قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع عشر

(((ساذجة هي، تعلمت الحبو لتوّها لتخطو في دروب القلب، لم تعرف أبداً بأنه متاهة، وفي المتاهة إما أن تصل بوابة الخلاص، أو تقع ضحية للفخ الكبير. ))).

لم يكره في حياته أكثر من تلقي الأوامر من أيٍّ كان، خاصة إن كانت امرأة، لكن مياس بها أمرٌ غريب يجعله يتبعها وينفذ أوامرها دون أدنى إرادة منه، حقاً لا يدرك السبب لكنه في جزئية ما سعيد بفعله ذلك رغم إنكاره الدائم.

قابعٌ في سيارة مياس ينتظر وهي بجانبه منذ أكثر من ساعتين، رغم تدفئة السيارة لكنه يشعر بالبرد يتسلل الى عظامه، ليس بفعل برودة الطقس بل لإنه جالسٌ بانتظار حدوث مايجهله، رمقها بزاوية عينه ليجدها تدقق النظر فيما أمامها، مبنىً ضخم بدى كما لو أنه ملهىً ليليّ، لكن مياس ركنتْ سيارتها في الجانب الخلفي من المبنى، بعيداً عن الباب الخلفي الصدئ الذي يحرسه رجلان بمسافةٍ تتيح لهما رؤيتهما بوضوح دون أن يُكتشف أمرهما.

ضاق ذرعاً بانتظارهما الذي بدى بلا نهاية فهتف بامتعاض خالطه بعض التهكم: هلّا تكرمتي عليّ وتخبريني مالذي ننتظره إلى الآن؟
أشارت له بالصمت دون أن تتطلع صوبه، فزاد غيظه منها ليهتف من جديد: أنا أحادثكِ مياس أجيبيني لو سمحتِ؟
ضيقت مابين حاجبيها بتركيز تراقب حركات الرجلين من الزاوية المعتمة حيث أوقفت سيارتها، نظرت إلى ساعة يدها الجلدية وخاطبت أويس بأمر: اصبر وكن جاهزاً.

طالعها بدهشة فلم تعبأ به، ثبتت نظراتها على الساعة وبدأت العد بهمس: خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان...
رفعت أنظارها إلى مكان الحارسين فلاحظت تأهبهما للتبديل، همست تحادث الذي كان جالساً بجانبها كالجالس على مرجلٍ ناري: حضرْ سلاحك وترجل ببطء.

لم تنتظر رده لإنها ترجلت بالفعل محاولةً عدم إصدار أي صوت، رفع أويس رأيه للأعلى مغمضاً عينيه ونافخاً بامتعاض، ثم فعل مثلها ليهبط جالساً على الأرض منتظراً أوامرها، فلاحظ تسللها بخفة خلف إحدى صناديق النفايات وأشارت له بأصبعها بأن يتبعها، استدار من خلف السيارة ليغدو بجانبها ثم تسللا بجانب الحائط حتى وصلا قريباً من الباب، فسمعا أحد الرجلين يخاطب رفيقه وقد بدى عليه التعب: دعنا نرحل وسيأتي الأحمقين بعد قليل.

تلفت الرجل الآخر حوله يطالع الطريق المهجور تقريباً ليجيب رفيقه أثناء نفخه في يديه لتدفئتهما: لا أعلم، لستُ مرتاحاً لمغادرتنا كل ليلة قبل أن يأتي الآخران.
كان الأول قد وضب سلاحه في مكانه المخصص قائلاً: لا داعي للقلق في كل مرة نرحل ولا أحد يشعر بنا.

كاد الآخر يعترض قبل أن يقاطعه الأول وهو يلفّ ذراعه حول رقبته ليجيبه أثناء إجباره على التحرك: لاتكن جباناً يارجل قلتُ لك سيأتي كلاهما بعد لحظات، فلا داعي للانتظار.
دفعه ليتحرك كلاهما في الاتجاه المعاكس لمياس وأويس، الذي عقد جبينه ليسأل مياس بهمسٍ مستغرب مراقباً الرجلين وهما يبتعدان: هل اتفقتِ مع أحد الحراس؟

أشارت له نافيةً دون أن تزحزح عينيها عن البوابة المفتوحة: لا، لقد كنتُ أراقبهما منذ فترة، وفي كل مرة يتركان مكانهما قبل أن يحضر البدلاء.

أنهت جملتها الهامسة ثم تحركت ليتبعها أويس فدخلا من الباب الحديدي ليقابلهما ممرٌ قصير مضاء بإنارات خافتة وفي نهايته باب صغير، ولج كلاهما إلى الباب الصغير ليجدا الحمامات الخاصة بالرجال وممرٌ آخر، بدى المكان كالمتاهة بالنسبة إلى أويس الذي لم يفهم مالذي يفعلانه ولمَ، كانت مياس تخطو بخفة وصمت تام عندما نطق أويس بنفاذ صبر أثناء لحاقه بها: هلّا أخبرتني فعلاً مالذي نفعله هنا...

قطع حديثه حين اصطدم بها وقد توقفت بغتةً، تغضن جبينه بغرابة فهتف بصوتٍ عالٍ نسبياً: لماذا توقفتِ؟
ششششش اصمت.

هكذا أجابته وهي تمدّ رأسها بحرص لتنظر من خلف الجدار الذي وقفت خلفه، بدت كأنها تتلصص على أحدهم فلم يرضَ أن يبقى كالأصمّ في حفلة عرس، تقدم إلى جانبها لينظر حيث تنظر هي ليجدَ شاباً مسلحاً، لاحظته بزاوية عينها يتلصص فأرجعته للخلف ضاغطةً على صدره لتوبخه بغلظة من بين أسنانها: ألا تستطيع كبح فضولك لبعض الوقت؟

صرّ على فكه قبل أن يتشدق بهمس ساخر: ربما لو تكرمتِ بإخباري لأفهم لماذا نتسلل إلى ملهىً ليليّ من بابه الخلفي كالسارقين لكبحتُ فضولي!
لم تهتمّ لما كان يقوله بل أخرجت من جيب سروالها الخلفي ماسورةً بلاستيكية رفيعة خاصة بشرب العصائر، ومعها إبرة رفيعة على شكل سهم مملوءة بسائلٍ أبيض لتدخلها إلى الماسورة، تابع أويس حديثه باستغراب فضولي: مالذي تفعلينه الآن؟

رفعت حاجبيها أثناء إجابتها سؤاله بنبرة واثقة: ستشاهد عرضاً حياً عن الصيد في الغابات.
زادت عقدة حاجبيه وهو يشاهدها تشرأب بعنقها قليلاً ثم نفخت في الماسورة لتضرب عنق الرجل الذي كان ملهياً بهاتفه بنجاح جعلها تبتسم بتفاخر لتهمس لأويس: انظر كيف يصطادون الدببة..

زفر بنفاذ صبر ليتقدم خطوة ويمدّ رأسه ليشاهد الرجل يفرك رقبته بجنون كأنّ حشرةًما قد لسعته، ثوانٍ قليلة حتى وجد الإبرة المُخدرة ليسقط عقبها مغشياً عليه، كان أويس يراقبه باهتمام تحوّل إلى دهشة عارمة عندما استوعب فعلة مياس الماكرة فهمس بعدم تصديق: لقد خدّرته!
تحركت من أمامه بخيلاء أثناء إجابتها الواثقة: هكذا تُصاد الدببة البنية، دون قطرة دم واحدة.

رفرف بأهدابه ومقلتيه مُسلطةٌ على جسد الرجل الذي افترش الأرض مجبراً ليهمس باستسلام: صيد دببة! لم لا؟

هتف يسألها قبل أن تبتعد عنه أكثر وقد نفذ صبره حقاً: مياس أخبريني أين الصيد الثمين الذي أخبرتني عنه؟ لإني فعلاً لا أفهم شيئاً!
توقفت مجبرةً لتلتفت صوبه زافرةً بثقل، ثم تحدثت تجيبه لتتخلص من فضوله وزنّه المتواصل: نحن الآن على وشكِ مقاطعة عملية بيعٍ لقطعة أثرية نفيسة، أي أننا سنلقي القبض على الوسيط والشاري معاً.

توسعت عيناه بصدمة مما سمع فعقبت مياس بملامح جادة غير مازحة: ومن يعرف؟ ربما نصل إلى الخفاش نفسه.
تحركت عقبها تاركةً أويس بصدمته مالبث أن استفاق ليلحق بها مواصلاً أسئلته التحقيقية: وكيف عرفتِ المكان والزمان؟
وضعت يدها على المقبض الحديدي لترمقه بنظرة غير راضية دون أن تجيب، ثم فتحت الباب فجأةً ليظهر خلفه رجلٌ ما وأمامه الكثير من الشاشات، وعلى مايبدو أنها غرفة المراقبة.

ارتعب الرجل المراقب لمرآى الدخيلين الغرباء، كاد يضغط على زرِّ الإنذار الأحمر أسفل مكتبه قبل أن توقفه مياس التي رفعت المسدس في وجهه قائلة بتهديد جديّ: إياك أن تفعل.
أوقف الرجل يده قبل أن يضغط الزر لتعقب مياس: قف من مكانك وأظهر يديك.

استقام الرجل واقفاً ببطء رافعاً كلتا يديه للأعلى وقد ارتجف جسده لمنظرها غير المازح، ازدرد ريقه بصعوبة وهو يرى أويس يتقدم نحوه ليكبل يديه خلفه، في حين مرّرت مياس نظرها على الشاشات الكثيرة أمامها تبحث عن مكان الالتقاء المرتقب، إلا أنها لم تجدْ سوى بثّ مباشر من الملهى الليليّ من عدة زوايا، لاحظت شاشة واحدة مطفأة فسألت الرجل وعينيها على الشاشة: لمَ هذه الكاميرا مُطفأة؟

تلجلج الرجل في إجابته ليقول بتذبذب: إنها معطلة.

رمقته بنظرة أظهرت عدم تصديقها لما قال، فتحركت حتى باتت بقربه وتعلقت عينيها على لوحة المفاتيح أمامه، ضغطت على رقم الشاشة المغلقة لتُفتح فوراً على غرفة مغلقة فيها أربعة رجال جالسين حول طاولةٍ ما، أمام أحدهم حقيبةٌ سوداء مغلقة، وأمام آخر وُضعت القطعة الأثرية التي من المفترض أن يتمّ بيعها، كذلك وقف آخرون بدت هيئتهم كالحراس الشخصيين، ارتسمت ابتسامة صغيرة على طرف شفتيها وهي تحادث الرجل بنبرة شابها بعض السخرية: سبحان الله! أرأيت؟ بلمسة زر تم إصلاحها...

ارتعش جسد الرجل هلعاً خاصة مع تحوّل ملامحها إلى القسوة وهي تسأله بجدية: أين هذه الغرفة؟
حاول التهرب من الإجابة لكنّ يدُ أويس التي قبضت على مؤخرة رقبته ليهمس بقرب أذنه بهسيس: نصيحتي ألا تحاول المراوغة وإلا رأيتَ مالن يعجبك.
ابتلع الرجل ريقه الناشف بارتعاب شديد ثم أجاب بتوتر خائف: إنها مكتب المدير، الغرفة في آخر الرواق، قرب الدرج.

أشارت مياس بتفهم وقد عرفت مكان الغرفة المقصودة، ولم يشعر الرجل إلا بقبضة حديدية تضرب مؤخرة رأسه فسقط مغمىً عليه، قلبت مياس شفتيها بإعجاب لتعقب: غالباً ما أرفض طريقتك العنيفة.
رفعت أنظارها إليه مضيفةً ببسمة لطيفة: لكنني أعترف أنك أعجبتني هذه المرة.
ابتسامة سعيدة شقت ثغره دون أن يشعر وقد داعبت جملتها الأخيرة وتراً حساساً داخله جعلت دماؤه تغلي فرحاً ولايعرف السبب حقاً.

لم تلاحظ هي ذلك فمدّت يدها إلى جيب سترتها الجلدية لتخرج هاتفاً جديداً استغربه، فلم يكن ذاته الهاتف الذي أعطته لصلاح يوم أن حادثها الخفاش، أجرت اتصالاً بأحدهم لتتلفظ بكلمات سريعة أنارت ذهنه وتفطن للقادم: لقد تمّ الأمر، أرسلْ أربعة رجال من الباب الخلفي، وليحرس البقية المكان.
أنهت اتصالها لترفع رأسها إلى أويس الذي تغضن جبينه ليهتف باستهجان: هل طلبتِ الدعم للتوّ؟

أشارت له بالإيجاب ليعقب مستغرباً: لماذا؟
أخفت الهاتف في جيبها وأعدت سلاحها أثناء إجابتها سؤاله بثقة عزّ نظيرها: لإنّك في الغالب ستواجه رجالاً يحرسون تلك الغرفة، ولا ريب أنهم مسلحين.
أنهت ماكانت تفعل لتواجهه من جديد مضيفةً: ولاتنسى الرجال في الداخل، مؤكدٌ أنّ أسلحتهم معهم.

أدارت ظهرها تاركةً على وجهه علامات الحيرة، لم يترك نفسه لشكوكه فتحرك ليقف قبالتها متسائلاً بإصرار كبير: أهناك من يعرف بأمر اقتحامنا الملهى غيرنا أنا وأنت؟
طبعاً.
خرجت إجابتها بجفاء كبير ليضيف باستغراب: لكنكِ أكدتِ عليّ ألا أخبر أحداً بالأمر؟
زفرت بغيظ مجيبة بصبر نافذ عندما سمعت صوت حركةٍ في الخارج: لإنّ فريق الاقتحام هذا ليس من ضمن فريقنا، والآن هلّا تفضلتَ لننلقي القبض على بعض الجرذان.

تحركت من أمامه فوراً تاركةً إياه وسط دهشة حقيقية، وكل أحداث الليلة المتتالية جعلت من عقله ساحة حرب دون أن يفقه شيئاً مما حدث ويحدث، نفض رأسه بخفة ليتبعها فوجدها تقف في الرواق تقابل رجلاً وسيماً لا يعرفه، كان الرجل مرتدياً سترة واقية للرصاص وفي يده بندقية آلية، وستر رأسه بخوذةٍ سميكة لها واجهةٌ زجاجية تغطي وجهه، وقف رائد أمام مياس التي سألته بخفوت: هل واجهتم أي صعوبات؟

رفع رائد سترة واقية للرصاص ليعطيها لها أثناء إجابته سؤالها بلا مبالاة: لقد تولينا أمر الحارسين خارجاً، لاتقلقي.
حركت رأسها بتفهم فشرعت بارتداء السترة الواقية، في حين تقدم رجلٌ آخر يرتدي زياً يشبه زي رائد ليقدم إلى أويس سترة واقية هو الآخر، ارتداها أويس بآلية فتقدم رائد ليهمس قرب أذن مياس: في العادة تؤدين المهام المماثلة لوحدك، لماذا أحضرتِ هذا الرجل معك؟

تطلعت إلى أويس بزاوية عينيها لثوان ثم أجابت بهمس غامض: لغايةٍ في نفس يعقوب.

قطب رائد جبينه بغرابة إلا أنه لم يسأل، بمجرد انتهائها وأويس من ارتداء السترة تحركت بتسلل لتشير للرجال خلفها بأن يتبعوها بهدوء، تقدمتهم إلى نهاية الرواق ليجدوا منعطفاً آخر، رفعت كفها المقبوضة ليفهم الرجال أمرها الصامت بالتوقف، مدّت رأسها ببطء لتلمح ثلاثة رجال يقفون خارج المكتب وكما توقعت تماما كلّ منهم يحمل سلاحه، أعادت ظهرها لتتكأ على الجدار رافعة ثلاثة أصابع ليفهم رائد العدد، أشار لرجلٍ قربه ليتقدم ويرمي قنبلةً دخانية غير سامّة، فتدحرجت القنبلة مثيرة للبلبة بين الحراس الثلاثة، وقبل أن يفهموا ماحصل كان الحراس طريحي الأرض على يد رجال رائد الذين تولّوا أمرهم.

تقدمت مياس لتقف قرب الباب الذي فُتِح فجأة، كان أحد الحرس بالداخل قد سمع ضوضاءً فخرج ليتأكد من الأمر، فاستقبلته مياس بضربةٍ على مؤخرة عنقه جعلته يسقط أرضاً، سحبه أحد رجال رائد بعيداً ليتولّى البقية أمر الاقتحام، كلّ شيءٍ كان سريعاً فلم يشعر الرجال في الداخل إلا بدخول الشرطة لتقبض عليهم، حصل تبادل نارٍ لكنّ سرعان ماتولّى فريق رائد الأمر مستفيدين من عنصر المفاجأة، مات أغلب الحرس داخلاً وتمّ إلقاء القبض على الآخرين.

أمرت مياس رائد بأن يتولّى أمر الرجال المجرمين، في حين أخذت هي القطعة الأثرية مع حقيبة المال وخرجت فوراً، تبعها أويس أثناء وضعها للحقيبة في سيارتها من الخلف صائحاً بها: مياس.
التفتت نحوه نصف التفاتة وقد ضاقت ذرعاً بأسئلته اللامتناهية، زفرت من أنفها لتقابله قائلةً بجفاء: لديكَ سؤالٌ واحد لأجيبه.
وقف قبالتها بحاجبين معقودين وملامح متجهمة سائلاً: مالذي حصل للتوّ؟

أجابته بعجرفة مستعجلة وحاجبين مرفوعين: كما رأيت، أجبتُ على سؤالك.
تحركت من أمامه ليقطع عليها الطريق هاتفاً بغيظ: ماذا تعنين بهذا؟
حدجته بنظرة قوية أظهرت امتعاضها حيث قالت: لقد خسرتَ فرصتك.
لكنه لم يتراجع مضيفاً بإصرار: يجب أن أفهم مياس لن تتركيني كالأصمّ.
تململت في وقفتها نافخةً بسأم فنطقت: حسنٌ، لديك سؤالاً آخر فقط.

لم يعبأ بامتعاضها وضيقها ليسأل أويس تباعاً: أولاً كيف عرفتِ مكان وزمان اللقاء؟ ولماذا قلتِ بألا نخبر أحداً من الفريق؟
اخشوشنت نبرته ليصيح بكمد: من ثمّ من هؤلاء بحق الله؟
ارتسمت على وجهها تعابيرَ ساخرة هاتفة بتهكم: أسئلتك كثيرة لأجيبها ألم تلاحظ ذلك؟
هتف من بين أسنانه بنفاذ صبر: مياس.

رمقته بدونيّة ففتحت باب سيارتها لتستقرّ خلف المقود دون أن تجيبه، لكنه لم يسكت فتحرك حتى ركب إلى جانبها قائلاً بجدية: لن تهربي دون إجابتي مياس.
أغمضت عينيها وأسندتْ رأسها إلى المقعد مطلقةً سبّة خافتة لم يتبينها، حاولت السيطرة على أعصابها التي تكاد تنفلتْ ثم التفتت نحوه وقد اكتست تقاسيمها بحمرةٍ غاضبة قائلة بنبرة ثابتة: سأجيبك على قدر أسئلتك لكن لن تسألني عن أية تفاصيل.

سكتت لثانية ليتيقن من جديتها قبل أن تتحدث بملامح حيادية: عرفتُ الزمان والمكان من مصادري الخاصة، أما عن فريق الاقتحام فهو فريق متخصص كنتُ أتعامل معهم عندما كنتُ أعمل متخفيةً، وطبعاً اللواء جلال على علمٍ بكل ماحدث.

لم تكترث لتعابيره التي غامت باستغراب فأدارت المفتاح لتتحرك سيارتها، في حين كان هو يفكر فيما قالته، رغم أن حديثها كان واضحاً وضوح الشمس لكنّ هناك جزئية لم يستوعبها فسأل مجدداً: لكنك أخبرتني ألا أخبر أحداً من فريقنا، لماذا؟
أخبرته وقد ثبتت نظرها على الطريق الذي تحركت فوقه بالفعل: لإنّني لم أعدْ أثق بأحدٍ منهم، هناك جاسوس للخفاش بينهم فلم أرغب بالمخاطرة.

ضيّق عينيه مضيفاً باستغراب: حتى أنا لم أكن موضع ثقة لديكِ منذ يومين انقضيا، فلماذا أشركتني في هذه المهمة دوناً عنهم؟
منحته نظرةً سريعة من زاوية عينها في محاولةً منها لتهيئة إجابة مقنعة دون جرحه، في الوقت الذي استوعب فيه أويس إجابتها دون نطقها فتوسعت مقلتيه ليتمتم بعدم استيعاب: وضعتني تحت الاختبار؟!
اكتفت بحركة طفيفة من رأسها قائلة بهمس واثق: كنتُ مضطرةً لفعل ذلك.

تجهمٌ غاضب اعترى تقاسيمه وقد علا صوت تنفسه الساخن، جزّ على أسنانه بقسوة حتى انتفخت أوداجه، كاد يتحدث قبل أن تنطق هي بتبرير: لايمكنك لومي أويس، فالخفاش يعرف تحركاتي قبل أن أخطوها حتى، لذى كان لزاماً عليّ توخي الحذر مع الجميع.
رفعت كتفيها بلا مبالاة مضيفة: وكنتَ أنت من ضمنهم.
نطق بهسيس غاضب: لايمكنك الشك بي أنا بالذات، لقد كنتُ رئيس الفريق!

تطلعت نحوه بلمحة سريعة نافثة الهواء من صدرها لتعقب: وإن كان؟ أخبرتك أنّ الجميع كان محطّ شكي، ولم أستثني أحداً.
حرك رأسه بيأس وكاد يتحدث قبل أن تقاطعه هي من جديد بجدّ ثابت: أنا على يقين بأنّ الجاسوس من الفريق أويس، ومادام مجهول الاسم بالنسبة لنا فكلّ مانفعله معرضٌ لخطر الانهيار، مالم نلتزم الحذر والسرية التامة.

لم يجد في جعبته مايجيبها فنفخ بامتعاض يائس، ثم استدار ناظراً أمامه وكل مشاعر الحنق طفت على وجهه، خيّم الصمت على سيارة مياس حتى وصلا إلى مبنى المكافحة، أوقفت سيارتها ليسألها أويس بجمود: والآن ماذا سنفعل؟
زفرت بإنهاك وهي تفرك رقبتها بإرهاق عظيم مُغمغمةً: الآن ستذهب إلى منزلك لترتاح.
رمقها بعينٍ ضيقة كأنه لم يصدقها فتطلعت صوبه بدورها مضيفةً: أوشكت الشمس على الشروق، وأنا أيضاً بحاجةٍ للراحة.

لايعرف لمَ لم يصدقها رغم صدقها، ربما لأنه اعتاد على خداعها، صرّ على فكه ليفتح الباب مترجلاً من السيارة مدمدماً بكلماتٍ لم تتبينها، لم تستطع كبح ابتسامة ساخرة على غيظه وغضبه منها، سرعان مااغتالتها وقد تسرّب إلى أذنها النعت الجديد الذي رماها به، همست تحادث نفسها بصدمة مندهشة: أنا خفاشٌ أسود؟!

كادت تصيح به لكنه ابتعد فعلاً، تهدل كتفاها بذهول وراحت تتفحص ملابسها المعتادة والتي اتخذت اللون الأسود، رفعت رأسها تناظر خيال سيارته التي فرّ بها، ضيقت عينيها لتدمدم مع نفسها بغيظ: أنا خفاشٌ أسود يا ابتلاء الأمة الأعظم!؟

مع أولى خيوط النهار الجديد كان خطابٌ مستيقظاً بالفعل، أو بالأحرى لم ينمْ أصلاً، قضى ليلته كلها متفكراً فيما يجري معه كلّما حادث مياس، يشعر بنفسه ينجذب نحوها كمغناطيس ينجذب إلى كومة دبابيس، تلك الذئبة الصيادة ليست سهلة البتة، تصوب سهامها الخفية وترسلها مع نسمات الشتاء الباردة لتصيب قلبه الأسود.
قلبه؟

لقد افتقد هذا اللفظ منذ زمن طويل، يدرك أنه لا يملك قلباً أساساً، في يسار صدره قطعة من حجر الصوان الذي لايلين بسهولة، خلال سنواته التي قاربت الثلاثين لم يشعر بإحساس مماثل، ليس لإنه لم يقابلْ نساءً من قبل، بل لإنها مميزة حدّ الإفراط، ليس فيها صفةٌ جماليّةٌ محددة، لكن قوتها التي لايراها كثيرا في نساء هذا الزمن، كبرياءها ووقوفها في وجهه الندّ للندِّ، كل تلك الصفات كانت لها أبلغ الأثر في نفسه...

أمال رأسه إلى الجانب وبسمةٌ صغيرة زحفت على ملامحه الحادة كلّما طرقت صورتها مخيلته، تنفس بعمق فغزت رائحتها أنفه كأنها تشاركه مكتبه كما باتت تشاركه لحظاته، الأمر غريب للغاية، في مبدأ الفيزياء السالب لاينجذب إلى السالب، فلماذا انجذب هو إليها رغم تشابه قطبيهما؟

أسدل جفنيه بخفة ثم أدار كرسيه ناحية مكتبه، تطلع إلى شاشة حاسوبه المفتوحة على صورة مكبرةٍ لها، اقترب مُستنداً على حافة مكتبه القاتم مركزاً نظراته عليها، تلك الصيادة الغدّارة، كيف لها أن توقعه بشباكها دون أن يراها حتى؟ وهو الخفاش الذي لايقع إلا واقفاً؟

خارج مكتب خطاب وقف سُهيل بجسدٍ مُرتعد، الخبر الذي يحمله هذه المرة لسيده قد يتسبب في مقتله حرفياً، كان يحاول تنظيم أنفاسه بتقاسيم متجهمة بخوف قبل أن يقرع الباب بتردد، لم يحرك خطاب مقلتيه عن صورتها وهو يصيح سامحاً له بالدخول، أخذ سهيل نفساً عميقاً زفره على عجل عندما دلف إلى المكتب مقدماً رجلاً ومؤخراً الأخرى، تقدم بضع خطوات حتى وقف أمام طاولة خطاب دون ان يلتصق بها، لم يعره الأخير أي اهتمام فزاد رعب سهيل منه، أجلى صوته فسمع خطاب يسأل بصوت بارد دون أن يرفع عينيه نحوه: ماذا تريد ياسهيل؟

ازدرد المقصود ريقه بوجلٍ وحرك فمه بداية دون حديث، مما استرعى انتباه خطاب الذي رفع رأسه إليه وقد ضيّق عينيه، أسند ظهره للخلف فشبك أصابع كفيه متفحصاً إياه بتمعن، ولايدري لماذا استشعر أمراً غير مريحٍ البتة من خلفه، كيف لا ومياس تبحث وراءه ولن تتركه، فقال متحدثاً بثبات بارد أخاف سهيل: هل تحمل لي أية أخبار غير سارة ياسهيل؟

ازدرد المقصود ريقه الذي جفّ من فرط خوفه ليتمتم قائلاً بتقطع: س سيدي لقد حادثوني منذ قليل من ملهى المدينة...
تقطع صوته مع ازدياد ملامح خطاب قتامةً، فكك تشابك يديه لينتصب ظهره وقد أولاه انتباهه كله، نطق خطاب بنبرة مستريبة وهو يحرك رأسه إلى الجانب بحذر: ماذا أخبروك؟

ارتعش جسده خوفاً ووجلاً لكنْ لا مفرّ من قول الحقيقة، ابتلع ريقه بصعوبة ثم أردف بنبرة متسارعة قطعت تنفسه: أخبروني أنّ الذئب اقتحمت المكان وقبضت على المتواجدين هناك وأيضا صادرت البضاعة والمال.

لفظ مافي جوفه دفعة واحدة ثم وقف يلتقط أنفاسه، تاركاً خطاب يرمقه بذهول للحظة الأولى، تلقائياً أخفض نظراته إلى صورتها التي احتلّت شاشة حاسوبه، سرعان مااستوعب المفاجأة فأشار إلى سهيل بالرحيل، مافتئ الأخير أن غادر كمن لم يصدق أن ينفذ بجلده من بين براثن الخفاش، أغلق الباب ليسند رأسه عليه وهو يلهث بسرعة جازماً أن قلبه سيتوقف يوماً ما بسبب أخبار تلك الذئب الماكرة...

لم يعرف ماهيّة شعوره في هذه اللحظة، أيجب أن يغضب لقبضها على أحد أهم عماله؟ أم يعجب بذكائها وحنكتها؟
تبسم باتساع تحولت تدريجياً إلى ضحكة خافتة، همس محادثاً صورتها أثناء تحريكه لرأسه إلى الجانبين: مالذي تحملينه في جعبتك بعد يامياس؟ ومالذي تخبيئنه لي أيتها الذئب الماكرة؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة