قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

(((في عتمة كل ليلة أخوض معركةً جديدة مع ذكرياتي، حرب ظالمة لاتعترف بأية قواعد ولا شروط، كنارٍ مسعورة تحرق أطياف الذكرى البعيدة))).

أن تعود خائبةً خالية الوفاض بعد ليلة مضنية لربما كان وقعه سهلاً على روحها، لكن أكثر ما ألمها هو استهزاء خطاب بها، بقدراتها وذكائها. كل ثانية تعاود استرجاع تلك اللحظات القليلة التي جمعتها به ليعاود التأنيب نهشه بها، كيف استطاع خداعها هكذا؟ حقاً لم تتوقع منه كل هذا.

على مايبدو فإنها أخطأت في تقدير خطورته، كما أنها باتت مكشوفة أمامه بالكامل حتى بات توقع خطواتها التالية أمراً يسيراً عليه، مازالت شكوكها حيال صلاح تتعاظم لذى فقد عزمت على الإيقاع به في أقرب وقت.
بالطبع لن تعود إلى منزلها الآن، فالإرهاق الذي ألمّ بها منعها من مقابلة أي أحد حالياً.

كان الوقت قد تجاوز الثالثة بعد منتصف الليل حين أوقفت السيارة التي فرزها لأجلها اللواء جلال إلى أن يتم إصلاح سيارتها الخاصة إلى جانب الطريق، مسّدت جانبي رأسها حين شعرت به قد ينفجر بين دقيقة وأخرى، إلا أن صورة والدتها قد تمثلت أمامها بخوفها عليها.

، فاكتفت بداية بأن ترسل رسالة نصية إليها تخبرها فيها باضطرارها للمبيت خارجاً، استرابت مياس عندما لم يأتها ردٌّ من أمها، وهي تعلم أنها لن تغفل حتى تعود فطلبت رقمها.

كانت رائدة لاتزال على جلستها ممسكةً بسبحتها المذهبة تحرك حباتها بتؤدة، وتراقب ابنتها النائمة متسائلة في نفسها عن السبب الذي أفضى بها إلى هذا الحال، ولو أنها باتت توجه شكوكها تجاه شخصٍ ما بعينه، انتبهت أروى الغافلة قرب رأس عمتها على رنين الهاتف فتساءلت رائدة: من الذي يطلب عمتكِ في هذا الوقت المتأخر؟
رفعت أروى رأسها إلى جدتها قائلة بهمس متوتر: إنها مياس.

حركت رائدة رأسها بتفهم زافرةً ببطء ثم عقبت: أجيبي الاتصال ياأروى.
زاد توتر الأخيرة خاصة حين تابعت رائدة: وإن سألتكِ عن عليا أخبريها بأنها متعبة ونامت مبكراً.
لم تكن قد اعتادت الكذب قبلاً لهذا وجدت صعوبةً في تنفيذ أمر جدتها، إلا أنها أدركت مقصد رائدة فأجابت الاتصال بنبرة حاولت جعلها طبيعية: نعم مياس؟

رفرفت مياس بعينيها باستغراب ولوهلة ظنت أنها أخطأت بالرقم، أنزلت الهاتف عن أذنها لتتأكد من الاسم ثم أعادته مجيبة باستغراب سائل: أروى؟ أين أمي؟
تحولت نبرتها إلى الشك لتتابع: ولماذا تجيبين أنتِ على هاتفها؟
بنبرتها الهادئة المعتادة مع بذل مجهود مضنٍ قالت أروى برقة: عمتي نائمة يا مياس، لم تسمع صوت الهاتف.

لم تصدق مياس حجة أروى الكاذبة، إلا أن الأخيرة استرسلت بحيادية: لقد تعبتْ خلال النهار فنامت باكراً، لكن لا تقلقي هي بخير حال.
بأصبعيها اعتصرت مياس مابين عينيها زافرةً بإرهاق عظيم ثم قالت بتعب: أنتِ متأكدة أنها بخير، صحيح؟
رغم محاولتها الثبات لكن رغماً عنها خرجت نبرتها متذبذبة: نعم، نعم هي بخير، أخبرتك لا تقلقي.

لم يكن بها من طاقة للجدال أكثر، فما عاينته اليوم كفيل بأن يهدم تركيزها، أغلقت مياس الاتصال مع أروى بعد وعدٍ من الأخيرة بالاهتمام بعليا، خرجت من السيارة التي اصطفتْ أمام مبنى المكافحة لتتجه من فورها إلى صالة الألعاب الرياضية، علها تفرغ هناك بعض مايعتمل داخلها من حرب ضروس.

بعد لحظات قليلة كان أويس يترجل من سيارة الأجرة أمام المبنى هو الآخر، فبعد مغادرة مياس المتحف بسيارتها دون أن توصله كان عليه العودة إلى هنا ليأخذ سيارته، إلا أنه لاحظ سيارتها المركونة إلى جانب الطريق فأدرك أنها في الداخل، وبمعاينة ماحدث اليوم فقد علم فوراً أين سيجدها.

وكما توقع تماماً، كانت مياس قد استغنت عن سترتها الجلدية السميكة لتبقى بكنزة قطنية سوداء تصل إلى منتصف عضديها، وتجري على جهاز المشي في آخر الصالة، استند أويس بكتفه إلى باب الصالة العريض، وقد ربّع كلتا ذراعيه أمام صدره يراقبها وهي تجري كما لو أنها في سباق مع الزمن.

لم يعرف تماماً كم بقي على حاله يراقبها، ولم تشعر هي بالوقت الطويل الذي تجاوز الساعة وربما أكثر، حتى خارت قواها فأطفأت الجهاز واستندت بكفيها إلى جانبيه، كان نَفسها سريعاً جداً من فرط المجهود، شعرها الأسود الذي رفعته على هيئة ذيل الحصان تناثرت خصلاته على جانبي وجهها، والعرق الساخن يتقاطر من أنفها وصدغيها، حاولت مياس السيطرة على أنفاسها للحظات طوال حتى اعتدلت واقفة حين شعرت بأحدهم يراقبها، تطلعت صوب أويس الذي اعتدل في وقفته ينتظر ردة فعلها، تحدثت أخيراً بنبرة مستفهمة حين لاحظت نظراته: هل هناك خطبٌ ما حضرة النقيب؟

مسح على رقبته من الخلف وأجلى حلقه قائلاً بتذبذب بسيط: لا أبداً.
زوت مابين حاجبيها ولا تنكر بعض التوتر الذي غزاها حين لاحظت الطريقة التي يطالعها بها، ثوان قليلة حتى تحركت هي لتهبط عن الجهاز لتتناول منشفةً قطنية كانت معلقة عليه لتمسح بها على رقبتها ووجهها، ثم عدتْ ذاهبة نحو حلبة المصارعة والكيس الرملي المعلق في نهايتها، أثناء مخاطبتها له باستفهام: لماذا لم تذهب إلى منزلك إذاً؟

خطى ناحيتها محاولاً البحث في عقله عن عذرٍ منطقي لسؤالها حتى وصل إلى الحلبة، لكنه في النهاية أجابها بصدق: أتيتُ لأطمئنّ عليك.

لم تنكر دهشتها من جوابه حين طالعته بحاجبين مرفوعين فوتّرته، تلقائياً زادت عقدة حاجبيه في لزمةٍ اعتادها وجهه ليخفي تعابيره الحقيقية، تبسمت بلطف أثناء ربطها لخيط عريض على كفيها وهي تحرك رأسها للجانبين كأنها لم تصدقه، راقبها أويس بمزيجٍ من المشاعر التي لم يألفها سابقاً ولم يعرف لها اسماً أو كناية حتى قال أخيراً بنبرة عادية: لماذا لم تذهبي إلى منزلك؟ ألم تتعبي من كل ماقاسيته اليوم؟

رفعت رأسها نحوه وأجابته بصدق وقد غامت تعابيرها بخذلان طفيف: لم أستطع الذهاب إلى أيّ مكان دون أن أفرغ غضبي بشيءٍ ما، والتمارين هي الشيء الوحيد الذي قد يساعدني حالياً.
كانت قد انتهت من ربط الشريط القماشي حول كفيها لكنها بقيت واقفةً مكانها، حين دبّت في عروق أويس حماسةً مفاجئة قائلا باستعجال: مارأيكِ إذاً ان نتدرب سوياً؟

طالعته بعدم فهم فيما كان يخلع سترته ليرميها على حبال الحلبة، ثم دلف إلى الداخل محافظاً على تعابير جادة حتى سمع سؤالها: تقصد أن نتواجه أنا وأنت؟
أماء لها بالإيجاب فانفرجت ملامحها بضحكةٍ بسيطة قائلة باستنكار: لا طبعاً لن أتقاتل معك.
بتسليةٍ يجربها للمرة الأولى قال بعبث: أتخافين من الخسارة أمامي؟
طالعته بعدم تصديق في حين تابع هو بادّعاء: لا تقلقي، سأتساهل معكِ كونكِ فتاة.

ضيقت عينيها ناحيته معقبةً: لا تتحداني أويس.
رفع كتفيه وزمّ شفتيه بلا مبالاة، في حين أن عقدةَ حاجبيه قد انحلّتا فابتسم دون شعورٍ منه، زفرت من أنفها حتى قالت أخيرا باستسلام وهي ترفع كتفيها كما فعل هو: حسناً لا مانع عندي.
ثم أضافت ساخرة: لكن لا تأتي بعد هذا وتشتكي.

ابتسامته التي تراها منه للمرة الأولى زادته مهابة ووسامة وهو يشير لها برأسه ساخراً، تحركت قبالته بشكل دائري ليفعل المثل وهو لا يصدّق أنه تحداها وقد قبلتْ، في حين كانت مياس تفكر في نقطة ضعفه، فهي لاتنكر أنه، وبجسده الصخريّ كالمصارعين قد يتغلبُ عليها، وهذا آخرماقد تسمح به حالياً، لمعت في رأسها جملةٌ قديمة سمعتها ذات مرة: كلما زاد ثقل الخصم كان سقوطه مدوياً اكثر، إذاً لا بدّ لها من أسقاطه لتتغلب عليه، توقفت أخيراً في إحدى الزوايا وهي تتخذ وضعيةً قتالية قائلة بنبرة ساخرة: لاتخفْ، سأحاول ألا أسبب لك عاهة مستديمة.

وقف بدوره مجيباً باستهزاء متهكم: وأنا سأحاول ألا أكسر أحد أظافرك.

ابتسامة متسلية اجتاحت ملامحها رغماً عنها، حتى باغتته بضربة بأحد قدميها موجهةً الى وجهه لكنها لحسن حظه أخطأته، طالعها بعيونٍ متسعة فزادت ابتسامتها المغترّة لتباغته بضربة أخرى تفاداها بتراجعه للخلف، فأعادت الكرة مرتين وهو يتراجع للخلف حتى التصق بالحبال، استدار للجانب لجزءٍ من الثانية فعاجلته بضربة على ساقه فآلمته، لم تتركه ليستفيق من الصدمة لتعيد الكرة مجدداً على الساق الأخرى فترغمه على طيّ قدمه فيقع جاثياً على ركبتيه لتسدّد أخرى على جزئه العلوي، لكنه حمى وجهه بذراعيه ثم نفضهما أثناء ضربتها التالية له لتتراجع للخلف، وقف أويس مذهولاً من حركاتها القوية والسريعة فأدرك أنها ليست سهلة البتة، همست بغرور وحاجب مرفوع وقد اتّسعت ابتسامتها فزادتها بهاءً: ما الأمر؟ أتريد الاستسلام بهذه السرعة؟

تبسم ضاحكاً من قولها مردفاً بغرور: طبعا لا، أنا كنتُ فقط أختبر طاقتك.
علقت ساخرةً وابتسامتها المغترة لازالت تزين محياها: طاقتي؟ ذكرتني بفيلم الأطفال دراغون بول!
سرح عقله للحظة حينما ذكرته بمسلسله المفضل قديماً، سرعان ماعاد ليتخذ وضعيته القتالية قائلاً بنبرة جادة: لكني اكتفيتُ من اللعب، دعيني أريكِ القتال الحقيقي.

لم يكمل جملته حتى انقضّ عليها ليوهمها بنيته ضربها على جانبها الأيسر، لم تكد تحتمي بذراعها حتى غافلها بلكمة على الكتف الأيمن فارتدّت للخلف مما أخلّ بتوازنها، استغلّ أويس الوضع ليحاول ضربها على قدمها بغيةَ إخضاعها إلا أنها سرعان ماتداركت الأمر لتضربه على ساقه ثم ألحقتها بأخرى أوجعته فتراجع مرغماً، لهثت نتيجة هجومه لكنها لم تهدر الوقت فعاجلته بهجوم جديد، ضربته بكلتا قدميها على جانبي جذعه العلوي في حين كان هو يتراجع محتمياً بذراعيه حتى حاصرته في الزواية، لم تتوقف بعد عن ضربه بغية إتعابه لكنها فوجئت به يضع قدمه خلف ساقها فأوقعها أرضاً، تألمتْ نتيجة لوقعتها تلك فسارع أويس ليجثو فوقها واضعاً مرفقه على عنقها، وضاغطاً جسدها بجسده على الأرض وثبت ذراعيها تحته، دُهشت فعلياً مما حدث فتطلعت إليه وعينيها مفتوحة عن آخرهما، تلاقى كحل الليل بالعسل فتجمد الزمن وشُلّت الألسنة، أرخى مرفقه عن عنقها ببطء حين لاحظ هدوء حركتها ثم استند بكفه على الأرض، رافعاً جسده عنها ومثبتاً وجهه أمام وجهها.

خفقات ضارية ضربت ساكن يسارها وهي على هذه الدرجة الخطيرة من القرب منه، أنفاسها لاهثة ولاتدري أمن فرط ماقامت به من جهد أم من حساسية الموقف بأكمله، وقد أُغمي على قلبها فسقط صريعاً أمامه.
في عينيه لمعةٌ دافئة لم ترها من قبل، تناديانها كأنهما سجينان يتوسلان الخلاص وبيدها خلاصهما،
لأول مرة في حياتها تعترف مياس بتوتر يعتريها أمام رجل، فكيف إن كان رجلاً يحمل العسل في عينيه؟

إن كان كذلك فالهزيمة أمامه شرف لها...

محياها البدر يوم اكتماله، وجنتيها قطنٌ مندوف سبحان الخلّاق، وفي سواد مقلتيها ألق النجوم، عيناها مرآة واشية أخبرته عمّا يعتمل داخلها من تضارب في المشاعر والأفكار، تيقن أويس أنها لن تكون إنسانةً عادية تمرّ كما غيرها، أدرك حقاً أن خافقه تعلق بها بطريقة مريبة، مخيفة، لكن تلك الرعشة الخفيفة التي تصيبه كلما تلاقت عيناهما لذيذة، وهو على استعداد أن يساوم تلك اللذة على نصف عمره، والنصف الآخر يفديها به.

مذ ليلة اللقاء وهي ترافقه في صحوه وفي منامه، ونيران قاتلة تحرق أنفاسه كلما اقترب منها ذكر ما، كل هذا كان أويس ينكره ويجاهد بدفنه، لكنه الآن أمام مقلتيها أذعن وأعلن، لم تحصل على ثقته فقط، بل استحوذت على حواسه كلها جبراً، وقد أتاها خافقه طوعاً...

لم تدمْ لحظات الصفاء تلك أكثر من ثوانٍ معدودة لتستدرك مياس الموقف برمته، أبى عقلها، هادم اللذات، إلا أن ينبهها للحظة الضعف التي سيطرت على أويس فقامت بركله على بطنه لتتبدل ملامحه الصافية إلى الألم فوراً، ثم سقط إلى الجانب ممسكاً بمعدته ويتلوى ألماً، استغرقت ثوانٍ أخرى حتى استعادت جديتها فوقفت في اللحظة التالية، وعلى محياها رسمت ابتسامة باردة اختلقتها رغم دمائها الساخنة التي هدرت في جسدها بقوة، ومازالت تحاول تنظيم أنفاسها فقالت بنبرة مبحوحة معبقة بالغرور: انتهت اللعبة، لقد خسرت.

رفع رأسه إليها وعلى وجهه علامات الألم ثم احتجّ متذمراً: لقد خدعتني!
أمالت رأسها إلى الجانب لتعقب بحاجب مرفوع: الحرب خدعة، وكل شيء فيها مباح.

خزرها بنظرة غير راضية رغم الابتسامة التي تجاهد للظهور وقد نجحت أخيرا، قهقه أويس بخفة وهو يحرك رأسه إلى الجانبين فشاركته بدورها، ثم مدّت يدها إليه لتساعده في النهوض فرمقها بذهول ساخر لينتفض واقفاً قبالتها، لم تنزل كفها بل رفعتها صوبه قاصدةً مصافحته ومازالت محتفظة ببسمتها، عانق كفه كفها وحال تلامس الكفين انتقلت شرارات كهربائية خطيرة بينهما وذبذبات كطنين النحل لم تفقها الآذان، لكن القلوب احتوتها لتخفيها كمراهقة تخفي قبلةً هوائية من حبيبها بين جنبيها...

صوت هاتفها هو من قطع لحظات الوصال ليتنبه كلاهما، تحركت مياس صوب سترتها لتخرج الجهاز، فيما بقي أويس مكانه يمسح رقبته من الخلف وبسمته النادرة لم تزلْ بعد.
كان المتصل اللواء جلال فأجابت مياس من فورها، كلماتٌ مقتضبة سمعتها منه لتقول تالياً بنبرة جادة بهدوء: حاضر سيدي، سنحضر حالاً.

لاحظ أويس تبدل نبرتها فتطلع إليها متسائلاً، فاستدارت بدورها لتبادله بنظرات خاوية حتى همست أخيراً أثناء ارتدائها للسترة: اللواء جلال في مكتبه ويطلب حضور كلينا.
زادت عقدة حاجبيه ليرفع يده متطلعاً إلى ساعة يده ليتفاجئ أنها السادسة صباحاً، لم يزلْ الوقت مبكراً للغاية على قدوم اللواء، إذا فالمصاب جلل...

أمام شاشة تلفازٍ حديث، في وسط مكتب اللواء جلال ساجد، وقفت مياس تشاهد صوراً متفرقة لها وهي تهبط الدرج في المتحف ومن خلفها أويس، ثم صوراً أخرى حين أمسكت رسالة الخفاش، ثم أخرى لها عندما صرخت بغضب.

كان أويس يقف بجانبها يشاهد هو الآخر، ويقرأ تلك الأخبار الملفقة التي تحدثت عن سرقة تحفةٍ ما من المتحف وسط الإجراءات المشددة التي قامت بها السلطات لتأمينه، فضلاً عن ادّعاءات أخرى كاذبة كلها، كل هذا كان كفيلاً بإيقاظ سخطه الكامن وحقده على الخفاش ومن والاه، تطلع ناحية مياس فرآها جامدة الملامح، وجهها صفحة بيضاء لا تُقرأ، فقط عيناها من اشتعلت قهراً، وفكها يكاد يصرخ مستغيثاً من شدة ضغطها عليه.

أغلق اللواء جلال التلفاز فأغلقت مياس مقلتيها أيضاً بخزيٍّ اعتراها وقد شعرت بأنها خيبت ظن قائدها فيها، بينما رفع أويس رأسه ناحية جلال الذي قال بحيادية: هل لديكِ ما تخبريني به مياس؟
رفعت رأسها إليه قائلة بنبرة جادة مطعمة بالكبرياء: أنا أسفة سيدي، الخطأ برمته خطأي أنا ولا عذر لي في هذا.

انعقد حاجبي أويس بدهشة من إبائها الصلب، إلا أن جلال لم يستغرب فهو خير من يعرفها، تحدث الأخير موجهاً كلامه إليها بلوم طفيف: منذ أن انتشرت هذه الأخبار قبل ساعة حادثني العديد من ذوي المناصب الرفيعة، آخرهم كان وزير الداخلية وهو غاضب للغاية، لقد فشلتِ هذه المرة مياس.

زاد ضغطها على فكيها ولم تجدْ ماتتعذر به حتى نطق أويس باندفاع: فشل هذه المهمة يقعُ على عاتقنا جميعا سيدي وليس فقط مياس، جميعنا كنا هناك وأغلبنا سقط في فخ الخفاش.
طالعه جلال بتفحص جليّ أثناء نطقه بتلك الكلمات وقد استغرب فعلته، عادة مايلقي أويس باللوم على أفراد فريقه كلما فشلت إحدى مهامه، وهذه المرة الأولى حيث يعترف بخطأه فأيقن أن في الأمر إنّ.

في مواقف مشابهة كانت لتنفحر غضباً في وجهه، لكنها هذه المرة لم تفعل، بل خفق قلبها بسعادة غير عادية ورقص طرباً، طالعهما جلال بتفحص فلم يخفَ عليه إرهاق كليهما فقال أخيراً: اللوم لن ينفع الآن، وكما أرى فكلاكما مرهق ومتعب، لذا خذا هذا اليوم إجازة.
حاولت مياس أن تفتح فمها لتعترض فأضاف جلال رافعاً سبابته بتحذير: هذا أمر مياس، لا تعترضي.

حركت رأسها بقلة حيلة رغم عدم رضاها، لكن ربما في هذه الإجازة فرصة لها لترتب أفكارها من جديد، خرج كليهما من مكتب اللواء وسارا في الرواق دون أن يتحادثا حتى وصلا إلى الدرج فوقفت مياس فجأة وهمست بامتنان: شكراً.
طالعها لثوان بذهول فوجدها تطالعه ببسمة لطيفة، حتى أدرك مقصدها فأجاب: لا داعي لشكري مياس، كنتُ صادقاً حقاً فيما قلت.
أشارت له بتفهم ثم تساءلت: ألن تذهب إلى منزلك؟

بادلها ابتسامة صغيرة قائلا: بلى، سأجلب مفتاح سيارتي من المكتب، نسيته هناك بالأمس.
أماءت مجدداً ثم تحركت دون أن تودعه، ولم تزل ابتسامتها الوديعة تزين وجهها، شيعها بنظراته حتى اختفت ثم حثّ خطاه ناحية المكتب ليتفاجأ بوجود صلاح هناك، والذي هتف بتهليل متفاجئ: أويس!

في وسط صحراء مقفرة كانت عليا تسير وحيدة، تائهة هائمة على وجهها، شفتيها تشققتا من فرط العطش وقد اغبرّ محياها وشعرها، وتمزقت ملابسها وتشعث حالها، وهي بالكاد تجرّ قدميها علّها تصلُ إلى مكان ما ينقذها، وفجأة لاحت لها من بعيد دوحة خضراء، أشجار النخيل العالية والظل المديد تحتها وبركة الماء الصغيرة أنعشت قلبها المتعب، انفرجت تعابيرها ببسمة صغيرة كمن نجا من الهلاك ثم حثت خطاها راكضة صوب الدوحة، ولم يمنعها تعثرها بالرمال الساخنة من الوصول إليها وإسقاط جسدها على ضفة البركة، لهثت عليا من التعب وقد شوشت الدموع نظرها، تطلعت إلى انعكاس صورتها على الماء كأنها لاتصدق بعد أنها وجدته، امتدت يدها لتلمس صفحة الماء بإصبعها لتتأكد من وجوده حقا وليس وهماً، لتُفاجئ بيدٍ غادرة تخرج منه لتمسك بها وتسقطها بقوة محاولةً إغراقها، قاومت عليا بكل ماأوتيت من قوة لكن الفشل كان حليفها، كان أحدهم يسحبها إلى الأسفل أكثر ورغم محاولاتها للإفلات لكنها لم تجدِ نفعاً، صرختْ تحت الماء ليخرج صوتها على شكل فقاعات استغاثة تنفجر كأنها لم تكن حال وصولها إلى السطح، بعد عدة لحظات كانت قد تعبت فاستسلمت لمصيرها وهدأت مقاومتها، تركت جسدها ينساب وينزلق إلى الأسفل وقد أغلقت مقلتيها بانهزام، وحدهما ضحكة وصورة مياس من بعثا في خلاياها الحياة من جديد، فتحت عينيها فجأة وعادت لمحاولة الصعود إلى الأعلى حتى لمحته، كان عمار يقف على ضفة البركة الصغيرة واضعاً كفيه في جيبه، ويراقبها أثناء غرقها بكل هدوء كأنه لا يراها، خارت قوى عليا المقاومة مجدداً وقد استحوذ عليها الذهول من مراقبته الباردة له كأنها لا تعنيه بشيء، ثم غرقت وماتزال مثبتةً عينيها على تعابيره الباردة، ويدها مرفوعة للأعلى علّها يتحرك فينجدها...

انتفضت عليا جالسةً دفعة واحدة وهي تشهق بقوة كأنها كانت تغرق فعلياً، كان وجهها غارقاً بالعرق البارد، و أنفاسها متلاحقة وسريعة فاستغرقها الامر لحظات حتى سيطرت عليها واستوعبت مكانها، ابتلعت ريقها لتتنبه إلى عطشها تواً، ثم مدت يدها إلى الطاولة الخشبية الصغيرة المجاورة لسريرها لتسحب إبريق الماء لتسكبه دفعة واحدة في جوفها الملتهب، أعادته الى مكانه ثم مسحت بيدها أسفل فكها، وبيدها الأخرى مسحت على شعرها في محاولة منها لتذكر ماحصل معها أمس وقد أفلحت، أضاء عقلها بذكرى اتصال عمار وطلبه الذي تسبب في إغمائها، ارتجفت عليا وهي تضم كفيها حولها كأنها تشعر بالبرد، فطلب عمار غير ممكن إن لم يكن مستحيلاً، فلا هي ولا مياس على استعداد لرؤيته.

ومع خاطرتها الأخيرة تذكرت ابنتها، اخفضت قدميها إلى الأرض لتقف بسرعة إلا أنها سرعان ماعاودت السقوط إلى السرير، ممسكةً برأسها إثر دوار مفاجئ باغتها، أنّت عليا بقوة وهي تستشعر رأسها قد ينفجر حالاً، تنبهت بعد لحظة إلى انفراج بابها فرفعت رأسها الى والدتها التي تهللت تعابيرها بالبِشر حين رأت ابنتها وقد استفاقت فحثت خطواتها الثقيلة ناحيتها قائلة بسعادة صادقة: حبيبتي عليا، لقد استيقظتِ أخيراً!

رفرفت عليا بأهدابها بعدم فهم فسألت رائدة التي جلست بجانبها: كم الساعة الآن؟
تنهدت رائدة بارتياح طفيف مجيبةً بحبور: لقد تجاوزت الظهر بقليل.
لم تترك ابنتها لتستفيق من صدمتها فكوّبت وجهها بيديها لتسألها باهتمام: هل أنتِ بخير؟ أخبريني بماذا تشعرين؟
انتبهت عليا لسؤال أمها فأجابت بعجلة: أنا بخير أمي لا تقلقي، لكن أريد ان أطمئن على مياس.

حاولت النهوض لولا يدُ رائدة التي منعتها لتعاود الجلوس قائلة: مياس نائمة في غرفتها، لاتقلقي عليها.
إجابتها زادت من قلق عليا التي هتفت بلوعة: نائمة حتى هذا الوقت؟ قد تكون مريضة؟!

للمرة الثانية حاولت الوقوف لتمنعها رائدة مجدداً مضيفة بتوضيح: إنها بخير ياابنتي لاتقلقي، لقد عادت بعد شروق الشمس وحاولت التسلل كالسارق، لكني رأيتها فتعذرت أنها تأخرتْ في عملها مرغمة كالعادة، وطلبت ألا يزعجها أحد، ولم أخبرها بما جرى لك.

ربما ساهم حديثها في تقليل قلق عليا على وحيدتها، لكن الأخيرة لن ترتاح فعلياً حتى تراها بنفسها، لم تترك لها رائدة الفرصة للهرب فقالت بتحقيق: والآن، ألن تخبريني بما حدث أمس لتسقطي هكذا؟
شحب وجهها بالتزامن مع سؤال والدتها والتي عقبت بنظرات ثاقبة، مقتبسةً حديث حسام: أخبرنا الطبيب أنكِ تعرضتي لانهيار عصبي طفيف بسبب ضغوط متزايدة.

جفّ حلقها تماماً، رغم هذا حاولت اختلاق الذرائع لتخبر أمها فقالت بنبرة متذبذبة: لا لا شيء أمي، أظنّ من فرط قلقي على مياس وتفكيري بمستقبلها...
اعتقدت أنها قد تنجح في إقناع والدتها بعذرٍ واهٍ.

، لكن الأخيرة قطعت عليها الطريق حين قاطعتها بنبرة حازمة لاتقبل التشكيك: لاتحاولي المراوغة معي عليا، انا أمك وأكثر من يعرفك حين تكذبين، الأمر أكبر من مجرد القلق والتفكير، إنها تراكمات وأسرار كثيرة كنتِ تخفينها عني، وكنتُ أدرك هذا وأتغاضى فقط لأني على يقين أنه لن يطول بكِ الأمر حتى تأتي فتخبريني.

قطعت رائدة حديثها لتُعاين ردة فعل عليا التي تهربت من نظراتها المتفحصة، في حين تابعت رائدة بلوم: لكن على مايبدو فإني لم أعد قادرة على تأدية دور الأم معك، صحيح؟
أجفلت عليا ناظرة إلى أمها لتنفي صحة شعورها: لا أمي، لا تقولي هذا أبداً.
أمالت رائدة برأسها للجانب لتصارح ابنتها بشكوكها: هل للأمر علاقة بعمار؟

عادت عليا لتطرق برأسها بحزن فأيقنت رائدة أنها أصابت كبد الحقيقة، فعاودت السؤال من جديد بحزم: أجيبيني عليا، هل حاول عمار التواصل معكِ بأي شكل كان؟
أغمضت عليا مقلتيها لتنفر منهما عبرةٌ خائنة، قبل أن ترفع رأسها إلى والدتها مجيبةً باختناق: أجل أمي، لقد هاتفني أكثر من مرة، ليس هذا فقط بل وطلب رؤية مياس.

كانت كلها مجرد شكوك فقط، لكن الآن وقد تيقنت رائدة من صدق إحساسها، بعد كل هذه السنوات عاد عمار ليطالب بحقٍ سقط حقه في المطالبة به، لم تستفق من تفكيرها حتى اندفعت عليا لتنهار بالبكاء بين أحضان والدتها، بكت آهاً حارقة كتمت صدرها طويلاً، بكت سنوات الظلم وسنوات الغياب، بكت بحجم الجرح الذي لم تشفهِ الأيام...

لم تسمح له بمغادرة المنزل تحت أي ظرفٍ كان، خاصة بعدما حدث أمس، عادت سعاد للحرص على ابتعاد زوجها عن كل ماقد يضر بصحته، فأرغمته على الالتزام بنصيحة الطبيب حسام بالراحة التامة وبالدواء أيضاً.

كان كمال سعيداً حقاً باهتمام سعاد بكل مايتعلق به، فبعد مرور شهر تقريباً على وفاة ابنهما ورد كان حرياً بها أن تعود سعاد التي يعرف، راقبها أثناء دخولها غرفتهما حاملةً في يدها كوباً زجاجياً يحوي عصير الليمون فتذمر كطفل عنيد: لا هذا كثير ياسعاد، لن أشرب هذا بالطبع.
أجابته سعاد بجدية: بل ستشربه وأنت تضحك عزيزي.

زمّ شفتيه وهو يعقب ساخراً أثناء تربيته على بطنه: عزيزتي ألا تلاحظين أن بطني قد امتلأت؟ ارحميني أرجوكِ، يكفي أكواب عصير البرتقال الستة وأكواب اللبن مع الملح الخمسة التي شربتها اليوم، فضلاً عن كوب يانسون داخل وأخر خارج كان فيه بابونج! ولن أتحدث طبعاً عن اللحوم والشحوم والفواكه، إن بقيتُ على هذه الحال لأسبوع آخر سأصبح مثل البالون!

قطبت سعاد جبينها وقد وقفت أمام سريره ثم تذمرت بتوبيخ: انا خائفة على صحتك فقط، ألم تنظر إلى وجهك في المرآة مؤخراً فترى لونه المخطوف أو جسدك الهزيل؟
قهقه بخفة وهو يمسك الكوب من يدها ليضعه على الطاولة بقربه، ثم شدها لتجلس أمامه قائلاً بمزاح: لا تحزني حبيبتي سأشربه بعد قليل.
مسّد على وجنتها ليعقب بصدق: المهم عندي هو راحتك أنتِ، أحبكِ ياسعاد.

تهربت من نطاق نظراته القوية التي تصرح لها بحبه، وقد توردت وجنتيها بلون الدم القاتم كأنها مراهقة تسمع كلمات الغرام لأول مرة، لكنّ عقلها أبى أن يسلم لتلك اللحظات الدافئة، بل رآها فرصة سانحة لتضغط على كمال فيذعن لطلبها، رفعت رأسها إليه لتهمس بسؤال مفخخ: هل تحبني حقاً ياكمال؟
اقترب منها قليلاً حتى ضربت أنفاسه وجنتها مجيباً بنبرة حقيقية لأبعد الحدود: لا أحبكِ فقط ياسعاد، أنتِ وتيني.

ابتلعت ريقها بوجل لتهمس بسرعة قبل أن يميل عليها: إذاً ستحقق لي رغبتي.
تجمدت عينيه المتفحصة عليها لثوان قبل أن يتراجع مبتعداً دون أن يزيح أنظاره القوية عنها، وقدأفلح بإرباكها لكنها ثبتت نظراتها عليه بدورها، تساءل بعد لحظة بهمسٍ خطير وقد انعقدت ملامحه: مالذي تقصدينه ياسعاد؟ أي رغبة هذه؟
ازدردت ريقها مجدداً ثم هتفت ببحة، وقد انخلع قلبها من صدرها فتراقص كطير ذبيح: أن تتزوج...

لم تنفرج عقدة ملامحه بعد وهو يطالع زوجته - البلهاء- بنظرات قوية، مرت لحظات حتى تبدلت تعابيره إلى الامتعاض من طلبها البغيض، نفض الغطاء عنه قاصداً مغادرة الغرفة إلا أنها أبت، أمسكت بذراعه لتمنعه قائلة بشجاعة متهورة: لن تغادر قبل أن توافق على طلبي ياكمال.

نفض يدها عنه وهو يقف من مكانه ليصيح بها بغضب: لن أوافق ياسعاد لن أوافق، قلتها لكِ قبلاً وسأقولها من جديد لا شيء في الدنيا قد يعوضني عن ابني، فأدخلي هذا الكلام جبراً إلى عقلك الصغير.
نطق آخر كلماته وهو يطرق بسبابته على طرف جبينها، لكنها لم تتراجع رغم الدموع التي انسابت من مقلتيها فهتفت: لا لن أقتنع بحديثك هذا، ولن أتوقف أبداً عن محاولة تزويجك، فإن لم يكن برضاك فجبراً إذاً.

طالعها بمقلٍ متسعة عن آخرها وهو يشعر حقاً بأنه لايعرفها، قبض على ذراعيها ليجتذبها فتقف أمامه، ثم صاح بها وهو يهزها بقوة: أجننتِ ياسعاد؟ أخبريني؟ هل أثّرتْ وفاة ورد على عقلك فأصابه خلل؟
حديثه أوجعها أكثر من طلبها ذاته لكنها صرخت في وجهه بعناد: لا، لم أجنّ بعد، لكني سأفعل إن لم تستجب لي.

شعر بغضبه من سذاجتها يتنامى فخاف عليها من تهوره إن استفزته أكثر، استدار للخلف زافراً بقوة محاولاً السيطرة على نفسه حتى قال بعد لحظات بهدوء مختلق: لا ياسعاد، لن أقبل بما تقولين ولو ضربتِ رأسكِ بالحائط.
اقتربت منه خطوة حتى باتت خلفه تماما ثم عقبت بحدة: بل ستقبل ياكمال وإلا...
لم تكمل حين التفت صوبها وملامحه تنذر بالخطر هامساً بسؤال حَذِرْ: تهددينني؟وإلا ماذا يا ابنة عبد السلام؟

ارتجفت شفتيها بقوة وتكاد غصتها تخنقها حية، في حين كان يطالعها كأنما يتأكد أنها على وشك تهديده، إلا أنها تابعت بشراسة لم يعهدها فيها من قبل: وإلا فإني سأغادر هذا المنزل ياكمال ولن ترى وجهي مرة أخرى.
سقطت ملامحه بذهول حقيقي وقد استمع لنبرتها الحادة، هذه النسخة المعدلة من سعاد أدهشته بالفعل فهمس كمال بتعجب: أنتِ واعيةً لما تقولين ياسعاد؟

لم تتركه ليكمل حديثه اللائم بل تحركت لتتجاوزه فتعطيه ظهرها أثناء صياحها بنبرة مخذولة: سأترك المنزل ياكمال إن لم توافق، والله لأفعلها فأسير هائمة على وجهي ولن تجد لي طريقاً، وهذا آخرماعندي.
كانت العبرات قد بللتْ وجهها كاملاً وأحرقت وجنتيها، لم تكن سعاد فقط واعيةً لما تقول بل ومصرةً عليه إلى أبعد حد، وهذا ماأصاب كمال في مقتل فهتف بخذلان: أهذا أخر مالديك حقاً ياسعاد؟ بعد هذا العمر كله تساومينني؟

لم تجبه فصاح بها فأجفلها: أبعد هذه السنوات تقفين أمام كمال الحكيم وتهددينه؟ أجيبي؟!
انتفض جسدها بحرقة ثم التفتت صوبه مجيبةً بصوت مختنق، وقد تهدل كتفاها باستسلام: نعم ياكمال، أساومك، أساومك لمصلحتك، لمصلحة ابنتي ومصلحة هذه العائلة كلها.

سكتت لثانية ثم عقبت بنحيب موجع وهي تشير إلى صدرها: هل تظنّ أنّ الأمر سهلٌ عليّ؟ لا والله، أشعر بصخرة عظيمة تكتم أنفاسي وتسحق قلبي، كلما تخيلت بأن تجاورك أنثى سواي على الفراش، تحمل اسمك وتلد ابنك، لكن ماذا أفعل ياكمال؟ أخبرني؟

صمتت مجدداً لتبتلع جمرةً آذت حلقهالتتابع بنشيج: أنت كبير العائلة ويجب أن يكون لك أولاداً ذكور، ليس لأجلك فقط، بل لأجل ابنتي ياكمال، لا أريدها أن تكون وحيدةً مثلي، لا أريدها أن تعيش مكسورة الجناح، لا أنت ولا أنا سندوم لها طويلاً.

كان صامتاً يستمع لها، ذاهلاً من سلبيتها المفاجئة التي أدهشته، إنه لايعرفها ولا يريد أن يعرفها، لكنه استمع إلى بقية حديثها، مسحت وجهها و بللت شفتيها ثم أضافت بنبرة منكسرة: أنا لم يعد بإمكاني إنجاب الأولاد لك، لقد باتت عادتي الشهرية متقطعة وغير منتظمة، حتى أني لم أراها منذ شهرين، وهذا يعني أنني اقتربتُ من سنّ اليأس وأمر حملي بات مستحيلاً، ليس سهلاً أن أعترف بكل هذا ياكمال ولكنها الحقيقة واضحة كعين الشمس، ولن تُحجب الشمس بغربال...

أشفق عليها بعدما اعترفت له بكل هذا، وهو في قرارة نفسه يدرك مدى صعوبة هذا عليها فاقترب ليحتويها بين أحضانه فانفجرت باكية بحرقة، أغمض عينيه بقوة وهو يشدّد عناقها علّها تهدأ، مرت بضع لحظات حتى استشعر هدوءها فأخرجها من أحضانه ليكوّب وجهها وقبلها على جبينها، ثم همس وهو يمسح عبراتها بإبهاميه: هشششش، لاتتفوهي بمثل تلك الحماقات ياسعاد، يكفي.

حركت رأسها رفضاً لتعقب بصوت مبحوح: ليست حماقات، إنها واقع ياكمال وسأكون حمقاء بالفعل إن رفضتُ الاعتراف بها.
لم تدرك أنها أوجعته فظنت أنها وحدها من يتألم، فتساءل كمال بضياع: أخبريني مالذي في يدي لأفعله لأرضيكِ، أفديكِ بروحي ياحبيبتي.
لم تتأخر في طلبها الحازم: اقبل أن أزوجك.
طالعها بحيرة وكاد يرفض قبل أن تضيف برجاء: هذا الحل الوحيد الذي يرضيني ياكمال، ولن أطلب منكَ سواه أعدك، فقط وافق.

أمام مناجاتها الصادقة وعينيها الراجية لم يجدْ كمال بُدّاً من الموافقة، حرك رأسه موافقاً بتردد حتى رأى ابتسامة غريبة تزحف على محياها، حوَت بين طياتها هزيمة غير معلنة وبقايا وجع مهلك، فهمس كمال ببحة مستسلمة تكتم أنفاسه: موافق ياسعاد، كما تشائين.
عاد ليعانقها من جديد وهو لايصدق أنه قبل بطلبها المجنون، لكن مابيده حيلة، على أمل أن تغير رأيها في مقتبل الأيام..

راهن كمال على حبها وقد خذلته، ولم يبقَ له سوى المراهنة على غيرتها كأنثى علّها تنذرها مستقبلاً بفداحة ماطلبت...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة