قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني عشر

(((بعض الأوجاع داخلنا لا تشفيها كلمة أَسَفْ، ولا تخفف من ألمها جمل المواساة، عندئذٍ نبحث عن شخصٍ ليشاركنا وجعنا ويبكي معنا على أطلالنا، حين تجد ذلك الشخص تشبث بيده، وحده هو القادر على إخراجك من بؤرة الظلام))).

لم تذقْ ميادة طعم النوم خلال اليومين المنصرمين، فكلام تلك الحرباء المسموم مازال مؤثراً فيها بشكل أو بآخر، لم تشارك أحدا بشكوكها فزوجها عثمان مازال غاضباً منها، ولن تخبر جهينة بالتأكيد.

كانت جالسةً خلف طاولة مطبخها تعمل بشرود عندما حضر مازن مبكراً جداً على غير عادته، دلف الى المطبخ منادياً على والدته التي كانت تقطع الخس بعدم انتباه، لم تسمعه في البداية فتقدم حتى وضع يده على كتفها فشهقت عالياً بهلع، سرعان مااستعاد وجهها لونه حينما تعرفت على هوية مناديها.
وضعت يدها على صدرها تحادثه بلوم: أرعبتني يامازن.

تبسم مازن باعتذار ورفع كفها ليقبله متمتماً: لم أقصد إخافتك أمي، لكني ناديتُ عليك ولم تسمعي.
أمال رأسه إلى الجانب يسألها بريبة: مالذي يشغلك؟
حركت فمها بفراغ وهي تبحث في عقلها عن عذرٍ سريع، خرج صوتها متذبذباً أثناء إجابتها: لا شيء مهم.
قطب جبينه باستغراب وإن لم يصدقها لكنه لم يحاول استدراجها أكثر، أجلت صوتها وتطلعت إلى طاولتها لتعود إلى عملها تسأله بجدية: أراك عدتَ مبكراً، هل كل شيء بخير؟

أجابها دون تردد سائلاً: أخبريني أولاً، أين والدي؟
قالت ميادة بتنهيدة بطيئة: والدك في غرفة الضيوف يجلس وحده كالعادة.
أدار مازن رأسه ناحية الغرفة المذكورة في الطابق السفلي، رغم بعض التردد داخله مما هو مقدمٌ عليه، لكنه عزم أمره فخاطب والدته: أريد أن أحادث أبي في أمر مهم، وأريدك أن تكوني معه.

رفعت نظرها إليه باستفهام فلم يمهلها لتسأل، سحبها من يدها برفق فتحركت معه على مضض، غسلت يدها ثم تبعته ليدفعها من ظهرها لتتحرك قبله حتى وصلا إلى حيث يجلس عثمان، طرقَتْ ميادة على الباب ليسمعا عثمان يأذن لهما بالدخول، ترددتْ ميادة بدايةً لكن مازن دفعها بلطف ليدلف كلاهما وتحدث مازن: أبي أريد أن أتحدث معكما في أمر هام.

رمق ميادة بنظرة عكست ضيقه منها ولاحظت هي ذلك فارتبكت، الا أنه عاد وأشار لابنه بموافقته فتقدم مازن ليجلس على كرسي بعيد نسبياً عن والده، واتخذت ميادة مكانها قبالة مازن لكن عثمان أدار جسده ليقابل ابنه مولياً إياها ظهره، مما زاد الحزن داخلها.
لانت ملامح عثمان وهو يحادث ابنه بنبرة حنون: قلْ يابني، هل تحتاج إلى شيء ما؟
أخذ مازن نفساً عميقاً زفره بسرعة مردداً: أريد أن أتزوج!

رفرفت ميادة بأهدابها بذهول مرددةً كأنها تتأكد مما سمعت: تتزوج؟
طالعها مازن ببسمة لطيفة قائلاً بجدية: بلى أتزوج، ألم ترغبي دوماً بتزويجي ياأمي؟
انعكست سعادتها على ملامح وجهها فقالت بتهليل: بلى بلى، هذا يوم المنى ياحبيبي.
أطلقت عقبها زغرودةً طويلة نبعت من داخل قلبها، ليس فقط بسبب الخبر السعيد الذي أعلن عنه مازن، بل لإن شكوكها حوله قد اندثرت وماقالته رفيف لا يتعدى كونه تهيؤات.

تحدث عثمان بقسماتٍ مرتاحة قائلا: مبارك ياولدي، أسعدتني بحديثك.
راقبهما مازن بحذر لما يفعلاه حتى قال عثمان تالياً: ومن هي العروس؟
لم يرغب بصدمهما بقراره هكذا فجأة فعمد إلى تبسيط الأمور قائلا بلين: حقيقة لم أخترْ العروس بعد، لكني اخترتُ العائلة التي أريد أن أناسبها وأترك أمر اختيار العروس لأمي.

في نهاية حديثه تطلع إلى ميادة التي عقبت بحبور: أنت فقط أخبرنا من هي تلك العائلة واترك لي الأمر، وانا أتعهد لك بأن أنتقي لك ابنة اربعة عشر عاماً، تجلس مكان القمر لجمالها.
تبسم مازن وأطرق رأسه ثوان معدودة كأنه يتأهب للإعصار الذي سيحل في المنزل بعد جملته التالية، رفع رأسه إلى والديه السعيدين ليصدمهما بجوابه الصريح: أريد أن أخطب من عائلة الحكيم.

تلك الملامح السعيدة والقسمات المرتاحة غابت في لحظة، ليحلّ محلها غضب طغى على وجه عثمان، وانعكس شحوباً على محيا ميادة التي تسائلت بهمسٍ مرتعب: منْ؟
قابلها بنبرة واثقة معيداً ماقاله منذ ثانية: قلتُ أريد أن أخطب من عائلة الحكيم يا أمي.
ضربت على صدرها بهلع صائحةً: تخطب منهم وتتزوج؟ أجننتَ يامازن؟
عقب بلا مبالاة كأنه لم يقلْ مايدعو إلى الجنون: وما المانع؟

صرختْ به ميادة دون وعيّ منها: وتسأل ما المانع؟ أنت لا تستطيع...
ميادة.

صرخ عثمان باسمها ناهياً إياها عن التفوّه بحماقات قد تكشف أهوالاً عفى عليها الزمن، وتفضح أسراراً جاهد كلاهما في إخفائها، تطلعت إليه ميادة بنظرات زائغة وقد انقلب لون بشرتها إلى الأصفر الباهت عندما وَعتْ لتوّها خطورة ما كادت تبوح به، وجدته يطالعها بمقلٍ ملتهبة تكاد تنفخ شرراً، أطرقت أرضاً تكتم عبراتها ولم تعدْ تجسر على النظر إلى وجهه الغاضب، في حين التقى حاجبي مازن باستنكار لجملة أمه المبهمة، ما الذي لا يستطيعه هو؟

صدح صوت عثمان ليلفت انتباهه بعصبية ظاهرة على نبرته: هل تدعي الجهل يامازن أم أن أحدهم ضربك على رأسك هذا اليوم؟
تطلع ناحية والده الغاضب بكل هدوء وقبل أن يتحدث أضاف عثمان: ألا تعرف مالذي بيننا وبين عائلة الحكيم؟
لا، لا أعرف.

هكذا أجابه دون تردد، فهو فعلاً لا يعرف ما أصل العداوة بين العائلتين، وكل مايريده هو إصلاح الحال، هتف به عثمان بنبرة لم تخفي سخطه الغاضب من ابنه: لا تلعب بأعصابي يامازن، منذ متى يتشارك رجال الشافي ورجال الحكيم بأفراحهم وأتراحهم ليصل بنا الأمر إلى مصاهرتهم؟
لم تتغير تقاسيم مازن أثناء ردّه على والده: وهذا ماأسعى الى تغييره يا أبي، لا يجب...

قاطعه عثمان هادراً بغضب أشوس: ليس أنت من يخبرني بما يجب فعله يا مازن، ولا أريد سماع اسم هذه العائلة في بيتي أبداً.
رفع سبابته في وجه الأخير مهدداً: ومسألة الزواج من تلك العائلة ستمسحها من ذهنك نهائياً، فهمتْ؟
لم تبدُ على وجه مازن أي أثر للندم او التراجع، وقف تالياً ليتحدث بأدب غير عابئٍ بكل ماقاله عثمان: الحديث في هذا الموضوع لم ينته بيننا يا أبي، عن إذنك.

تحرك من مكانه ليتبعه صوت عثمان الحانق خلفه: بل انتهى ولن نعيد هذا الكلام أبدا، سمعتْ؟
لم يتوقف وهو يسمع جملة والده، صعد إلى غرفته بخطىً غاضبة والشك في داخله في ازدياد، ألقى بنفسه على الفراش بقوة وعقله يستعيد مشهد شحوب ميادة يوم جاء أويس، وحديثها اليوم زاد الطين بلّةً، ما الذي يخفيه والداه؟ وماسبب تلك العداوة التي لايعرفها أحد؟

عقب خروج مازن استدار عثمان صوب ميادة عاصفاً بها باهتياج: أجننتِ أنتِ أيضاً؟ ألم تعرفي كيف تمسكين لسانك أمام الصبيّ؟
رفعت رأسها ببطء نحوه مجيبةً بصدرٍ متهدّج ونبرة ذات مغزى: لم يعدْ صبياً ياحاج، مازن الآن شاب كبير وذكي، وطبيب أيضاً.
زوى مابين حاجبيه فرنى إليها مطولاً متسائلاً بريبة: ماذا تقصدين؟

ارتجف فكها وانهمرت عبراتها، ابتلعت غصّة ملتهبة في حلقها مجيبة بصوتٍ هامس: أقصد أنّ مازن لم يفعل مافعل إلا لهدف محدد، وياخوفي مما ينتويه.
لم يفهم ماتقوله فهتف لها من بين أسنانه: أوضحي مقصدك ياميادة ولا تكلميني بالألغاز.
ضغطت على شفتيها قبل أن تتحدث بنبرة مرتجفة: مازن قال ماقال وهو مشككٌ بأمر ما، لقد أراد توريطنا.

قطب جبينه وهو يعيد ظهره للخلف، شرد بنقطة فارغة خلفها مُقلباً كلماتها في عقله، ليست المصيبة بما قال، بل المصاب الأكبر إن حاول مازن تصعيد الأمور، حينها سينفجر كل شيء، حرفياً...

رنين الجرس المتواصل أزعجه من منامه، حاول أويس منع نفسه من سبّ الطارق على بابه في هذه الساعة لكنه لم يفلح، حرّك جسمه للجانب لينتبه عقله على أنين جسده ألماً، اعتدل جالساً على الأريكة البنية في صالة شقته الفوضوية محاولاً استعادة ذاكرته، لكن ذلك الرنين السَمِجْ لم يسنح له الفرصة فاستقام ليفتح الباب فقط ليتخلص من الصوت المزعج، حالما انفرج الباب وقف أمام مياس الغاضبة، للحظة الأولى لم يتعرف إليها لكنّ نكزها له بغلظة لتدلف إلى المنزل عرّفه على شخصها، خاصة وهي تصرخ بتهكم بان في نبرتها: ألم تنتهي إجازتك بعد حضرة النقيب؟

قلَب أويس عينيه متنهداً بملل، أغلق الباب ليدخل بدوره إلى المطبخ يسألها غير عابئٍ بغضبها: ماهي قهوتك؟
امتازت غيظاً فتطلعت حولها لتجد قارورة مياه بلاستيكية صغيرة، رفعتها لتضرب بها ظهره صارخةً: لا تتجاهلني أويس.
آلمته بضربتها فالتفت نحوها مندهشاً متسائلاً بعدم تصديق: هل ضربتني للتوّ مياس!
كتفت ذراعيها أمامها ورفعت ذقنها بإباء، لتجيبه غير آبهةٍ بعواقب فعلتها: أنت من تجاهلني أولاً.

ضيّق عينيه وصوت زفيره الملتهب يتعالى، ترك مابيده مستديراً صوبها بهدوء مريب، أمالت رأسها للجانب بحذر وهي تراه يتقدم ناحيتها بتهادٍ، قرأت في مقلتيه نيةَ ذئب للانقضاض على فريسته فتراجعت للخلف وقد أنزلت ذراعيها، ازدردت ريقها بتوتر وهلع أثناء قولها له بروية: على مهلك أويس، إياك أن تتهو...
بترت كلماتها عندما انقضّ عليها حقا يريد إمساكها، بينما صرخت بصوتٍ عالٍ...

استفاق من حلمه على صوت جرس الباب، وماكاد ينقلب على جنبه حتى سقط أرضاً فتحضنه سجادته، تأوه أويس بألم وفتح مقلتيه وهو يعضّ على شفتيه بقوة، مسّد على ظهره وهو يشعر بجسده يئن ألما، عاود الجرس الرنين فصاح بيأس محاولاً الوقوف: حسناً لقد سمعت سمعت، حرقتم الجرس!
مسح على وجهه المنهك متجهاً نحو الباب، وقبل أن يفتح توقف لثانية وقد عقد جبينه، هل يعقل أن يتحقق الحلم؟

تطلع من العين السحرية للباب بحرص لكنه لم يجدْ أي أحد، زادت العقدة بين حاجبيه ففتح بسرعة ليجد الرواق فارغاً، ضيق عينيه بريبة ليخفض نظره للأسفل فوجد باقة من الورد الملوّن آسفل قدميه، تراجع خطوة واحدة للخلف وقد ارتاب في أمرها، رفع عينيه ليمسح الرواق سرعان ماعدا فوق الباقة دون أن يمسّها وهبط الدرج مسرعاً يبحث عن الشخص الذي جلبها، حتى وصل إلى الأسفل رغم هذا لم يجد أحداً إلا حارس المبنى الذي كان يتأهب للجلوس على كرسيه، إلا أنه عاد و انتفض واقفاً عندما رأى أويس بهيئته الغريبة، فكان مرتدياً قميصاً داخلياً ذو حمالات رفيعة من القطن الأسود، وسروالاً من القماش نفسه يصل إلى ركبتيه، أجفل برعب عندما وقف أويس أمامه يسأله بعينين ضيقة: من الذي جلب باقة الورد إلى منزلي؟

رفرف الحارس بأهدابه غير مستوعبٍ للسؤال بعد، فجذبه أويس من مقدمة قميصه صارخاً به حتى كادت تنفجر عروقه: سألتك من الذي صعد إلى الأعلى ومعه باقة ملونة من الورد؟
ارتجف الحارس حتى هربت الدماء من وجهه وحرك فمه ليتحدث فخرج صوته هامساً مهزوزا: س سيد أويس لم لم أ أ أرَ أحدا...
زمجر أويس حتى شعر بأنفاسه الملتهبة قد تحرق بشرة الرجل الشاحبة متسائلاً: أين كنت منذ لحظات؟

ابتلع الحارس ريقه الذي جفّ من أثر الرعبة ليجيب بسرعة علّه يخلص نفسه من بين يديّ الذئب الغاضب: لقد كنتُ في غرفة الخزانات أتأكد من التسريب.
ضيق عينيه بشك ليعاود سؤاله بنبرة أهدئ: تسريب؟
حرك الحارس رأسه بإيجاب مضيفاً بتبرير: نعم تسريب في غرفة الخزانات، حتى أن عامل التصليح في الداخل تأكد من الأمر.

ارتخت يدا أويس عنه وقد أدرك الأمر، أياً كان من أرسل الباقة فقد استغلّ انشغال الحارس في غرفة الخزانات ليصعد ويوصلها أمام منزله ثم يفرّ قبل أن يراه.
حرّره بغلظة حتى ترنح الرجل عائداً للخلف أثناء حديثه بتوبيخ: في المرة القادمة لا تترك حراسة الباب مهما كانت الظروف، فهمت؟

لم يكن من المسكين البائس إلا أن حرك رأسه بسرعة علامة على الطاعة، نظرة متفصحة أخيرة ألقاها أويس على محيط البوابة الكبيرة المؤدية إلى مدخل البناء، حتى انتبه أخيراً إلى مايرتديه فجزّ على أسنانه بغيظٍ هامساً ببعض الألفاظ النابية، استدار عائداً إلى منزله ليزفر الحارس بارتياحٍ كبير، راقب ظهر أويس المغادر فلاحظ أمراً غريباً يبرز من تحت قميصه القطنيّ، إلا أنه لم يتعب نفسه في التفكير فنفض رأسه للجانبين ليعود إلى كرسيه المرابط أمام البوابة ويمارس عمله المعتاد...

رفع أويس باقة الزهور بحرص كبير، قلّبها بين يديه باحثاً عن ورقة ما تفصح عن صاحب الباقة أو الغرض منها إلا أنه لم يجد ماقد يدلّه إليه، زفر بغضب فدخل ليرمي الباقة في سلة المهملات وقد توجهت شكوكه بشكل غريب نحو مياس، أيعقل؟
حرك رأسه للجانبين سلباً فما غايتها من هذا الفعل مثلاً؟
توسعت مقلتيه عندما طرح عقله الاسم التالي، رفيف، أيعقل أن تكون هي؟

صرّ على فكه بغيظ لا يستبعد عنها أمراً مماثلاً، لكن السؤال هو كيف وصلت إلى عنوان منزله؟
شعر برأسه يكاد ينفجر فمسح على شعره القصير واتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه قدحاً كبيراً من القهوة، رفع الوعاء بين يديه وقد توارد إلى ذهنه بعض المشاهد من الحلم العجيب الذي رآه قبل قليل، وابتسامة لطيفة زحفت الى تعابيره دون أن يشعر، وقد بات يعتاد أمر الاستفاقة على حلمٍ تكون هي بطلته...

تطلع إلى الساعة الجدارية من بوابة المطبخ المفتوح على الصالة، قارب دوام اليوم على الانتهاء، لكن هذا لم يمنعه من الذهاب إلى مركز المكافحة علّه يراها، وقد شعر برغبة داهمة في رؤيتها على الواقع هذه المرة...

خلال اليومين الماضيين جمعت كل مااستطاعت من معلومات عن أويس الشافي، حياته تبدو عادية إلى حين استلم منصبه في مكافحة الجريمة الاقتصادية، حيث ترك منزل عائلته ليستقرّ في شقةٍ مملوكة له، زياراته إلى عائلته كانت محدودة للغاية، الأمر الذي جعل مياس تشكك في السبب الحقيقي خلفها.

الغريب في الأمر أن المعلومات بين يديها لم تفصح عن وجود امرأة في حياة أويس، أيعقل أن شاباً مثله لم يحبّ في حياته ولم يصادق أنثى واحدة حتى؟
هالة من الغموض تحاوط أويس لم ترتحْ لها مياس، رغم أن شكوكها حياله في ازدياد إلا لم تستثني أحداً من الثلاثة الباقين، وأيضاً انقطاع اتصالات الخفاش خلال اليومين المنصرمين أمرٌ يدعو للريبة.

هرجٌ خارج المكتب المشترك حيث كانت تجلس وحيدة جذب انتباهها، لترفع رأسها إلى الشباب الثلاثة الذين دلفوا لتوّهم، كان طارق أول من تحدث قائلاً: ألم تنتهي مياس؟
قطبت جبينها بعدم فهم ليضيف مشيراً إلى صلاح وإيهاب خلفه: نريد دعوتك إلى العشاء في المطعم القريب في نهاية الشارع، ما رأيك؟
كتفت يديها على الطاولة متسائلة باستغراب: وما المناسبة؟

اقترب منها حتى بات أمامها مجيباً بتقرير: لدينا تقليد هام في هذا الفريق، في بداية كل شهر وبمناسبة قبض رواتبنا نذهب نحن الأربعة إلى المطعم، وبما أنك ترأستِ هذا الفريق فيجب أن تتبعي هذا التقليد مثلنا.
لا تعرف لماذا انتابتها بعض الشكوك حول تلك الدعوة المفاجئة، مررت نظراتها عليهم فتسائلت بشك: وأويس؟
مابه أويس؟

قبل أن يجيب أحدهم دلف الأخير بشكل مفاجئ ليسأل عن سبب سماعه لاسمه في معرض حديثهم، تهللت تقاسيم طارق صارخاً بفرحة: أويس! يارجل حماتك تحبك حقا!
تفحص الوجوه الأربعة باستغراب متسائلا: ما الذي تخططون له؟
أجاب إيهاب هذه المرة: كنا نحدث مياس عن تقليدنا الشهري وقد دعوناها للتوّ.
وجه أنظاره إليها هاتفاً باستفهام: حقاً؟ وما كان ردّها؟

تلقائياً اتجهت الأنظار صوبها وقد بدى عليها بوادر الرفض، أعادت ظهرها للخلف وهي تشير بالسلب قائلة بنبرة جادة: اعذروني لن أستطيع الذهاب.
رمقها بنظرة متفحصة حتى ظنت أنه سيلحّ عليها بالدعوة، لكنه خيب ظنها عندما رفع كتفيه بلا مبالاة قائلا بجمود: كما تشائين.
سيطرت الدهشة عليها فيما التفت هو إلى رفاقه الثلاثة مضيفا: هيا لنذهب.

تحرك من فوره فلاحقته بنظراتها المتعجبة، ولا تعلم لما توقعت منه العكس، لم تدرك أنه فعل هذا عمداً لعلمه بأنها ستعاود الموافقة فقط نكايةً به، في حين أن طارق هتف راجياً إياها: أرجوك مياس اقبلي دعوتنا.
تحدث صلاح بدوره: أجل مياس تعالي وشاركينا.
قال إيهاب مشاركاً: وأنا سأدفع الفاتورة عنك.
قاطعه طارق قائلا بمزاح: نعم لاتهتمي لأمر المال، فإيهاب سيدفع عني وعنك.
تلقائياً نطق إيهاب بدون وعي: أجل أنا سأدفع.

استوعب الفخ الذي نصبه له طارق فحدجه بنظرة مغتاظة فقال الأخير رافعاً كلا ذراعيه للأعلى: لا دخل لي أنت قلت ستدفع، والرجال يُربطون من لسانهم.

اغتاظ الآخر فنكزه في كتفه في حين رفعت حاجبيها بدهشة استحالت لضحكة لطيفة وهي تحرك رأسها بيأس من طارق وحديثه، فلم تلحظ ذلك الذي وقف عند الباب يراقب ضحكتها والتي نادراً مايراها، فلم يشعر بتقاسيمه التي تحولت من الجمود الى الابتسام، كأن ضحكتها معدية، وافقت أخيرا لتقول: لا مشكلة سآتي.

قفز طارق ليصفق بحبور ثم حاوط رقبة إيهاب ليتحركا قبل الجميع وهو يخاطبه بمزاح: حبيب قلبي إيهاب، اليوم سأطلب قائمة المطعم كلها وعليك أنت الدفع ياحبيبي.
صاح إيهاب معترضاً لكن طارق قاطعه بسماجة: لا لا لن أقبل أي أعذار فأنت قلت ستدفع.

تبعهما صلاح ضاحكاً على الفخ الذي وقع فيه إيهاب، فوقفت مياس تلملم متعلقاتهاوسترتها ومفتاح سيارتها، تحركت لتخرج من خلف الطاولة لتقابل أويس الواجم أمام الباب، قطبت جبينها باستغراب عندما لاحظت ابتسامته الغريبة والتي تلحظها للمرة الأولى، انتبه لنفسه فحمحم ليستبقها تاركاً إياها تفكر فيه، غريب أمره صحيح؟

في المطعم القريب.
كان المكان هادئاً برقيٍّ محبب، رغم ذلك لم تشعر مياس بالارتياح، انتقى طارق طاولةً قرب الشرفة الملأى بأزهارٍ متنوعة، جلست مياس بجانب طارق في حين جلس الثلاثة الباقون على الطرف الآخر، وكان أويس يقابلها، شرد الأخير في منظر الأزهار أمامه وهو يقلّب في رأسه أمر الباقة أمام بابه صباحاً، ترى من أرسلها؟ وما مغزاه من ذلك؟

لاحظت مياس شروده فتيقنت من أمر ما يشغله، حضر أحد النُدّلْ ليوزع عليهم قائمة الطعام، وعندما أصبح خلف مياس وضع القائمة أمامها فرمقته بنظرة سريعة غير مدركةٍ لملامحه، وانحنى هو ليشتمّ عطرها دون ملاحظة أحد، فالجميع أمسك قائمته ليتفحصها، عاد النادل خطوتين ليقف خلف مياس وأمسك بورقة وقلم بانتظار مايطلبون، بدى على طارق الحيرة فعلى مايبدو هناك أصنافٌ جديدة أُضيفت إلى القائمة، فصاح قائلاً بملل: ما رأيكم بأن نشرب شيئاً ما قبل أن نطلب العشاء؟

أشار له الجميع موافقون فتساءلْ: أنأخذ عصير برتقال؟
أشار صلاح وإيهاب بالإيجاب بينما حركت مياس رأسها بالرفض قائلة: أنا أريد عصير ليمون.
تطلع طارق إلى أويس الشارد فهتف منادياً: مابك أويس؟
انتبه الى نداء طارق باسمه فجال بأنظاره على الجالسين معه فنفى بإشارة من رأسه وعكف مطرقاً على القائمة بين يديه، التفت طارق الى النادل الواقف خلفه وخاطبه بأمر: أحضر ما طلبنا بسرعة.

للوهلة الأولى لم يجبه النادل بل كان شارداً في شعر مياس الليلي في حين كانت الأخيرة تناظر الأزهار في الشرفة، قطب طارق جبينه ليصيح به: هيييي، مابك يارجل؟ ألم تسمعني أحادثك؟
تطلع صوبه وعلى ثغره ابتسامة ماكرة، أشار بعينيه ثم تحرك من فوره ليهتف طارق باستغراب غلفته بعض السخرية: ما به هذا النادل؟ هل هو أصمّ؟
قهقه إيهاب ساخراً ليعقب: ربما هو أخرس..

التقطت أذناها كلمة إيهاب الأخيرة، قطبت جبينها وجملة نطقتها ردينة ذات مرة أنعشت حواسها الغافلة، توسعت عينيها وهي تتطلع ناحية أويس هامسةً بدهشة: هل سمعتَ قبلاً عن مطعم يوظف نادلاً أبكماً؟!
رفع أويس رأسه إليها كطلقة رصاص وقد ارتاب في جملتها الأخيرة، قرع عقلها ناقوس الخطر وببراعة التقط أويس النداء، انتفض كلاهما صارخين بنفسٍ واحد: الخفاش!

لم يفهم الثلاثة الباقون ماصرخ به كلاهما لكنهم انتفضوا ليتبعوهم، جَرت مياس بسرعة ناحية المطبخ يتبعها أويس ليقابلهما المسؤول عن النُدُلْ متسائلا: ما الذي يحصل هنا يا سادة؟
لم يأبها به فتخطياه ليدلفا إلى المطبخ، جالت بأنظارها على المتواجدين فلمحت باباً يتحرك فصاحت بأويس: الباب الخلفي.

هرع راكضاً خلفها ليخرجا الى الشارع المكتظّ بالناس والسيارات، دارت مياس حول نفسها باحثةً عنه كالمجنون لكن عبثاً، فهي حتى لم ترَ وجهه، لهثت بغضب ومسحت بظاهر كفها على فمها وصدرها يعلو ويهبط، حتى صاحت أخيراً بقهر وقد هزمها الخفاش من جديد...

عادت إلى المطبخ لتجد طارق وإيهاب وصلاح يحققون مع العاملين هناك، وقفت أمام المسؤول عن النُدُل لتسأله بوجهٍ واجم: النادل الذي حضر ليأخذ طلبنا، من هو؟
طالعهما بنظرات تائهة قائلاً بتذبذب: من تقصدان؟
قبض أويس على تلابيبه صارخاً به: أنصحك بأن تجيب على قدر السؤال ولا تراوغ أبداً.

وضعت مياس كفيها على خصرها تراقب تعابير الرجل لتعرف كذبه من صدقه، بينما هلع الرجل وارتجف بشدة وهو يطالع مقلتي أويس التي اشتعلت بغضب عارم، ازدرد ريقه بتوتر ليجيب بشفتين ترتعش وجلاً: س سيدي تقصد الشاب الجديد؟
هتفت مياس باستغراب معيدةً ماقاله: الشاب الجديد؟
بالكاد استطاع المسؤول إدارة وجهه نحوها قائلاً بنبرة مرتجفة: أجل سيدتي، إنه نادل جديد استلم العمل هنا صباحاً، تأكدي من مدير المطعم بنفسك.

وجه أويس نظراته المستغربة صوب مياس التي ركزت مقلتيها على وجه المسؤول كأنها تُفند ما قاله، ارتخت ملامحها الغاضبة إلى أخرى ناقمة وقد استوعبت الأمر برمته، التفتت إلى الخلف وهي تقلب الأمر في رأسها لتخلص إلى نتيجة واحدة، كل ماحدث هنا كان من تدبير الخفاش، وهي كالبلهاء انساقت إلى فخه برشاقة الفراشة التي لم تلحظ النيران المشتعلة أمامها، صرّت على أسنانها غيظاً وكمداً وهي تعيد المشاهد كلها كأنها تعاين فيلماً سينمائياً، كوّرت قبضتيها بغلّ حتى الهواء في صدرها يحرقها، احتدمت أنفاسها واضطربت لتصفع مشبكاً مليئاً بالأواني الفارغة بقدمها محدثةً جلبةً عالية، وتعابير وجهها لا تُفسر أبداً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة