أتعرفين لماذا أطلقتُ على نفسي لقب الخفاش؟،.

تغضن جبينها باستغراب مستمعةً لمايقوله، لولا أنها بدأت تشكك بنواياه الحقيقية، في حين تابع خطاب بنبرة ملؤها الغرور والعنجهية: لإنّ الخفاش سيء السمعة ويحب الظلام مثلي، عندما يحدّد ضحيته فإنه يلتزم الصمت والحذر، ويمكنه امتصاص كمية كبيرة من دمائها دون أن تشعر به.

حاولت قدر الإمكان المحافظة على ثباتها أمام حديثه والذي تجهل لغاية اللحظة مغزاه الحقيقي منه، فتحدثت بثبات ساخر: ولماذا تخبرني بهذا كله؟ هل أتيتَ لتقتلني أم لتعطيني درساً في الخفافيش؟
أجابها دون تردد: لقد أخبرتك، لا أريدك أن تموتي.
لهجته الجادة تلك جعلتها تفكر في حقيقة قدومه، لم تترك نفسها للأسئلة والتخمين فتساءلت: لماذا؟

اتسعت ابتسامته الماكرة ولم يجبها، مضت ثوانٍ قليلة كان الصمت المريب هو السائد، حركت رأسها بخفة لكنه ضغط عليه بواسطة سلاحه فعادت ساكنة، إلا أنها لاحظت خلال استدارتها أمراً مريباً، رائحة معقمٍ كحولي قوية تصدر عن الخفاش، لم تكن بحاجة للكثير لتعلم أنه مريض وسواس النظافة القهري، لكن هذا لن يساعدها كثيراً تعترف بهذا، مرّت لحظات أخرى حتى نطق خطاب بلهجة باردة: أتذكرين عندما أخبرتك أنكِ لستِ ندّاً لي؟

عقبت بمايشبه السخرية: أعتقد أنني أثبتُ لك العكس، صحيح؟

وقف سهيل قرب التحفة التي أطلقت الإنذار، وكلتا ذراعيه مرفوعان للأعلى ثم قال بنبرة مرتعشة: لم أقصد صدقوني...
انطلت الخدعة على البعض فتنفسوا الصعداء، في حين بقيت ملامح رائد وأويس مشدودة، كذلك الحرس المرافق للسفير الأوروبي والذين ظنوا السوء بأويس ورجاله، أشار رائد إليهم قائلاً بلغة انكليزية علّهم يفهمون: انزلوا أسلحتكم.

تبادل الحرس مع بعضهم نظرات غير مطمئنة ثم عادوا ينظرون نحوهم بعدائية واضحة، فيما كان السفير والمحافظ كالعصافير المبلولة مختبئين وسط الدائرة التي خلقها الحراس، تحدث أويس بنبرة أعلى مخاطباً المحافظ: سيدي المحافظ، أخبر السفير بأن الإنذار انطلق عن طريق الخطأ فليأمر رجاله بأن ينزلوا أسلحتهم.

بالكاد استطاع الأخير إخراج جانبٍ من وجهه ليتفحص الوضع بنظرة سريعة، أدرك صدق مقال أويس عندما لمح ذلك الشاب يقف وحده وكلتا ذراعيه يرفعهما للأعلى، فمال على السفير ليهمس بشيء ما في أذنه، ثم تحدث الآخر بلكنة غربية غير مفهومة للبعض هنا، أنزل الحرس أسلحتهم وفي اللحظة ذاتها اقترب أويس من سهيل حتى أمسكه من ذراعه ضاغطاً عليه متسائلاً بغلظة: ما اسمك أنت؟ ومن أي مجلة؟

ارتجف الآخر مجيبا بريق ناشف: أنا من مجلة الحياة سيدي، اسمي سليم حلال.
تطلع أويس إلى البطاقة الصحفية المعلقة في رقبته وقلّبها بيده الأخرى، رغم شكّه في صحتها لكن لم يكن من السهل كشف تزويرها بالعين المجردة، طالعه بنظرات متفحصة أخافته، ثم رفع يده ليضغط على السماعة مُتحدثاً ونظراته الحادة مستقرة على وجه سهيل: سليم حلال ومجلة الحياة، أريد كل المعلومات عنهما.

ابتعد عن الشاب وقد انعقدت ملامحه أكثر حين لم يأتهِ ردٌّ من طارق، صاح باسم الأخير أكثر من مرة لكن دون أي استجابة فشعر بشيءٍ مريب، شاركه رائد الشعور ذاته خاصة مع اختفاء مياس عن نطاق نظرهما، تطلع أويس للأعلى فلم يكن بحاجةٍ لأكثر من هذا ليُدرك أنّ للخفاش يدٌ في كلّ مايحدث.

دمدم بكلمات مبهمة قبل أن يطلق قدميه للريح قاصداً الطابق العلويّ، في ذات الوقت حادث رائد: اذهب واعثر على طارق، واحرصوا على هذا من الهرب.
نطق كلمته الأخيرة مشيراً إلى سهيل الذي ابتلع ريقه بخوف، أشار رائد للبعض من رجاله للإمساك به، ثم انطلق هو الآخر يتبعه بعض رجاله إلى غرفة المراقبة حيث كان طارق...

طال صمته دون إجابة فانتهزت الفرصة لتتساءل بنبرة عابثة: بالمناسبة، سيقتلني الفضول لأعرف، كيف توقعتَ أن أكون وحيدةً في هذا الطابق؟
لم يتأخر عليها في الردّ المتباهي: لأنّ تفكيرك يشبه تفكيري إلى حدٍّ كبير.
تبسمت باستهزاء قائلة بعدم تصديق: كيف تكون واثقاً إلى هذه الدرجة؟ ببساطة كان من الممكن أن أُرسلَ أحداً بديلاً عني، فكيف كنت ستتصرف حينها؟

حافظ على ابتسامته الواثقة أثناء إجابته سؤالها: لا مجال للخطأ معك يامياس، كنتُ واثقاً من اختيارك لهذا الطابق مكاناً لمراقبتك، وكما أخبرتك كلانا متشابهين وكلانا يحب المكانة العالية.
سكت لثانية قبل أن يضيف: وحتى لو أنكِ وقفتِ في مكان آخر لاستطعتُ الوصول إليك، لن يعجزني شيء في طريقي إليك أبداً.

كانت لهجته كلما تحدث تزيد الغموض حوله، لكنه بطريقة ما أصاب كبد الحقيقة، فهي فعلا تحب المكان العالي للمراقبة، مرت لحظات أخرى من السكون فتململت مكانها وأردفت بانزعاج ساخر: بالمناسبة قريباً سيفتقدني رفاقي ويأتون بحثاً عني، إن كنتَ تريد قتلي فأقترح عليك أن تسرع.
اقترب منها بتؤدة حذرة حتى همس قرب أذنها: لا أريد قتلك ولا حتى أذيتك مياس، عليك أن تفهمي هذا.

شعرت بقربه الخطير فحاولت أن تقوم بحركة قتالية تفاجئه بها، غير آبهةٍ بكل ماقال، إلا أنه كان الأسبق حين باغتها بأن لوى كلتا ذراعيها للخلف وألصق ظهرها بصدره، آلمها بحركته خاصة وأنه ثبت ذراعيها حتى كادتا تنكسران، ثم تابع بصوت لئيم: شرسة كالذئب، وهذا أكثر مايعجبني فيك.

ضغطت على شفتيها بقوة محاولة التخلص من قبضته لكنها للأسف كانت في موقف ضعيف، وقد ثبتها بقوته الجسمانية الواضحة من قبضته، جزت على أسنانها بغيظ ظهر في نبرتها الهامسة: أقسم أني سأقتلك ياخفاش ولك عهدي بهذا، لذا أنصحك بأن تقتلني لأني سأفعلها مهما كلفني الأمر.

نبرتها المتوجعة تلك جعلته يشعر بالانتشاء المريض، ظهرت نواجذه في بسمة متعالية رغم الظلام الذي يطوف الغرفة ثم تحدث بهمس متسلٍّ: لن تفعليها صدقيني، بل قريباً ستأتينني راكعة يامياس ولك عهدي أنا بهذا.
اقترب منها أكثر ليعقب بهمس في أذنها: لأن ماينتظرك مؤلمٌ أكثر من الموت ذاته.
صمت لثانية يعاين وقع كلماته عليها حتى أضاف بتعالٍ: أنا الخفاش يامياس، احذريني.

في اللحظة التالية دفعها بقوة لتنكفئ على وجهها بعيداً عن مكان وقوفها واختفى صوته فجأة، لم تعرف مياس موقعها بالضبط في الغرفة لولا نور القمر الذي يتسلل من النافذة المفتوحة، حاولت بداية البحث عن سلاحها على الأرض، فمدّت يدها كالكفيفة تتلمس حين سمعت صوت أويس ينادي باسمها في الرواق خارجاً، وجدت سلاحها أخيراً فصاحت وهي تحاول الوقوف: أنا هنا أويس.

استدلّ أويس على مكانها عندما سمع صوتها، ركل الباب بكل قوته لينفتح عنوةً رغم أنه ليس مقفلاً، في ذات اللحظة التي وقفت فيها مياس راكضةً ناحية النافذة لتتطلع إلى أسفل معتقدةً بأنّ الخفاش قد هرب منها، رآها أويس من خلال نور الرواق الذي دلف إلى الغرفة عبر الباب فتساءل بشك: ماذا تفعلين؟

لم ترَ مياس أحداً في الأسفل، لكنها وجدت الحبل الذي من المفترض أن أستخدمه خطاب للهرب، جزت على فكها بغيظ وهي تضرب على الحافة ثم جرت بسرعة لتمرّ بجانب أويس صائحة: لقد هرب الخفاش من النافذة، تعال.

لم يفقه صياحها رغم ذلك تبعها مهرولاً هو الآخر، هبطت مياس الدرج دون أن تتطلع للجمع في الأسفل وفي يدها سلاحها، تبعها أويس مشيراً لبعض أفراد الأمن باللحاق بهم، في هذه اللحظة انسحب المحافظ والسفير وسط دائرة الحماية من الحراس، استغلّ بعض الصحفيين كل هذا ليلتقطوا بعض الصور ويؤلفوا أخباراً كاذبة قبل أن ينسحبوا خلف وفد السفير، خلا المتحف إلا من رجلين حاوطا سهيل لمنعه من الهرب، لكنّ أحدهم إشرأبّ بعنقه ناظراً للجمع المنسحب بفضول فاستغلّ سهيل انشغاله ليخلع الكاميرا التي حاوطت عنقه بهدوء، ضغط على زرٍّ ما فيها ليخرج جهاز صاعق صغير مخفيٌّ داخلها، وضعها على رقبة أحد الحراس ليسقط أرضاً خلال ثوان، ثم تخلص من الثاني قبل أن يستوعب الأمر.

عقب مغادرة مياس وأويس انفتح باب الخزانة القديمة التي كانت في جانب الغرفة، ليظهر خطاب من خلفها وقد اعتلت تعابيره ابتسامة باردة، خرج من الخزانة التي كان يقف فيها ليضبط وضع بذلته الرسمية السوداء، ثم ارتدى قبعة كلاسيكية ونظارات سوداء ماثلت قفازاته الصوفية، هبط الدرج بكل ثقة حين لاحظ خلوّ المكان من الجميع عدا سهيل والذي كان بانتظاره أسفل الدرج، أخرج من جيب سترته الداخليّ ظرفاً أبيض وناوله لسهيل دون أن يتوقف أو ينظر إليه حتى، فسارع الأخير ليرمي المظروف بجانب التحفة الأثرية، ثم لحق بسيده والذي خرج من المتحف دون أية عوائق، في أثناء سيره خلع سهيل سترته التي كان يرتديها وألقاها بين الشجيرات القصيرة التي كانت بجانب الدرجات الرخامية، كذلك ارتدى نظارات طبية كانت في جيب قميصه الداخلي ليندمج كلاهما بمجموعة الصحفيين الذين كانوا متجمهرين في الخارج، يتناقلون أخباراً ملفقة وغير موثوقة أسعدت خطاب لعلمه بأنّ الأخبار تلك ستساعده وربما حتى تسهل عليه مهمته...

كانت تجري كما الذئب الذي يطارد فريسةً مختبئة حتى وصلت إلى الحديقة الخلفية التي أطلّت عليها نافذة الغرفة حيث كانت مع خطاب، انتشر الرجال الذين لحقوها ليبحثوا خلف الشجيرات القصيرة هنا وهناك، فيما وقفت هي وأويس يلهثان بقوة ويتطلعان صوب الحبل الذي تدلّى من النافذة، لاحظت أمراً غريباً حيث أنّ ارتفاع الحبل عن الأرض لايقلّ عن المترين، فالسؤال المطروح هنا كيف صعد الخفاش أصلاً من هذا الارتفاع؟

كأنّ أ٠ويس قرأ أفكارها فتقدّم ليتفحص الحبل بيده، لكنه وقبل أن يصل إليه بمسافة مترٍ تقريباً انطلق جهاز إنذار آخر ليذكرهم بأنّ محيط المتحف مؤمنٌ كذلك، تطلع أويس صوبها وقد جحظت عينا كليهما قبل أن يصرخا سوياً: لا زال في الداخل!

وصل رائد إلى غرفة المراقبة يلحقه عدد من أتباعه، لكنه وجد الحارسين في الخارج جالسين قرب الباب إلا أنهما نائمين، وبجوارهما كوبا عصير فشعر رائد بأمر مريب، دفع الباب ليداهم الغرفة لكنه ذُهل تماما حين رأى طارق والرجل المسؤول عن كاميرات المراقبة نائمين فوق الطاولة، رفع أسلاكاً مقطوعة عن الطاولة ليعلم أنهم قطعوا التسجيل بشكل إجباري، وذاكرة التسجيل الأساسية مختفية من مكانها، أمسك بناصية طارق ليرفعه عن الطاولة ليجده غارقاً في النوم ومن جانب فمه يسيل لعابه كطفل صغير، وعلى الطاولة كوبين من العصير أحدهما فارغٌ تقريباً، ليتيقن أنه مخدرٌ برفقة رفيقه، صكّ على أسنانه بحنق دفين قبل أن يهمس بغيظ: حمقى أغبياء!

عادا كما أتيا جرياً دون أن يعبأا بصوت الجهاز الذي انطلق دون أن يوقفه أحد، وصلت إلى الغرفة التي غادرتها قبل قليل لتلحظ بعينها تلك الخزانة المفتوحة التي تجاهلتها قبل لحظات، تعالى صدرها وهبط بلهاثٍ متعب وفي مقلتيها التمع دمع الهزيمة، كان أويس خلفها كأنه شعر بمايعتريها، فتقدم منها حتى أضحى خلفها هامساً باسمها لكنها نهرته بجفاء: لاتقل شيئاً.

استدارت لتخرج عقبها هابطةً الدرج وهي تكابر على كرامتها التي أهدرها الخفاش بحنكة، للحق هو لم يفعل أي شيء بل تولت هي زمام الأمور لتثبت لنفسها قبل الجميع بأنها غبية، و مثيرة للشفقة.

ناظرت الباب الرئيسي حيث حاول رجال الأمن فضّ اجتماع الصحفيين، الذين رابطوا أمام الباب وأضواء آلاتهم تضيء في وجهها بجنون وقد نجحوا بصعوبة، ثم تطلعت إلى صالة المتحف ليلفت نظرها الرجلين المرميين أرضاً فنظرت صوبهما بتساؤل، كان أويس يتبعها حين لاحظهم بدوره، ففهم تلقائياً هروب سليم بعد ضربه لهما، تحدث من تلقاء نفسه بسخط: أحد الصحفيين أطلق جهاز الإنذار ليؤخرني عن اللحاق بك.

التفتت صوبه حيث وقف قبلها بدرجتين، كانت نظراتها لائمة في بعضها حتى تابع بقلة حيلة: على مايبدو أنه كان مدسوساً من قبل الخفاش.
تجعدت ملامحه بتذكر وهو يضيف ببطء: طلبتُ من طارق أن يتحقق من هويته و...
كأنه تذكر أمراً هاماً وقبل أن يتابع أتاهم صوت رائد الساخط: لم يجبكَ طارق يا أويس لأنّ الخفاش قام بتخديره.

استدار كلاهما ناحية رائد الذي دلف لتوه وقد اعتلى وجهه أمارات الغضب، لم يكن الآخرين بأقلّ منه سخطاً، تطلعت مياس تالياً إلى الرجلين النائمين أرضاً، ثم نقلت أنظارها إلى القطعة الأثرية فلاحظت المظروف الورقي، ضيقت عينيها وهي تحثّ خطاها ناحيتها حتى أمسكته، كان الظرف أنيقاً للغاية تنبعث منه روائح المعقم الكحولي بكثرة، كأنه تعطر بالمعقم!

تبعها الشابين الآخرين ليقفا على مقربة منها أثناء فضها للظرف الذي لم يكن مقفلاً، استخرجت منه ورقةً بيضاء دون تسطير مطوية بعناية، فتحتها لتجد جملةً كُتبت بخط اليد بالحبر الأسود: وانتهت هذه الجولة لصالحي أيضاً، انتقلت اللعبة إلى المستوى التالي، مبارك.

شعرت بأنفاسها السريعة لاهبةً كأنّ بركاناً ما اشتعل داخلها، ضغطت أصابعها على أطراف الورقة حتى كادت تمزقها، ارتجفت شفتيها وأجراس الهزيمة عادت لتُقرع في رأسها، وضحكة خطاب البذيئة شكلت لها خلفية مقيتة، جعدت الورقة تالياً صارخةً بآهٍ عالية كذئبٍ جريح هُدِرتْ كرامته، صاحت بصوت مبحوح كمن فقد عقله وهي تدور في مكانها ناظرة لأرجاء المتحف: خفااش، أين أنت أيها الجبان، اخرج إليّ وواجهني...

لم يجبها سوى الصدى الذي آلمها أكثر، اعتصرت قبضتها وفي داخلها رسالته التي أوجعتها وأصابتها في مقتل، وصدرها يعلو وينخفض بتتاابع مقلق، لقد هزمها في هذا المستوى من اللعبة ببساطة وهذا كله بفضل سوء تقديرها، فيما تبادل أويس ورائد نظراتٌ حائرة، فكلاهما يريانها في هذه الحالة للمرة الأولى...

بينما في الخارج، سار خطاب على الطريق ماشياً باتجاه السيارة التي تنتظره في آخر الطريق، وعلى وجهه بسمةٌ مُغترّة وقد وصل إليه صراخ مياس، ومن خلفه كان سهيل يطالع ظهره بتعجب، هذه المرة الأولى التي يخاطر فيها الخفاش بكليهما وهو ذراع الخفاش اليمنى في مهمة كهذه، استشعر أمراً غريباً يتعدى كون مياس استفزت خطاب ليقوم بكل تلك المجازفات الخطيرة، شعر بأنّ سيده على وشك الوقوع في حبائل مياس، لكنه لم يتوقع أبداً بأن الخفاش قد سقط في بركة آسِنة، في رمال الذئب المتحركة، ولن يخرج منها بسهولة أبداً...

رغم أنها في سنتها الثانية في كلية الطب، لكن أروى لم تستطع مساعدة عمتها كثيراً، حيث فشلت جميع محاولاتها بإفاقتها، فاتصلت بوالدها الذي كان في المستشفى ليأتيها مسرعاً رفقة الطبيب حسام، والذي أخبرهم أن عليا تعرضت لضغوط متزايدة أدى إلى تعرضها لانهيار عصبي لكنه ليس بهذه الشدّة المخيفة، حقنها بإبرة مُهدّئ ولملم معداته الطبية أثناء استراقه لنظرات مُتيّمة ناحية أروى، حيث جلست الأخيرة على الناحية الأخرى من الفراش تمسك بكفّ عمتها تمسّد عليه برفق، فيما عبراتها ماتزال تتدفق برقة تأسر القلوب.

أغلق حسام حقيبته ثم استقام مواجهاً رائدة الجالسة خلفه بثبات تُحسدُ عليه، رغم القلق الذي لم تستطع قتله داخلها على ابنتها الوحيدة والذي طفى على مقلتيها، قابلها حسام ببسمة صغيرةثم خرج مُغلقاً الباب خلفه، ليستقبله كمال الواقف في الصالة وقد بدى على تعابيره التعب والقلق الواضح على توأمه، وقف حسام مقابله قائلا بعملية: لاتقلق سيد كمال، السيدة عليا بخير هي فقط نائمة الآن.

هز كمال رأسه بتفهم دون أن يخبو خوفه، فيما مدّ الآخر يده بورقة صغيرة كتب بها بعض الكلمات بخطّ يكاد لا يُقرأ معقباً: وهذه الأدوية يجب أن تجلبها الليلة، لأنها ستبدأ بها منذ صباح الغد.
عاد ليحرك رأسه بتفهم وكاد يأخذ الورقة منه، لكنه بدل هذا قبض على ذراع حسام يستند عليه كأنه على وشك السقوط، فهمس حسام باسمه قبل يسنده إلى أحد المقاعد القريبة، جلس كمال وهو يربت على ذراع حسام قائلا بهمس: شكرا لك يابني.

أسند حسام حقيبته على الأرض ليخرج آلة قياس الضغط ويربطها حول ذراع كمال، في هذه اللحظة خرجت سعاد بإسدالها الطويل من المطبخ لاعتقادها برحيل الطبيب، لكنها لطمت على صدرها وهي تجري صوب زوجها هاتفة بذعر: كمال؟ مالأمر؟
تطلع الأخير ناحيتها مجيبا ببسمة متعبة: أنا بخير ياسعاد.
بدت كأنها لم تصدق ماقاله فهتفت باستنكار: بخير؟ انظر إلى وجهك كأنه ليمونة معصورة!

ناظرها حسام بنظرة سريعة مجيباً بلطف: لاتقلقي سيدتي، هبط ضغطه فقط.
حافظ كمال على ابتسامته الراضية قائلا بعتاب طفيف: سمعتِ ماقاله الطبيب، أنا بخير.
كان حسام يلملم الجهاز ليضعه في الحقيبة، ثم وقف في اللحظة التالية قائلاً بجدية: عليك أن تلزم الراحة التامة سيد كمال، فالضغط لديك غير مُستقرٍّ أبدا.
أشار له بالإيجاب ليعقب: أنا سأجلب الدواء للسيدة عليا فلا تهتمّ.
شكره كمال بودّ: أتعبناك معنا يابني...

قاطعه حسام بنبرة معاتبة بعض الشيء: لاتقل هذا سيد كمال، هذا واجبي.
غادر عقبها ليحضر الأدوية من الصيدليّة القريبة، بينما ساعدت سعاد زوجها حتى وقف ليسير كلاهما صوب غرفتهما متحدثة بتوبيخ: أخبرتك أنك متعب ولايجب الذهاب إلى المشفى لكنك عنيد ولاتسمع الكلام.

لم يستطع كمال كتم ملامحه المسرورة بعودة زوجته وإن كان جزئياً الى الاهتمام به كطفل صغير لايسمع كلام والدته، أسعده هذا معتقداً أنها تخلت عن فكرة تزويجه نهائيا، لكنه لم يدرك مايدور في رأس زوجته أبداً...

على أريكة كبيرة مدّد اثنين من الرجال طارق النائم، ابتعدا ليظهر من خلفهما أويس الذي تقدم محاولاً إفاقةَ رفيقه الأخرق، ضرب على وجنته عدة مرات دون أي استجابة، اقترب أحدهم حاملاً زجاجة مياه ليناوله إياها، ثم سكبها دفعة واحدة فوق وجه طارق الذي شهق عالياً وهو يصرخ: أنا أغرق، أنا أغرق...

منظره كان مضحكاً للغاية لكن لم يجرؤ أحد حتى على الابتسام في حضرة مياس الواجمة بشرود مخيف، رفع أويس إحدى قدميه على الأريكة التي جلس عليها طارق ليستند بكل أريحية، وفوق قدمه طوى ذراعه، مُطالعاً رفيقه بنظرات قاتلة.
استغرق الأخير بضع لحظات حتى استوعب مكانه، مرّر يده على وجهه وشعره المُبتلّين ثم عاد ليرفع رأسه صوب أويس متسائلا ببلاهة: هل فاتني شيء؟

كشّر أويس بامتعاض مجيبا بسخرية واضحة: ليس الكثير، فقط دخول وخروج الخفاش دون أن ترصده.
رفرف بعينيه بعدم فهم ثم نقل بصره بين الرجال القلائل الذين توزعوا في الغرفة، لكنه لم يرَ مياس المستندة بكتفها على الباب وقد ربّعت ذراعيها أمام صدرها، حيث حجبها أويس عنه بجسده، عاد طارق لينظر نحو رفيقه مستوضحاً بسماجة حمقاء: ماذا تقصد أويس؟

حدجه بنظرة نارية دون أن يجيب، تاركاً أنفاسه البركانية ونظراته الحارقة بغلّ تجيبه، في هذه اللحظة انبلج الباب ليظهر رائد من خلفه، وقف قبالة مياس وعلى وجهه علامات الخيبة الواضحة، لم تكن مياس بحاجة أن تسمع مالديه فملامح وجهه كافية لها، تبسمت بسخرية قائلة بنبرة خاوية: دعني أحزر، كالعادة لم نحصل على شيء مفيد.

حرك رائد رأسه بالسلب مضيفاً: للأسف مياس، لم نحصل على شيء من كاميرات المباني المجاورة، و سليم حلال ومجلة الحياة ليسا سوى كذبة.
ماقاله رائد جعلها تشكك في ذكائها فصكّت على فكها بقوة آلمتها، لكن وجع كرامتها المغدورة أشدُّ فتكاً بها، خرجت من الغرفة تدبّ الأرض بقوة جبارة، تبعها رائد حتى وقفا في الرواق الخالي متحدثاً بمواساة: هوّني عليك مياس...

قاطعته وهي تقابله بجسدها قائلة من بين أسنانها: كيف يارائد كيف؟ أكاد أُجنّ، كيف دخل وخرج بهذه البساطة كأنه شبح لاوجود له؟
أدارت جسدها للجانب مضيفةً بسخط: وأكثر مايقهرني أنني وقعتُ في فخه كالبلهاء.
ربت على كتفها قائلاً بنبرة أخوية حانية: أنتِ بشر في النهاية مياس، ومن الوارد أن تخطأي، لستِ معصومة عن الخطأ.

أغمضت مقلتيها للحظات تحاول تهدئة نيرانها ثم تحدثت وهي على حالها بنبرة متعبة: لا أستطيع إلا أن ألوم نفسي يارائد، كيف سأواجه اللواء جلال الآن؟ لقد كان معتمداً عليّ!
تحرك خطوة حتى غدا أمامها ففتحت عينيها المرهقة، بينما أردف هو بحنوّ مبتسم: اللواء جلال يعرفكِ جيداً وسيعذرك، لاتقلقي.

كانت نظراته إليها كلها تفاؤل وثقة، ربما هذا ماأعاد إليها بعضاً من كبريائها المهدور، وثقتها بنفسها، تنهدت بثقل قبل أن تبتسم بخفة لتعقب بامتنان: شكرا لك رائد، حقا كنتُ بحاجة لهذه الكلمات منك.
قابلها رائد بأخرى بسيطة ثم جذبها ليعانقها عناقاً أخوياً داعماً، هكذا كان رائد مثالاً حياً عن الصداقة الحقيقية، لم تصبه الغيرة من نجاحات مياس المتكررة ولا من ثقة الجميع حولها، بل دعمها ولايزال، وسيبقى!

فيما هما كذلك كانا غافلين عن مقلتين ثارت فيهما زوابع غضب جارف، تمنّى أويس حيث وقف مكانه أن يسحب ذلك الأخرق من رقبته ليعيد تشكيل قسماته الوسيمة من جديد، أنّى له أن يعانق مياس بهذا الشكل؟
كانت بالنسبة له كالأساطير المبجلة، كنجمة بعيدة لايطالها أحد أبداً، جاهد ليطفئ نيراناً قاتلة شبّت بين أضلعه، في أعماقه يدرك سببها، لكنه وكالأبله مازال يعاند وينكر...

ابتعدت مياس عنه وكادت تستدير لتتحرك، إلا أنها توقفت لتعود إليه قائلة: كدتُ أنسى.
طالعها رائد باهتمام في حين أضافت: اسمع رائد، بالأمس احترق مخزن خالي كمال، لكن وبعد أن أطفأوا الحريق وجدوا رجلاً ما مجهول الهوية وقد علق في الداخل..

جذب حديثها انتباه أويس وإن لم يدرك سبب إخبارها لرائد بكل هذا، فحرص على الاختباء جيداً ليسمع بقية حديثها: الرجل في غيبوبة حالياً، وجهه وكفيه تضررا لذا من الصعب علينا تحديد هويته ومن يكون من البصمات أو ملامح الوجه.
حرك رائد رأسه بعدم فهم ليستفسر منها: وما الذي تريدين فعله مياس؟
أجابت دون تأخير: أريدك أن تتولى قضيته لتعرف لي من هو.

تطلعت إلى الجانبين تتفحص الرواق بنظرات متفحصة قبل أن تعود إليه و تضيف: في هذه اللحظة أنا لا أثق بأحدٍ سواك رائد، ولأنه أمر خاص بعائلتي أريد معونتك أنت في هذا الشأن.
تبسم رائد بخفة ثم تحدث أثناء تربيته على كتفها بأخوية: دعِ الأمر برمته لي مياس، أنا سأتولى هذه المهمة.

أهدته مياس بسمة وديعة قلّما تظهرها مع أحد، شكرته ثم حثت خطاها لتخرج من المتحف بأكمله، لحقها رائد بعد لحظة، غافلين كلاهما عن مقلٍ تقدح شرراً مستطيراً، لماذا تثق برائد إلى هذا الحد؟ لماذا تسمع من الوسيم السمج مهما كان مقاله بل وتبتسم في وجهه؟ في حين تقابله هو بوجهٍ مجرد من أية ابتسامة او علامة راحة؟

زفر بضيق شديد من تفكيره المتخبط ومازال يدقق النظر في أثرهما، لكنه انتفض قافزاً إلى الجانب حين باغته طارق بلمسة على كتفه من الخلف، طالعه الأخير بابتسامة لزجة متحدثاً بمزاح: مابك يارجل؟ هل فاجأتك وسامتي لهذا الحد؟

تشنجت ملامح أويس أكثر ورمق رفيقه بنظرات غير مريحة، كوحشٍ يعاين فريسته قبل الانقضاض عليها، جعلت طارق يتراجع للخلف خطوة واحدة ليردف بتحذير مضطرب وهو يميل رأسه إلى الجانب: لا تتهوّر أويس، أذكرك أنني نقيب في السلك الأمني ولي حصانة...
تبسم أويس بسخافة مدّعية ثم اقترب من طارق الذي انكمش على نفسه، ربّت على كتفه بقسوة ثم قال من بين أسنانه: هذا خطؤك الثاني طارق، ولا تنسى ياصديقي، الثالثة ثابتة.

عادت ملامحه الغاضبة في اللحظة التالية، ثم ولاه ظهره ليخرج بدوره، تاركاً طارق خلفه يبتلع ريقه بوجل محاولاً تفسير كلمات أويس المتوارية، سرعان ما تفطن لكونه يقصد تخديره في غرفة المراقبة، فهمس محدثاً نفسه بسذاجة: ماذنبي؟ لقد كنتُ عطشاً حقاً!

عقب مغادرة الطبيب حسام لم تشعر أروى ولاجدتها بماحدث لكمال من هبوط ضغط مفاجئ، بل كان اهتمامهما كله مصبوباً على عليا الراقدة مكانها، مسّدت أروى على ظاهر كفّ عمتها بحنان هامسةً برقة: عمتي الحبيبة، لو أعرف مالذي حصل لك فقط؟!
تنهدت جدتها بصوت مسموع ثم همست بقلة حيلة: عزيزتي عليا، لازالت الأقدار لا ترأف بك!

تطلعت أروى صوبها وقد ارتسم على ملامحها عدم الفهم، في حين تابعت رائدة ومقلتيها مثبتةٌ على ابنتها الراقدة: مالذي حدث لك ياقلب أمك؟ لقد كنتِ بخير؟
استقامت أروى من جوار عمتها لتجلس قرب رائدة، مسحت على جانب ذراعها قائلة برقة: إنها بخير ياجدتي، لاتقلقي.

تطلعت الأخيرة ناحيتها فابتسمت أروى بلطف، كأنها تؤكد لها ماقالته، أعادت أنظارها إلى عليا النائمة، وقد ستر شعرها شال رأسها الأسود، فهمست تندب حظ ابنتها القليل، وهي تميل بجسدها للجانبين بحركة خفيفة: ترتدي وشاحاً لا يقلّ سواداً عن حظها! مذ يوم خُلقتْ وبختها في الدنيا قليل..

لم تتفقه أروى لمقال جدتها التي تابعت وهي تضرب كفها الأيمن على ظهر كفها الأخر المسنود على عكازها: لم تبتسم لك الحياة إلا نادراً، آهٍ عليكِ يا ابنة قلبي، وألف آهٍ من نصيبك التعس.
قبضت أروى على كف جدتها متحدثة بمواساة: هوّني عليك ياجدتي، عمتي بخير صدقيني.

تطلعت رائدة صوبها لتضيف بنبرة عصبية بعض الشيء: لا ليست بخير، لم تكن يوما بخير، لقد هضمت الحياة حقها منذ أن زوجناها طفلة، لتقع في قبضة رجل لم يراعي الله فيها.
حولت بصرها الى عليا الراقدة مضيفة: لم تكن على قدر من المسؤولية لتتحمل الحياة مع رجل بقذارة عمار، ليلفظها القدر مجدداً عندما عادت إلينا حاملة لقب مطلقة مع طفلة في المهد، وهي لم تتجاوز السابعة عشر عاما...

نفرت من مقلتي رائدة دمعة نادمة حين تابعت بقهر النادم، وقد زادت انتفاضة جسدها: لو عاد بي الزمان لرفضتُ تلك الزيجة مهما كلفني الأمر، سامحيني ياعليا، سامحيني يا ابنتي، بطريقة أو بأخرى كان لي ذنب في كل ماحصل لك...
جدتي ترفقي بنفسك أرجوك.

همست أروى برقتها وهي تعانق جدتها لتخفف من عويلها وندبها حظ ابنتها وقد أفلحت بالفعل، تنفست رائدة ببطء وهي تغمض عينيها للحظات، ثم قالت مخاطبة أروى: أسأل الله أن يعطيكِ حظاً وسعادة أضعاف ما حرم عمتك منها.
ابتعدت الأخيرة عنها وعلى وجهها بسمة رقيقة قائلة بلطف: أمدّ الله في عمرك ياجدتي الغالية، ولا حرمني من حنانك وعطفك.

سمعت كلتاهما طرقاً على باب المنزل الخشبي فتحدثت أروى وهي تنهض من جانب جدتها: مؤكد هذا والدي ذهب ليجلب أدوية عمتي، وقد نسي مفتاح المنزل.
تحركت من فورها معتقدة أن الطارق والدها حقا، لكن وكلزمة ضرورية منها وقفت خلف الباب قبل أن تفتح لتنادي بصوت رقيق: من بالباب؟

كان حسام يقف مستنداً بكتفه على الحائط، وفي إحدى يديه كيس الأدوية الخاص بعليا، وفي الثانية حمل علبةً واحدة في كيس منفصل، انتفض مستقيماً في وقفته حين أتاه صوت أروى اللطيف الذي هزّ كيانه فتلعثم في الإجابة: أنا، أنا حسام.
أجلى حلقه وقد غزت االفرحة تقاسيمه، فابتسم باتساع وعدّل من تسريحة شعره أثناء فتحها للباب، فأطلت من خلف الكتلة الخشبية وعلى وجهها أمارات الاستغراب فهمست بتساؤل: حضرة الطبيب؟

اتسعت ابتسامته أكثر لرؤية وجهها القمريّ للمرة الثانية، فأردف محافظاً على تعابيره المبتهجة وهو يمدّ يده بكيس الأدوية الأول: هذه أدوية السيدة عليا، وقد كتبتُ عليها المواعيد المحددة.
تناولتها أروى منه وهي تتفحص الكيس، ثم مدّ يده بالكيس الآخر مضيفاً بنبرة هادئة: وهذا الدواء للسيد كمال.
رفعت رأسها إليه كالملسوعة هاتفة بلهفة: والدي؟ مابه؟

عقب بسرعة محاولاً تهدأتها: لا داعي للقلق السيد كمال بخير، فقط ضغطه غير منتظم بسبب الإجهاد، ويجب ان يلتزم الراحة ويواظب على هذا الدواء لفترة أسبوع كامل.

تسللتْ راحة طفيفة لتغطي قسماتها حالما سمعت مقاله، أشارت له بالإيجاب وهي تمدّ يدها لتأخذ منه علبة الدواء، شكرته عقبها ببسمة لطيفة ثم أغلقت الباب، لتظلّ عيناه للحظات معلقةً على اللوح الذي فصل بينهما، اقترب قليلاً حتى عانق كفه الحلقة المعدنية على الباب ومسّدها برفق، زفر بأملٍ كبير من اقتراب فرحته حينما يتقدم بطلب يدها، تراجع تالياً أثناء تفحصه للطريق من حوله بتوتر، أخر ماقد يرغب به أن يراه أحدهم فيبثّ الإشاعات المغلوطة، استدار مغادراً والبهجة تطرق أبواب القلب لتعزف معه أجمل معزوفات العشق الحلال...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة