قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العاشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العاشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل العاشر

((ليت شبح الخطايا يموت قبل أن يكسر داخلنا حلما لا يُجبر، فيتركنا كزهرة جورية أجدبتْ أرضها فجأة فذبلت)).

في غرفةٍ بدت كإحدى الدوائر الرسمية، رجل خمسينيّ جالس خلف طاولة بنية مستديرة وقد طفى على ملامحه غضبٌ ممزوج بالقلق، دقات متتالية على الباب أجابها بصوت أجش: ادخل.
دلف شاب في آخر عقده الثالث حسن الخِلقة مهندم الهيئة، فسارع رئيس أمن المدينة الساحرة في الوقوف من فوره، استدار حول طاولته متحدثاً بلهفة: أتيت في وقتك يا معين، تعال اجلس.

قال جملته الأخيرة وهو يهمّ بالجلوس على أحد الكراسي المنفردة، لبّى معين الأمر فجلس قبالة رئيس الأمن باحترام هاتفاً: أمرك سيدي، أنا في خدمتك.
استند الرئيس برسغه الأيمن على قدمه معقباً بجدية تامة: أريد إرسالك في مهمة مستعجلة لتوصل رسالة خاصة.
قطب معين جبينه بعدم فهم ليسأل بأدب: رسالة خاصة؟ لمن سيدي؟
قال الرئيس وقد اكتسى وجهه بعلامات الاشمئزاز المطلقة: عدي الغبي أخطأ مجدداً، لكن خطأه هذه المرة لا يغتفر.

حرك رأسه متفهماً حينما تابع رئيسه بإسهاب: لقد مات شابٌ صغير تحت التعذيب، وليس أي ولد، بل إبن كمال الحكيم من حيّ الورد.
زوى معين مابين حاجبيه بدهشة من الخوف الذي برز من مقلتي رئيسه عندما نطق اسم كمال الحكيم، فقال متسائلاً: لكن سيدي، ماسبب خوفكم الكبير من هذه العائلة؟

أجابه الرئيس بانفعال طفيف وقد أعاد ظهره للخلف: تلك العائلة ليست سهلة أبدا، اسمهم كبير ويدهم طائلة، وهم ليسوا من النوع الذي يتفهم، ولا يتركون حقاً لهم بل يأخذونه قسراً، مما يعني مصائب لا عدّ لها.
مع استغرابه من رنة القلق التي غلفت نبرة الرئيس، إلا أن معين أجابه بدبلوماسية معهودة فيه: ما الذي ستفعله في هذه الحال إذا سيدي؟

ساد الصمت للحظات حتى حسمه الرئيس عندما نطق بحزم قاطع: إذا حمينا عدي فهذا يعني الهلاك لنا جميعا، فالأسلم في هذه الحال أن نتخلى عنه.
ضيق معين عينيه ثم هتف ليتحقق من صحة ماسمع: أتعني أن تترك عدي ليواجه مصيره وحده؟
صاح الرئيس بغيظٍ حانق وقد انفلتت أعصابه: إما هذا أو نغرق جميعاً في وحلٍ لا قاع له بسبب فعلته الطائشة، ذلك الأحمق الغبي!

فليكن صريحا، معين كان يسمع بعض الحديث عن سطوة آل الحكيم، لكنه لم يتخيل يوماً بأن سيده قد يتخلى عن أحد ضباطه إرضاءً لهم، رغم هذا لم يكن منه إلا أن استمع إلى الرسالة التي يجب أن يوصلها إلى كبير عائلة الحكيم، بصفته دبلوماسياً ماهراً، ومتكلم حَذِقْ يجيد احتواء الغضب والثورة...

كان السرادق ممتلئاً عن آخره بالرجال الجالسين بصمت وكأن على رؤوسهم الطير، صوت الشيخ مازال يصدح بآيات الذكر الحكيم، وكمال الجالس عند الباب بوجهٍ لا يُفسر كأنه لغز صعب الحل، وفي داخل رأسه آلاف المؤتمرات المنعقدة.

همهماتٌ متفرقة من الجالسين جذبت اهتمام كمال فرفع رأسه ليلمح أربع سيارات للشرطة تدلف لتوّها الى الساحة كأنها موكب لمسؤول ما، وفي المنتصف كانت سيارة سوداء مظللة، وقد ترجل منها رجل بدى عليه الوقار مرتدياً بذلة رسمية ماثلت لون سيارته، تقدم بتؤدة صوب كمال الذي استقام مستقبلاً له باستغراب لم يخفهِ، صافحه معين معزياً بدبلوماسية محسوبة: عظم الله أجركم سيد كمال، رحم الله فقيدكم وألهمكم الصبر من بعده.

حرك كمال رأسه مجيباً بنبرة ذات مغزى: شكر الله سعيكم ياسيد...
بتر جملته بطريقة موحية وعلى وجهه أمارات السؤال فأجاب الآخر ببسمة طفيفة: أنا معين راضي، مبعوث رئيس أمن المدينة إليكم.
انعقد حاجبي كمال بمفاجأة ليعقب باستنكار جَلِف: بمَ أستطيع خدمتك سيد معين؟

استشفّ الأخير غضب كمال وحزنه، وعدم استحسانه لوجوده حالياً، فأضاف بلباقة: سيد كمال، أعلم مدى حزنكم وغضبكم على الفقيد، وأنا هنا لأعزيكم نيابة عن رئيس الأمن، كذلك أحمل رسالةً منه...
قاطعه كمال بحسم صارم: إذا كانت زيارتكم هذه هدفها التهدئة أو التهديد فلا تتعب نفسك يا سيد معين، أبلغ رئيسك أننا لن نتخلى عن ثأر ابننا مهما كانت العواقب.

ازدرد معين ريقه بوجل و يبدو أن عائلة الحكيم كما أخبره رئيسه تماما، حاول الحفاظ على ملامحه حيادية وهو يجيب كمال بنبرة سياسية لينهي مهمته: سيد كمال أرجوك دعني أكمل رسالتي.

بقي حاضرو العزاء يشاهدون بعين الفضول مايحدث بين كمال والرجل الذي بدى غريباً عن الحيّ، حتى أن الشيخ قطع تلاوته عندما لاحظ الهرج بينهم، في حين كان كمال يصارع لئلا تنفلت أعصابه في وجه معين الذي تابع بنبرة مدروسة: رئيس الأمن يبلغكم بأنه ليس راضياً عمّا حدث، وقد تمّ فصل عدي عن السلك الأمني، لذى فإن كنتم ترغبون في رفع قضية ضده فالرئيس يبلغك بأنه سيكون في صفك.

ضيق كمال مقلتيه كأنه يتحقق من صدق مقاله، في حين تحدث شقيقه سعيد مستوضحا: ما الذي تقصده ياسيد معين؟ هل قبضتم على عدي؟
حوّل الأخير نظره الى سعيد الواقف خلف كمال مجيبا: للأسف لا، فقد هرب عدي قبل أن نتمكن من إمساكه.
أعاد نظره إلى كمال ليضيف بنبرة ذات مغزى: لكنه لم يخرج من المدينة بعد، هذا الأمر متأكدين منه تماماً.

أدرك كمال أن رئيس الأمن لايرغب بأن تتحول وفاة ورد إلى عذر لإثارة الفتن وحفظ المدينة من التخريب، وأنه يريد توجيه ثأرهم صوب عدي وتحميله مسؤولية فعله لوحده، تحدث أخيرا بنبرة غائمة بجد: أخبر رئيسك بشكرنا له على رسالته ودعمه، لكننا نأخذ بثأر ابننا بيدنا ولا حاجة لنا بمساعدتكم.

حرك معين رأسه بتفهم لمشاعر كمال الثائرة، وزاد إعجابه بهذا الرجل وعنفوانه العالي، وبعد ان أنهى مهمته تحرك ليخرج من الحي كما دخل، تاركاً كمال سارحاً في حق ابنه الذي لن يفرط به، وقد أقسم داخله بأنه سيصل إلى عدي ولو اختفى في قعر الأرض...

في الأمر إنَّ.
لم تفكر مياس سوى بهذه الجملة وهي في طريقها إلى المشرحة، حيث نُقلت جثة نديم بعد اغتياله لتتحدث مع الطبيب الشرعي وأيضاً صلاح وإيهاب، هذه ليست المرة الأولى التي يغتالون فيها أحد عامليهم، لكن الطريقة والتوقيت اختلفا هذه المرة، عادة مايغتالونهم في اول يوم لهم في الحجز، وأيضاً اتصال الخفاش بها وكشفه هويتها، هذا كله يؤكد لها أنها في خطر...

الثقة، كلمة لا وجود لها في قاموسها، حاليا الجميع مشكوك فيه حتى يثبت لها العكس، الرنين المتواصل من جهازها أيقظها من غفلة شرودها، ودون الحاجة للنظر إلى الشاشة أجابت الاتصال فورا، ليأتيها صوت قهقهة خطاب الساخرة بقوة، توقفت مياس في منتصف الممرّ الفارغ وقد احتقنَ وجهها غضباً، إلا أنها أجادت إخفاءه فتحدثت بنبرة باردة لتقطع وصلة سخريته الضاحكة: أهنئك يا خفاش، كانت لك الغلبة في هذه الجولة أيضاً.

ظلّ خطاب محافظاً على بسمته الساخرة وهو يمرر سبابته تحت شفته السفلى، وفي مقلتيه تلتمع أضواء الانتصار، أجابها بثقة متباهية: أخبرتكِ ياعزيزتي، أنتِ لستِ نداً لي.
بقيت ملامحها الغاضبة كما هي أثناء سؤالها له بجدية تامة: أخبرتني ولم اسمع منك، لكن لديّ سؤال وأريد جوابه، لماذا تأخرتَ في اغتيال نديم؟

اعتدل في جلسته ليستند برسغيه على ظهر مكتبه، تعمد أن يطيل الصمت بينهما علّها تهابه، حتى قطعه بصوتٍ أوضح مدى غروره: لأوصل لكِ رسالةً مفادها أنني المتحكم في هذه اللعبة لا أنتِ.
رفعت رأسها بكبرياء وارتسمت على تعابيرها ملامح ساخرة عندما سمعته يضيف بذات النبرة: لذى أنصحكِ أن تعلني هزيمتك وتسلمي أسلحتك، قبل أن تُهان مسيرتكِ المهنية أكثر من هذا.

تبسمت بتهكم بدورها أثناء إجابته والتي كشفت لها حجم اعتداده بنفسه، لكنها عمدت إلى التقليل من شأنه واستحقاره، ولا تعلم كم سيؤتي حديثها من ثماره فقالت باستخفاف ذو معنى: لماذا لم تأتي أنت وتخبرني بتلك الرسالة مباشرة؟ أم أنك تخاف مني؟

تغضن جبينه لما قالته وفسّر الأمر على أنها تعتبره جباناً، انفرجت عقدة حاجبيه بسخرية لاعتقادها، ثم استمع لها عندما تحدثت بنبرة لم تكن مازحةً البتة: الحرب جولات ياخفاش ولم أستخدم كلّ أسلحتي بعد، لذى أنصحكَ أنا بأن تترك أمر مسيرتي المهنية وأن تقلق بشأن نفسك، لأنني لستُ من النوع الذي يستسلم بسهولة أبداً.

تهديدها الصريح راق لخطاب وأسعده للغاية، منذوقتٍ طويل وهو يبحث عن خصمٍ يناطحه الرأس بالرأس ولاحق مياس أكثر خصومه قوة وخطراً، فقال بصوت هادئ عكس ماتوقعت: أنا لا أخاف منك يامياس.
صمت للحظة لم تتعدى الثانية الواحدة، ثم أعاد ظهره للخلف باعتداد كبير ليضيف مشدداً على كلّ حرف يصدر عنه ليضمن وصول رسالته التهديدية: واعلمي أنني أستطيع الظهور أمامك وقتما أشاء وأينما أشاء.

جزّت على أسنانها غيظاً ثم أغلقت الهاتف في وجهه، مررتْ يدها على شعرها بحركة عصبية ومسحت على فمها بظهر كفها الآخر تحاول تهدئة نفسها لكن عبثاً، فزمجرت بغضب وهي تضرب الحائط بجوارها بقبضتها المتكوّرة، ثم استدارت لتسند ظهرها عليه وهي تزفر من أنفها بسرعة من فرط الغليان داخلها، اتخذت عيناها لون الدم حتى شعرت أنهما قد تنفثا ناراً بين لحظة وأخرى، لا تعلم ولكن ربما استهانت بالخفاش؟

أغمضت مقلتيها للحظات تحاول إخماد انفجارٍ وشيك، نفخت من فمها بقوة وهي تحادث نفسها بهمس لا يُسمع: أهدأي يا مياس، إنه يعبث بك فلا تسمحي له.

فتحت عينيها وقد اختفى اللون الأحمر منهما، الآن ولم تعد تشكك في حدسها، أويس، طارق، صلاح، إيهاب، هناك خائنٌ بين هؤلاء الأربعة، يجب أن تعرفه وفي أقرب وقت، حالياً لا تستثني أحداً منهم، ولا تستثني أحدا غيرهم، الجميع مدان حتى تثبت براءتهم ويجب أن تكشفهم كل واحد منهم على حدة، أضاءت في رأسها فكرة استحسنتها ثم غيرت طريقها إلى مكتب اللواء جلال، وقد أقلعت عن فكرة التحدث مع صلاح او إيهاب، فما تفكر في تطبيقه سيكون أجدى لها وأنفع...

لأول مرةٍ منذ اعتزاله العيش مع عائلته يحضر أويس إلى المنزل وحده دون دعوة وإلحاح، حتى الوقت المتأخر لم يمنعه من زيارة رامي والإطمئنان عليه، فهو لم يره منذ الليلة الماضية بعد أن أودعه المشفى.

كانت ميادة في غرفة ابنها رامي تحاول إجباره على الأكل عبثاً، فالأخير قد أضرب عن الطعام منذ أن منعه والده من الذهاب إلى جنازة ورد، جلس مستنداً بظهره إلى حافة السرير خلفه وعاقداً ذراعيه أمامه، وعلى وجهه تقاسيم غاضبة، هتفت ميادة ترجوه بيأس واستعطاف: أرجوك يابني لاتكسر قلبي عليك...
قاطعها قائلا بغضب: لا أريد ان أتناول شيئاً أمي، أرجوك اتركيني.

ارتخت ملامحها بخيبة كبيرة وهي حائرة بما تفعله مع رامي، زفرت بحزن وقد حاولت التفوه بشيء آخر قبل أن يقاطعها مازن عندما طرق على الباب ثم فتحه، ظهر ببسمة صغيرة هاتفاً: كيف حالك اليوم يا شقيقي الصغير؟
رمقه رامي بنظرة سريعه مجيبا بنبرة متأففة: لستُ في أحسن حالاتي على الأكيد.
قطب مابين حاجبيه وهو يحث خطاه ليدلف للداخل فيما هتفت ميادة تستنجد به برجاء: تعال وحادثه يامازن، فهو لا يريد تناول الطعام أو الدواء!

رمقها مازن بنظرة حنون وابتسم لها فيما هو يسحبها من ذراعها برفق طالباً بأدب: أرجوك أمي هلّا حضرتي لي العشاء؟

أدركت ميادة حقيقة طلبه وأنه يريد الاختلاء بشقيقه، فحركت رأسها موافقة وخرجت بعد ان ألقت على رامي نظرة حزينة، هبطت الدرجات بثقل وهي تتنهد بضيق سرعان ما عقدت بين حاجبيها عندما سمعت صوت إغلاق الباب الرئيسي للمنزل، ناظرت المدخل بتدقيق مالبثت أن تحولت ملامحها إلى الاندهاش وهي ترى أويس الغائب منذ فترة يدخل الى المنزل، عَدت صوبه بسعادة وعانقته باشتياق صادق، بادلها أويس ببسمة مقتضبة تكاد لا تظهر فخاطبها بصوت هادئ: كيف حالك أمي؟

ابتعدت عنه خطوة وتطلعت إلى وجهه ببسمتها الحنون مجيبة بلهفة: أنا بخير ياقلب أمك...
رفعت كفها لتحتضن وجنته مضيفو بنبرة ذات مغزى: كيف حالك أنت يا بني؟ لماذا وجهك مصفرّ وذابل هكذا؟
أمسك بكفها يقبل ظهره يجيبها ببسمته الصغيرة وبعض الخزي يعتريه خجلاً من حنان أمه وانقطاعه عنها: أنا بخير لا تقلقي أمي.
ثم رفع نظره يهرب من عينيها المتفحصة يسألها بصوت أجش: أين والدي وإخوتي إذاً.

تحرك من أمامها خطوتين وليضمن عدم عتابها له استغلّ عاطفتها، استدار أويس صوب والدته الواقفة عند الباب مُحدثاً إياها برفق: أمي أنا جائع، لم أتناول شيئاً منذ ليلة الأمس...
لم يكدْ يكمل جملته حتى ضربت ميادة على صدرها هاتفة بلهفة: لماذا تهمل نفسك هكذا يا أويس؟ حرام عليك نفسك ياحبيبي!

تبسمت بلطف واقتربت منه حتى وضعت كلا كفيها على كتفيه مضيفة بنبرة أمومية حانية: لا عليك ياعزيزي، خلال دقائق سأحضر لك المائدة.
تكرمشت تعابيرها وهي تقرب أنفها منه فاشتمتْ منه رائحة غير مقبولة فتابعت حديثها بامتعاض: سأجهز لك الحمام أيضا، فرائحتك نتنة كالسمك، يبدو أنك لا تستحمّ في منزلك أبداً.
قالت كلماتها تلك بجدية تامة ثم تحركت من مكانها تحت أنظار أويس المندهشة، أيجب أن يظل يتلقى التوبيخ من النساء؟

أحنى رأسه ليشتمّ رائحته فوجدها فعلا كما قالت أمه، انقبضت ملامحه دفعةً واحدة وهمس لنفسه باشمئزاز: ياللقرف، فعلا كأني سمكة ميتة...

بعدما غادرت والدتهما، اقترب مازن ليجلس على طرف سرير رامي وهو يحدجه بنظرات ذات مغزى، تطلع رامي بمقلتيه وقد التمع داخلهما دمعٌ مقهور، ابتسم مازن بحنان ثم اجتذبه ليحتضنه ويبكي رامي وجعاً، حقا هذا ماكان يحتاجه بالضبط، حضن يحتويه دون طلب، ويفهم مابه دون حديث، ومازن بصفته طبيباً نفسياً أدرك مايريده رامي.
مسح على ظهره بحنان الأخ العارف وهمس في أذنه: أهدأ يا رامي، أهدأ ياأخي هذا أمر الله وقد قضى.

انتفض رامي بقهر قائلا من بين دموعه: موت ورد قتلني يامازن، إنه صديقي الوحيد.
ابتعد عنه ليضيف بعبرات موجوعة وغصة بانت في نبرته الساخطة: ومايقهرني أكثر أنني لم أحضر دفنه ولا عزاءه، حتى في هذا الواجب الإنساني أبي يرفض.
تفهم مازن كل مايبدر عن شقيقه، فحرك رأسه بإدراك وقال وهو يربت على كتفه: أنت تعرف موقف أبي من عائلة الحكيم يا رامي..

كاد الأخير أن يقاطعه الا أن مازن تابع حديثه بإصرار: أعلم ما تريد قوله، لكن أبي مازال غاضباً من الجميع لإننا أخفينا عنه حادثتك، والحديث معه الآن مخاطرة كبيرة.
بان الإحباط واضحاً على محيا رامي فقال بحزن: أنا لم أطلب الكثير ياأخي، فقط أريد أن أُعزي السيد كمال الحكيم.
تبسم مازن بخفة متحدثا برفق: أعدك بأنني سأتحدث مع أبينا قريباً، اترك الأمر لي.

اقتنع رامي بكلمات شقيقه لإدراكه بأنه سيوفي بوعده، مسح عبراته بكميه فبدى كطفلٍ صغير، في حين أن وعد مازن لأخيه لم يكن فقط لأجله، بل اعتزم أن يحادث والده بشكل جدي لمعرفة سبب المقاطعة بين العائلتين، والعمل على إصلاح الأمر وقريباً جداً...

هبط مازن إلى الطابق السفلي بعد حديثه مع رامي، ليتفاجأ بشقيقه الهارب من العائلة جالساً خلف مائدة العشاء، وميادة تنقل أطباقاً مليئة بأصناف عديدة ومتنوعة من الطعام، صاح باسمه بمفاجأة ثم هبط ماتبقى من الدرجات عادياً صوب أويس ليحتضنه متسائلاً بمزاح: أوجهك هذا أم أنه ضوء القمر يا أخي؟
تبسم أويس بخفة وهو يردّ عليه مزاحه: بل هذا أنا بلحمي وشحمي، كيف حالك مازن؟

ابتعد الأخير عن شقيقه وقد انقبضت ملامحه بتقزز فتحدث بامتعاض: ماهذه الرائحة يا أويس؟ أكنتَ تعمل في محل جزارة مؤخراً؟
طغت الدهشة على ملامح أويس فنكز كتف مازن بغيظ والذي ضحك بصخب على ملامحه الحانقة، تطلع من خلف ظهره إلى الطاولة التي تكاد تمتلئ بأشكال كثيرة معدة سابقاً، فهتف بدهشة: أهذا كله عشاء للسيد أويس؟

تقدمت ميادة تحمل في يدها طبقاً فيه بعض قطع الدجاج المشوي مع البطاطا قائلة بغبطةٍ: وهل عندي أغلى من أويس.
سحب مازن كرسيه ليجلس هو الآخر مضيفاً بلؤم: طبعاً أويس المدلل تمتدّ له طاولة طويلة عريضة، أما أنا مسكين كأنني لستُ ابنكِ.

أجفلت ميادة بذعرٍ غير مبرر حتى ضربت كفها بإناء الماء فتناثر منه القليل، رفعت رأسها كالملسوعة إلى مازن وقد اصفرّ وجهها واختفى لونه، ورغم أنه قالها مازحاً إلا أن ميادة تخيلت جديةً غير موجودة في نبرته، زوى مازن مابين حاجبيه لحال أمه الذي تبدل بغتةً دون سببٍ واضح فسألها ببسمةٍ مُستنكرة: ما الأمر أمي؟ هل قلتُ ماأزعجك؟

ابتلعت ميادة ريقاً غير موجود ورسمت ابتسامةً مُهتزة على شفتيها لم تخفِ رعبها، حركت رأسها بالسلب بخفة ثم قالت بنبرة مرتجفة مبحوحة: سأجلب الخبز.

غادرت من فورها بخطواتٍ سريعة غير متزنة، لم يأبه أويس بكل ماحدث فقد بدأ بتناول الطعام بالفعل، وحده مازن من تابعها حتى اختفت، وبعين الطبيب الحاذق استشفّ وجود خطبٍ ما في جملته الأخيرة جعلت أمه ترتجف بهذا الشكل الغريب، تغضن جبينه وقد بدأ يفكر جدياً في تحري الأسباب...

أسندت ظهرها على الحائط وهي تكتمُ بيدها شهقةً تكاد تخرج فتفضحها، اغرورقت مقلتيها بدموع حاولت خنقها لكنها لم تفلح، ضغطت على نفسها تحاول كبتَ مشاعرها التي تكاد تظهر للعلن، أنزلت كفها المرتجف كحال جسدها تمسح عبراتها بقوة، ثم رفعت رأسها إلى السماء داعيةً بجزع: أرجوك يا آلهي كمّلها معنا بالستر، أتوسل إليك ياربي دعِ الماضي مدفوناً مكانه، أرجوك يا آلهي...

كان الوقت قد تخطى منتصف الليل عندما عادت إلى منزل عائلتها أخيراً، رغم أنها خرجت باكرا من مكان عملها لكنها قامت ببعض الأعمال الضروية، أغلقت الباب الكبير بهدوء تام تماما كما فتحته، تخطت الممر القصير لتدلف إلى الصالة المظلمة وفي اعتقادها أنّ الجميع نيام الآن، لكنها وأثناء مرورها في الصالة ناداها خالها القابع في إحدى الزوايا المظلمة: مياس.

أجفلت بخفة بادئ الأمر، سرعان مااستعادت ثباتها عندما أضاء كمال الركن الجالس فيه، تقدمت نحوه تطالع محياه الذابل بشفقة مالبثت أن دفنتها، كمال الحكيم ليس من النوع الذي يقبل الشفقة وإن كانت بالنظرات فقط، وقفت أمامه وهمّت بالحديث قبل أن يقاطعها بنبرة جليدية: أريد معلومات كاملة عن عدي.

تعرف تماماً مالذي ينتويه خالها دون أن يتحدث حتى، أضاف كمال ليثبت اعتقادها في نفسها: أريد أن أخذ حق ابني قبل أن تبرد دماؤه.
أطرقت رأسها للحظة قبل أن ترفعه من جديد لتواجهه قائلة بجدية: بإمكانك رفع قضية عليه ياخالي، ستكسبها...
قاطعها كمال بهسيس غاضب: أنا لا أترك ثأري لغيري فيأخذه يامياس، حقي أخذه بذراعي هذه.

رفع قبضته المكوّرة بشدة حتى بانت عروقه ليضيف بنبرة حاسمة لاتقبل الجدال: ليس كمال الحكيم من يترك حقه للقانون الذي أعطى ذلك النذل السلطة ليفعل مافعله بولدي.

مقلتاه كانتا تشتعلان كالجمر، ووجهه اِربد بغضب قاتم إن هو أطلقه قد يحرق كل ماحوله، شعرت مياس بما يعتري صدر خالها، وإن لم تكن هي أقلّ غضباً منه، لكنها وبصفتها امرأة قانون كان لزاماً عليها نصحه، فقالت بهدوء: أفهمكَ جيداً ياخال، لكن يجب عليّ إخبارك بأنّ عُديّ قد هرب، وعلى الأغلب ترك المدينة كلها...

بترت كلماتها عندما وقف خالها بغتةً وهو يقول: أعلم أنه هرب لكنه لم يخرج من المدينة، أخبرني مبعوث رئيس الأمن بهذا.
ارتسمت الدهشة على ملامحها وقد اقترب منها أثناء متابعته لحديثه: أخبرني أيضاً بأنهم فصلوه من السلك الأمني، مما يعني أنهم لن يتدخلوا بيني وبينه إن أمسكته.

كان قد وقف قبالتها مضيفاً بإصرار، ليصدح وعده هذا في جميع أركان المنزل: قسماً برب السماء، لو اختفى تحت سابع أرض سأجلبه، سأصل إليه ولو كان في فم السبع.

وصل قسمه هذا إلى أسماع سعاد النائمة على سرير فقيدها ففتحت مقلتيها الدامعة، سمعته كذلك الحاجة رائدة الجالسة على كرسيها تحرك حبات مسبحتها، وإلى أروى الجالسة فوق سجادتها مرتديةً إسدالها، سالت الدموع من مقلتيها خوفاً على عائلتها، ورهبةً من المستقبل الغائب...

وعد الحرّ دين، وتدرك تماماً بأن خالها لا يقطع عهداً دون الإيفاء به، حركت مياس رأسها باستحسان لحديث كمال، ثم استأذنت لتصعد إلى غرفتها، ماإن فتحت الباب حتى تفاجأت بوالدتها تجلس على فراش مياس، و تكتف كلا ذراعيها أمامها، أدركت مياس أن أمها لم تنم بانتظارها، طالعت وجهها المنتفخ من آثر البكاء فرقّ قلبها على حالها، تحدثت عليا بهمس بعتب خالطه بعض السخرية: ألا تلاحظين أنكِ مبكرةٌ بعض الشيء؟

شعرت بالخجل يعتريها خاصة وأنها لم ترَ والدتها منذ يومين ولم تحادثها حتى، اقتربت منها دون حديث لتحتضنها فأجهشت عليا بالبكاء تلقائياً، ربتت مياس على كتفهأ بمواساة وهمست لها باعتذار: آسفة امي، آسفة.
تعالى نحيب عليا وهي تشدّد على احتضان ابنتها كمن تخشى من فقدانها، فهمست من بين عبراتها: عديني أنك لن تتركيني أبداً يامياس.
حررتها عليا لتتطلع إلى وجه ابنتها بتشويش ثم شدّدت عليها من جديد: عديني بهذا أرجوكِ.

قطبت مياس جبينها بعدم فهمت فهتفت بها: ما بك أمي؟
قاطعتها بنبرة قوية وهي تردد مجدداً بإصرار: فقط عديني أنك لن تتخلي عني أبداً يامياس، أرجوك يا ابنتي.
طالعتها باستغراب تعاظم من تصرفات أمها المريبة، لكنها أشارت لها بالإيجاب فعانقتها عليا مجدداً وعادت إلى وصلة بكائها، ظنّت مياس أن الأمر له علاقة بصدمة وفاة ورد، لكنها لم تدرك أن خوف أمها كان مبرراً، وواقعاً كذلك...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة