قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والعشرون

(((بذرة الحزن داخلنا لاتموت، بل تتشبث بروحك المتعبة، تلتفّ حولها حتى تخنقها، وتتكاثر بقوة وسرعة، فحارب وناضل قبل أن تقع فريسةً سهلة لها))).

حين تتراءى لك أشعة السعادة وهي تلوّح لك من بعيد، وقد فتحت الحياة لك أذرعها، وفجأة تباغتكَ سحابة سوداء فتحجب عنك ضياء الشمس وتسري البرودة بين أوصالك، أتدرك ذلك الشعور؟
حين تشعر بأنّ أحدهم قد أخذ بيدك ليساعدك في لملمة شتات نفسك المهزومة، والصعود إلى قمة التفاؤل والحياة، فتفاجأ به وقد طعنكَ في ظهرك غدراً ثم رماكَ من أعلى تلك القمة إلى جوف الأرض، أتعرف هذا الإحساس؟

إنه شعور بليد، مقيت، حين تختزل الثقة كلها في شخص ما فتدرك، بعد فوات الأوان، أنه الوصف البشري للغدر والخيانة؟

منتصف الليل.

لم يسمع من اللواء جلال ولم يغادر أويس المبنى نهائياً، لايزال جالساً في غرفة المكتب المشترك، وأمامه على الطاولة العديد من أكواب القهوة الفارغة، مركزاً أنظاره على طارق وإيهاب الجالسين قبالته، ويتطلعان بفمٍ مفتوح وعيونٍ متسعة إلى شاشة الحاسوب الماثلة أمامهم، وصلاح الواقف قرب الباب وقد ارتجف بدنه خوفاً من أن يفتضح أمره، بعد أن استمعوا إلى التسجيل للمرة الثالثة بعد المئة ربما!، لكنْ ماطمأنه أنّ الجميع تحت الصدمة ولن يكتشفوا الخلل في التسجيل، سينتظر حتى يغادر الجميع فيتسنى له فبركته جيداً.

كان إيهاب أول من استطاع استجماع نفسه فتمتم: مستحيل! لا أصدق هذا!
انتبه طارق فرفع رأسه صوب أويس الواجم بملامح جامدة لاتنمّ عن خير قائلاً بصدمة: هل هذا حقيقي فعلاً؟
رمقه أويس مطولاً فبانت آثار السهر والتعب واضحة في مقلتيه، ومن خلفها زوابع غضب عاتية، في حين بلّل طارق شفتيه ليضيف بنبرة مترددة: أعني بحق الله هذه مياس! الذئب، لا أعتقد أنها قد تفعل أمراً مماثلاً! مؤكد هناك خطأ ما!

تطلع صلاح إلى أويس وقد شحب وجهه، معتقداً أنّ طارق قد اكتشف الثغرات غير المكتملة في التسجيل المفبرك، مرت لحظات من الصمت الثقيل حتى قطعه أويس حين هبّ واقفاً ببطء متحدثاً ببرود: لقد سمعتها بأذنك طارق، لذا لا أعتقد بوجود خطأ.
حاول طارق الاعتراض فقاطعها أويس بحدة: لا أريد سماع أي اعتراض طارق، لقد سمعتَ صوتها كحالنا جميعاً وهي تحادثه وتنقل له تحركاتنا كلها، الدليل واضح بصوتها ولامجال للإنكار.

ابتلع طارق ريقه بوجلٍ من منظر أويس الباعث على القلق، خاصة وأن الغضب كان واضحاً عليه، تساءل بعد برهة بخفوت: والآن؟ علامَ تنتوي؟
صمت للحظات طوال أقلقت ثلاثتهم حتى نطق أويس بنبرة مخيفة: سنتحفظ على هذا الدليل حتى أتخذ بحقها الإجراءات اللازمة.
وقف طارق قبالته هاتفاً باعتراض: ماذا تعني أويس؟ يجب أن نبلغ اللواء جلال حالاً؟
قال الأخير وهو يلتفت بجسده إلى الجانب: لن تخبرو أحداً حتى آمركم.
ولكن يا أويس...

قاطع استجداء رفيقه اليائس وهو يلتفّ من جديد قائلاً بزمجرةِ وحش مطعون: لقد سمعتَ ماقلتُ طارق، فلا تناقشني.
سكت لثانية ثم أردف بتحذير جاد أثناء تمريره لأنظاره على رفاقه الثلاثة: إياكم وأن أعلم أنّ أحدكم قام بتحذيرها، لإني لن أرحم أحداً منكم حينها.

طالعه طارق بدهشة يائسة، وراقبه حين التقط مفتاح سيارته من أعلى الطاولة ثم سار باتجاه الباب، وقبل أن يخرج أمر صلاح بنبرة صارمة: تحفظ جيداً على هذا الدليل، وإياك وأن يتمّ التلاعب به.

أشار له بالإذعان فخرج أويس عقب أوامره الحازمة وفي رأسه خطةٌ قد أعدّها للإيقاع بمياس شرّ وقعة، تاركاً طارق خلفه يشيعه بعينيه وقد راوده مشهد ردينة مجدداً، رغم يقينه أنّ هناك خطأً ما في كل سمع لكنه لايعرف أين الخطأ بالضبط، وقد استبدّ به شعور العجز، أدار رأسه صوب شاشة الحاسوب وفي داخله يدعو أن تعود العواقب سليمةً على الجميع، وأولهم مياس...

وقف أويس عند باب المكتب المشترك متفاجئاً بوجود صلاح داخله، رمقه بنظرات مُشككة لتواجده هنا في هذا الوقت المُبكر جداً، بينما اهتزت ابتسامة صلاح المُصطنعة وقد تعطل عقله عن التفكير لجزءٍمن الثانية، قبل أن يعاود العمل وقد لمعت في ذهنه فكرة خطيرة ليتفادى شكوك أويس فهتف بنبرة ثابتة أتقنها: جيدٌ أنكَ أتيتَ أويس، في الحقيقة كنتُ أخشى أن تكون أحداً آخر.

تقدم أويس صوبه بضع خطوات ثم توقف وقد ثبت أنظاره فوقه، ليقول بنبرة مستغربة: مالذي تفعله هنا صلاح؟ مازال الوقتُ باكراً جداً على بدء الدوام؟
بلع صلاح ريقه بقلق أجاد إخفاءه ليجيب بتعجل ندم عليه فيما بعد: لقد حصلتُ على دليلٍ قاطع لخيانة أحد أعضاء فريقنا، وكنتُ أقوم بتجهيزه لأعطيكَ إياه.

زوى أويس مابين حاجبيه بعدم فهم بينما قام صلاح بإدارة الحاسوب المتنقل الذي كان أمامه ناحية أويس، فلاحظ الأخير أنه مفتوح على أحد برامج فحص الصوت، نظرة سريعة ألقاها ناحية صلاح قبل أن يحثّ خطاه إليه حتى وصل متسائلاً بشك: ماذا تقصد بحديثك هذا صلاح؟ أتعني أنكَ وصلتَ إلى جاسوس الخفاش؟
أشار له بالإيجاب معقباً بمكر: تماماً هذا ماقصدته، واحزر من هو؟

منحه نظرة متسائلة فارتسمت ابتسامة شيطانية على وجه صلاح وهو يجيبه بنبرة لعوب، قبل أن يضغط على زرٍ ما في لوحة المفاتيح: اسمع بنفسك.
بدأ الصوت مشوشاً، كلمات غير مترابطة يسمعها أويس وأصوات همسٍ غير مفهوم، قطب جبينه محاولاً التقاط أي كلمة قد تنفعه لكنه لم يفلح في البداية، كاد أن يوبخ صلاح قبل أن يتناهى إلى مسامعه صوتها، نعم إنها هي!

كان صوت مياس مشوشاً بعض الشيء لكنه مفهوم بالنسبة إليه، اتسعت عيناه عن آخرهما وهو ينحني حتى بات وجهه قبالة الحاسوب كأنه يتأكد مما يسمع، التقطت أذناه جملتها وهي تقول: أجل ياخفاش كما أخبرتك، نحن في طريقنا إلى المتحف.
سكتت لثوانٍ معدودة ثم أضافت: لاتقلق سيكون كل شيء كما أمرتَ، سأجعلهم يتوهمون دخولك وخروجك دون أن أقبض عليك أو يراك أحد.

بضع لحظات من الصمت يتخلله صوت خافت غير مفهوم ثم تابعت بنبرة متعجرفة: لاتقلق، لا أحد يشك بي أبداً، لقد خدعتهم لعام كامل دون أن يشعروا، إنهم حمقى للغاية فلا داعي للقلق.
ساد الصمت من جديد قبل أن تطلق قهقهة ماكرة لتعقب بنبرة متلاعبة: وأنا اشتقتُ إليكْ، سأحاول أن نلتقي في جناحنا نفسه في ذات الفندق.

شعر بأن الأرض قد بدأت تدور حوله فاستند على حافة الطاولة الخشبية، لم يصدق لغاية اللحظة ماسمعت أذناه، وقد قرأ صلاح في محياه أمارات الدهشة فأيقن أنه قد وقع في الفخ، وليضمن تصديقه لما سمع أردف بحزنٍ مُصطنع: في البداية لم أصدق أنّ مياس جاسوسة الخفاش ياأويس، أتذكر في أول يومٍ لها حين طلبتْ مني أن أضع هاتفها تحت المراقبة؟ الغريب أننا لم نتمكن من الحصول على شيء مفيد وهذا ماجعلني أشكك في الأمر، حتى اكتشفتُ يوم أمس أنها تملكُ هاتفاً آخر لم تكن قد أخبرتنا عنه، وبعد البحث تمكنتُ من الوصول إلى رقمها ومراقبته، فتوصلتُ إلى هذا التسجيل.

كان أويس مغيباً وشارداً في شاشة الجاسوب المُضاءة، لكنّ كلمات صلاح المسمومة وجدت طريقها لتتسلل إلى عقله فوارته خلف سحبٍ مظلمة، جعلته معمياً عن رؤية الحقيقة، وسار ذهنه كالمجذوب خلف توهمات وأفكار سوداوية، خلال لحظاتٍ معدودة انقلبت صورة مياس في ذهنه من أسطورة ملائكية إلى شيطانٍ مارد، كوّر قبضتيه واعتصرهما حتى نفرت شرايينه وبانت وقد أضمر لها الشرّ، أقسم في نفسه أن يوجعها على قدرِ ماتألم من هول مااكتشف، مرّت لحظاتٌ من الصمت الثقيل حيث كان صلاح، رغم ثباته الظاهري إلا أن داخله كان يرتجف خوفاً، فالتسجيل لم يتم الانتهاء من فبركته نهائياً، كان يرتقب ردة فعل أويس بتوتر واضح من نظراته حتى همس الأخير بفحيح كالأفاعي: تحدث مع طارق وإيهاب حالاً.

تنبه أويس من شروده على أشعة الشمس وهي تضرب وجهه فتجبره على إغلاق عينيه المتعبة، زفر بضيق شديد وهو يفرك على عينيه بقوة ثم اعتدل جالساً في سيارته وأسند رأسه على المقود، كان الشارع حيث أوقفها هادئٌ إذ أنّ الوقت لازال باكرا جدا على بدء حركة السير، مازال يعيد ذلك التسجيل في رأسه وفي كل مرة يُصاب بخيبةٍ أعظم مما قبلها، كيف استطاعت خداعهم؟ هل كانت ممثلةً بارعة إلى هذه الدرجة؟ والأدهى والأمرّ أنه وثق بها، بل وتبع خطاها كالأعمى دون اعتراض.

شعر بأنّ عرقاً نافراً من جانب رأسه قد ينفجر بين لحظة وأخرى من فرط الصداع الذي ألمَّ به، لكن وجع تلك الطعنة الغادرة أكثر إيلاماً، رفع أويس رأسه فظهرت داخل مقلتيه مشاعرٌ مختلطة، خذلان ووجع، خيبة وألم، عاد أويس طفلاً بتسع سنوات يستشعر طعم الغدر اللاذع فيكاد يتقيأ، لم يشعر بيده التي كانت تضغط على المقود حتى أوجعته، نفخ بامتعاض وهو يهسهس ببضع كلمات غير مفهومة، تطلع أمامه وقد رتب خطواته التالية، يجب أن يقبض عليها ويقدمها للعدالة، ولكن قبل ذلك، أليس من العدل أن يردّ لها الصاع صاعين؟

أدار سيارته تالياً متبعاً خطته التي رسمها بعناية، انطلق مسرعاً مخلفاً زوابع غبارية تنبئ عن المخفي داخل عقل أويس المتخلف...

صبيحة هذا اليوم لم تكن عاديةً البتة بالنسبة لها، بعد أن نامت ستة عشر ساعةٍ متواصلة استفاقت مياس نشيطة للغاية، يبدو أن اللواء جلال كان على حق تماماً فالتعب كان واضحاً عليها لكنها كالعادة تعاند وتكابر، تمطت في فراشها وعلى وجهها ملامح مرتاحة وابتسامة لطيفة لم تعتدها قبلاً، ربما هذا بسبب الأحلام الجميلة التي زارتها في منامها وكلها كان بطلها أويس.

رغم استيائها من كل الأحداث المتعاقبة وهزيمتها أمام الخفاش مؤخراً، إلا أن هذا كله لم يمنع السعادة من الزحف على تعابيرها الجادة ماإن طرأ على بالها ماحدث بينهما أمس، ذلك التقارب بينهما ووالنزعة المتضاربة التي شعرت بها حياله راقتها بطريقة ما، رغم عدم إدراكها بعد لحقيقة ماتشعر به ناحيته.

شعرت بعصافير تتقاتل في معدتها لتنبهها إلى جوعها لعدم تناولها الطعام منذ ليلتين، شعرت بحماسة مفاجئة فهبت لتبتعد عن الفراش متجهةً إلى الحمام، خرجت بعد فترة وجيزة وقد أخذت حماماً ساخناً وأبدلت ثيابها إلى زيها الأسود، ثم هبطت إلى الطابق السفلي لتجد والدتها في المطبخ تحضر وجبة الإفطار للعائلةشهقت مياس نفساً عميقاً قبل أن تهتف بتلذذ: الله الله، ماهذه الروائح الزاكية سيدة عليا؟

التفتت الاخيرة ناحيتها ولم تخفي تفاجئها من تصرفات ابنتها، لتضيف الأخيرة بمزاح: أتعلمين أمي؟ لو اشتركتِ في مسابقة طبخ متأكدة أنكِ ستحصدين المركز الأول بلا منازع.

رفرفت عليا بعينيها بذهول لحال مياس الذي تراه للمرة الأولى، فيما راقبتها بعينين متسعتين أثناء وقوفها بجانبها وهي تسترق النظر إلى الطبق الذي كانت تعده عليا، وهو طبق عجة البيض، ثم تلتقط بعض قطع الخضروات التي سبق وأن قطعتها والدتها، استغرقت عليا في ذهولها حتى تنبهت إلى رائحة احتراق فأدركت انها أحرقت العجة، رفعت المقلاة وهي تتذمر من نفسها وسارعت لرميها تحت الصنبور، بينما تعالت قهقهات مياس المتسلية لتعقب ساخرة بفمٍ ملآن: ما الأمر أمي؟ هل فقدتِ مهارتك الآن؟

رمقتها عليا بطرف عينها لتتمتم بامتعاض مازح: أعوذ بالله من عينك، إنها تفلق الحجر!
تعالت ضحكات مياس حتى أضافت بتذمر: والآن قد أحرقتِ العجة فماذا ستطعميني سيدة عليا؟
استدارت الأخيرة لتواجهها بحاجبٍ مرفوع ويدها ترفعها على خصرها: ستأكلين من الأطباق المتواجدة على الطاولة ياعين أمك.
جالت مياس بعينيها على الأطباق التي أشارت إليها والدتها، لكنها هتفت بتبرم ممتعض: لا أريد هذا الطعام.

تطلعت صوب عليا ثم أضافت بعيونٍ ماكرة وملامح بريئة: أريد أن تصنعي لي العجة أمي.
بداية لم تكن لترضى بعد أن تسببتْ بحرق العجة الأولى، إلا أنها عادت لتشير لها موافقة فقالت باستسلام: حاضر، سأصنع لكِ واحدة جديدة.
لم تكد تتحرك لتجلب البيض وأغراض العجة حتى عاجلتها مياس بمفاجأةٍ كبرى: سأساعدك في تحضيرها.

رغم غرابة كل ماتفعله مياس لغاية اللحظة إلا أن عليا كانت سعيدة، لربما قررت مياس أخيراً أن تعيش حياتها كفتاة، كأنثى طبيعية...

لكن تفكيرها هذا لم يدم إلا لحظات، فقد قامت مياس بجلب بيضتين تمهيداً لكسرهما، حاولت عليا تعليمها لكنها أبت متعذرةً بأن الأمر سهل للغاية، ثم طرقت البيضتين ببعضهما بقوة أسفرت عن تفتيت القشرة واختلاطها بالبيض، هتفت مياس باحتجاج حين لاحظت نظرات أمها النارية: أصلاً لم يعجبني شكلهما منذ البداية.

تحركت عقبها لتجلب لوحاً خشبياً تستخدمه عليا عادة للتقطيع وحاولت تقطيع البقدونس، إلا أنها لم تفلح فقامت بفرمها قطعاً كبيرة لاتصلح لشيء، انتزعت عليا البقدونس المسكين والذي أهدرت مياس كرامته لتنقذه قائلة: اعطني عزيزتي أنا سأقطع البقدونس، حاولي أن تقطعي البصل.
مطت مياس فمها بعدم رضا وهي تحرك رأسها بتفهم لتسارع الأولى فأردفت: يجب أن تكون قطع البصل صغيرة وناعمة مياس أرجوكِ.

تذمرت الأخيرة باستياء محتجّ: وهل تقطيع البصل أمرٌ صعب أمي؟ لاتقلقي لن يكون أصعب من ملاحقة المجرمين، وأنا أجيد هذا جيداً.
تحركت لتجلب لوحاً خشبياً آخر فلاحقتها نظرات عليا الملتاعة وهي تدمدم مع نفسها: الرحمة يا آلهي!

أنا الآن أسحب كلامي نهائياً، ملاحقة أخطر المجرمين والقبض عليهم أسهل بكثير من تقطيع البصل، يبدو جلياً الآن أنني فاشلة تماماً في أمور الطبخ.

بهذه الجملة صاحت مياس باعتراض على المهمة التي وكلتها بها والدتها، تأففت بصوت عالٍ وهي تلقي بالسكين فوق اللوح الخشبي الذي كان ذات يوم مصقولاً وناعماً، لكنه الآن بدى كما لو أن قطةً ما جثت فوقه وطرزته بمخالبها حتى بات لا يصلح لشيءٍالبتة، مسحت دموعها التي سالت بعد أن أحرق البصل عينيها، ثم تحركت إلى المغسلة لتغسل وجهها، في حين وقفت عليا أمام اللوح تطالعه بنظرات تكاد تبكي من هول المنظر، وقطع البصل المتناثرة هنا وهناك، انتبهت من شرودها اللحظي على سؤال مياس: هل هناك شيء آخر يمكنني مساعدتكِ به أمي؟

طالعتها الأخيرة بوجهٍ شاحب قبل أن تسحبها من يدها بلهفة قائلة بتسرع: لا تتعبي نفسك أبداً حبيبتي، أنتِ فقط اجلسي هنا وأنا سأحضر لكِ الطعام.
رفرفت بأهدابها لتعقب بهمس بريء: أنا أحاول المساعدة فقط أمي.
ياقلب أمك! وأنا لاأريدك أن تتعبي أبداً، خلال لحظات سيكون الطعام جاهزاً أمامك.
هتفت عليا بتلك الجملة بنبرة سريعة قبل أن توليها ظهرها لتعود إلى تحضير طبق العجة، قبل أن تتحرك كتلة التخريب من جديد...

لم تطل المدة حتى كان الطبق ذو الرائحة الزكية والمنظر الشهيّ موضوعاً أمام مياس على الطاولة، بالإضافة إلى إبريق الشاي وأطباق أخرى، لم تنتظر مياس أكثر من هذا فسحبت رغيف خبز من الكيس وهي تحادث أمها بمزاح: أعطني أعطني أمي، أشعر أنني سأسقط من جوعي.

سحبت عليا كرسياً لتجلس قبالة مياس والتي شرعا بتناول الطعام فعلاً، بداية لم تلاحظ نظرات والدتها التي كانت تتفحص محياها الشاحب، تشجعت عليا أخيراً لتتحدث بهمس: أراكِ لاتهتمين بنفسك أبداً يامياس وهذا ليس جيداً لصحتكِ ياابنتي.
رفعت المقصودة ناظريها صوب والدتها التي أضافت بتردد: مياس مارأيكِ لو، لو أنكِ تتركين هذا العمل؟

توقفت للحظة عن مضغ لقمتها في حين تابعت عليا بحنان ظاهر: أظنّ أنّ مهنة المحاماة آمنُ لكِ من عملك كضابط وأفضل؟ صحيح؟
تفهمت مياس مقصد والدتها إلا أنها استغربت من التوقيت فابتلعت مافي جوفها وهتفت متسائلة: ما الأمر أمي؟ أخبريني الحقيقة؟
بلعت عليا ريقها بوجل ثم عقيت باندفاع: لا شيء مياس أنا فقط خائفة عليكِ.

ربما لعدم إدراكها حقيقة مايحصل مع والدتها صدقت مياس إدّعاءها، فتبسمت ببشاشة لتهتف بمزاح: تخافين على ابنتكِ ياأم مياس؟ ألا تعلمين أنني كالقطة؟
قاطعتها عليا حين وضعت يدها فوق كف مياس قائلة بلوعة: أرجوكِ مياس اسمعي مني هذه المرة فقط وحققي لي مطلبي.

أدركت أنّ هناك سراً تخفيه أمها عنها فطالعتها مطولاً، كادت تسألها لكنها علمتْ أنها لن تخبرها بشيء فحاولت مجاراتها، سحبت كفها من تحت يد أمها لتخبرها بجمود: أنا مرتاحة هكذا أمي، فلا تضغطي عليّ أرجوكِ.
لم تكدْ عليا تفتح فمها حتى نهرتها مياس بجفاء وهي تعود إلى طبقها: لا أريد نقاشاً في هذا الأمر أمي لو سمحتِ.

اضطرت مجبرة إلى إغلاق الموضوع مؤقتاً، كتفت كلتا يديها أمامها وقد بدأت تؤنب نفسها لأنها أفسدتْ مزاج ابنتها الرائق والنادر طبعاً، لكن وكالعادة خيبت الأخيرة ظنها حين عادت تمازحها: اسحب كلامي، لاتشتركي في مسابقة طبخ، افتحي مطعماً خاصاً بك.
تبسمت عليا باتساع قبل أن تغتالها مياس بجملتها الأخيرة: لربما وجدتُ لكِ عريساً فأزوجك.

تعالت قهقهات مياس وهي تتجنب قطعة خيار قذفتها بها عليا والتي شاركتها الضحك رغم امتعاضها البائن من مقالها، أدهشت مياس والدتها بمزاحها غير المعتاد وكم أحبت عليا هذا فتفاعلت معها، وأشعرتها بسعادتها للتحول الإيجابيّ بها، فلم تلاحظ كلتاهما رائدة وهي تقف قرب باب المطبخ تراقبهما، ثم تنسحب وقد انقبضَ صدرها لسبب مجهول، كأنّ هذا التحول في شخصية مياس لن يطول حتى تعود أسوء بكثير من قبل...

خرجت مياس باحثةً عن ابنة خالها تريد محادثتها قبل أن تغادر إلى عملها، فوجدتها في بقعتها المفضلة في الحديقة الخلفية، تحديداً في بقعة صغيرة فيها أزهار الإقحوان، كانت أروى قد ألقت على شعرها شالاً خفيفاً تحسباً لمرور غريب ما، فالحديقة الخلفية مكشوفة نوعاً ما على الطريق.

جلست القرفصاء بين زهراتها ذات الألوان العديدة، فبدت كأنها أميرةٌ متوجة ومن حولها خدمها يركعون عند قدميها طاعة وتقرباً، كانت أروى حريصةً كل الحرص على الاعتناء بورودها وتنظيفهم من الحشائش الضارة، وبعد أن أنهت مهمتها نفضت الأتربة عن يديها وطوت ذراعيها في حِجرها تراقب أزهار الإقحوان المزهرة، تبسمت برقة متناهية وهي تمدّ كفها إلى زهرة إقحوان وردية تمرر أصابعها فوقها، لطالما شعرت بأنها تشبه هذه الزهرة العجيبة، رغم الظروف القاسية لا تموت في أي فصلٍ من فصول السنة، بل والأغرب أنها تزهر حين يذبل الزهر كله في فصل الخريف...

شعرت أروى بخطواتٍ قريبةٍ منها فاستدارت ناحية مياس والتي كانت، على غير العادة لاتزال في المنزل، وقد بانت المفاجأة واضحة على وجه أروى التي قالت باستغراب: مياس؟ مالذي تفعلينه في المنزل حتى الآن؟
كانت مياس قد أضحت قربها، تبسمت باتساع وهي تربع قدميها وتجلس خارج ( الحاكورة) الصغيرة الخاصة بأزهار الإقحوان، ثم أجابت ببسمة لطيفة: مابكِ متعجبةٌ هكذا؟ أهذه المرة الأولى حيث تجدينني في المنزل؟

أمالت أروى رأسها إلى الجانب هاتفةً بمزاح ساخر: لا، عادة أراكِ إما خارجة أو متسللة بعد منتصف الليل، وإما نائمة.
اتسعت بسمتها وهي تحني رأسها دون جواب، فأدركت أروى وجود مايشغل بالها فتساءلت: مالأمر مياس؟ هل هناك ماتريدين إخباري عنه؟
رفعت مياس رأسها لجزءٍمن الثانية ثم عادت لتطرق من جديد، ثم قالت بنبرة مترددة: في الحقيقة، هناك ما أودّ سؤالك عنه؟

أشارت أروى بالإيجاب لتحثها على الحديث، إلا أن الترددكان حليف مياس للحظات، حتى نطقت بتقطع متظاهرة باللا مبالاة: اسمعي، إنها صديقتي، أقصد فتاة أعرفها وقد سألتني عن شيءٍ ما..

قطعت حديثها وهي تمسح على رقبتها من الخلف وقد تغضن جبينها بعدم راحة، وكأنها على وشك قول سرّ حكومي خطير، طالعتها أروى بتعجب فائق حتى تمكنت مياس من استجماع نفسها فنطقت باندفاع: الأمر أنها تشعر بشعور مختلف تجاه شاب ما، ليس ذاك نفسه الذي تستشعره تجاه الآخرين، وهي لا تعرف مالذي يحدث معها ولا...

قطعت جملتها مجدداً حين لم تعرف كيف تصيغ سؤالها، أمسكت بغصنٍ رفيع كان ملقياٍ على الأرض كأنه وسيلةٌ لإلهائها، فلم تلاحظ نظرات أروى التي تحولت للمكر حين أدركت جوهر الأمر فسألتها مباشرة: تريدين أن تسألي كيف يعلم الإنسان إن كان يحب شخصاً ما، صحيح؟

رفعت وجهها صوبها كطلقة وقد اصطبغ باللون الأحمر الدامي كأنها سمعت مايُخجل، في حين تابعت أروى مجيبةً سؤالها: مياس أنا لا أعرف ماهية الشعور بالحب ولم أجربه قبلاً، لكن مما قرأتُ من كتبٍ أستطيع أن أُلخصه لك.
كانت تستمع لها باهتمام حتى نطقت كلمتها الأخيرة فسارعت تدافع عن نفسها بجديةٍ مختلقة: لا لقد فهمتني خطأ، الأمر لا يعنيني أنا إنه سؤال لصديقتي فقط.

تظاهرت أروى بالاقتناع فعقبت بتوضيح: مثلاً عندما تفكرين بالشخص الآخر كثيراً، وحين تتوقين للقائه وقضاء وقتٍ أطول معه، حين تبتسمين طوال الوقت لمجرد مروره على تفكيرك وحين يتخضب وجهك باللون الأحمر عندما تستحضرين ضحكته، بالإضافة للمعة العين حين تلتقي به، هذه كلها من علامات الحب.

لم تشعر مياس بوجهها الذي انقلب كأنه حبة طماطم، وبتسارع دقات قلبها أثناء استماعها لكلمات أروى والتي أثلجت صدرها بطريقةٍما، ولم تدرك أنها كانت تبتسم بالفعل أثناء شرودها في وجه أروى والتي تيقنت بأنّ ابنة عمتها العنيدة قد وقعت في الحب فعلاً، تنبهت مياس بعد لحظات من شرودها فأجلت حلقها وهي تحرك رأسها بتفهم، ثم انتفضت واقفةً لتستأذن للمغادرة عندما لاحظت نظرات أروى المتفحصة وقد قرأت ماخلفها.

لم تكدْ تخطُ خارج المنزل حتى تعالى رنين هاتفها فأنبأها إحساسها تلقائياً بهوية المتصل، ولم يخبْ كالعادة عندما قرأت اسمه يزين الشاشة فأجابت بابتسامة متسعة، ونبرة رقيقة على غير العادة: صباح الخير أويس.
أتاها صوته ثقيلاً في البداية مما أقلقها فتساءلت بقلق فعليٍّ: هل أنت بخير؟
سكتت للحظة تستمع لجملته المقتضبة: تعالي إلى منزلي مياس، هناك ما أودّ أن أخبركِ إياه.

لم تتردد في قبول دعوته حين تيقنت من وجود خطبٍ ما فيه، فأغلقت الهاتف لتستقلّ سيارتها متجهةً إلى منزله، لم يستغرقها الطريق أكثر من عشرون دقيقة لتصل إلى الحيّ حيث تقبع شقة أويس، ولأنها على علمٍ مسبق بموقع الشقة بالضبط لم تستعن بالحارس الذي استغرب شكلها الغريب، إلا أنه لم يجسر على السؤال.

ما إن قرعت الجرس مرة واحدة حتى فتح لها أويس بتعابير جامدة ثم دعاها للدخول، خطت مياس داخل المنزل دون قلق لثقتها الزائدة به، هتفت أثناء دخولها: مالأمر أويس؟ صوتك لم يكن مريحاً البتة، هل أنت مريض؟
كان يتبعها بنظراتٍ خاوية أبدلها إلى أخرى ساخرة عندما أجابها اثناء جلوسها على الأريكة في منتصف الصالة: لا شيء، فقط كنتُ أودّ أن نتناقش فيما حدث في المتحف.

طالعته بعدم فهم فلم يرغب بإطالة الحديث معها فتنفلت أعصابه، تعذر مسرعاً: سأجلب شيئاً ما لنشربه.

تبعته بنظراتها وقد شكت بوجود خطبٍ ما فيه، إلا أنها، ولفرط ثقتها فيه لم تفكر في الأمر، جالت بعينيها في الصالة تتفحصها فلاحظت عدم وجود أي صور شخصية له ولا حتى لوحات عادية، إضافة إلى قلة الأثاث الموجود وعدم وجود تلفاز، لم يطلْ أويس غيابه حين عاد حاملاً في يده كوبين من الزجاج، أحدهما كان يحوي عصير ليمون والآخر عصير فراولة، جلس بجانبها وهو يرفع الكوبين أمامها متسائلاً بوجوم: فراولة أم ليمون؟

لم يكن سؤاله عبثياً، بل كان يدرك حبها لليمون وقد اختارته فوراً ببسمة رآها أويس ابتسامة ثعلب، وضع كوب الفراولة من يده على الطاولة وراقبها وهي ترتشف من العصير بضع قطرات، كادت تضعه من يدها حين سارع ليقول: ألن تشربيه كله؟ لقد عصرته لكِ بيديّ؟

تبسمت بسعادة لاعتقادها أن جملته تلك اهتماماً، لتعود وترفع الكأس إلى فمها وتشرب بضع رشفات أخرى، استشعرت طعماً غريباً في العصير فوضعته من يدها وقد انكمشت ملامحها بتقزز متسائلة بصوتٍ مختنق: ماهذا الطعم الغريب في العصير؟

لم يجبها بدايةً، فرفعت أنظارها إليه لتتنبه حواسها بوجود أمرٍ مريب، خاصة مع ملامحه الجامدة والمخيفة، شعرت بثقلٍ عظيم يزحف على جفنيها فيطبقهما، ودوارٍ موجع يعصف برأسها وآخر ماسمعته منه قبل أن تغرق في نوم جبري كانت جملته الساخطة: وقعتِ في شرّ أعمالك...

سواد فحميّ هو كل مااستطاعت إدراكه، غُيبت مياس جبراً لمدة لم تدركها، فتحت عينيها بتثاقل ورمشت بضع مرات حتى تمكنت من مقاومة الضوء، لتُفاجأ بكونها واقفةً في منتصف غرفةٍ مصفحة عازلة للصوت، وقد رُبطت يداها إلى السقف وقدميها ثبتتا أرضاً بجنازير حديدية، توسعت عيناها بدهشة مختلطة باستغراب، حاولت عصر عقلها لتتذكر مكانها قبل أن يتم تخديرها حين تفاجأت بدخول أويس إليها، كان يرتدي قميصاً قطنياً بحمالاتٍ رفيعة وسروالاً قماشياً، تبسم بسخرية وهو يحادثها: استفقتِ أخيراً؟! لم أعتقد أنّ مفعول الحبوب قوي لهذه الدرجة...

تفاجأت بما قاله حرفياً، إلا أنه لم يتركها على حالها حين لوّح لها بيده الأخرى لتتفاجأ بكونه يحمل سوطاً طويلاً، اقترب منها حتى وقف أمامها لتسأله بتعجب مقترنٍ بخيبةٍ واضحة: مالذي تفعله أويس؟
وقف أمامها تماماً ليقول بجلافة مقيتة: أردّ لكِ دينك.
تعترف أنها لم تفهم ماقاله فأردف: منذ متى وأنتِ تعملين مع الخفاش؟
دُهشت من اتهامه الباطل فهتفت بدهشة: أنا؟ هل جننتْ؟

قبض على شعرها المرفوع ليصرخ بها: أجيبي على قدر السؤال أيتها الحثالة ولا تحاولي المراوغة، منذ متى وأنتِ تعملين لصالحه؟ أجيبي؟
لو يعلم كم آلمها بجملته المشككة، بعد أن منحته ثقتها غدرها، ما أقساه من شعور!

حركت رأسها لتبعد يده عن شعرها، وبنظرات حادة ورأس مرفوع يأبى الانحناء واجهته، وبجرح كبرياء عتيق صرخت تقاوم قيودها: لو كنت رجلاً لفككت قيودي ولنتواجه وجهاً لوجه...

لم تشعر سوى لهيب حارق يكوي وجنتها والغرفة المصفحة تدور من حولها، جحظتت عيناهاوقد زادت عتمتهما بشكل مرعب خاصة مع لمعة أضاءت داخلها، لم تكن تلك العبرات المتوارية ألماًعلى قدر ماكانت خيبة، انكسار وإحباط، شدت ذراعيها تحاول الفكاك من تلك السلاسل كذئبٍ جريح، وهي تشعر بنفسها في هذه اللحظة كأنها بقوة ألف رجل، فقط لو أنها تصل لمزقته بأسنانها، صاح هاتفاً بها بغضب أشوس: منذ متى وأنتِ تعملين معه؟ تكلمي؟

صاحت بصوت ماثل قوة صراخه: أنا لا أعمل لديه أيها الغبي.
إنكارها لحديثه وكلماتها الواثقة أطلقت الوحش الكامن داخله هو الآخر، في هذه اللحظة شعر بألف شيطان يتلبسه وغضبه أضحى كإعصار تسونامي لن يهدأ قبل أن يبتلع كل شيء في طريقه...
عاد للخلف خطوتين أثناء تحدثه بنبرة خطيرة: على نفسها جنت براقش.

رفع سوطه للأعلى وهي تراقبه بمقل جاحظة كأنها لاتصدق أنه سيفعلها، لكنه في الأخير فعلها، هوى بالسوط على جانب جسدها فصرخت بألم، لم يأبه ليعيد الكرة فتصرخ مجدداً بوجع، أعاد فعلته وأعادها مرات عديدة، وفي كل مرة كان يمزق جزءاً من تلك الثقة التي اختصته بها وحده.
لم يكن يعي مايفعله، عقله احتجب خلف سحب سوداء، وكأن حبها الوليد كان مجرد سراب، حلماً بعيد المنال.

كل مارغب فيه لحظتها هو أن يرتوي من انتقامه، أن يخرج عقدته النفسية وساديته عليها، أن يوصمها بعار لن تغتسل منه يوما...

تلوت بجسدها محاولة الابتعاد عن سياطه المحموم الا أن الفشل كان حليفها في كل مرة، حاولت كتمان صرخاتها مراراً لكن صوتها كان يخونها في كل مرة فيخرج ممزوجاً بألم مقهور كعصفور مذبوح، إلا أن ألمها هذا كان يذهب أدراج الرياح أمام همساته السافرة وشتائمه التي كان يغزو بها مسامعها، والتي كانت أحدّ على قلبها من سياطه على جسدها، وآلمت روحها أكثر من ذلك الوجع الحارق...

كان مغيباً فلم يعرف كم ضرية سددها إليها، ربما مئة أو أكثر بقليل، فعقله كان مشغولاً بتصويرها آلاف الصور الدنيئة، وكيف أنها باعت نفسها وجسدها وقبلهما روحها لهؤلاء...

لم يعد بها من الجلد ما تكتم به نحيبها الصامت بعد جلداته التي لاتعرف لها عدداً، خارت قواها تماماً فاستسلمت أمام عنفه الجارف وغير المسبوق، لم تعد تراه أويس صاحب العقدة الدائمة بين حاجبيه والذي حاز على جزءٍ من قلبها، لقد قتلها باسم الشك، حزّ قلبها بسكين ملتهب كالجمر...

كجثة هامدة تعلقت على جنازير الجزار الحديدية، الروح غادرتها مرة واحدة ودخلت فيما يشبه الغيبوبة، ماتزال تسمع كل شيء حولها إلا أنها عاجزة عن فتح عينيها أو إعطاء أي إشارة للحياة، كأنما تخشى أن تصدم بتعابير وجهه الآن، حرفياً كان كالجزار، تمزقت ملابسها لكن مازال هناك مايستر جسدها، رغم هذا شعرت بنفسها عارية أمامه بصورة مخزية، أطرافها العلوية لم تعد تشعر بهما كأنها لم تعد جزءاً منها، اختفى الزمان والمكان لتشعر بنفسها كأنها على غمامة محلقة في السماء..

وقف يطالع جسدها الساكن وعينيها المغمضة باستسلام غريب، ومازال صدره يعلو ويهبط بسرعة من فرط الانفعال والمجهود المبذول، مع علمه المسبق بأنه عاد إلى نقطة الصفر في مرضه وربما تحت الصفر بمراحل بعيدة، بعد علاج ذاتي مؤلم عاد ذلك الوحش المخيف للاستيقاظ.

التصق قميصه بجسده الصخري، ولفرط ضغطه على قبضة السوط برزت عروق زرقاء من ذراعه اليمنى كأنها تستغيث طلباً للرحمة، لذة غريبة سيطرت عليه وهو يراها هكذا، عاجزة، مستسلمة، ساكنة على غير العادة، ورغبة منحرفة لم يقاومها دفعته لرمي السياط على الأرض ليسير نحوها كالمنوّم مغناطيسياً، لم لا يتذوق هو أيضاً شهد شفتيها، ولربما انخفض قليلاً إلى نحرها المحمرّ، وقد يأخذ منها ماأخذه الوطواط الوغد، لمَ لا؟

وقف أمامها تماماً وقد تشعث شعرها، وجفت الدموع المالحة على وجهها المغوار، ضربت أنفاسه الحارة محياها فشعرت بنفور غريب ورائحته تجتاح أنفها، قبض بأصابعه على خصرها الناحل فشعرت كأنهم حديد مشتعل فتمنت، ولأول مرة في حياتها، الموت، وحده من قد يزيل مشاعر القهر والألم داخلها، رعشة جسدها الرافضة دغدغت مشاعره برغبة قذرة لم يبذل جهداً في تلافيها، قبض على خصلاتها السوداء بكفه الخشنة بتسلط غريب متأصل داخله، حدّق فيها وهي على هذا الحال من الذل والهوان فاندفعت الدماء في جسده بحرارة، أمال رأسه عليها يريد لثم شفتيها لولا رنين بعيد تناهى الى سمعه، كان مصدره هاتفه الذي انطلق ليقاطع خلوته المريضة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة