قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي عشر

((الفضول هبةٌ متأصلة داخلنا، لانكفّ عن محاولة معرفة خبايا الماضي وأوجاعه، فلا نقتنع أن بعض الذكريات مؤلمة، لدرجة تتمنى أنها لم تكن يوماً. )).

كانت مياس تقوم ببعض التمارين في صالة المركز الرياضية عندما دلف أويس، وقف يراقبها دون أن تشعر ببدلتها الرياضية السوداء التي رسمت قوامها الممشوق، شعرها الليليّ الطويل الذي رفعته للأعلى يتحرك بانسياب مع حركاتها المتناسقة، التفتت مياس فجأة فأجفلت عندما شاهدت أويس من بعيد يتبسم دون وعي، قطعت تمارينها ووقفت تطالعه بدهشة تحولت إلى بسمةٍ لطيفة زينت ثغرها، في حين كان الهدوء المسيطر عليها غريباً.

تحركت مياس من مكانها لتقترب من أويس بتهادٍ بينما ابتسامتها تتسع أكثر فأكثر حتى وقفت قبالته، اعتدل واقفاً أمامها لكن لفتَ انتباهه ظلها الأسود الذي بقي في مكانها الأول، تغضن جبينه بغرابة فهمس لها مشيراً إلى ظلها الأسود: لماذا لم يتحرك ظلك مياس؟
تطلع صوبها حينما لم تجبه فوجدها محافظة على بسمتها، تسارعت نبضاته بقوة وهي تقترب بوجهها منه حتى همست بجانب أذنه: لا تثق بأحد، حتى ظلك يخونك أحياناً.

تسمّرت عيناه على الظلّ الذي بدأ يتمدد ودويّ قهقهةٍ شريرة يصدح في المكان، حتى استحال الظل الى وطواط أسود كبير، اختطف مياس التي مازالت محافظة على بسمتها الجذابة وطار بها بعيدا، في حين أن اويس عجز عن فعل أي شيء، أي شيء أبداً حتى الصراخ.

تململ أويس في سريره فانقلب على وسادته، سحب نفساً عميقاً فتيقظ عقله بانتباه إلى رائحة نظافةٍ ليست موجودة عادة في منزله، رفع رأسه قليلاً وقد عقد حاجبيه باستغراب وهو يطالع الوسادة البيضاء الناصعة، جال بنظرة سريعة في أرجاء الغرفة ليستعيد ذاكرته حالاً، إنه في غرفة نومه في منزل والديه!

دفن نفسه من جديد في الوسادة متنهداً بقوة، فبعد عشائه ليلة أمس مع مازن أصرّت والدته أن يستحمّ في حمام غرفته، حتى انتهى به المطاف نائماً على سريره النظيف، وللحق فقد افتقده كثيرا...
اعتدل جالساً على حافة الفراش وانتظر بضع ثوانٍ حتى يستعيد ذاكرته والتي غالباً مايفقدها أثناء نومه، استعاد الحلم الغريب الذي رآه في منامه، اليس من الغريب بمكان ان تلاحقه مياس حتى في أحلامه؟

تسللت بسمة صغيرة لم يشعر بها إلى تقاسيم وجهه ومسح على شعره الحليق بيده، ثم استقام عقبها إلى حمامه ليجهز نفسه للخروج إلى عمله، وذلك الحلم الغريب أضفى على تقاسيم وجهه راحةً لم يعرفها منذ أمد...

في هذا الوقت، كانت ميادة تستقبل ضيفةً خاصة، كانت فيما مضى كثيرة التردد إليهم قبل أن تنقطع فجأة، واقتصرت زياراتها لاحقاً على بعض المناسبات، تلك هي صديقة ميادة وتدعى رفيف، هي أيضاً معلمة رياضيات متقاعدة وحالياً تشغل منصب رئيسة إحدى الجمعيات النسوية، سيدة مازالت تحافظ على شبابها المصطنع رغم سنواتها التي قاربت الخمسين، شعرها المصبوغ باللون الأشقر المبالغ فيه قد رفعته في تسريحة شبابية ليظهر عنقها المجعد، والذي غطته بوشاحٍ من الصوف الأسود الأنيق، مرتديةً بذلةً نسائية أنيقة للغاية باللون الأصفر.

أدخلتها ميادة إلى الإيوان حيث تستقبل الضيوف، ثم استأذنت منها لتجلب لها ضيافتها، دلفت ميادة إلى المطبخ في اللحظة ذاتها التي خرج فيها أويس من عند شقيقه رامي بعد أن اطمئنّ عليه، هبط الدرج غير ملاحظٍ لمقلٍ ماكرة تتفحصه بنظرات خطرة، وابتسامة خبيثة تسلقت على ثغرها الملطخ بحمرة صارخة، رفع أويس رأسه بتلقائية لتتجمّد خطواته على الدرجة الأخيرة وتبقى قدمه معلقةً في الهواء للحظات...

جحظت عيناه بصدمة فعلية وقد بدى كأنّ المكان فرغ من الهواء فجأة، شعر بدقاته تتسارع بشكل مفرط حتى غدى صوت شهيقه مسموعاً وزفيره حاراً، فيما كانت هي تتطلع إليه بهدوء وفي مقلتيها البنية اشتعلت نارٌ نتنة، وابتسامتها كأفعى تخادع ضحيتها لتلتفّ حولها فتخنقها، هكذا كان شعور أويس حرفياً...
رنَتْ إليه بنظرة ذات مغزى متحدثةً بنبرة لعوب خالطها مسحة تهكم: كيف حالك يا طالبي النجيب؟

ضمّ أصابعه إلى يده حتى شعر بأظافره قد جرحت باطن كفه، و بعروقه قد نفرت، ومن فرط ضغطه على نفسه استغاث فكه بتوسل، تأجج وجهه بحمرةٍ ملتهبةٍ بغضب فاندفعت الدماء الساخنة في عروقه، استجابت قدماه أخيراً لأوامر عقله فاندفع خارجاً بخطوات أقرب إلى الجري، كأنما يهرب من كلبٍ مسعور يلاحقه، بينما لاحقته رفيف بعينيها الخبيثة، تنهدت بارتياح مريض وابتسامةٍ مستفزة عندما سمعت صوت إغلاقه الباب بقوة كادت تخلعه من مكانه...

ضاقت عليه الدنيا بما وسعت، لم يعرف كيف يتصرف وقد عاد ماضيه الشائن ليتمثل في وجه تلك الحقيرة، والتي من المفروض أنها تحمل رسالة سامية، لكنها لم تلقنه سوى النتانة والدناءة، لتحوّله إلى مسخٍ بهيئة بشر، مثلها تماماً.

استقلّ سيارته وتنفسه في تسارعٍ خطر حتى تجمعت حبات من العرق البارد فوق جبينه، اعتصر أويس فكه المرتجف ليتحكم في ارتعاشته لكن عبثاً، شعر بالاشمئزاز من نفسه ومنها حتى استفرغ مافي جوفه خارج سيارته، أغمض عينيه بقوة وهو يريح رأسه على ظهر مقعده ماسحاً فمه المتسخ بظاهر كفه، فتحهما بعد هنيهة وقد التمعت داخلهما عبرات اغتالها قبل أن تنفلت منه،.

أدار سيارته وقد انتوى العودة إلى شقته الخاصة، ليغسل مشاعراً كريهة داخله، لكن بالطريقة الصعبة...
قرر كذلك محادثة طارق ليخبره بغيابه ليومين على الأقل بحجةٍ سخيفة، لكنها افضل ما استطاع اختراعه في ظل التشويش الذي أصابه...

خرجت ميادة من مطبخها تحمل بين يديها طبقاً زجاجياً أسندت فوقه فنجانيّ القهوة مع طبقٍ فيه بعض الحلوى وكوب ماء، قطبت جبينها بعدم فهم وهي تنظر ناحية الباب الكبير بعد إغلاقه بقوة، سرعان ماأدركت خروج أويس مستعجلاً وإن لم تفهم السبب، فكرت في نفسها ربما لم يلمح معلمته القديمة جالسة في الإيوان.

عادت إلى صديقتها الجالسة بكل ثقة مكانها، جلست بقربها وهي تكرر على مسامعها كلمات الترحيب وعلى محياها ملامح مغتبطة.
سألتها رفيف بنبرة أخفت خلفها مكرها: إذاً ميادة، هل عاد أويس ليعيش معكم في المنزل؟
رفعت ميادة فنجان القهوة لتقدمه الى رفيف مجيبةً بملامح حزينة: أتمنى لو أنه يعود يارفيف، لكنه لا يقبل.

حركت رفيف رأسها بتفهم لتتابع ميادة بإسهاب: لقد جاء ليلة أمس ليطمئن على شقيقه رامي، ومن شدة تعبه نام في غرفته.
ارتشفت رفيف من فنجانها لتعاود سؤالها بخبث: ألا تنتوين تزويجه إذا؟
تنهدت ميادة بتعب قائلة بتمني: هذا يوم المُنى صدقيني، لكن لا أعرف لماذا جميع أولادي الذكور يرفضون الزواج!
وضعت فنجانها على الطاولة الصغيرة أمامها متسائلة من جديد: حتى مازن؟

هزت ميادة برأسها إيجابا فتابعت الأخرى باستفهام: يجب أن تزوجيه ياميادة، مالذي ينتظره ابنك لغاية اللحظة؟ ألم يتجاوز عمره الثلاثين عاماً؟
زفرت من أنفها بقوة اثناء إجابتها بقلة حيلة: بل بلغ الخامسة والثلاثين منذ بضعة أشهر.
رفعت رفيف إحدى قدميها فوق الأخرى لتضيف باستغراب: ما الذي ينتظره إذا؟ أمثاله لديهم ولدان وثلاثة؟

أضاءت في عقلها خاطرة غريبة فتابعت بمكر وقد ضيقت عينيها: في الأمر إنّ ياميادة، وضع مازن لا يُطمئن البتة.
اعتلى الاستغراب وجه الأخيرة فعقبت بتوجس: مالذي تقصدينه يا رفيف؟ حديثك يدعو إلى الريبة!
تقاسيمٌ خبيثة طافت على وجهها وهي تخبرها بفحيح هامس: هو احتمال من اثنين، إما أنّ ابنك يهوى فتاة ما وظروف معينة تحول دون وصوله إليها، وإما...

بترت حديثها بطريقة ذات معنى ألقت بالفزع في ثنايا ميادة التي تساءلت بشك: وإما ماذا؟
رفعت حاجبيها بمكرٍ تخطى المعقول وهي تنحني صوب ميادة لتهمس قرب أذنها: وإما أنّ ابنك لا يهوى النساء...
جحظت عينا ميادة بهلع من خطورة ماسمعتْ، لم تنتهي دناءة رفيف عند هذا الحد بل تابعت بذات الهمس الناقم: وربما السبب نفسه مايمنع أويس من الزواج كذلك.

استدارت ميادة صوبها بخفة لتشير لها الأفعى بعينيها، ازدردت الأولى ريقها بقلقٍ من هول المصاب لو كان مانفثته رفيف صحيحاً، منعها خوفها من التفكير بشكل سليم، فلم تلحظ ملامح الانتصار القميئة التي اعتلت تعابير رفيف وهي تعيد ظهرها إلى الخلف، وابتسامتها الرديئة تتسع أكثر كلما تخيلت تأثير حديثها السافل على ميادة الساذجة وعائلتها...

كانت قد اعتزمت أن تترك الحبل لخطاب وجاسوسه لكن دون أن تثير الشكوك حولها، دلفت إلى المكتب بثقة لاتليق بسواها، وجدت هناك كلاً من إيهاب وصلاح الذي وقف مبتسماً باعتداد، رمقتهما بنظرة سريعة لكنها استغربت غياب طارق وأويس فسألت صلاح فيما هي تلتفّ حول طاولتها: أين أويس وطارق إذاً؟
أجابها الأخير أثناء جلوسه مكانه: لم يحضرا بعد.

هزت رأسها بلا مبالاة ثم تظاهرت بترتيب سطح طاولتها، عزمت أمرها فرفعت رأسها إليهما متسائلة بغتةً وقد شبكت أصابع كفيها: أخبراني عن وفاة نديم يوم أمس، كيف مات؟
تبادلا نظرات متسائلة وفي عينيّ أحدهما ارتباك واضح، حتى أجاب صلاح أخيراً بنبرة حاول إخراجها طبيعية: كانت لديه أعراض التسمم بالسيانيد سيدتي.
حركت رأسها إيجابا بتفهم قائلة بجدية هادئة: سؤالي كان كيف وصل السيانيد إليه؟

هذه المرة تحدث إيهاب مجيباً: نعتقد أنه وصل إليه عن طريق الطعام سيدتي..
تعتقدان؟
قاطعته ملقيةً بسؤالها هذا بتهكم برز بين أحرفها جعلتهما يتبادلان النظر من جديد باستفهام، اكتسبت نبرتها حدةً واضحة وهي تهدر بهما: كان من المفترض أن تحمياه وهذا هو الهدف من إرسالكما أنتما الاثنان لجلبه، فكيف تجاوزكما جاسوس الخفاش؟
هتف كلاهما باستغراب من خلفها: جاسوس؟

ضيقت عينيها مضيفةً بثقة: بلى جاسوس، فالخفاش قد زرع بيننا جاسوس متخفٍ، وهو من ينقل إليه اخبارنا أول بأول، وهو حتماً المسؤول عن اغتيال نديم.
اكتفى الرجلان بالنظر اليها باستغراب خالطته الدهشة، في حين تابعت مياس رمي الطعم لهما: لم أعرف هويته بعد، لذى يجب أن تكونا حذرين في التعامل مع أي شخص خارج هذا الفريق، فهمتما؟

أشار كلاهما بطاعة وقد ابتلع كلاهما الطعم، وقد تقصدت عدم إظهار شكها في أحدهما لتكمل الفخ، أضافت مياس أخيراً مخاطبةً صلاح: وانت صلاح، بصفتك مسؤول التقنيات في الفريق، أريدك أن تضع هاتفي تحت المراقبة.
زوى مابين حاجبيه فصاح بدهشة: أراقب هاتفك؟
أشارت له بالإيجاب لتعقب بتوضيح: لربما تمكنا من الوصول إلى أي شيء قد ينفعنا بشأن الخفاش.

هز رأسه بطاعة ثم تطلعت إلى إيهاب تكلفه هو الآخر: وأنت إيهاب، أريد تقريراً مفصلاً عن جميع أعضاء منظمة الخفاش المشتبه بهم، وأماكن عملهم كذلك.
أشار المعني بدوره مطيعاً دون سؤال، وما كادت مياس تنتهي حتى دلف طارق وعلى وجهه ملامحاً متأففة بعد إغلاقه لمكالمة مع أويس، تطلعت إليه باستغراب حتى تحدث بلا مبالاة: صباح الخير.
ردّت مياس بدهشة من حاله الغريب على غير العادة: صباح الخير، مالأمر طارق؟

اشرأبت بعنقها تنظر خلفه مضيفة: وأين أويس؟ ألم يأتي معك؟
جلس خلف طاولته بقربها مجيباً بغضب مكتوم: حضرة النقيب لن يأتي مياس، حادثني منذ لحظات وطلب إجازة لمدة يومين.
كسى الذهول قسماتها متسائلة: إجازة؟ لماذا؟
سارع يخبرها بتبرير أبله كما قال له أويس: قال أنه ذاهبٌ للصيد.

كتفت ذراعيها أمامها وهي تعيد ظهرها للخلف، قائلة بصوت مستفسر: أها، نقيب بمكانة أويس وهو في خضمّ قضية كبيرة وخطرة يطلب إجازة ليذهب للصيد، أليس الأمر مريباً بعض الشيء؟
تطلع الثلاثة نحوها بذهول وحيرة، فهتف طارق متحدثا باستفهام: أتقصدين...؟
قاطعته بنبرة قوية حملت معها بعض الاستهزاء: أقصد أنّ خداعك سهل للغاية ياحضرة النقيب.

وجهت نظرها إلى الاثنين الجالسين قبالتها عندما رأت ميلهما لتصديق حجة أويس الساذجة: كلكم يسهل خداعكم، وهذا أمر يدعو للشفقة.
تبادل ثلاثتهم نظرات مستغربة ومعجبة في بعضها لحذاقتها، حقا لم يكونوا ليشككوا في حجة أويس لولاها لمعرفتهم بهوسه بالصيد في الغابة القريبة، لكن كما أشارت مياس التوقيت غير ملائم أبداً.

لم يعرفوا أبدا مالذي يجول في خاطرها، وقد توجه شكها اكثر نحو أويس، اختفاؤه الآن بالذات مريب، رغم أنها لم تستبعد أحداً بعد، لكن لسبب لاتعلمه مالت إلى الشك به أكثر...

مضت أيام العزاء الثلاثة، رغم ذلك لم يخلع حي الورد ثوب الحزن والأسى، خسارته أعظم من أن تُنسى في ظرف ايام أو حتى شهوراً...

صدح صوت المؤذن ينادي على صلاة الفجر، ليسارع الرجال والولدان إلى صلاة الجماعة في المسجد، عقب انتهائهم خرج كمال متوجهاً إلى مخزن الحبوب الذي يمتلكه، وجد هناك ثلاثة من عماله متأهبين بانتظاره، وعلى مقربة منهم كان هناك ثلاثة خيول أصيلة، وقف أمامهم متحدثاً بصوت أجش: اسمعوني يارجال، ذلك الوغد الذي قتل ابني لم يغادر المدينة بعد، وقد عرفتُ أنّ لا أقارب له فيها، وعلى الأرجح فقد هرب إلى الجبل أو الغابة ليختبئ فيهما.

سكت للحظات يعاين وجوه رجاله المخلصين، ثم تابع: لذى سيتركز بحثنا عنه هناك، سنمشطهما شبراً شبراً، لن نترك صخرةً ولا كهفاً إلا ونبحث خلفهما...
أخرج صورة لعديّ من جيب سرواله الجينز ليرفعها امامهم معقباً: هذه صورته لمن لا يعرفه منكم، فكونوا متيقظين.
أشار إلى أحدهم آمراً: انت حازم ستبقى في المخزن لتدير أموره أثناء غيابي.

أشار الرجال له باحترام ولم ينبسوا بحرف، توجهوا إلى أحصنتهم ليمتطوها وقبيل انطلاقهم تحدث كمال بأمر، وفي عينيه جمراتٌ لاهبة: تذكروا، إذا وجدتموه لا تقتلوه، أريده حياً...
نكز جواده لينطلق به بسرعة الريح فتبعه رجلين اثنين، في رحلةٍ طويلة للبحث عن مجرم هارب...

مع النسائم الصباحية الباردة كانت عليا تجلس في شرفة غرفتها، مرتديةً إسدالها سارحةً في الأفق البعيد عندما صدح رنين هاتفها، تطلعت إلى الشاشة بمقلٍ ضائعة بشتات، ارتجف جسدها بشدة وهي تقرأ ذات الرقم الدولي، ويبدو أن عمار لن يتركها لسبيلها، استقامت واقفةً و أجابت الاتصال بنبرة قوية: مالذي تريده عمار؟

تبسم رغماً عنه اثناء سماعه لصوتها الغاضب، فقال بنبرة متسلية: في حياتي القصيرة معك لم اسمعك غاضبة هكذا أبدا..
ارتسمت على ثغرها بسمة متألمة وهي ترد عليه بسخط ساخر: في حياتي القصيرة معك كنت زوجي، اما الآن لا شأن لك بي، فمالذي تريده؟
آلمته بحديثها وهذا ماأرادته فعلاً، تلاشت ملامحه المتسلية لتحل أخرى موجوعة قائلا بصوت حزين: أنا فقط أردتُ أن أعزيكِ بوفاة ابن أخيك.

انهمرت عبراتها وتهاوت كما تهاوى جسدها على الكرسي، كتمت أنفاسها للحظة حتى خرجت شهقة جرحت حلقها بقسوتها، وأشعلت جمرةً ملتهبة في حشى عمار الذي قال بعطف: لا تبكي ياعليا أرجوك، دموعك تقتلني.
شهقت نفساً عميقاً لتردّ عليه بإهانةٍ مُتعمدة: دموعي هذه ذاتها التي كنت تسخر منها قبلاً، فلا تكذب أرجوك لإن كذبك هذا لن يجعلني أصدقك.

أنهت الاتصال بعجالةٍ دون أن تترك له فرصة الرد، تاركةً إياه يخفض هاتفه وقد احتلت الخيبة تعابير وجهه، رغم هذا عذرها، مافعله بها يصعب غفرانه، إلا أن هذا لم ولن يجعله يتراجع أبدا...
ضربت على السور الحديدي أمامها بغيظ وهي تنهر نفسها لتجاوبها معه، وفي داخلها قلقٌ يتمادى ويستبدّ بها، اتصالات عمار هذه لها مغزى وهدف، هي متيقنة من هذا، لكن ماللذي يريده منها ياترى؟ أم يجب أن تسأل من الذي يريده؟

شحب وجهها عند هذه الخاطرة، هتف قلبها في لوعة لا، قد تتسامح في كل شيء إلا ابنتها، إلا مياس...

عادت أروى إلى جامعتها لكن بروح منطفئة، كانت نسخة ذابلة عن أروى القديمة، بقيت شاردةً طيلة المحاضرة والتي كانت من نصيب الطبيب حسام كأنها حضرت جبراً، ظلّ حسام يلقي صوبها نظراتٍ حزينة وقد أوجعه تبدلها لهذه الدرجة، انتظر حتى أنهت دوامها ليتبعها أثناء خروجها من حرم الجامعة فأوقفها منادياً باسمها، توقفت أروى بعد ندائه فهرول حتى بات أمامها مباشرةً، تأملها حسام بملامحها البريئة كملاك، في عينيها جمال فطري، وللون الأسود الذي طغى على ملابسها وحجابها بهاءً غريباً، حتى الحزن الذي تلبسها أضفى على تقاسيمها بريقا لامعا، أخفض نظراته عنها عندما لاحظ هربها من مقلتيه، حمحم هاتفاً بتساؤل لم يخفي حنينه: كيف حالك أروى؟

لم ترفع عينيها إليه أثناء إجابتها، وكمّ ودّ لو تفعلها، خرج صوتها ببحةٍ متأثرة: شكرا لك دكتور حسام، انا بخير، باالإذن.
كادت تتحرك فهتف بسرعة دون حساب: أروى، إذا كنتِ بحاجة لأن تتحدثي مع أحدهم فأنا موجود.
رفعت رأسها إليه وقد اعتلاه الدهشة، لمح بوادر غضبٍ اشتعل داخل مقلتيها فسارع يصحح زلته: أقصد بصفتي أستاذك فقط، لا تفهميني بشكل خاطئ.

ضغطت على شفتيها وهي تشير إيجاباً قبل أن تستأذن من جديد لتتحرك من فورها، تاركةً حسام يطالع خيالها الهارب بمزيد من الحزن والأسى، تنهد بعمق وقد عزم أمره، أصبح يعدّ الأيام لتمضي على وفاة ورد مدة مقبولة فيتقدم إليها، ولن يتركها تفرّ من بين يديه أبداً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة