قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث عشر

(((أنا أرض محترقة، في داخلي بركان يغلي لكنه لايجد للانفجار سبيلا، بين ضلوعي أوجاع خطت على قلبي الصلدْ اسمك فلم يجد للخلاص طريقا. ))).

لم يتم توكيلها بأصعب القضايا فحسب، بل هي من انتقتها بالإسم، خلال فترة قصيرة استطاعت الدخول إلى أكثر الفنادق شهرة للعمل فيه وإيقاع أكبر عدد ممكن من منتسبي المنظمة الشهيرة، لم يشكك فيها أحدهم ولم يخطر لهم ببال أنها قد تكون الذئب لذكائها وقدرتها على تنظيف أي آثار خلفها.

واجهت الكثير من المواقف الصعبة، لكن هذا أكثر المواقف تأثيراً فيها، ليس فحسب لأنه ظهر أمامها ولم تعرفه بل لأنه استهان بها وبقدراتها، وليست هي من يرتضي بذلك.

صرّت على فكها بكَمد طفى على تقاسيم وجهها، الخفاش يلاعبها كأفعى لكنه لا يعلم بأنها الحاوي، تحكمت بانفعالاتها لتستدير صوب الرجال الذين وقفوا خلفها باستعداد، جالت عليهم بنظرات متفحصة وتعترف أنها تشعر بالتيه وتفكيرها غير منطقي، توقفت نظراتها على أويس الذي لم يقلْ غضبه عنها، بطريقة أو بأخرى أبعدته عن دائرة الشك، فهو بجميع الأحوال لم يكن من ضمن الخطة الأساسية بل حضر فجأة، ليبقى الثلاثة الذين دعوها إلى العشاء الملغوم، لن تسألهم مباشرةً لكنها ستعمد إلى معرفة الجاسوس بطريقتها الخاصة.

اطرقت أرضا لثانية قبل أن تتحدث بصوت هادئ: صلاح، وضعتَ هاتفي تحت المراقبة، صحيح؟
أجابها صلاح دون تأخير: بالتأكيد مياس.
رفعت رأسها إليه قائلة بنبرة آمرة: تأهب إذاً، سيتصل قريباً.
ألقت جملتها المبهمة لتخرج من فورها تحت نظراتهم المتفحصة، زوى أويس مابين حاجبيه بعدم فهم ليسأل صلاح باستفهام: ما الذي تقصده مياس؟
تطلع صلاح إلى خيالها المغادر مجيبا: لقد طلبت مني مراقبة هاتفها تحسباً لاتصال الخفاش.

هز رأسه بتفهم وهو يطالع الباب الذي خرجت منه ماهي الا لحظات حتى خرج خلفها، وفي ذهنه آلاف الاحتمالات والأسئلة.

ماكادت مياس تستقرّ خلف مقود سيارتها حتى تعالى رنين هاتفها، كوّرت قبضتها عندما شعرت بالغضب يتنامى داخلها ليجعل جسدها يرتعش بقسوة، تطلعت أمامها أثناء ضغطها على قبول الاتصال دون حتى النظر إلى الشاشة، ولم تنبس بحرف.
كان لايزال في سيارته الخاصة عندما تحدث خطاب بمراوغة: هل افتقدتِ صوتي؟

طال صمتها على غير العادة محاولةً التمسك بهدوئها قدر الإمكان، حتى نطقت أخيراً وهي تتلمس مقدمة أنفها: كان الأمر برمته حيلةً منك، صحيح؟
تكاد ترى ابتسامته الرديئة متمثلة أمامها، فاستندت برسغها على ذراعها الذي طوته أمامها لتتابع بنبرتها الواثقة: أعني أنك لم تجازف بنفسك دون سابق وعيٍّ منك، ودون تنسيق مع جاسوسك الذي زرعته في فريقي، أليس كذلك؟

لا ينكر إعجابه بذكائها فعلاً هي ذكية لدرجة الخطر، أجابها بصوت قاتم: كل ماقلته صحيح.
ثم تابع بنبرة ساخرة: لكن أرجوك لا تصدميني وتطلبي مني أن أخبرك باسمه؟
سخرية سوداء ارتسمت على محياها أثناء إسنادها ظهرها للخلف مجيبة بثقة مخيفة: لا تقلق، دع الأمر لي وسأعرف اسمه لوحدي.

بدت جملتها تهديداً صريحاً، ويعلم أنها ستفعل، ستعرف اسم الجاسوس وقد تصل إليه هو ذاته لكنه لا يأبه، لأن ماتفعله به الآن أقسى من هذا وذاك، تلك الاتصالات القصيرة بينهما صارت مصدراً لسعادة غير مأمونة بالنسبة إليه، أصبح يتحين الفرص ليحادثها لسبب أو بدونه، كيف ومتى لا يعلم، مايعلمه أنها تستحوذ على تفكيره بشكل خاطئ، خاطئ للغاية.

طال الصمت بينهما بصورة مريبة، إلا أنها باتت تعرفه كباطن يدها، وتعلم أن جملتها الأخيرة قد هدمت كل مخططاته، وهي في الحقيقة كانت تنصب له فخاً تتمنى أن يكتمل، إلا أنه أغلق الاتصال بصورة مفاجئة قبل أن يكمل الدقيقة الواحدة، تيقنت أنّ جهاز التعقب لن يلتقطه قبل أن يتمّ دقيقة كاملة، مما يؤكد لها شكوكها بأنّه على علمٍ بقصة جهاز التعقب.

رمت الهاتف على مقدمة السيارة أمامها نافخةً بسأم، إن كان يظنّ الخفاش بأنها قد تستسلم بهذه السهولة فهو مخطئ للغاية، لإنها ستنتقل باللعبة إلى المستوى التالي وقبل أن يشعر حتى، أغمضت عينيها بتعب لتسند رأسها إلى المقود قبل أن تجفل فجأةً عندما سمعت طرقات متلاحقة على الجانب الآخر من سيارتها، تطلعت صوب أويس الذي أشار لها بأن تفتح له الباب، زفرت من أنفها بضيق وهي تنزل النافذة لتحدثه أثناء تطلعها للأمام غير آبهةٍ به: ماذا تريد؟

افتحي الباب مياس.
أجابها بغضب مكتوم محاولا فتح الباب عنوةً، ناظرته بعدم رضى لتفتح القفل تالياً ويصعد أويس مغلقاً الباب بقوة، أدار جسده إليها متسائلا: الخفاش؟
عقدت حاجبيها وهي تلتفت نحوه ليعقب بتوضيح: هو من كنتِ تحادثينه منذ لحظة؟
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء، لاريب أنه شاهدها تحادث أحدهم في الهاتف، تطلعت إلى الأمام قائلة بلا مبالاة: ما شأنك أنت؟

جزّ على أسنانه بضيق مردداً: شأني ذاته شأنك في هذه القضية مياس، ولا تنسي أننا فريق واحد.
رمقته بطرف عينها بنظرة سريعة، رغم أن الشك ناحيته تضاءل لكنها لن تستطيع الثقة به بعد، ليس بهذه السهولة، إشارة سريعة بالإيجاب عززتْ شكوكه ليسألها من جديد باستجواب: مالذي كان يحاول إثباته بظهوره بهذا الشكل؟
تبسمت بسخرية مجيبة بتهكم لم تخطأه أذناه: يحاول إخبارنا بأننا أغبياء، لكن بطريقة متحضرة.

صرّ على فكه بقوة ناطقاً من بين أسنانه: هذا ليس وقت التهكم مياس.
أدارت نفسها إليه بشبح عصبية في قسماتها، صاحت بأنفاس متلاحقة ونبرة سريعة: وانا لا أسخر لأن هذه هي الحقيقة للأسف، منذ أسبوع ونحن لانفعل شيء سوى تلقي ضربات الخفاش واحداً تلو الآخر دون القدرة على الرد، بينما نحن منشغلون بالصيد.

نطقت آخر كلماتها بتهكم التقطه أويس بسهولة وقدأدرك أنه المقصود بحديثها، لم يعرف بما يجيبها فأدار وجهه عنها لتفعل المثل زافرةً بامتعاض، سادت لحظات من الصمت المشحون قبل أن يقطعه هو قائلا بجمود: والآن، على ماذا تنتوين؟
زفرت مجدداً بقوة أثناء إجابتها الباردة: لا شيء.
ضيّق عينيه بتفكير، يستحيل أن تكون الذئب من يصدر عنها تلك الكلمة، تطلع صوبها يسألها باستفهام: ماذا تعنين بلا شيء؟

حركت رأسها بالسلب مدعيةً بهدوء مفاجئ: أعني انني لا أعرف مايجب فعله الآن.
قطب جبينه بعدم تصديق لثوان، مالبثت أن بهتت ملامحه عندما استوعب مقصدها الحقيقي خلف تلك الكلمات، نطق أويس بدهشة حقيقية: أنت لا تثقين بي؟!

بطرف عينها منحته نظرة عابرة فأدرك أنه أصاب كبد الحقيقة، سيطر الذهول عليه للحظات قبل أن تقتحم قسماته سخرية مريرة، قهقه عاليا بتهكم وهو يحرك رأسه بعدم تصديق، أخفض نظراته حتى هدأت سخريته و عضّ على شفته بغيظ يتمايز داخله، رفع مقلتيه التي أدمعت إثر ضحكته المريرة متطلعاً أمامه لبضع ثوان قبل أن يقول بتهكم بائس: أتعلمين، معك حق، فعلا معك حق.

رفع كتفيه بلا مبالاة ليلتفت نحوها في اللحظة التالية مضيفاً بنبرةحملت معانٍ مختلفة من خيبة الأمل: من أنا لتثقي به؟ مجرد رجلٍ غبي لاينفع بشيء.

بطريقة غير متوقعة شعرت بالذنب يتآكلها لدرجةٍ استغربتها هي ذاتها، تطلعت إليه بآسف لتجده متطلعاً أمامه وقد بان على قسماته حزن مختلط بغضب، كان أويس صادقاً في كل حرف نطقه حتى باتت متيقنةً أنه ليس الجاسوس المقصود، لكنها لن تعترف بهذه السهولة، فتحت فمها لتتحدث علّها تهدئ نوبة غضبه إلا أنه قاطعها وهو يفتح الباب لينزل ويصفعه بقوة أغمضت عينيها على إثرها، راقبته وهو يدبّ الأرض بغيظ وكمد عائداً إلى رفقائه، عبست ملامحها بضيق حقيقي فنفخت من فمها لتدير سيارتها، مستغلةً انشغال الجميع لتقوم بخطوة ستضرب الخفاش في مقتل، فقط لتنجح...

ربما معها حق؟
لا يعلم، لكنه شعر بغضبه يسيطر عليه بسبب حديثها اللاذع، وأفكارها المجنونة، عاد أويس إلى المطعم ليتابع استجواب جميع العاملين فيه، لاحظ طارق وجه رفيقه العابس فتساءل بشك: ما الأمر أويس؟
ا
أشار بالسلب دون حديث فتابع طارق أسئلته الفضولية: هل طرأ أمر جديد؟
يدرك جيداً أن طارق لن يتركه لسبيله فأجاب باقتضاب محاولاً التماسك: لم يحصل شيء طارق.

بعدم اقتناع هز طارق رأسه، استدار قبل أن يعاود الالتفات على نداء أويس الذي أردف: أريد رساماً.
للوهلة الأولى لم يفهم مقصده فأضاف الآخر بتوضيح: قد نستطيع الحصول على صورة للخفاش لذى نحتاج إلى رسام حالاً.
حرك رأسه بالإيجاب ليبتعد عن الجمع المجتمع قليلا، فيما تحدث أويس مخاطباً صلاح وإيهاب: استجوبوا جميع العاملين هنا ممن اختلط به، أقل تفصيل قد يفيدنا.

دون حديث هز الرجلان رأسيهما، فيما بقي أويس وحيداً يحاول إثناء عقله عن التفكير في حديث مياس، ألهذه الدرجة لا يستحق أنّ يكون محل ثقة؟
انتبه الى صوت عجلاتٍ تتحرك مسرعة فوق الطريق، التفت ليرى دخان سيارتها وقد ولّت بعيدا، لا يعرف لماذا أخذه عقله ليتبعها بنداء جريح ولا يعرف لماذا باتت تزوره كل ليلة تقريبا في أحلامه، لماذا؟
ألا يكفيه وجودها في حياته اليومية وقصفها لجبهته باستمرار؟

نفخ بسأم من تفكيره اللامنطقي، منذ فترة أسبوع تقريبا كان لا يطيق سماع اسمها ناهيك عن تواجدهما معا في غرفة واحدة، أما الآن عقب رحيلها هناك شعور بالفراغ القاتل يحتلّ كيانه، مسح على شعيراته القصيرة نافضاً تلك الأفكار المتخبطة عن رأسه ليعاود العمل، علّه يقبض على الوطواط وترحل تلك المياس فترحل معها كل مشكلاته؟!

مع ساعات الفجر الأولى وكما اعتاد، كان كمال يتأهب للخروج إلى صلاة الجماعة في المسجد، ثم إلى الجبل ليبحث عن عدي الهارب، أغلق أزرار معطفه الشتوي ليسمع جلبةً في الخارج، أدرك أنّ أهل منزله قد استفاقوا للصلاة، قطب جبينه وهو ينحني ليحمل مسدسه المرخص، وضعه في الجعبة المخصصة له ليخرج عقبها من الغرفة التي اعتاد البيات فيها منذ انتهت أيام العزاء، كان باب الغرفة قريباً من الباب الرئيسي للمنزل مما يتيح له الخروج والدخول دون أن يرى أحد تقريبا.

كانت سعاد تسكب الماء على يديّ الحاجة رائدة لتتوضأ الأخيرة عندما سمعت كلتاهما صوت إغلاق الباب الكبير، رفعت سعاد ظهرها لتتطلع صوب الباب بمقلٍ تترقرق بالدمع لاحظتها رائدة بسهولة، تنهدت بثقل لتسألها بصوت هادئ: أما زال يبيتُ لوحده في تلك الغرفة؟

تطلعت كنتها صوبها محاولةً مداراة دموعها فأشارت لها بالإيجاب ثم عادت إلى عملها، ناولتها المنشفة القطنية بعد انتهائها لتجفف رائدة وجهها ويديها، وانحنت سعاد لتملأ الإبريق الخاص بالوضوء لنفسها من البركة التي توسطت صالة المنزل الكبيرة، رفعت رأسها بغتة ليعصف بها الصداع من جديد فانفلت الإبريق منها على الأرض محدثاً جلبة عالية، تهاوى جسدها لتسند نفسها بالإجبار وساعدتها رائدة على الجلوس على الكرسي القريب وسألتها بلهفة: مابكِ ياسعاد؟

أنينٌ خافتٌ صدر عن سعاد وهي تشعر بأن رأسها قد ينفجر بين لحظةٍوأخرى، في هذا الوقت كانت أروى تهبط الدرجات بتهادٍ عندما لاحظت وضع والدتها المريب، تحولت خطاها إلى الجري هاتفةً باسم أمها بلهفة حتى غدت أمامها فسألتها بتلهف: أمي هل أنتِ بخير؟
حاولت سعاد اصطناع بسمةٍ صغيرة لم تصل إلى عينيها أثناء إجابتها لابنتها بهمسٍ غلب عليه الإجهاد: أنا بخير حبيبتي لاتقلقي.

لم تصدق جملة أمها بالطبع، تطلعت إلى جدتها التي حاولت تفادي أسئلتها وهي تقول لسعاد بلوم: أنتي لاتهتمين بطعامكِ جيداًوانظري إلى النتيجة؟!
انطلت كلماتها المتوارية على أروى التي ركعت أمام كرسيّ سعاد لتمسك بكفها وتقبله باكية، مسحت سعاد على شعرها بحنان ثم نظرت إلى رائدة برجاء، ربتت الأخيرة على كتفها بمواساة ثم سمعت أروى تتحدث من بين عبراتها: أرجوكِ أمي اهتمي بنفسك وصحتك، لا سند لي في هذه الدنيا سواكِ.

أجابتها رائدة بحنوٍّ لم يخلو من المزاح: أمك بخير ياعزيزتي، ثم أين ذهب والدكِ؟ أليس هو سندكِ أيضاً؟
رفعت أروى عينيها الدامعة إلى جدتها لتقول بنبرة متأثرة: أبي لم أراه منذ عشرة أيام كاملة ياجدتي، بعد وفاة أخي كل شيء في هذا المنزل تغير، حتى والدي تغير.

ارتمت في حضن سعاد لتجهش بالبكاء بصوتٍ مسموع في حين ارتسمت الدهشة والذهول على وجه سعاد، التي رفعت رأسها إلى رائدة لتجدها لاتقلّ ذهولاً عنها، في حياته كلها لم يبتعد كمال عن عائلته بهذا الشكل، والآن بعد وفاة ورد ابتعد بدل أن يكون قريباً منهما فيواسيهما وهما الضلعان القاصران، تعرف مدى احتياج كلتاهما لوجوده في هذه الظروف العصيبة، المنزل الكبير سينهار إن لم يسنده كبيره.

شاركت سعاد ابنتها بكاءها فشملتهما الحاجة رائدة بنظرة متعاطفة، ثم تركتهما متجهةً إلى غرفتها للصلاة، وقد اعتزمت أن تحادث كمال في أقرب وقت، لا يصحّ أن يترك نساءه دون سند...

دلف أويس إلى غرفة المكتب المشترك وفي يده ورقة ما، ألقى بجسده فوق كرسيه زافراً بغيظ، استند بظهره الى الكرسي مقابلاً السقف، عاد لتوّه مع الرسم التقريبي الذي استطاع رصده لملامح الخفاش يوم حضر الى المطعم بمساعدة الرسام والشهود، بحث مع صلاح في قاعدة المتهمين المشتبه بهم لكنهم لم يجدوا أي تطابق، حتى خلص إلى نتيجة مفادها أن الخفاش كان متنكراً، فرك عينيه بتعب حتى شعر برأسه يكاد ينفجر من فرط التفكير.

اعتدل في جلسته ليرفع الرسم بين يديه، تأمل ملامح الخفاش الباردة، رغم تأنقه وكلامه المعسول كما قال مدير المطعم، و الذي خُدِعَ بسهولة بحديثه فقبل أن يتمّ فحصه قبل أن يعمل بشكلٍ نظامي في المطعم، وهكذا فلم يقدم الخفاش أي أوراق ثبوتية، حتى أنه كان يرتدي القفازات الخاصة بالنُدُل الذين يعملون هناك وبالنتيجة لم يحصل على أية بصمات أو أي شيء ذو فائدة.

كان شارداً في الورقة أمامه فلم يلحظ مياس التي وقفت تطالعه عند الباب، منذ آخر لقاءٍ بينهما لم يتحادثا رغم أنهما يعملان في ذات المكتب، لكنها تدرك أن ماحدث قبل ليلتين لن يمرره أويس بسهولة، في ذات الوقت تشعر بالذنب حياله فعمدتْ الى قطع الشكّ باليقين، ستختبره في مهمةٍ صغيرة، إن نجحت ستستثنيه من قائمة المشتبه بهم، وإن باءت بالفشل سيكون هو إذاً جاسوس الفتنة.

نفخت من فمها بخفة لتتقدم مستغلةً عدم تواجد أي أحد معه في الغرفة، خبطت بيدها على سطح مكتبه فأجفل أويس ورفع نظره المندهش إليها، طالعها بثيابها السوداء فعادت للخلف خطوة واحدة وملامحها مغلفةٌ بالكبرياء، وضعت كلتا يديها في جيبي سروالها ثم أشارت بعينيها إلى الورقة الصغيرة التي أودعتها فوق الطاولة، قطب جبينه بذهول وهو يلتقط الورقة ليقرأ عنواناً ما قد دوّن بها، أعاد نظره إليها بتساؤلٍ فقالت بنبرة حملت معها إباءها: في هذا العنوان صيدٌ ثمين، جهّز نفسكَ مساءً.

رفرف بأهدابه بعدم فهم ليسألها بجمود: لم أفهم؟ من أين جلبتي هذا العنوان؟ ومن هو الصيد الثمين؟
عقدت حاجبيها بعدم رضى لأسئلته الكثيرة فأجابت بعجرفةٍ مفرطة: اسمع لا تسأل كثيراً، أخبرتك أن تجهز نفسك فلتنفذ الأمر دون نقاش.

احتدّت تعابيره لكنها لم تمهله فأدارت ظهرها لتخطو خارجة من المكتب بأكمله، عاد ليطالع العنوان وقد عرف المكان تقريباً، لم يشعر بها إلا وقد عادت لتسحب الورقة من بين يديه بغتةً، طالعها بذهول لتخبره بنبرة صارمة: سأبقي هذه معي.
توسعتْ عيناه وهو يستمع لأوامرها، كاد يعترض لكنه قبل أن يفتح فمه عادت لتقول بحزم: ولا تخبر أحداً بما دار بيننا، وأيضاً لا تتأخر وإلا سأستغني عن خدماتك وأذهب وحدي.

غادرت عقبها فعلياً فلم تترك له الفرصة ليردّ اعتباره، راقبها تختفي من أمامه محاولاً الحفاظ على لسانه قبل أن ينزلق بسبةٍ بذيئةٍ في حقها، صرّ على فكه بقوة ليهمس أخيراً بغيظ: أحياناً أشكّ أنكِ الخفاش.
صمت لثانية ثم صاح بصوتٍ أعلى وصبرٍ نافذ: بل أنت خفاش أسود...

الأيام تجري مسرعةً ولا تنتظر أحداً، عجلة الحياة مستمرة بالدوران ولم تتوقف عند حزن سعاد الثكلى، اليوم مرّت عشرة أيامٍ كاملة على وفاة ورد الغالي، وأباه الحبيب لم يزل يبحث عن قاتله ليأخذ جزاؤه العادل، لم يفكر كمال سوى برغبته بأخذ الثأر لابنه الوحيد، فلم يشعر بابتعاده عن عائلته وهجره لهم، حتى أصبح المنزل بالنسبة له كالفندق يخرج منه فجراً ولا يأتيه إلا منتصف الليل.

لم يفكر في مشاعر زوجته الثكلى ولم يواسيها كما كان يجب، ولم يشعر بتفكيرها الذي انحرف إلى أمر آخر.
عقدت سعاد ذراعيها وهي تقف أمام النافذة الزجاجية تنتظر ظهور زوجها الغالي، والذي لم يعد بعد من رحلة الصيد الثمين، ربما عليها أن تعتاد أمر تأخره في العودة، أو حتى غيابه لليالٍ طوال، فهي قد أيقنت بصحة جملة أروى، منذ وفاة وحيدها كل شيء سيتغير، أو ربما هي من ستسعى لتغييره...

جلبة خفيفة لفتت انتباهها لتتطلع إلى كمال الذي أوقف سيارته للتوّ، شهقت نفساً عميقاً وقد انتوت محادثته في أمر هام الليلة، ربما التوقيت غير صالح لكنها تحاول استغلال الوقت المتاح لها، فألم رأسها مازال يعصفُ بها بقوة، وأمر آخر أيضاً جعلها موقنةً بأنها على حوافّ اليأس...

ترجل كمال من السيارة لتقع عينه على نافذة غرفته الخاصة فلاحظ الستارة تتحرك خلف النافذة، فضلاً عن النور الصادر منها فأيقن أنّ زوجته مازالت مستيقظة، زفر من أنفه بانزعاج لأجلها ثم حثّ خطاه ليدلف إلى المنزل بحرص معتقداً بنوم الجميع عداها، لكنّ النور الذي عمّ الصالة المعتمة فجأة جعله يتصلّب مكانه، خاصة بعدما تعرف على والدته التي كانت تجلس في الزاوية باعتداد قلّ نظيره، ظهرها منتصب وعكازها أمامها مستندةٌ عليه بيدٍ واحدة، حدجته بنظرات قوية فزوى مابين حاجبيه ليحثّ خطاه نحوها قائلا باستغراب: أراكِ مستيقظة يا أمي؟ ما الأمر؟

كانت سعاد قد لفّت حول كتفيها شالاً صوفياً ثقيلاً تحتمي به من غدر البرد، اتجهت لتخرج عندما تجمدت يدها على مقبض الباب قبل أن تفتحه عندما سمعت سؤاله، تغضن جبينها باستغراب سرعان ما أيقنت أنّ الحاجة رائدة تنتظر كمالاً لتحادثه، اقتربت لتضع أذنها على الباب، على غير العادة، فتستمع لحديثهما..

وصل أمامها مباشرة عندما نطق آخر كلماته إلا أنها لم تجبه، بل ظلّ وجهها جامد التعابير مما دفعه لينحني راكعاً على الأرض أمام كرسيها مضيفاً: أجيبيني يا أماه؟ هل تشتكين من شيء ما؟
لا أشتكي إلا منك.

أتته إجابتها الجامدة التي جعلت مقلتيه يتوسعان عن آخرهما، ماكاد يفتح فمه ليردّ حتى قاطعته وهي تنحني لتقبض بكلتا يديها على عكازها، واجهت وجهه المستغرب بملامح غامضة لتعقب بلهجة حازمة: ما الذي تفعله بنفسك وعائلتك ياكمال؟
لم يفهم ماتقول حتى أضافت: منذ وفاة ورد وأنت تبتعد عن زوجتك وعائلتك أكثر دون أن تشعر.

انتصب واقفاً وقد انقلبت تقاسيمه إلى الجمود فيما تابعت الحاجة رائدة توبيخها اللاذع: تخرج كل يوم من الفجر ولاتعود حتى منتصف الليل...
قاطعها بنبرة باردة اثناء التفاته للخلف ليوليها ظهره: أنا أبحث عن قاتل ابني يا أمي..
صاحت امه بتشنج: هذا لايعطيك العذر لإهمال عائلتك.
جزّ على فكه بقسوة في اللحظة التالية التفت صوبها وعلى وجهه علامات الاستنكار حينما عقبت الحاجةرائدة: أنت تعذب ابنك في قبره ياكمال.

تجهمت تقاسيمه وقَسَتْ وهو يصيح باستهجان: أنا أعذب ابني؟ أنا أبحث عن قاتله ليل نهار لأريحه ليس لأعذبه ياأمي..
ردت رائدة بقوة أخرسته: لكنك أهملتَ من يحبهم ابنك، وبهذه الطريقة أنت تعذبه أكثرمن تركك لثأره.
سقطت ملامحه بدهشة من حديث والدته الذي بدى خارجاً عن المألوف، فيما تابعت الحاجة رائدة حديثها بنبرة أهدأ متسائلةً: هل واسيتَ سعاد مذ مات ابنها؟ هل جلستَ معها واستمعت لشكواها؟

عاد كمال راكعاً عند قدميها وتعابيره القوية تلاشت ليحلّ محلها أخرى حزينة، أجاب سؤالها بخزيٍّ وقد تعلقت نظراته بالأرض: لم أفعل ياأمي.
سكت للحظة ليتحكم بانفعالاته قبل أن يعقب بخزيّ يتلبسه: لا أستطيع رفع عينيّ مقابلها، لقد وعدتها أن ورداً سيكون بخير لكني لم أفِ بوعدي.

أغلقت سعاد مقلتيها ببطء لتسقط عبرةٌ منهما، ابتلعت غصتها التي حرقت حلقها حين استمعت لتلك الكلمات، كم تمنت لو أنّ كمال يأخذها بين يديه ليخفف عنها حزنها وألمها على وحيدها، لكنه لم يفعل، ببساطة هرب بحزنه دون أن يشاركها الجرح الذي يجمعهما.
رفع كمال رأسه إلى أمه فترى مقلتيه اللامعة ليعقب مسرعاً: لهذا أردتُ أن أمسك بعدي الكلب، لأقتله أمام عينيها علّها تشعر ببعض الراحة.

رفعت رائدة كفها المجعد لتحاوط وجنة ابنها الخشنة قائلة بنبرة حنون لكن حاسمة: هل تظنّ أنكَ هكذا ستريحها؟ أخبرني، حين تجدُ عدي هل سيسلمك نفسه هكذا؟
قطب جبينه بعدم فهم في حيت أضافت رائدة مجيبةً بنفسها على سؤالها: لن يسلمك نفسه بسهولة، بل سيدافع عن نفسه بشراسة...
قاطع حديثها بهدوء يخبرها: لقد أخذتُ احتياطاتي كاملة.

أشارت برأسها لتعقب: هذا ليس كافياً أبداً، ومن يعلم؟ربما هو ذاته من يسعى خلفك ليغدر بك كما غدر بورد من قبلك، فماذا أنت فاعل حينها؟
رفرف كمال بعينيه وقد شعر بأن كلام والدته غير مفهوم بالنسبة له، تابعت رائدة كلامها الموزون قائلة بهدوء جاد: أعلم مايجول في عقلك ومايضطرم في صدرك من نار حارقة، لكن فكر ياكمال، فكر في زوجتك وابنتك، لا أحد لهما سواك..

عقد جبينه مقاطعاً إياها باستنكار: ألا أفكر فيهما؟ ألا أريد أن اقتل ذلك الوغد من أجلهما هما؟ أم تريديني أن أترك ثأر ابني وادعَ قاتله يهرب بفعلته الحقيرة؟
تنهدت رائدة بحسرة وقد أصابت كلمات ابنها وتراً حساساً لديها، تعلم أنّ نار كمال لن تهدأ حتى يقتل عدي، لكنها تخاف عليه من غدر القاتل، ربتت على كتفه مجيبة بوقار: صدقني يابني أنا لا ألومك أبداً، لكن لا تنسى عائلتك ولا تهملهم.

أرخى رأسه إلى الأسفل مدمدماً بخفوت: لا استطيع أن أنسى ابني ياأمي...
قاطعته رائدة بنبرة ثابتة قاطعة: لا أحد سينساه ياكمال، لا أنت ولا أنا ولا حتى أمه، كان ضياء هذا البيت وأساس سعادته.
رفع عينيه إليها ليردّ باستياء: كيف تريدينني أن أترك قاتله إذاً؟
لم تزلْ رائدة محافظةً على ملامحها الجادة أثناء إجابتها سؤاله: لا تتركه، ارفعْ قضيةً ضده والقانون سيجلبه عند قدميك.

كاد يفتح فمه لتعقب قبله: أعرف ماستقول، لكني أنصحكَ ياكمال فكر في مستقبل عائلتك، لا تدع وفاة ورد تأخذكم من بعضكم، أنت ملهيٌ طوال اليوم خارج المنزل، لا ترى زوجتك وهي تموت ببطء، ولا تلاحظ ابنتك الوحيدة وهي تذوب كالشمعة، وفاة ورد يجب أن تجمعكم لا أن تفرقكم.

مسّت كلمات أمه داخله لتفتح عينيه على صورة الحياة بُعيد مقتل ابنه الوحيد، أحنى رأسه للأسفل وعينيه تحرقهما الدموع، ماتطلبه أمه محال لكنه لايستطيع مخالفتها، لذا قرّر أن يريحها ويريح نفسه في ذات الوقت.

ازدرد ريقه بصعوبة ونهض بتثاقل متجهاً نحو الغرفة التي اعتاد أن يبيت فيها منذ تلك الليلة المشؤومة، لكنّ باب غرفته الذي انفتح بسرعة أوقفه ليتطلع صوب سعاد التي خرجت بهدوء، ويديها تضمهما إلى صدرها وعلى كتفيها شالها الصوفي، شعرها الناعم مشعثٌ ليس كما اعتاد أن يراه مرتباً، وجهها منهكٌ وعبراتها المتألمة تترقرق بانسياب بطيء، أيقن أنها سمعت حديثه مع والدته فجال بعينيه على جسدها الذي غدى هزيلاً أكثر من العادة، لايعلم مالذي آلمهُ أكثر أمنظرها المزري أم عبراتها القاتلة؟

حاولت سعاد التحدث لكنها لم تجد صوتها الذي اختفى فجأة، ارتجفت شفتيها فأدرك كمال ماتريد من نظرة عينها، تنهد بثقل وحثّ خطاه نحو شريكة القلب والروح بخطوات هادئة، لكنها كانت أثقل على قلب سعاد من الجبل، وقف أمامها وعينا الحاجة رائدة تراقبهما بحنان، رفع يده ليمسح دموعها فارتعش جسدها من لمسته الدافئة وأغمضت عينيها، عادت لتفتحهما وفيهما التمع حديث طويل، طويل جداً، شدها إلى صدره بقوة فأجهشت بالبكاء مما جعل كمال يغمض عينيه بحزن هامساً بجانب أذنها: آسف، آسف ياسعادتي، آسف.

لم تكن سعاد تحتاج إلى أكثر من هذا العناق، فقط أن يحتويها كما اعتادت أن يفعل دائماً، في ابتعاده عنها شعرت بالبرد كأن ظهرها كان مكشوفاً، هو حِصنها ومؤتمنها ولا تريد سواه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة